اقتصاد صناعة الدواء

  • مراجعة لكتاب «اقتصاد صناعة الدواء: كيف تدمّر شركات الأدوية الكبرى الصحّة العالمية»، إذ يشرح الصحافي الاستقصائي نيك ديردن آليات الجشع غير العقلاني الذي يقوّض ويشوّه عمليتيّْ إنتاج الأدوية وتوزيعها. إلا أنه يتبنّى منظور المنظّمات غير الحكومية الليبرالية الذي لا يرقى إلى مستوى التحليل المطلوب.

 

يقدِّم نك ديردن في كتابه اقتصاد صناعة الدواء سرداً رائعاً لتحوّل شركات الأدوية الكبرى إلى وحشٍ متعطّشٍ للربح، يشوّه مكوِّناً هاماً من مكوِّنات أنظمة الرعاية الصحّية في العالم. إلا أنه فيما يتصل بخلاصاته السياسية، يمنّي نفسه بأن الأفعى قد تُغيِّر جلدها وتخدم بعقلانية احتياجات الصحّة العالمية، وهذه الخلاصة لن تقنع أصحاب وجهة النظر الراديكالية في التحوّل الاجتماعي.

وإذ أقول هذا، لا يجب أن تشكّل محدودية تحليل ديردن مفاجأة كبيرة. فهو في نهاية المطاف من الشخصيات البارزة داخل شبكة المنظّمات غير الحكومية الدولية، وعلى الرغم من إدانته القويّة لشركات الأدوية، فإن دوره أقرب لدور الضمير الرأسمالي من دور حفَّار قبر النظام.

الأرباح مقابل الحاجة البشرية

نرى من الصفحات الأولى للكتاب كيف أُدخِلت السمة العامة للرأسمالية إلى مجال الأدوية. في هذا المجال الحيوي من احتياجات الإنسان، يقرًّر نظام الربح مَن يعيش ومَن يموت، بما في ذلك، البحث والتطوير والتوزيع وتوفير الأدوية، التي ترتبط باستراتيجيات التسويق أكثر بكثير من ارتباطها بمعالجة الأمراض والسيطرة عليها والوقاية منها. 

يتناول ديردن في الفصل الأول الدور المحوري لعائلة ساكلر الأميركية، منذ الخمسينيات فصاعداً، في تشكيل صناعة الأدوية التي ستتطوّر. كان بيع الأدوية موهبة آرثر ساكلر الحقيقية، ويُنسب إليه الفضل في اختراع الأشكال الحديثة لتسويق الأدوية في الولايات المتّحدة. وكان خبيراً، على وجه الخصوص، في التسويق للأطباء مباشرةً، مُدركاً دورهم ليس في عملية الوصفات الطبية، بل كونهم رمزاً للثقة عند المجتمع (ص2).

يقرِّر نظام الربح مَن يعيش ومَن يموت، بما في ذلك، البحث والتطوير والتوزيع وتوفير الأدوية، التي ترتبط باستراتيجيات التسويق أكثر بكثير من ارتباطها بمعالجة الأمراض والسيطرة عليها والوقاية منها

اعتمد نهج ساكلر على فكرة «أنّ على الجميع تقريباً تناول أدوية قويّة بانتظام». وشمل ذلك تشجيع مَن «لا يعاني من أي أعراض نفسية البتة» على استخدام الفاليوم عن طريق الترويج له (ص 3).

بعد وفاة ساكلر، بدأ خلفاؤه تسويق الأوكسيكونتين في العام 1996 «لتبدأ أكبر فضيحة أدوية حديثة في أميركا». كان الأوكسيكونتين، على غرار الفاليوم، دواءً مفيداً محتملاً ولكن «جرى تسويقه على أنّه دواء لا يسبِّب الإدمان، ومناسب لجميع الأشخاص، حتى لمَن يعاني من ألمٍ خفيف. للأسف، لم يكن الأمر كذلك» (ص 4).

بعد خمس سنوات من طرحه للبيع، حقّق الأوكسيكونتين مبيعات تجاوزت المليار دولار، لكنّها جاءت على حساب وباء الإدمان والموت. وكما يقول ديردن: «يجب وصف دواء كهذا بحذرٍ شديد، [ولكن] الشركات الساعية إلى الربح مثل بوردو لا تتصرّف على هذا النحو. فهذه الشركات لزامٌ عليها زيادة المبيعات إلى الحد الأقصى، وتحويل أي تكاليف إلى المجتمع» (ص5).

يشير ديردن إلى أنه «لا يخفى على أحد ما تحصّله شركات الأدوية من سطوة ونفوذ جراء جماعات الضغط التابعة لها وتبرّعاتها السياسية غير المقيدة» (ص 12). ويوضح أيضاً وجود «بابٍ دوّار بين الصناعة والحكومة، تجذب من خلاله شركات الأدوية الكبرى المسؤولين أصحاب الخبرة للعمل لديها عن طريق تقديم رواتب مجزية» (ص 13). لكن آليّات النفوذ والسيطرة هذه غير كافية لتفسير «الحجم الهائل لقوّة الصناعة». ولا بد لنا من معرفة كيف تمكّنت شركات الأدوية الكبرى من «تأطير مصالحها لتبدو واحدة مع مصالح المؤسّسة السياسية والأوساط الأكاديمية والكوادر الصحية، والمواطنين والمرضى» (ص 14).

بعد خمس سنوات من طرحه للبيع، حقَّق الأوكسيكونتين مبيعات تجاوزت المليار دولار، لكنّها جاءت على حساب وباء الإدمان والموت

شهدت سنوات ما بعد الحرب «موجة جديدة من التطوّرات في مجال الأدوية» (ص 14)، أدّت إلى زيادة كبيرة في «عدد الحبوب التي نتناولها بشكل روتيني» (ص 15). في ظل هذا الوضع، نمت صناعة الأدوية ووحّدت أعمالها. زال الانقسام بين البحث والتصنيع، وخلقت سلسلةٌ من عمليات الاندماج «حفنةً من اللاعبين الكبار المتكاملين رأسياً» (ص 15).

ومع تزايد وضوح التناقض بين الاحتياجات الصحية للمجتمعات وأولويات تحقيق الربح لدى شركات الأدوية، ظهرت جهود مختلفة لتنظيم ومراقبة أنشطة تلك الشركات على ضفتيْ الأطلسي. وفي هذا السياق، «أدركت شركات الأدوية الكبرى... أنها بحاجة إلى بسط نفوذها عميقاً في المجتمع». ومن أهم ما أقدمت عليه في هذا الصدد «تعزيز حججها بأنّ الأسعار المرتفعة تبرِّرها تكاليف البحث» (ص 22).

يبيّن ديردن كيف امتدت «المشكلات المتعلّقة بقبضة الصناعة على الأبحاث إلى عملية الإجازة التنظيمية» (ص 30). إن الهيئة التنظيمية الأميركية، إدارة الغذاء والدواء، «تجيز بازدياد الأدوية الباهظة الثمن على الرغم من آثارها الجانبية الخطيرة أو غير المعروفة والأدلة غير الحاسمة على قدرتها على الحدّ من المرض أو معالجته» (ص 31).

الأمولة والدور الهدّام لشركات الادوية

يتناول الفصل الثاني من الكتاب دور عملية الأمْوَلة المرتبطة بالعصر النيوليبرالي في تكثيف الدور الهدّام لشركات الأدوية الكبرى. فقد صار السعي المحموم والأرعن لتحقيق الربح أقوى وأشدّ. وفي هذا السياق: «تتربّع الأصول غير الملموسة، لا سيما الملكية الفكرية، على قمّة نموذج الأدوية» (ص 51).

واليوم، «تنفق شركات الأدوية الكبرى المزيد من مواردها في محاولة تعزيز قيمة أصولها غير الملموسة، بدلاً من الانخراط في النشاط الإنتاجي» (ص 51). والدرجة التي تخضع بها الأبحاث وتصنيع الأدوية لهذا الاعتبار صارخة. إذ نعلم «أنَّ 2-3% فحسب من الأدوية الجديدة تمثِّل تقدّماً حقيقياً. وفي دراسة أجريت في العام 2017 في ألمانيا تبيّن أن 57% من الأدوية الجديدة لم تقدّم أيّ قيمة علاجية على الإطلاق» (ص 59).

2-3% فحسب من الأدوية الجديدة تمثّل تقدّماً حقيقياً، وفي دراسة أجريت في العام 2017 في ألمانيا تبيّن أن 57% من الأدوية الجديدة لم تقدّم أيّ قيمة علاجية على الإطلاق

خلق هذا الوضع «أزمةً في اكتشاف الأدوية، حيث تعيش الشركات الكبرى على الأدوية المحمية ببراءات اختراع، ولا تفعل الكثير لاستبدالها حين تنتهي مدة براءات الاختراع تلك» (ص 62). ومن ناحية أخرى، تتفشّى الأمراض القابلة للعلاج في بلدان الجنوب العالمي من دون بذل أي جهد حقيقي لاحتوائها. «في الخمسين عاماً الماضية، لم يُطوَّر سوى علاجين جديدين لمرض السل، في الوقت الذي طوِّر فيه أربعة عشر علاجاً جديداً لحالة لا تقتل أحداً، ألا وهي حمى القش» (ص 60).

الوباء العالمي

يتحدّى الفصل الثالث، عبر النظر في دور شركات الأدوية الكبرى في أثناء الوباء العالمي، ادعاء بوريس جونسون بأنّ «الرأسمالية ضمنت حصولنا على لقاح في أقل من سنة، لذا لا طائل من مهاجمة صانعي الثروة، بل يجب تشجيعهم» (ص80). يردّ ديردن قائلاً: «الجشع والرأسمالية خلقا الوباء. وكانا على وشك عرقلة الجهود المبذولة لمعالجة آثاره» (ص 83).

لقد كانت احتمالية حدوث جائحة كبرى معروفة لسنوات، إلّا أنّ شركات الأدوية ظلت تُبدي «لامبالاة شبه كاملة تجاه فيروس كورونا، أو في الواقع تجاه أي مرشّح محتمل لوباء عالمي، لأنّه لن يكون مربحاً على الأرجح» (ص 87). لو سارت الأمور على غير هذا، لكُنّا غالباً في مكان أفضل بكثير. «وحقيقة أنّنا لم نبلغ ذلك المكان تختصر جوهر المشكلة في الصناعة» (ص 88).

يوضح ديردن كيف احتفظت شركات الأدوية الكبرى بملكية اللقاحات التي طوّرتها واستفادت منها، على الرغم من أن مبادرات البحث والتوزيع المموّلة من القطاع العام كانت أساسية في الاستجابة للوباء. «بتسليمنا اللقاحات لعدد مختار من الشركات الربحية، كنا نسلّمهم أيضاً قرارات أساسية – مثل مَن سيتولّى صنع اللقاحات، وبأي سعر، وبأي ترتيب يمكن بيعها» (ص 94-95).

إنّ الأرباح الضخمة التي حقّقتها شركات الأدوية في خلال الوباء جاءت إلى حدّ كبير من التلاعب المخزي في الأسعار. «يمكن إنتاج لقاحات موديرنا بمبلغ زهيد يصل إلى 2.85 دولاراً أميركياً للجرعة، ومع ذلك فهي في الواقع أغلى اللقاحات في السوق، إذ يتراوح سعرها بين 19 دولاراً و24 دولاراً أميركياً للجرعة» (ص 98).

في الخمسين عاماً الماضية، لم يُطوَّر سوى علاجين جديدين لمرض السل، في الوقت الذي طوِّر فيه أربعة عشر علاجاً جديداً لحالة لا تقتل أحداً، ألا وهي حمى القش

ينظر ديردن في الآثار الضارّة المترتبة على استخدام حقوق الملكية الفكرية لشركات الأدوية الكبرى لمنع توزيع اللقاحات على البلدان الفقيرة بأسعار معقولة. ويوضح لنا كيف تعثّرت الجهود المبذولة للتغلّب على هذه القبضة الخانقة بالمحاولة العبثية لـ «إيصال لقاح كوفيد إلى المجتمعات والشعوب في العالم النامي من دون تعطيل سوق الأدوية العالمية» (ص 109).

حقوق الملكية أم حقوق الانسان؟

شارك ديردن إبان الوباء في حملة «لقاح الشعب»، ويتناول هذا الأمر في الفصل الرابع. سعت تلك الحملة، في سياق حالة الطوارئ الصحّية العالمية، إلى تحدّي «قواعد الملكية الفكرية التي تُقدِّم حقوق الملكية على حقوق الإنسان». وواجهت «نموذج الرعاية الصحّية القائم على السوق الذي يخذل معظم الناس في العالم». (ص 117).

تماشياً مع اقتراح مقدّم من الهند وجنوب أفريقيا، وقفت مبادرة لقاح الشعب «بقوّة خلف مطلب الاستثناء من اتفاقية تريبس التي أقرّت حماية براءات الاختراع على النمط الغربي عبر العالم كله»، وقد كفلت تلك الاتفاقية لشركات الأدوية «الحق في تحديد مَن يمكنه استخدام إبداعاتها وبأي سعر» (ص 118).

مع تفشّي الوباء، «كانت تكنولوجيا اللقاحات في أيدي ثلاث شركات لا غير، جميعها ملتزمة بتحقيق أرباح كبيرة»، وكانت النتيجة أنّه «حتى مع حلول العام 2022، كانت الدول الغنية تتسلّم 56 جرعة من لقاح mRNA مقابل كلّ جرعة تُسلَّم إلى البلدان المنخفضة الدخل» (ص 120-121). وبطبيعة الحال، كان معدّل تطعيم السكّان غير متساوٍ.

مع استمرار هذا الظلم العالمي الجائر، دفع منتجو اللقاحات الثلاثة الكبار 26 مليار دولار لمساهميهم في نيسان/أبريل من العام 2021، وهو مبلغ كان يكفي «لدفع تكاليف تطعيم ما لا يقل عن 1.3 مليار شخص، أي ما يعادل سكّان أفريقيا» (ص 126).

قوانين الملكية

في الفصل الخامس، يتناول ديردن قوانين الملكية الفكرية التي استخدمتها شركات الأدوية الكبرى لتحقيق هذه الميزة الكبيرة. ويشير إلى أنّه «من بين أولى الاتفاقيات التي فاوضت عليها منظّمة التجارة العالمية المؤسّسة حديثاً كانت اتفاقية تريبس، وهذا ليس بالأمر الغريب» (ص 161).

يمكن إنتاج لقاحات موديرنا بمبلغ زهيد يصل إلى 2.85 دولاراً أميركياً للجرعة، ومع ذلك فهي في الواقع أغلى اللقاحات في السوق، إذ يتراوح سعرها بين 19 دولاراً و24 دولاراً أميركياً للجرعة

تشكِّل هذه المنظّمة، التي تأسّست في العام 1995، «العمود الفقري لمشروع العولمة» (ص 161) الذي عزّز العلاقات التجارية الدولية التي كانت لصالح المراكز الإمبريالية. «إذا كان للرأسمالية أن تتوسّع إلى سوق عالمية حقيقية... فلا بد من توحيد القوانين. وإذا تسبّب ذلك في إضعاف قدرة بعض البلدان على تطوير تقنياتها الخاصة، وبالتالي اقتصاداتها، فهذا مجرّد سوء حظ» (ص 168).

كانت الإجراءات التي مهّدت الطريق أمام شركات الأدوية الكبرى «تعبيراً وحشياً وغير ديمقراطي إلى حدّ كبير عن قوّة الشركات المُركّزة» (ص 168). «لولا وجود الشركات عبر الوطنية الاثنتي عشرة في الولايات المتّحدة في ائتلاف لجنة الملكية الفكرية... لما وُجِدَت الاتفاقية (تريبس) اليوم» (ص 169). فقد اعتُمِدت اتفاقية تريبس بسبب «[انخراط] الولايات المتّحدة، التي تعمل بشكل وثيق مع جماعات الضغط الكبرى في مجال الأدوية... في عزل البلدان وترهيبها، وفي الغالب تهديدها علناً بعواقب اقتصادية إذا عارضت الاتفاقية» (ص 169).

ولكن القيود الخانقة التي فرضتها اتفاقية تريبس أدّت إلى «لعبة القط والفأر بين شركات الأدوية الكبرى... والناشطين وحكومات الجنوب العالمي». دفعت المصالح شركات الأدوية نحو تبنّي إجراءات من «تريبس بلس» من شأنها أن تمنحها مزايا أعظم. يوضح ديردن أنّ شركات الأدوية الكبرى، على الرغم من قوّتها ونفوذها الهائلين، تواجه معارضة مستمرّة تجبرها أحياناً على التراجع.

في الفصل السادس، يوسِّع ديردن بحثه ليشمل نظام الرعاية الصحية العالمي. ويشير إلى أنّ الخدمات الصحية في الخطوط الأمامية قد طالتها تأثيرات كارثية من جراء تطبيق أساليب مماثلة للأساليب التي فتحت الباب على مصراعيه أمام شركات الأدوية (ص 187).

ينتقد ديردن التأثير غير المبرّر للبنك الدولي في مشروعات الرعاية الصحية. إذ اعتمد نهجه على «سوق تنافسية في التأمين الصحّي، وخصخصة الرعاية الصحّية للقطاع العام، وتأمين الحدّ الأدنى فحسب من شبكة الأمان للفقراء». وقد عمل البنك مع «فاعلي الخير الكبار المهمين الذين من شأن تدخلهم في هذا المجال أن يغيّر الرعاية الصحية على مستوى العالم بطرائق عميقة. وما من رمز يجسِّد هذه الموجة الجديدة أفضل من بيل غيتس» (ص 196).

تعاون البنك الدولي ومؤسّسة غيتس لجمع مليار دولار من استثمارات الأسهم والقروض لتمويل عملية مشاركة القطاع الخاص في الرعاية الصحية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء. «في الغالب، ذهبت هذه الاستثمارات لغاية تاريخه إلى المستشفيات باهظة الثمن والراقية التي تقدّم الرعاية الصحّية التخصّصية لأثرى المواطنين والمغتربين في البلدان الأفريقية» (ص 201).

في الفصلين الأخيرين، يطرح ديردن بدائل للدور المهيمن لشركات الأدوية الكبرى. فهو يرى أنّ حركة لقاح الشعب وجهودها في خلال الوباء جاءت امتداداً للنضالات في خلال أزمة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) في التسعينيات.

مع استمرار هذا الظلم العالمي الجائر، دفع منتجو اللقاحات الثلاثة الكبار 26 مليار دولار لمساهميهم في نيسان/أبريل من العام 2021، وهو مبلغ كان يكفي «لتطعيم ما لا يقل عن 1.3 مليار شخص، أي ما يعادل سكان أفريقيا»

وفي كلتا الحالتين، ما من شك أنّ مَن عارض السعي الجامح لتحقيق الربح وطالب باستجابات قابلة للتطبيق لاحتياجات الرعاية الصحية قد نجح في استعادة بعض الامتيازات من شركات الأدوية الكبرى وإنقاذ الأرواح في هذه العملية. لكن على الرغم من معرفته وخبرته العملية الكبيرة، فإنّ آمال ديردن في نظام رعاية صحية عالمي أعدل وأعقل تحتوي على حمولة مذهلة من التفكير الرغبوي. ومن الواضح أّنه يعتقد أنّ نهج الضغط الصحيح سوف يقنع الحكومات بوضع شركات الأدوية الكبرى تحت السيطرة.

يحاجج ديردن بأنّ التفاوتات العالمية الهائلة التي استعرضها تتطلّب «إنهاء استعمار النموذج» (ص 224). إلا أنّ اقتراحه بأنّ الناس في الجنوب العالمي يمكنهم الضغط على حكوماتهم، والتأكّد من أنها، عن طريق «محاسبة حكوماتهم»، «قادرة على اتخاذ خطوات تحويلية إلى الأمام» (ص 224)، يقلّل من أهمية الانقسامات الطبقية في الجنوب وعلاقات مصالح النخبة هناك بالنظام العالمي تحت قيادة الولايات المتّحدة.

دور الدولة

يشير ديردن عن صواب إلى دور الدولة في التطوير التكنولوجي، ولكنّه يرى أنّ الحكومات أصبحت «محرجة بشأن دورها في الاقتصاد» (ص 240). وهو يطالبها بـ «وقف التظاهر بأنّ السوق مصدر كل الرخاء والتقدّم وتبنّي الدور الذي تؤدّيه» (ص 241). وهذه حجّة ليبرالية مألوفة تفترض أنّ النيوليبرالية قد حيّدت سلطة الدولة، في حين أنّها أعادت توجيهها لخدمة احتياجات أجندة الاستغلال المكثّف.

ومع اقتراب الكتاب من نهايته، يبحث ديردن عن شعاع الأمل في الأماكن الكئيبة. إذ يرى في «قانون الرأسمالية المسؤولة» للمشرِّعة الأميركية، إليزابيث وارن، إمكانية «تعديل الواجبات القانونية لمديري الشركات بحيث يُلزموا بخدمة مصلحة أوسع من المصالح الضيّقة للمساهمين» (ص 243). حتى أنّه يضع ثقة متضخّمة للغاية في موقف جو بايدن بشأن الحد من قوة شركات الأدوية الكبرى (ص 254).

ينتقد ديردن التأثير غير المبرر للبنك الدولي في مشروعات الرعاية الصحية. إذ اعتمد نهجه على «سوق تنافسية في التأمين الصحي، وخصخصة الرعاية الصحية للقطاع العام، وتأمين الحد الأدنى فحسب من شبكة الأمان للفقراء

ويؤكِّد ديردن أنّ «بذور التغيير» موجودة وأنّ «الدولة عادت». ودعماً لذلك، يشير إلى «مستوى تدخّل الدولة وتخطيطها في خلال الأزمة المالية وجائحة كوفيد-19» (ص 258). صحيح أنّ السنوات التي تلت العام 2008 شهدت نقاطاً تدخّلت فيها الدولة بقوّة كبيرة لتحقيق استقرار الرأسمالية العالمية، لكن ثمّة القليل من الأدلة على أي جهد متواصل لفرض ضوابط أكبر على الشركات الكبرى أو تبنّي مستويات أعلى من التسوية الاجتماعية.

ويختتم الكتاب، المتوافق مع النظرة السياسية للمؤلّف، بمناشدة أخيرة للدولة لاحتواء أسوأ غرائز الرأسمالية. ونقلاً عن أحد المفكّرين المشاركين، يتركنا ديردن مع رسالة مفادها أنّ «السؤال الحقيقي: هل تمتلك الحكومات الشجاعة الحقيقية لأخذ الموضوع إلى حيث يجب أن يذهب؟ كيف يمكننا الضغط عليها للتأكد من أنها تفعل ذلك؟» (ص 268).

إنّ كتاب ديردن مفيد للغاية ولابد أن يقرأه كل مَن يريد الوقوف على آليّات الجشع غير العقلاني الذي يقوّض ويشوّه إنتاج الأدوية على نطاق عالمي وتوزيعها. كما يبيّن لنا بوضوح شديد مجالات السياسة الرئيسة التي تواجه فيها شركات الأدوية الكبرى التحدّيات، وأين يجب مواجهتها بحزم أكبر. إلّا أنّه فيما يتعلّق بالتحليل السياسي الذي سيتطلّبه ذلك، لا يرقى منظور المنظّمات غير الحكومية الليبرالية الذي يقدّمه ديردن إلى المستوى المطلوب.

نشر هذا المقال في CounterFire في 7 كانون الأول/ديسمبر 2023.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.