Preview مرضى القلب في لبنان

مرضى القلب في لبنان عاجزون عن الالتزام بالعلاج

لا تزال تداعيات الأزمات الاقتصاديّة على صحّة السكان غير مفهومة بالكامل، فعلى الرغم من توقّع الخبراء نتائج مُحتملة، وبدء البحث الجدي فيها بعد أزمة اليونان في العام 2008، لم تُثبّت بأدلّة بحثيّة دامغة حتّى اليوم. يبقى سياق الأزمة اللبنانية فريداً لناحية حدّته والغياب الكامل للتدخلات الإصلاحيّة لتخفيف وطأة الأزمة على المقيمين. من هذا المنطلق، أجريت بحثاً بين شهرَي آب/أغسطس 2021 وكانون الثاني/يناير 2022 للنظر في نسب تقيّد مرضى القلب والشرايين في لبنان بعلاجهم، والأسباب التي قد تُعرّضهم إلى نسب منخفضة من التقيّد.

السياق الصحّي

تعصف الأزمة اللبنانية بمجتمعٍ يعاني من انتشارٍ مرتفع للأمراض المزمنة بمعدّلات مشابهة مع مجتمعات الدّول المرتفعة الدخل. بحسب البنك الدولي فإن 89% من الوفيات في لبنان في العام 2019 كانت ناتجة عن أمراضٍ مزمنة. أحصت وزارة الصحة العامة اللبنانية في العام 2015 شيوع أمراض القلب والشرايين، وتبيّن أن 23% من المواطنين يعانون من ارتفاع في ضغط الدم، و13% منهم يعانون من مرض شرايين القلب، وهي أرقام شبيهة لتلك في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. في السنة نفسها، كانت أمراض القلب والشرايين مسؤولة عن 63% من كل الوفيات في لبنان.

89% من الوفيات في لبنان في العام 2019 كانت ناتجة عن أمراضٍ مزمنةيترافق شيوع الأمراض المزمنة مع شيوع عوامل مُحفّزة لأمراض القلب والشرايين، مثل نمط الحياة المستقر (48%)، والتدخين (40%)، والبدانة (40%)، التي لحظت ارتفاعاً حاداً يلامس ضعفين إلى ثلاثة أضعاف بين العامين 2010 و2018.

قد يُنسب شيوع الأمراض المزمنة والعوامل المحفّزة لها في لبنان إلى النمط الاستهلاكي المشابه للدول المتطوّرة، لكن الارتفاع الحادّ في هذه العوامل هو دليل على غياب سياسات تفادي الأمراض. في هذا السياق، يُعتبر حدوث جرحة قلبيّة دليل فشل في التشخيص المبكر والإجراءات الوقائية، لذلك، من غير المستغرب أن يرتفع معدّل الذبحات القلبيّة في لبنان (10.1%) على معدّلات الولايات المتحدة (4%) وبريطانيا (2.45%). من هنا، نرى أن المجتمع اللبناني كان مريضاً ومُهملاً إلى أن تفاقمت حالته المرضيّة وصولاً إلى عشيّة الأزمة وليس فقط بعدها.

يُعتبر تناول الأدوية مدى الحياة ركيزة علاج الأمراض المزمنة. فالتقيّد بالعلاج يُخفّض نسبة الوفيات من أمراض القلب والشرايين بنسبة 50%، كما أن غياب التقيّد يُفاقم الحالة المرضيّة، ويستوجب علاجاً استشفائياً مكلفاً، ويُرتّب كلفة تصل إلى 300 مليار دولار سنوياً في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

السياق الاجتماعي والاقتصادي 

بلغ معدّل سعر الصرف 20 ألف ليرة في مقابل الدولار الواحد في خلال مرحلة جمع بيانات الدراسة، كما أن معدّلات الفقر كانت تساوي 55% بحسب الاسكوا. يُذكر أيضاً أن مخطّط دعم الأدوية كان لا يزال قائماً جزئياً، وأن ذُروة أزمة انقطاع الأدوية في لبنان كانت في أشهر صيف 2021.

ارتفع معدّل الذبحات القلبيّة في لبنان (10.1%) عن معدّلات الولايات المتحدة (4%) وبريطانيا (2.45%)كانت قد مرّت سنتين على الأزمة الاقتصادية، وتآكلت مدّخرات المرضى الخاصّة، كما في صناديق الإدخار الإلزامية، بفعل حجز المصارف عليها وانهيار سعر صرف الليرة.

في المقابل، أدّت سياسة دعم الأدوية الهشّة، التي فضّلت أرباح مستوردي الأدوية على قدرة المرضى الشرائية، إلى انقطاع الأدوية في الأسواق اللبنانية، إمّا عبر تهريب التجار للأدوية المدعومة لبيعها في أسواقٍ خارجيّة، أو عبر احتكارها وتحقيق أرباحٍ إضافيّة بعد رفع الدّعم عنها.

منهجية الدراسة

ارتكزت الدراسة على استبيان أُجري على عيّنة تمثيليّة من مرضى القلب والشرايين اللبنانيين. تم قياس مستوى التزامهم بعلاجهم باستخدام اختبار مُعترف به دوليّاً، وسُئلوا عن مستوى دخلهم، وتغطيتهم الصحيّة، وعمّا إذا كانوا يحصلون على تحويلات من الخارج وكميتها وكيفيّة صرفها، والمسافة التي تفصل بين مسكنهم والصيدلية، وكميّة الأدوية التي يتناولونها ومن يشتريها لهم، والأمراض المزمنة التي يعانون منها، وسلوكيات تأقلمهم مع الأزمة الاقتصادية فيما يخص علاجهم.

صفر تقيّد بالعلاج الجيّد

كانت النتيجة الصادمة أن أياً من المشاركين لم يكن ملتزماً بعلاجه. وتبيّن أن 40% منهم ملتزمون بشكل متوسّط، فيما 60% ملتزمون بشكل منخفض. في المقارنة، أظهر استبيان مماثل لمرضى يعانون من ارتفاع في ضغط الدم في العام 2015 أن 50% منهم كانوا ملتزمين بعلاجهم، مما يشكّل انحداراً حادّاً لا يمكن نسبه لتكوين العيّنة أو لظروفٍ فرديّة فقط.

عبّر 70% من المشاركين عن زيادة نفقاتهم الصحيّة وانخفاض تعويضات تغطيتهم الصحيّة، فيما كان 63% منهم لا يتمتّعون بأي تغطية صحيّة فعليّة

انحدار قدرة الوصول إلى الصحة

في المقابل، كانت نتائج استبيان الظروف الاجتماعية والاقتصادية أيضاً مقلقة. أبلغ 45% من المشاركين عن دخل أقل من 750 ألف ليرة شهرياً، مما يضعهم تحت خط فقر البنك الدولي (1.25 دولار يومياً للفرد). فيما كان 65% منهم متعطّل عن العمل ويمكن الافتراض أن أوضاعهم المعيشية لم تتحسن في السنة الأخيرة، يصل معدّل الفقر إلى 87% إذا استعنّا بخط الفقر المحدّث للبنك الدولي وسعر صرف 93 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد. عبّر 70% من المشاركين عن زيادة نفقاتهم الصحيّة وانخفاض تعويضات تغطيتهم الصحيّة، فيما كان 63% منهم لا يتمتّعون بأي تغطية صحيّة فعليّة، بحكم إفلاس بعض صناديق الادخار الالزاميّة. تجدر الإشارة هنا إلى أن تَركّز عمل وزارة الصحة العامة اللبنانية في العقدين السابقين على تخفيض نسبة الأكلاف الصحيّة التي يدفعها المريض اللبناني بشكل مباشر من جيبته. فقد انخفضت من حوالي 60% من الفاتورة الصحية في العام 2000 إلى 30% في العام 2015، ولكنها عادت للصعودٍ الحاد منذ ذلك الحين ووصلت إلى 44% في العام 2020 وإذا أعيد احتساب الرقم اليوم، فهو يمحو كلّ عمل وزارة الصحة في هذا المجال. تُعتبر النفقات المباشرة على الصحة الأقل عدالة كونها تحرم ذوي الدخل المحدود والمتدني من الوصول إلى حاجاتهم الصحيّة، فيما ليس لها أي تأثير على ذوي الدخل المرتفع. 

الوضع الصحّي من سيء إلى أسوأ

يضاف إلى ذلك الوضع الصحّي المتردّي عند المُشخصين بأمراض القلب والأوعية، إذ أن 78% منهم يعانون من أمراض مُزمنة أُخرى غير القلبيّة، و72% منهم يعانون من البدانة. تدل هذه الأرقام على متابعة صحيّة رديئة منذ وقت طويل، فعلاج أمراض القلب المزمن يستند على ضبط أمراض مزمنة أخرى والعوامل المحفّزة للمرض. فقد بلغ متوسّط الزمن المنصرم منذ وقت التشخيص 10 سنوات، أي أن تشخيص غالبيّة هؤلاء المرضى حصل قبل الأزمة بحوالي ثماني سنوات. كما أنها تفيد بأن كلفة علاج غالبيّة مرضى القلب والأوعية في لبنان باهظة جداً كونهم يعانون من أكثر من حالة مرضيّة واحدة.

لم يتلزم أي من المشاركين بعلاجه، وتبيّن أن 40% منهم التزموا بشكل متوسّط، فيما 60% التزموا بشكل منخفض

التأقلم مع الأزمة

أخيراً، أبلغ المشاركون عن سلوكيات صحيّة مُقلقة للتأقلم مع الأزمة. أشار 60% من المشاركين عن اضطرارهم لتقليص استهلاكهم الأساسي مثل الطعام والتعليم والسكن لتغطية أكلافهم الصحيّة، مما يعرّضهم لمفاقمة حالاتهم الصحيّة. في المقابل، أفصح حوالي 40% عن تفاديهم شراء الدواء كلياً و45% عن تقليص جرعة دوائهم جراء صعوبات مالية. أمّا 93% فقد أفادوا عن عدم إيجاد الدواء الذي كانوا في حاجته عندما كانوا قادرين على شرائه. فيما حوالي 45% تفادوا معاينة أطبائهم وإجراء فحوصات مخبريّة وشعاعيّة لمتابعة وضعهم الصحي. تشير هذه الإحصاءات إلى كارثة صحيّة مُرتقبة كون تداعيات الإقلاع عن العلاج المزمن لن تَظهر على المدى القصير إنما في السنوات المقبلة مع ارتفاع نسب المضاعفات المُكلفة والوفيّات المُبكرة والقابلة للتفادي.

الحلّ ليس بدواء رديف

فيما أشاد البعض بإجبار الأزمة مستوردي الأدوية على استيراد أدوية رديفة أرخص كانوا قد رفضوا استيرادها سابقاً، لم يُترجم هذا التوفّر إلى رفع قدرة المرضى على الوصول إلى علاجهم. فأشار 55% فقط من المشاركين أنهم يشترون البدائل الأرخص، كما أن 52% منهم يعتقدون أن فعاليّة الأدوية الرديفة أقل من نظيرتها الأصليّة. من هنا نستنتج أن توفّر البدائل لا يحتّم رفع قدرة الوصول إلى الدواء. ارتكزت سياسة دعم الدواء على تغطية نسبة متزايدة من كلفته كلما ارتفع سعره، مما جعل كلفة الأدوية الأصليّة إما متساوية أو حتى أقل من تلك الرديفة. أمّا اليوم مع إلغاء الدعم، بقيت تفاوتات أسعار الأدوية بين الأصليّة والرديفة والمستوردة والمنتجة محلياً طفيفة. من ناحية أخرى، دخلت إلى الأسواق أعداد كبيرة من الأدوية الرديفة لم يتم التدقيق في فعاليتها، ولم يتسنَّ الوقت للأطباء لتجربتها ووصفها ولا للمريض ليثق بإمكانية استخدامها، فبقي استهلاكها محدوداً، وإن ارتفع فهو لم يحفّز المرضى على التقيّد بعلاجاتهم.

 أفصح حوالي 40% عن تفاديهم شراء الدواء كلياً و45% عن تقليص جرعة دوائهم جراء صعوبات مالية

حلّ الأزمة ليس في حلّ المرضى

يُفصح هذا البحث عن الكلفة المبطّنة للتصحيح «السوقي» للأزمة اللبنانية، والذي يشيد به أصحاب القرار والمصالح. تثابر النخب اللبنانية على تعويض خسائرها المصرفيّة بكلّ حبّة دواء تنتشلها من أفواه المرضى، فما هي فداحة الكلفة المستقبليّة أمام فداحة التي سبقتها؟

لا تشير سياسة الإهمال المتعمّد لصحّة المرضى في لبنان إلى معايير أخلاقية متدنيّة فحسب، إنما أيضاً إلى غباء صريح. ارتكزت بنية النظام اللبناني السابقة على تأمين الاستشفاء للمواطنين فقط، وهم تعوّدوا على ارتقاب تغطية معيّنة من قبل النافذين. كان هذا عقدهم الاجتماعي، وإن كان منقوصاً. إهمال علاجاتهم اليوم سوف يحتّم لا محالة أكلافاً استشفائيةً ضخمة، وما يترافق معها من غضب وعنف لإبقاء أحد أفراد الأسرة على قيد الحياة. فكم من حبوب أدوية الضغط أو السيلان علينا توفيرها لتعويض كلفة فاتورة استشفائية لمعالجة ذبحة قلبيّة واحدة؟ وإن تأمّن المناخ السياسي لغض النظر عن آلاف الحالات الاستشفائية اليائسة فكم من هذه الحبوب علينا توفيرها لتعويض خسائر ضخمة؟ وإن نجحنا بتوفيرها كلّها فما سيكون شكل هذا المجتمع الهزيل الذي سوف تحكمه القلّة السعيدة؟