Preview تكلفة المعيشة والأرباح

في خلال مظاهرات ضدّ التضخّم في إيرلندا.
رويترز.

تكلفة المعيشة والأرباح

يعدُّ تقرير آفاق التوظيف الأخير الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية دليلاً على أزمة تكلفة المعيشة، وما إذا كان ارتفاع الأجور أم ارتفاع الأرباح هو المساهم الأكبر في تزايد التضخّم. فيما يتعلّق بالأجور، وجدت منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الأجور الحقيقية انخفضت بمعدّل 3.8% في العام الماضي في بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية. «لقد دفعت أسواق العمل الأجور الاسمية إلى الارتفاع، ولكن بدرجة أقل من التضخّم، مما أدّى إلى انخفاض الأجور الحقيقية في معظم الصناعات وبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

التضخم والاجور

ويختلف مستوى انخفاض الأجور الحقيقية بشكل كبيرٍ بين بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية. سجّلت الدول الاسكندنافية وأوروبا الشرقية أكبر الانخفاضات، حيث رُصِد الارتفاع الأعلى في أسعار الطاقة جرّاء خسارة النفط والغاز الروسيين. في حين سجِّل الانخفاض الأدنى في الأجور الحقيقية في الولايات المتّحدة، حيث لم ترتفع أسعار الطاقة بالقدر نفسه على الرغم من ارتفاعها العالمي. اضطرت أوروبا إلى التحوّل عن خطوط أنابيب الطاقة الروسية نحو الغاز الطبيعي المُسال الأكثر تكلفة الذي يصلها عبر الشحن.

التضخم والاجور

وتكشف دراسة منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالتفصيل عن مقدار الارتفاع في معدلات التضخّم منذ بداية جائحة كوفيد-19 حتى الآن بسبب الأجور والأرباح.

ويبدو أنه في المتوسّط (غير المرجَّح) في مختلف بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ارتفعت الأرباح لكل وحدة بنحو 22% بين نهاية العام 2019 والربع الأول من العام 2023، في حين ارتفعت الأجور لكل وحدة إنتاج بنحو 16%. في بعض البلدان، كان دور الأرباح في رفع الأسعار أكبر بكثير بالمقارنة مع الأجور: في السويد ارتفعت الأرباح بنسبة 27% في مقابل ارتفاع الأجور بنسبة 9%؛ في ألمانيا 24% في مقابل 10%؛ وفي النمسا 23% في مقابل 10%.

ارتفعت الأرباح لكل وحدة بنحو 22% بين نهاية العام 2019 والربع الأول من العام 2023، في حين ارتفعت الأجور لكل وحدة إنتاج بنحو 16%سجِّل الارتفاع الأكبر في الأرباح في خلال دوّامة التضخّم في المجر وبلغ أكثر من 60%، تليها دول أوروبا الشرقية بنسبة 30%. أمّا الزيادات في الأجور والأرباح لكلّ وحدة إنتاج في الولايات المتحدة فقد كانت متساوية عند 14% لكلٍ منهما. ولم تشهد سوى البرتغال مساهمة اعلى للأجور لكل وحدة إنتاج (18%) بالمقارنة مع الأرباح (9%).

وتتفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية معي ومع آخرين على أن الارتفاع الحادّ في معدلات التضخّم بدأ بسبب ارتفاع أسعار السلع والطاقة نتيجة إنسداد سلاسل الإمداد بعد انتهاء الجائحة، ثم تسارَع أكثر بفعل الغزو الروسي لأوكرانيا.

وعلى حدّ تعبير منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية: «كان الارتفاع الأولي للتضخّم مستورداً إلى حدٍ كبير في العديد من بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وكان مدفوعاً بأسعار السلع والطاقة. مع ذلك، على مدار العام 2022، أصبح التضخّم أكثر اتساعاً مع ارتفاع التكاليف التي يجري تمريرها على نحو متزايد في أسعار السلع والخدمات المحلية».

لا يعود ذلك إلى ارتفاع الأجور الذي لم يتمكّن أبداً من اللحاق بدوّامة التضخم. ومرّة أخرى، تقول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية: «لا توفّر الأدلة أية مؤشرات على وجود دوّامة الأسعار-الأجور حتى الآن. فقد انتعش النمو الاسمي ولكنه لا يُظهر أي علامات واضحة على حدوث مزيد من التسارع اللافت عبر البلدان. ويبدو أن فجوة التضخّم تضيق في الأشهر الأخيرة بسبب الانخفاض البطيء في التضخّم، ولكن تآكل الأجور الحقيقية لم يتوقّف بعد في الغالبية العظمى من بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

والواقع أن ارتفاع الأرباح كان العامل الأكبر في استمرار ارتفاع التضخّم. والاستنتاجات التي خلص إليها التقرير واضحة: أولاً، هبط متوسط الأجور الحقيقية (أي بعد التضخّم) في مختلف أنحاء العالم الرأسمالي المتقدّم على مدى الأعوام الثلاثة الماضية - وهو ما يعدُّ أضخم وأطول هبوط على مدى السنوات الخميس الماضية على الأقل. وثانياً، تُعدُّ الزيادات في الأرباح لكّل وحدة إنتاج المساهم الرئيسي في ارتفاع أسعار السلع والخدمات طوال هذه الفترة، وليس الأجور، وخصوصاً في منطقة اليورو. «في منطقة اليورو، كانت مساهمة الأرباح كبيرة بشكل خاص، واستأثرت بمعظم الزيادة في الأسعار المحلية في النصف الثاني من العام 2022 والربع الأول من العام 2023». أما بالنسبة الولايات المتّحدة، فتدرك منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه: «في ظل أسواق العمل الضيّقة، ساهمت الأجور عموماً في زيادة الأسعار المحلية قياساً بالأرباح في الأرباع الأخيرة»، ولكن «المساهمة الأخيرة لهوامش الربح كانت أكبر بكثير مما كانت عليه في السنوات السابقة للأزمة ولكنها انخفضت في الأرباع الأخيرة».

إنّ محاولة الحدّ من ارتفاع الأسعار عن طريق تقييد ارتفاع الأرباح وفي الوقت نفسه السماح لأجور العمّال بالارتفاع للحاق بها، يمكن أن تتسبّب في ركود. وهذا ما يحدث في ظل نظام إنتاج مدفوع بالربحتُظهر البيانات الواردة من أوروبا وأستراليا أن الأداء القوي للأرباح في العام 2022 لم يقتصر على قطاع الطاقة. وحتى الربع الأول من العام 2023، ارتفعت أرباح الوحدة في أوروبا أكثر من تكاليف العمالة في التصنيع والبناء والتمويل، ونمت بالمعدل نفسه الذي نمت به تكلفة وحدة العمل في «الإقامة والطعام والنقل». وبالمثل، زادت أرباح الوحدة أكثر من تكاليف وحدة العمالة في قطاعات عدّة في أستراليا، بما في ذلك «الإقامة والطعام»، والتصنيع والتجارة والنقل.

فهل الإجابة على خفض معدلات التضخّم هي أنّه على الشركات خفض زيادات أرباحها؟ حسناً، على الأرجح لا، بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لأن «ربحية الشركات قد تقوّض على المدى القصير بسبب انخفاض الطلب نتيجة تشديد السياسة النقدية وتآكل القوة الشرائية. وفي هذا السياق، قد يترجم ارتفاع تكاليف العمالة على الأرجح إلى انخفاض في الطلب على العمالة والخسائر المحتملة في التوظيف. في المجمل، في حين تشير الأدلة إلى وجود مجال للأرباح لاستيعاب بعض التعديلات في الأجور في عدد من القطاعات والبلدان، يختلف مجال المناورة المُحدد باختلاف القطاعات وأنواع الشركات».

بعبارة أخرى، إنّ محاولة الحدّ من ارتفاع الأسعار عن طريق تقييد ارتفاع الأرباح وفي الوقت نفسه السماح لأجور العمّال بالارتفاع للحاق بها، يمكن أن تتسبّب في ركود، حيث يُقلص أصحاب العمل قوّتهم العاملة للحدّ من ارتفاع تكاليف العمل. وهذا يعني ارتفاع معدل البطالة. نعم، هذا ما يحدث في ظل نظام إنتاج مدفوع بالربح.

ما هو الجواب على النمو الاقتصادي من دون تسارع التضخّم؟ تقول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية: «على المدى الطويل، لا يمكن ضمان مكاسب حقيقية مستدامة للأجور إلا من خلال النمو المستدام للإنتاجية». يتعيّن على بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن «تستفيد إلى أقصى حد من الفرص التي تتيحها التطورات التكنولوجية الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي». وحتى الآن، لا توجد علامة على ذلك.

تُرجم هذا المقال ونُشر بموافقة مُسبقة من الكاتب، 12 تموز/يوليو 2023.