سربٌ من النسور
- مراجعة لكتاب إدوارد تشانسلور «سعر الوقت: القصة الحقيقية للفائدة»، الذي نُشِرَ مع اقتراب عصر المال السهل من نهايته. إذ استجابت البنوك المركزية للتضخّم المستمر بمواصلتها رفع سعر الفائدة. والسؤال هنا هل ستسبِّب هذه الدينامية ركوداً، أو هل ستنظّم البنوك المركزية «الهبوط الناعم»؟
يرجع أقدم دين بفائدة نعرفه إلى 4,500 عام، كُتِب على مخروط طيني في جنوب العراق. يروي نقشه المسماري نزاعاً حدودياً بين مدينتي أوما ولكَش السومريتين القديمتين، على السيطرة على سهل خصب وديون الشعير المستحقّة للأولى على الثانية. ولمّا لم تستطع لكَش سداد دينها، وقد ارتفع إلى أرقام فلكية، هاجمها حاكم أوما لكنه قُتل في أثناء فراره من ساح المعركة. والمخروط الطيني يخلِّد ذكرى هزيمته، وهو من بين عديد القطع الأثرية الرائعة التي أنتجها لنا الصراع الطويل بين المدينتين. وثمة قطعة أخرى تعرض واحدة من أقدم الصور المرئية الباقية للحرب: كتيبة من جنود لكَش تمتشق الرماح وتلبس الدروع، وسرب من النسور يحمل رؤوس أعدائهم المقتولين وأطرافهم، وكاهن عارٍ يمارس طقس إراقة الشراب على كومة من الجثث، وثور قرباني مُكتَّف إلى الأرض.
احتوى قانون حمورابي على قواعد مستفيضة بشأن الاقتراض، من بينها المدة التي يمكن للمدين أن يستعبد فيها نفسه بدلاً من السداد
من المثير للدهشة هذا التزامن بين السرديات الأولى عن الديون المتعثّرة والعنف البشري المنظَّم. فقد طوَّرت مجتمعات بلاد الرافدين القديمة أنواعاً عدَّة من الائتمان، لتمويل التجارة لمسافات طويلة، على سبيل المثال، أو لمساعدة المزارعين المتعثِّرين، إلى جانب تطويرها أدوات الإكراه لتنفيذ مطالبات المقرضين. ومن تلك الأدوات برز رهن النفس أو الأسرة كضمان؛ كما أنه بين حين وآخر كان يصدر عفو عمَّن وقعوا في فخِّ التزامات ثقيلة. احتوى قانون حمورابي، حوالى 1,750 قبل الميلاد، على قواعد مستفيضة بشأن الاقتراض، من بينها المدة التي يمكن للمدين أن يستعبد فيها نفسه بدلاً من السداد، وقد حدِّدت بثلاث سنوات.
أمّا خارج بلاد الرافدين فتندر الأدلة على وجود قروض بفائدة في خلال العصر البرونزي. على سبيل المثال، ما من دليل على استخدام الفائدة في المملكة المصرية الجديدة بين القرنين السادس عشر والحادي عشر قبل الميلاد. إلّا أنّها شاعت في القرون العشرة اللاحقة. تناقش النصوص السنسكريتية القديمة معدَّلات الفائدة التي يمكن أن يتقاضاها المقرضون وتضع قواعد بشأن رهن الفرد نفسه أو أبنائه كضمان. وفي الصين توثيق واضح للفائدة، بمعدَّلات عالية، منذ القرن الرابع قبل الميلاد على الأقل. وفي اليونان يعود الذكر الأول للفائدة إلى القرن الخامس، وبعده امتلأت الدراما اليونانية والفلسفة والتاريخ اليوناني بقصص المدينين المتعثِّرين، والمقرضين المشبوهين، والشكوك الأخلاقية بشأن تقاضي الفائدة. في كتابه الجمهورية، شدَّد أفلاطون على أن القروض بفائدة تعرِّض المدينة-الدولة لخطر ثورة الفقراء المفقرين.
استلزم خطر الفائدة وجود ضوابط تحكمها، وأكثرها ديمومة ورد في الآية 23 من سفر التثنية ومؤداها التحريم على الإسرائيلي فرض الفوائد على «أخيه» الإسرائيلي، مع إجازتها على «الغريب». وهذا التمييز التقليدي بين علاقات التبادل بين أعضاء الجماعة الواحدة، على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، وعلاقات التبادل مع الغرباء، حيث لا ينطبق مثل هذا المبدأ، كان يضعف كلَّما شاع استخدام الديون بفائدة على نطاق واسع. حين رفض أرسطو الفائدة في كتابه «السياسة»، ووصفها بأنها «ولادة المال من المال» بما لا يتفق مع الطبيعة، فقد كتب ما كتب كناقد محافظ لما كان بالفعل ممارسة شائعة في أثينا في القرن الرابع، حيث كانت المفاهيم الاقتصادية القديمة للقرابة تتراجع. وفي الجمهورية الرومانية في الوقت نفسه تقريباً، توقَّفت الجهود المبذولة لتجريم الفائدة وحلَّت محلَّها القيود القانونية على الحد الأقصى لسعر الفائدة الذي يمكن للمقرض أن يتقاضاه، والذي ظل سمة من سمات القانون الروماني لقرون عدَّة. أُلغيَت الممارسة القديمة واسعة الانتشار لعبودية الديون في أثينا رسمياً في أوائل القرن السادس، وفي روما في أواخر القرن الرابع. لكن هذه الممارسة لم تُجتَث بالكامل.
رفض أرسطو الفائدة في كتابه «السياسة»، ووصفها بأنها «ولادة المال من المال» بما لا يتفق مع الطبيعة
في أوروبا في العصور الوسطى، كان الربا محل استنكار بناءً على سلطة كل من أرسطو وسفر التثنية، على الرغم من اللبس بشأن ما إذا كانت إجازة الكتاب المقدَّس لفرض الفوائد على غير اليهود تعني إجازته بالعموم بين الطوائف الدينية. يبدو أن مقاطع مختلفة في الأناجيل، وخصوصاً لوقا 6 («أقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً»)، تدعم تحريماً واسعاً للربا، كما في الإسلام؛ وقد ظلت مسألة جواز أن يُطالِب اليهود بالفوائد من غير اليهود نقطة نقاش لاهوتي. وصف توما الأكويني، أحد أكثر معارضي الربا تأثيراً في العصور الوسطى، الأمر بأنه محاولة غير قانونية لتقاضي مبلغٍ من شخص ما مقابل استخدام الوقت نفسه. أمَّا عند المدافعين عن الفائدة لاحقاً، فقد كان هذا منبع فائدتها: كانت إغراءً لجعل المرء يتخلَّى عن أمواله مؤقتاً بدلاً من الاستفادة منها بطرائق أخرى. من المفترض أن تكون المتعة اليوم أكثر قيمة مما ستكون عليه غداً؛ فالتأجيل له كلفة. لكن عند الفقهاء، على عكس الرأسماليين، لم يكن هذا منطقياً. فالوقت لا يمكن شراؤه أو بيعه.
كانت جهود الكنيسة في العصور الوسطى لتجريم الفائدة عديمة الفاعلية في الغالب، إذ ببساطة أعاد التجَّار والصيارفة وصف الرسوم العديدة على المقترضين بعبارات أقل عدوانية، وفي كثير من الأحيان قالوا إن المبلغ المضاف إلى المبلغ المقترَض كان «تبرعاً» من المقترِض إلى المُقرِض. ومع الإصلاح الديني تغيّر لاهوت المال، ليسمح للأفكار المتعلِّقة بالفائدة أن تواكب الممارسات القائمة. هاجم كالفن كلا الركيزتين اللتين قام عليهما المنطق المناهض للربا في العصور الوسطى: لا ينبغي للقانون اليهودي القديم أن يكون مُلزماً للمسيحيين، ما دام الإقراض بفائدة لا ينتهك معايير الإحسان، وكان مفهوم أرسطو عن «عقم» المال متهافت. فالأصول الأخرى غير الحاملة لـ«ذرية»، كالمنازل والأراضي، يمكن أن تولِّد ريعاً؛ وكذلك الحال مع المال. شاع هذا الدحض لوجهة النظر الأرسطية، مع إلغاء الحظر الرسمي على الفائدة تدريجياً. وفي العام 1571، ألغت الملكة إليزابيث الأحكام الإنكليزية لمكافحة الربا، وحدَّدت معدلاً أقصى قدره 10%. ولم يكن من الممكن تجنُّب فرض رسوم مفرطة على المقترضين إلَّا حين تغدو سرقة ظالمة وصارخة من المحرومين. بخلاف ذلك، كان استخدام القروض بفائدة مقبولاً على نطاق واسع في أوروبا مع دخولها عصر النشاط التجاري المتوسِّع والحرب المكلفة.
في خلال القرن السابع عشر، زاد تعقيد الإقراض والاقتراض، وخصوصاً في إنكلترا بعد الثورة المجيدة، مع تأسيس بنك إنكلترا والدين الوطني وظهور العديد من أدوات التمويل الحديثة الأخرى للمرَّة الأولى. استمرَّ الحد الأقصى المسموح به لأسعار الفائدة في الانخفاض مع تزايد اقتراض الدولة لتمويل قرن من الحروب المتواصلة. بدأ العصر الأول من المال السهل بعد تعديل قوانين الربا الإنكليزية في العام 1714 لتمنع الإقراض بمعدل فائدة يزيد عن 5%؛ وفي فرنسا انخفضت المعدلات إلى أقل من ذلك. وجاءت بعد ذلك بوقت قصير اثنتان من أولى الأزمات الحديثة الناجمة عن انفجار فقَّاعات الأصول، حين انهارت شركتا المسيسيبي وبحر الجنوب في العام 1720.
أعاد التجَّار والصيارفة وصف الرسوم العديدة على المقترضين بعبارات أقل عدوانية، وفي كثير من الأحيان قالوا إن المبلغ المضاف إلى المبلغ المقترَض كان «تبرعاً» من المقترِض إلى المُقرِض
عند هذه النقطة، أصبحت المناقشات حول المال علمانية إلى حد كبير، وتحوَّلت أكثر إلى التأثيرات الاقتصادية للمعدَّلات المختلفة بدلاً من تفسير النصوص القديمة. في كتيبٍ يعود تاريخه إلى العام 1691، طرح جون لوك حجَّة مُبكرة ومؤثِّرة ضد الجهود المبذولة لخفض أسعار الفائدة، مدعياً أن هذا يحفز المضاربة، ويضرُّ بالمدَّخرين الحذرين، ولا يفيد إلا «الصيارفة والكتّاب بالعدل الماهرين في فنون إقراض المال». وشدَّد على عدم وجوب وجود أي لوائح قانونية بشأن «سعر استئجار المال».
تجسِّد حجَّة لوك نقطة تحوُّل في تاريخ إدوارد تشانسلور الجدالي للفائدة منذ العصور القديمة وحتى الوقت الحاضر. ومن المفترض أن لوك كان أول من أدرك ما لم يدركه جميع مناهضي المرابين من قبله: أن الفائدة لم تكن فحسب أداةً مناسبة في المجتمعات المعقّدة، بل أيضاً أن أسعار الفائدة المنخفضة، وليس المرتفعة، لها آثار اجتماعية ضارّة، وتعيد توزيع المال من المقرِض إلى المقترِض، وتشجّع على خوض المجازفات الخطيرة، وتفاقِم من فجوة اللا مساواة. يصف تشانسلور – وهو يحمل شكوكاً ليبرتارية ترى في المال السهل حيلةً حديثة تعمل على تعطيل قوى السوق الطبيعية – القرون التي تلت ذلك بأنها سلسلة متتالية من الفشل في الاستجابة لتحذير لوك، مع تراجع أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في أوائل القرن الحادي والعشرين. وفي التاريخ الذي يرويه مفارقة: ففي حين كانت شرعية فرض الفائدة مقبولة على نطاق واسع في الحداثة وحدها، فقد كان الاتجاه العام انخفاض معدّلاتها طوال التاريخ المُسجَّل. وفي بلاد الرافدين، ظلت الفائدة على قروض الشعير عند 33% لأكثر من ألف عام. في العام 325 م، قبل أن يؤسِّس القديسان جيروم وأمبروسيوس العقيدة المسيحية عن الربا، أعاد قسطنطين تأكيد الحد الأقصى للمعدل الروماني عند 12%. وحين كان لوك يحذِّر من مخاطر أسعار الفائدة المنخفضة، كانت إنكلترا تناقش وجوب انتقالها من معدل 6% إلى 4% من عدمه. بين الأزمة المالية في 2007-2008 والزيادات المتتالية في أسعار الفائدة منذ العام الماضي، أبقت معظم البنوك المركزية، مع استثناءات قليلة، أسعار الفائدة عند مستوى 0%، إن لم يكن أقل.
يلقي تشانسلور باللوم على هذا الانخفاض المطرد لأسعار الفائدة في كل أزمة كبرى تواجه الحداثة تقريباً. وهو يرى أن المال السهل سيأتي دائماً بمضاربات خطيرة، إذ يحاول المستثمرون التعويض عن العوائد المفقودة من خلال دعم «شيء مستحيل»، كما كتب الصحافي المالي الفيكتوري والتر باجيت ذات مرة: «قناة إلى كامتشاتكا، وخط سكّة حديد إلى واتشيت، خطّة لتحريك البحر الميت، وشركة لشحن الزلاجات إلى توريد». وباجيت من ليبراليي القرن التاسع عشر استشهد به تشانسلور موافقاً له. وثمّة آخر هو الاقتصادي الفييني يوجين فون بوم باويرك الذي كان كتابه «رأس المال والفائدة»، وهو تاريخ فكري ضخم للفائدة يجمع معه طرحاً نظرياً ومعارضة للماركسية، أول نجاح كبير لما يُسمّى بالمدرسة النمساوية في اقتصاديات السوق الحرَّة التي ضمَّت لاحقاً فريدريش هايك ولودفيغ فون ميزس، وشكَّلت الأساس لطائفة من الأفكار النيوليبرالية لا تزال تطبع العديد من الليبرتاريين والمحافظين في أوروبا والولايات المتّحدة.
أصبحت المناقشات حول المال علمانية إلى حد كبير، وتحوَّلت أكثر إلى التأثيرات الاقتصادية للمعدَّلات المختلفة بدلاً من تفسير النصوص القديمة
والعدو المشترك للميالين إلى المدرسة النمساوية هم محافظو البنوك المركزية الذين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، يتحكَّمون بأسعار الفائدة لتحقيق الحد الأقصى لمعدَّل التوظيف المتوافق مع مستوى معيَّن من التضخّم – وهو ما عنى، حتى وقت قريب، إبقاء أسعار الفائدة منخفضة. فمن الأفضل، من وجهة نظر المدرسة النمساوية، أن نسمح للسوق بتحديد أسعار الفائدة بدلاً من تمكين التكنوقراط من تحديدها – حتى ولو ترتب على ذلك في أوقات الأزمات قبول الأسوأ إلى أن يصحِّح الاقتصاد نفسه بطريقة أو بأخرى من دون مساعدة من التحفيز النقدي. والأدلة التاريخية التي تُجمَع أحياناً لدعم هذا الرأي الراديكالي تأتي من الركود الاقتصادي الكبير عقب نهاية الحرب العالمية الأولى. في العام 1920، حين سعى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ومعه البنوك المركزية الكبرى الأخرى، إلى احتواء التضخُّم من خلال رفع أسعار الفائدة إلى مستويات تاريخية، كانت النتيجة واحدة من أشدِّ الانكماشات الاقتصادية في القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم بالفعل، انتهى أسوأ ما في الأمر بحلول نهاية العام 1921، وكل هذا من دون ذلك النوع من التحفيز الكينزي الذي غدا شائعاً في وقت لاحق. ويُؤخذ هذا كدليل على أن السماح للسياسة النقدية والتقشُّف والانكماش بأن تأخذ مجراها سوف يمكِّن السوق من شفاء الاقتصاد، بلا مساعدة، وبسرعة وكفاءة أكبر مما تستطيع الدولة إدارته.
ولكن من الصعب في واقع الأمر أن نتعلم أي دروساً مباشرة ومناهِضة للتدخل من هذه الواقعة، لا سيما أن التعافي في الولايات المتحدة لم يبدأ إلا بعد تيسير السياسة النقدية – وليس تشديدها – في منتصف العام 1921. وفي أماكن أخرى، لم تكن الأزمة قصيرة الأمد، وخصوصاً بين منتجي السلع الأساسية في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، وهؤلاء واجهوا ضغوطاً انكماشية لسنوات. في المملكة المتّحدة، كانت فترة العشرينيات من القرن الماضي بمثابة عقد ضائع أكثر من كونها فترة ازدهار. لقد كشف الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، وما تلاه من انزلاق أوروبا إلى الهاوية السياسية، عن المخاطر المترتبة على السماح للأزمات بأن تمضي في مجراها. والنتيجة الأوضح لأسعار الفائدة المرتفعة – أي البطالة الجماعية – أقامت عليها دليل الإدانة. وأصبح من المستحيل سياسياً أن تتجاهل الأنظمة الديمقراطية الصدمة الناجمة عن الركود الاقتصادي الحاد.
أصبح الجدال ضد أسعار الفائدة المنخفضة أمراً شائعاً بعد أزمة 2007-2008، حيث أُلقي اللوم على البنوك المركزية في زيادة فجوة اللامساواة والمضاربات التعسفية، ومؤخراً، عودة التضخّم، بعدما خفَّضت أسعار الفائدة وتبنت سياسات نقدية غير تقليدية. نُشِرَت مساهمة تشانسلور في هذا النوع من الأدبيات مع اقتراب عصر المال السهل من نهايته. في آذار/مارس 2022، بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة لوقف المسيرة التصاعدية في مؤشر أسعار المستهلك. ومنذ ذلك الحين، استجابت البنوك المركزية للتضخّم المستمر بمواصلتها رفع سعر الفائدة. والسؤال هنا هل ستسبِّب هذه الديناميكية الركود، أو هل ستنظّم البنوك المركزية «الهبوط الناعم»، حيث يُكبح التضخُّم من دون التعجيل بانهيار الإنتاج والتوظيف. إلا أنّ الرأي بصدد احتمال حدوث ركود لا يستقر بين يوم وآخر. لكنّ التأثيرات المترتبة على ارتفاع أسعار الفائدة أصبحت مُحسّة بالفعل. وكان من بين الضحايا الأوائل بنك وادي السيليكون الذي أفلس في آذار/مارس بعدما تسبَّبت زيادات أسعار الفائدة في انخفاض قيمة استثماراته في السندات وسحب المودعين منه بسبب الذعر. أثار انهيار البنك المخاوف من حدوث أزمة مالية أوسع وأظهرَ مخاطر القيام برهانات كبيرة على افتراض أن الاقتراض سيظل رخيصاً إلى أجل غير مسمى.
يلقي تشانسلور باللوم على الانخفاض المطرد لأسعار الفائدة في كل أزمة كبرى تواجه الحداثة تقريباً. وهو يرى أن المال السهل سيأتي دائماً بمضاربات خطيرة
رأى المتحمِّسون للمال الصعب في مصير بنك وادي السليكون مؤشراً على أن أسعار الفائدة المرتفعة تقوم بوظيفتها، فتقتل الشركات «الزومبي» التي تتشبث بالبقاء، على الرغم من نموذج أعمالها الرديء، لأن خوض المجازفة سهل حين لا يكلف الاقتراض شيئاً تقريباً. ومن هذا المنطلق، فإن إبقاء أسعار الفائدة منخفضة يعطِّل العملية التي أطلق عليها شومبيتر «التدمير الخلَّاق»، حيث تتخلَّص الرأسمالية من الشركات الضعيفة والأفكار السيِّئة لإفساح المجال أمام الجديد. ظن البعض أنه يشهد العلامات الأولى لانفجار فقَّاعة تكنولوجيا كانت قد أثرت الأثرياء منذ العام 2008 وأنتجت مشروعات عبثية من قبيل إف تي إكس وثيرانوس، لكنها لم تنتج سوى القليل من حيث النمو والازدهار المشترك على نطاق واسع.
بيد أن قيمة تطهيرٍ كهذا تغدو أكثر غموضاً، كلما ابتعد المرء عن تجاوزات وادي السيليكون. فالأضرار الجانبية الناجمة عن انهيار المؤسَّسات قد تكون هائلة؛ ولهذا السبب تشعر الحكومات الآن أن عليها الاستجابة حتى لفشل البنوك القُطرية. وإذا أدت زيادة معدلات الفائدة إلى ارتفاع معدلات البطالة، فمن شبه المؤكد أن النتيجة ستكون إضعاف النفوذ الذي اكتسبته العمالة المنظَّمة بشق الأنفس. في المقابل، تميل أسعار الفائدة الأعلى إلى تعزيز موقف صقور الميزانية: ففي الولايات المتَّحدة، يُحتَجّ الآن بارتفاع تكاليف الاقتراض لخفض الإنفاق الاجتماعي. علاوة على ذلك، فإن موجات الصدمة الناجمة عن تشديد السياسة النقدية لا تقتصر على الحدود الوطنية. إذ إن لرفع أسعار الفائدة في الولايات المتَّحدة آثار كبيرة على الاقتصاد العالمي. فحين نجح بول فولكر، بصفته رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في عهد ريغان، في كبح جماح التضخم في الولايات المتَّحدة برفعه أسعار الفائدة بشدة بين عامي 1979 و1981، كان سبباً في التعجيل بحدوث ركود اقتصادي لم تتعافَ منه أجزاء من أميركا اللاتينية وأفريقيا بالكامل بعد. واليوم، تواجه العديد من البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل احتمال التعرض لضغوط اقتصادية وسياسية شديدة مع ارتفاع كلفة الاقتراض وتَجاوِز ديونها الخارجية نطاق قدرتها على التحمُّل. أعقبت أزمة الديون في سريلانكا العام الماضي انتفاضةٌ شعبية وسقوط الحكومة؛ وفي هذا العام، اقتربت باكستان من حافة التخلُّف عن السداد، حيث تسبَّبت التزاماتها الخارجية غير المقدور عليها في مفاقمة الوضع الاقتصادي والسياسي المتدهور في البلاد. وتواجه أكثر من خمسين دولة من أفقر دول العالم ضغوطاً مماثلة مع ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة صعوبة خدمة ديونها الخارجية التي تضخَّمت في خلال الوباء.
غالباً ما يُلقى باللوم في مأزق حملة الديون السيادية على حملة الديون أنفسهم – الحكومات التي اقترضت بكثافة حين كانت القروض رخيصة – وليس على المؤسَّسات المالية الأميركية والأوروبية التي جعلت من ديون الاقتصادات «الطرفية» استثماراً شائعاً، حين أحال انخفاضُ أسعار الفائدة فيها الاستثمارَ في السندات الأخرى أقل جاذبية. والآن، مع انتهاء الائتمان السهل، تُمارَس الضغوط على الحكومات لموازنة ميزانياتها من خلال خفض الإنفاق العام. ونتيجة لذلك، فإنها تواجه احتمال سنوات من النمو الضائع، وتدهور الخدمات العامة والبنية التحتية، وعدم الاستقرار السياسي. هنا تبدو الحجة المؤيدة للتدمير الخلَّاق جوفاء: لم نعد نتحدث عن اضطرار رجال الأعمال إلى العودة إلى نقطة البداية حين تُحرم مشروعاتهم من الأموال الرخيصة، بل نتحدَّث عن البؤس والأزمة الاجتماعية وانهيار الحكومة. فما من دول زومبي نغدو بتدميرها أفضل حالاً.
نشرت هذه المراجعة في london Review of Books في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.