مقدّمة كتاب «أرض لديها شعب» 
أساسيات الصهيونية

  • عبّرت الصهيونية منذ نشأتها في أوروبا في القرن التاسع عشر عن أيديولوجية ومجموعة من الممارسات شكلت نظاماً عنصرياً للاستعمار الاستيطاني. ومثلها مثل كل أشكال العنصرية، فهي ذات وجهين: خارجي يخاطب الأغيار وداخلي يخاطب أتباعها. لقد أدّى اتفاقها المبكر مع الفرضيات الأوروبية المتعلقة بالتفوق الغربي والأبيض إلى اضطهاد واستبعاد العرب الفلسطينيين وسكان شمال إفريقيا والمسلمين.
  • إن الرسالة المؤرخة في العام 1917 التي بعث بها وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور إلى اللورد روتشيلد، وهو مواطن يهودي صهيوني وأشهر مواطن يهودي في بريطانيا، والتي وعد فيها بالدعم البريطاني من أجل «إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»، كانت مدفوعة برغبةِ بلفور في تخليص بريطانيا من يهودها، كما كانت مدفوعة برغبة المصالح الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية في الحصول على معقلٍ لها في الشرق الأوسط

 

الصهيونية هي الأيديولوجية التي تربط بين وضع الجماعة اليهودية (القديمة) والادِّعاءات (الحديثة) بالسيادة على الأرض، التي يُزعم أن الإله وَعَدَ بها اليهود وأحفادهم. وترتكز أسطورة العِرْق المشترك، (أيْ العلاقات الثقافية وروابط الدّم)، على عملية تحويل العهد القديم إلى مرجعيةٍ تاريخيةٍ فعلية تقطع بأن الشعب اليهودي يشكّل «عرقاً» مُجتثاً و«شعباً مختاراً» تأسيساً على ميثاقه الفريد مع الله. وعد الله اليهود بالرجوعِ إلى موطنهم التوراتي، واصفاً أولئك الذين سكنوه على امتداد القرون بـ«الغرباء» أو «الدُّخلاء». هذا التّوهُّم العنصري المستفيض عن وحدة اليهود وتميزهم، يتناقض مع واقع الشتات، حيث مارَس اليهود لقرونٍ عدة شعائر وتقاليد دينية تختلف فيما بينها ضمن ثقافات ولغات وهويات عرقية وبقاعٍ جغرافية متنوّعة حول العالم. ولا يحتاج تحويل تلك التعددية إلى «قومية عقائدية استعمارية»، إلى بنية عنصرية عرقية فحسب، بل وإلى أرضٍ أو إقليم مشترك، فضلاً عمّا أسماهُ عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر «احتكار الاستخدام المشروع للقوة». وهو ما استلزم وضع استراتيجية للقضاء على «الأغيار» وتجنيد اليهود من العالم أجمع في المشروع الاستعماري. وكما توقّع الفيلسوف اليهودي الشهير مارتن بوبر وغيره، كانتْ الصهيونية مشروعاً يستلزم العنف والظلم والحرب إلى ما لا نهاية.

إن القول بتجانس اليهود كهوية قومية أو عرقية واحدة وثيقة الارتباط بدولة إسرائيل هو في حد ذاته شكل من أشكال معاداة السامية يضرب بجذوره في الماضي البعيد. عبّرت الصهيونية منذ نشأتها في أوروبا في القرن التاسع عشر عن أيديولوجية ومجموعة من الممارسات شكلت نظاماً عنصرياً للاستعمار الاستيطاني. ومثلها كمثل كل أشكال العنصرية، فهي ذات وجهين، أولهما خارجي يخاطب «الأغيار»، والآخر داخلي  يخاطب أتباعها. لقد أدّى اتفاقها المبكر مع الفرضيات الأوروبية المتعلّقة بالتفوّق الغربي والأبيض إلى اضطهاد واستبعاد العرب الفلسطينيين وسكان شمال أفريقيا والمسلمين. بينما استلزمت المطابقة بين اليهودية والولاء للدولة الإسرائيلية اليهودية الخالصة جهوداً لإضفاء الطابع العرقي والأبيض والوطني على اليهود، وهو ما قادَ إلى انحرافٍ خطير صوب معاداة السامية من خلال القبول بالصور النمطية لليهود باعتبارهم «عرقاً» وأجانب في أي مكان باستثناء الوطن الإسرائيلي. أن تكون يهودياً مناهضاً للصهيونية يعني أنك لن تُوُصم بـ«كراهية الذات» فحسب، بل وبالخائن أيضاً.

القول بتجانس اليهود كهوية قومية أو عرقية واحدة وثيقة الارتباط بدولة إسرائيل هو في حدّ ذاته شكل من أشكال معاداة السامية يضرب بجذوره في الماضي البعيد

هناك العديد من المصادر التي تسلّط الضوء على الطرق التي تشابكت بها العنصرية ومعاداة السامية والذكورية بين مؤسّسي الصهيونية ومؤيديها الأوائل. لقد عُرف ثيودور هرتزل، الذي اعتُبِر لأمدٍ طويل والد الصهيونية في القرن التاسع عشر، بميله القوي إلى الطبقة الأرستقراطية البروسية، فضلاً عن المبارزة، والذكورية المفرطة، والنظرة المحتقِرة ليهود الشتات في أوروبا الشرقية لكونهم «ضعفاء». لقد كان كتابه Die Judenstaat (دولة اليهود) الصادر في العام 1896 بمثابة نداء موجّه إلى يهود أوروبا الأشكناز (أوروبا الغربية) يحض على الهجرة إلى فلسطين بدلاً من محاولة الاندماج في أوروبا، في تعبيرٍ عن القومية «القوية» التي ربما كانت تُعبّر عن سعيٍ لاسترداد الرجولة اليهودية أمام الرجال المسيحيين الأوروبيين البيض. إن الرسالة المؤرخة في العام 1917 التي بعث بها وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور إلى اللورد روتشيلد، وهو مواطن يهودي صهيوني وأشهر مواطن يهودي في بريطانيا، والتي وعد فيها بالدعم البريطاني من أجل «إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»، كانت مدفوعة برغبة بلفور في تخليص بريطانيا من يهودها، كما كانت مدفوعة برغبة المصالح الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية في الحصول على معقلٍ لها في الشرق الأوسط. وأولاً وقبل كل شيء، ارتبط التأييد الأوروبي والصهيوني للاستعمار الاستيطاني اليهودي منذ البداية بنبذ العنصرية البيضاء أو العرب الفلسطينيين ذوي السُّمعة الملطخة ومحاباة اليهود الشرفاء المتحضّرين.

إرهاصات النكبة: من وعد بلفور إلى العام 1947

لقد دافع وعد بلفور في العام 1917 وميثاق عصبة الأمم الذي أسَّس للانتداب البريطاني عن الحقوق المدنية والدينية «للطوائف غير اليهودية»، بيد أنهما تجاهلا حقوقها الوطنية في تقرير المصير. وفي انتهاكٍ صارخ للدور الانتدابي على نحو ما نُصّ عليه في الميثاق (المادة 22)، ألغى الانتداب على فلسطين الوجود الفلسطيني أو حتى العربي في فلسطين التاريخية مانحاً الأولوية للهجرة اليهودية وإنشاء «وطن قومي للشعب اليهودي». وقد جرى هذا التمييز الصارخ علماً بأن العرب الفلسطينيين كانوا يشكّلون 90% من سكّان فلسطين آنذاك، مقابل 10% للمستوطنين اليهود. وبعبارة أخرى، خضعت تطلّعات المجتمعات الأصلية المنصوص عليها في ميثاق العصبة لحلم المنظمة الصهيونية العالمية.

نشطت الاحتجاجات العربية والفلسطينية في السنوات التالية لوعد بلفور مباشرة بعد تسارع الهجرة اليهودية التي شجّع عليها إلى فلسطين. وفي العام 1919، اجتمع المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس ليضع ميثاقاً وطنياً يطالب بالاستقلال لفلسطين، ويرفض الحكم البريطاني، ويندّد بوعد بلفور. في العام 1920، تحوّل مهرجان النبي موسى الإسلامي السنوي إلى مناوشات بين المسلمين واليهود (يقودهم الزعيم الصهيوني اليميني فلاديمير جابوتنسكي). وفي الاحتجاجات المناهضة للصهيونية في نابلس، أنشد المتظاهرون المسلمون: «نحن أبناء جبل النار (نابلس) / نحن شوكة في حلق الاحتلال». وفي العام 1921، أسّست نساء فلسطين، الاتحاد النسائي الفلسطيني، الذي قاد المظاهرات المنظّمة ضد بلفور والانتداب البريطاني، وعقد فيما بعد المؤتمر النسائي الفلسطيني العام في القدس. وفي إنكلترا، جهر العضو اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية إدوين مونتاغو بمعارضة الإطار العام لوعد بلفور والصهيونية. بيد أن السلطة والاستعمار الاستيطاني العنصري كانا في علاقةٍ لا تنفصم في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى. بعد فترة وجيزة من الحرب، طالبت المنظّمة الصهيونية الدولية نيابة عن يهود العالم بأرض إسرائيل: دولة قومية ذات سيادة تقوم على الملكية اليهودية الحصرية للأرض.

فيما يتصل بنزعتها العنصرية وأحلامها المرتبطة بالتفوّق الذكوري العنصري، لا تشكّل الصهيونية استثناءاً بأي حال من الأحوال؛ فهي تستفيد من الدوغما الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية المُدرجة ضمن النصوص التي تعود إلى جون لوك. وفي قلب هذا المعتقد الدوغمائي يكمن الادعاء بقدرة المستوطنين على جلب القدرات الفكرية والتقنية الفائقة، بما يُمكّن من إصلاح الأراضي التي أشاعوا أنها قاحلة ومهملة، وهو ادعاء زائف لطالما جرى استخدامه لتبرير نزع الملكية من الشعوب الأصلية في فلسطين والهند والأميركتين، كما في أماكن أخرى. منذ أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه، روّج الحاخامات الصهاينة لتلك الصورة العنصرية الاستعمارية داخل المعابد اليهودية المحلية القائمة في القرى والمدن المنتشرة في سائر أنحاء الولايات المتحدة بغرض تدشين الولاء للحركة الصهيونية بين رعاياهم.

يكمن الادعاء بقدرة المستوطنين على جلب القدرات الفكرية والتقنية الفائقة، بما يُمكِّن من إصلاح الأراضي التي أشاعوا أنها قاحلة ومهملة، وهو ادعاء زائف لطالما جرى استخدامه لتبرير نزع الملكية من الشعوب الأصلية

 لم تكن هذه الحملة الأيديولوجية تهدف إلى مقاومة العداء الأوروبي للسامية فحسب، وإنما شكّلت بالإضافة إلى ذلك رداً مباشراً على حركة المقاومة العربية الفلسطينية القوية ضد حكم الانتداب البريطاني والاستعمار الصهيوني الذي ترعاه بريطانيا في فلسطين، والتي منيت بالهزيمة في نهاية المطاف. يقول المؤرّخ رشيد الخالدي:

«شكَّل الإضراب الفلسطيني العام في سنة 1936 والثورة المسلّحة التي تلته حدثين بالغي الأهمية بالقياس إلى الفلسطينيين والمنطقة والإمبراطورية البريطانية. كان الإضراب العام الذي دام لستةِ أشهر ممتدّاً من نيسان/أبريل حتى تشرين الاول/ أكتوبر، وشهد تعطيل العمل ومقاطعة الوحدات الاقتصادية التي تسيطر عليها بريطانيا والصهيونية، وكان أطول الإضرابات المناهضة للاستعمار حتى تلك اللحظة في التاريخ، وربّما الأطول على الإطلاق».

كشف البحث الذي أجريته في أرشيفات الكنيس الإصلاحي لعائلتي في تولسا، أوكلاهوما، عن مثال مذهل على أنشطة البروباغندا الصهيونية في أميركا الوسطى في منتصف القرن. في عدد حزيران/يونيو 1936 من مجلّة «تولسا جويش ريفيو»، وهي إحدى منشورات مجلس تولسا للنساء اليهوديات (التي كانت جدّتي عضوة فيها)، تظهر مقالة للحاخام المحلي يطمئن فيها قراءه بأن «الاضطرابات الأخيرة في فلسطين»- في إشارة واضحة إلى الإضراب العام- لا تعكس عداء الفلسطينيين للمستوطنين اليهود ولا تعرِّض «الصداقة الأنغلو يهودية» للخطر. وبالإضافة إلى وصف المقاومة الفلسطينية في ذلك العام الحاسم بأنها «أعمال إرهابية» وحثّ البريطانيين على الوقوف بثبات، يُلطّخ الحاخام سمعة المنتفضين واصفاً إياهم بضحايا «البروباغندا والتهديدات»، الذين لن يجدوا سبيلهم إلى «السعادة الدنيوية» إلا عن طريق الاستعمار اليهودي. من المهم أن نعي أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الرامي إلى «تجريد فلسطين من عُروبتها» وإخضاع فلسطين التاريخية بأكملها للسيادة الصهيونية، إنما يرجع تاريخه إلى ما قبل النكبة والسمعة العالمية للمحرقة النازية. أعلن دستور الصندوق القومي اليهودي لعام 1929، وهو الوكالة شبه الحكومية المسؤولة عن تنظيم توزيع الأراضي في نطاق المساحة التي تسيطر عليها إسرائيل حتى يومنا هذا، أن الأراضي التابعة للصندوق القومي اليهودي تمثل «ملكية غير قابلة للتصرّف للشعب اليهودي، وأن الصندوق القومي اليهودي ملزم بالعمل لا من أجل خير مواطنيه كافة، وإنما من أجل خير الشعب اليهودي ولا غير». كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول والزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون مهووساً بفكرة «التوازن الديموغرافي» كوسيلةٍ للحفاظ على الهيمنة الصهيونية على فلسطين. وقد لاحظ في وقت مبكر من العام 1937 أن إقامة ما بدا له على أنه التوازن الأمثل بين العرب واليهود قد يستلزم اللجوء إلى القوة، حيث أكّد في سياق الخطاب الذي ألقاه في العام 1947 أن «الدولة المستقرّة والمستدامة هي وحدها الدولة التي يشكّل فيها اليهود 80% من السكّان على الأقل».

ويجدر بنا التوقف عند الاجتماع بالغ السرية الذي عقده في العام 1941 في نيو كورت ببريطانيا عشرون من القادة الصهاينة، الذين شكّلوا معاً نخبة البطريركية الصهيونية في أوروبا الغربية. واللافت في هذا الاجتماع ليس الخلاف على الاستراتيجيات الصهيونية المطلوبة، وإنما الموضوع المركزي: نقل السكان. وقد حثَّ المشاركون حاييم وايزمان وبن غوريون لا على وجوب تأسيس «وطن» فحسب، بل وعلى تأسيس دولة يهودية ذات غالبية يهودية، وتشجيع هجرة اليهود من شتى أنحاء العالم قدر المستطاع. وقد عبّر أحد المخالفين لهذا الرأي، وهو السير روبرت ويلي كوهين، عن خوفه من أن فكرة «الدولة اليهودية» تبدو «خطيرة» وإِقصائية بل وقريبة الصلة من هتلر في تأكيدها «على الدين الواحد والعرق الواحد». بيد أن الغلبة كانت لرؤية وايزمان وبن غوريون ذات النزعة العرقية، على الرغم من استعانتها بمبادئِ عدم التمييز والنقل «الطوعي» للسكان. وشدّدوا على ضرورة وجود دولة ذات غالبية يهودية تحمل اسماً يهودياً لا يعتمد على اليهودية كدين، بل على «أن تكون يهودياً»، أي من ناحية العرق والمولد. سوف تُهجَّر غالبية العرب الأصليين ليحل محلهم ملايين المهاجرين اليهود الذين يَتُوقُون إلى «أرض الميعاد» كما يفترض. وقد تصوّر الصهاينة ورعاتهم الإنكليز أشكالاً مختلفة «لنقل السكان» في خلال السنوات التي سبقت ذلك. وفي استطاعتنا أن نرى في هذا اللقاء بذور خطّة دالت والتهجير الجماعي في 1947-1948. كما أنه في طوعنا أن نرى افتراضاً خاطئاً مفاده أن جميع اليهود في كل مكان سوف يتبنّون المثل الصهيوني في الحال، ومن ثم يسارعون إلى إنشاء دولة إسرائيل الجديدة. وكل من لا يقبل بهذا المثل الأعلى ينبغي اعتباره «معادياً للسامية» على حدّ تعبير وايزمان، بيد أن هذا الافتراض كان محض خيال. لقد قوبلت فكرة حشد اليهود كافة في وطن برفض العديد من اليهود الأوروبيين منذ فترة طويلة. وكان من بين هؤلاء المنشقين كلاًّّ من الطائفتين الأرثوذكسية التي ارتأت أن السيادة الوطنية اليهودية تمثل تجديفاً ضدّ الله والتوراة، وزعماء اليهود الإصلاحيين الذين اعتبروا اليهودية «مجتمعاً دينياً عالمياً يحتضن العديد من المواطنين المنتمين إلى مختلف البلدان والثقافات». لقد بدت لهم فكرة «الدم والأرض اليهودية»، التي تكمن في قلب الصهيونية، كوهمٍ معادٍ للسامية جذرياً. أمّا أعضاء حزب البوند، الذي تشكّل في العام 1897 لكي يمثّل العمّال اليهود في روسيا وبولندا وليتوانيا، فقد عارضوا الصهيونية صراحةً، واختاروا النضال من أجل العدالة والحرية ضد الأنظمة القيصرية الحاكمة.

قبل الحرب العالمية الثانية وفيما تلاها، كانت الغالبية العظمى من اليهود السّاعين إلى الفرار من العداء للسامية في أوروبا الغربية أو من المذابح في روسيا وبولندا، يتطلّعون صوب الولايات المتحدة أو باتجاه بلدان أخرى في الغرب أو في أميركا اللاتينية. ومن بين هؤلاء أجداد وأسلاف معظم المساهمين اليهود في هذا الكتاب. ولكن تضافرت قوّتان عملتا على توجيه العديد من المهاجرين اليهود، بغض النظر عن رغَائبهم، صوب استعمار فلسطين ومن ثم الاقامة في دولة إسرائيل: (1) قوانين الهجرة الإقصائية العنصرية والمعادية للسامية، ولا سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي؛ (2) تواطؤ القادة السياسيين في تلك الدول مع أهداف الحركة الصهيونية. ارتبطت الصهيونية منذ وعد بلفور والانتداب البريطاني مع الجيوبوليتيك العالمية واستلزمت اصطفاف النخب القوية. وقد تواطأت المساعي المبذولة على أعلى المستويات للحيلولة دون العثور على بدائل للاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين.

نكبة 1948 وخطة الأمم المتّحدة للتقسيم

بدأت النكبة في عامي 1947-1948، بيد أن العديد من المؤرّخين والمحلّلين السياسيين يشيرون إلى «النكبة المستمرة»، على اعتبار أن أساليب وأهداف المرحلة الأولى لم تنقطع قَطّ. لقد كانت الخطّة د (دالت بالعبرية) هي الخطّة الرابعة ضمن سلسلة من الخطط الكبرى التي صاغها الضباط اليهود في العام 1948 بهدف تنفيذ عمليات التهجير الجماعي والإرهاب والتفجير وتدمير القرى الفلسطينية والمناطق الحضرية. وقد تمثّلت المحصلة المباشرة لتلك الخطط في المذبحة والتهجير القسري لنحو 750 ألف فلسطيني من قراهم ومنازلهم، وهو ما أسماه المؤرّخ إيلان بابيه «التطهير العرقي لفلسطين». بلغت الفظائع التي ارتكبتها الجماعات الإرهابية اليهودية أعلى مراحل الوحشية في القرى المحيطة بالقدس، التي تعدّ دير ياسين أكثرها شهرة، حيث تعرّض نحو 110 من الفلسطينيين للذبح بين رجال ونساء وأطفال. ولكن من المهمّ التشديد على أن هذه الفظائع كانت تمثّل وسيلة للترهيب والترويع في سياق الهدف الأكبر، وهو التوسّع في الاستيلاء على الأراضي، والذي مازال مستمراً حتى يومنا هذا عبر عمليات الضَّمّ. ويحدثنا الكاتب ومحلّل شؤون الشرق الأوسط ناثان ثرال عن استيلاء إسرائيل على أكثر من ثلاثة أرباع أراضي السكّان الفلسطينيين الأصليين، وهو ما يشكّل «مشروعاً مستمراً للمصادرة».

كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول والزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون مهووساً بفكرة «التوازن الديموغرافي» كوسيلة للحفاظ على الهيمنة الصهيونية على فلسطين. وقد لاحظ منذ العام 1937 أن إقامة توازن بين العرب واليهود قد يستلزم اللجوء إلى القوة

على الرغم من العقبات الكثيرة، قوبل كل منعطف في النكبة التي استمرّت لسبعةِ عقود من الزمن بمقاومةٍ لا هوادة فيها من جانب الفلسطينيين، وفي كثير من الأحيان بقيادة النساء، وكذلك اليهود الذين أدانوا العنف والظُّلم الشديدين اللذين تُمارسهما الصهيونية. وفي منتصف القرن العشرين، كان العديد من أبرز المثقفين اليهود في أوروبا والولايات المتّحدة - مثل عهد نوعام، ومارتن بوبر، وهانز كوهن، وألبرت آينشتاين، وهنا أرنت - ينتقدون الشكل العرقي القومي الذي اتخذته الصهيونية، ويدعون لنوعٍ من الصهيونية الثقافية، أو دولة ثنائية القومية في فلسطين. في كانون الأول/ديسمبر 1948، كتبت مجموعة مكوّنة من 28 شخصاً من بين هؤلاء المثقفين اليهود اليساريين رسالة إلى صحيفة «نيويورك تايمز» احتجاجاً على زيارة مناحيم بيغن إلى الولايات المتّحدة، وزعيم الحزب السياسي اليميني الجديد في إسرائيل الذي سيصبح حزب الليكود، حزب نتنياهو واليمين الإسرائيلي. وأشارت الرسالة إلى أن ما يُسمّى بـ«حزب الحرية» قد انبثق من منظّمة «إرغون تسفاي ليومي» (الإرِغون)، وهي المنظّمة الإرهابية التي تزعّمها بيغن والمسؤولة عن تهجير الفلسطينيين وعن أَبشع المذابح، بما فيها المذبحة المشينة في دير ياسين. ولم يندِّد الموقّعون على الرسالة بنزعة الحزب الفاشية و«أساليب العصابات» فحسب، بل وبالصمت المتواطئ الذي التزمته «القيادة العليا للصهيونية الأميركية».

احتضنت الأمم المتّحدة منذ أيامها الأولى الاحتجاج على انتهاك القانون الدولي والظلم المقترن بتأسيس الدولة الصهيونية وتشريد الفلسطينيين. وفي العام 1947، شكّلت الأمم المتّحدة اللجنة الخاصة المعنية بفلسطين، التي أوصت بخطةِ تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية. بيد أن تقرير اللجنة الفرعية القانونية التابعة للأمم المتحدة المرفوع إلى الجمعية العامة اعترف بأن فرض التقسيم «ضد الرغبات المعلنة لغالبية السكان» من أجل تأسيس «وطن قومي لليهود» يمثّل «خروجاً على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة»، ولا سيما مبدأ تقرير المصير. في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، وعلى الرغم من رفض الوفود العربية، أصدرت الجمعية العامة القرار رقم 181 الذي فرض التقسيم وخصّص 55.5% من الأراضي للأقلية اليهودية التي تمثّل ثلث السكان، وكانت تمتلك في ذلك الوقت أقل من 7%. وتحت ضغط من الكنيسة الكاثوليكية والدول الكاثوليكية، أعلنت الخطة القدس والقرى المحيطة بها مدينة دولية تتولاها الأمم المتحدة. ومع ذلك، ما لبثت القوات الصهيونية أن انتهكت هذه الشروط التي تبدو مواتية، حيث أطلقت العنان للخطة (د) على القرى الفلسطينية، وبعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل من جانبٍ واحد في أيار/مايو 1948، شرعت في ضّمِّ القدس الغربية مستولية على ما يقرب من حوالى 10 آلاف منزل فلسطيني بالإضافة إلى محتوياتها.

القانون بوصفه حرباً قانونية

بعد فترة وجيزة من إعلان اليهود الإسرائيليين استقلالهم في العام 1948، انطلقت الدولة الصهيونية في تنفيذ استراتيجيتها المزدوجة الرامية إلى تعزيز السيطرة اليهودية على فلسطين التاريخية، وذلك عبر: (1) شبكة معقّدة من القوانين والسياسات والممارسات المتعلّقة بمن هُم «المنتمون» أو المواطنين ومن هم «الدخلاء» الذين يجوز لهم ممارسة حقوقهم المدنية؛ و(2) بنية تحتية هائلة للعسكرةِ والمراقبة مكرّسة لفرض واستكمال هذا الإطار القانوني: الدولة الأمنية الإسرائيلية. بين عامي 1948 و1954، سنّت إسرائيل:

  • قانون حق العودة لعام 1950، الذي يمنح الجنسية اليهودية والمواطنة الإسرائيلية تلقائياً لجميع اليهود في أي مكان في العالم (يُعرَّفون بأنهم «أولئك الذين ولدوا لأمٍ يهودية» أو الذين تحوّلوا إلى اليهودية)، حتى أولئك الذين لم تعش عوائلهم قَطّ في فلسطين، بالتزامن مع انتزاع حق العودة من الفلسطينيين الأصليين الذين عاشت عوائلهم هناك منذ مئات السنين.
  • قانون أملاك الغائبين لعام 1950، والذي خضع للتعديل في السبعينيات، وهو لا يزيد عن سخافة أورويلية تعدّ الفلسطينيون، بما فيهم الفلسطينيين الذي يعيشون في إسرائيل أوْ الأرض الفلسطينية التي جرى احتلالها في العام 1967، «غائبين حاضرين» لا يحق للغالبية منهم استرداد منازلهم المصادرة في إسرائيل والقدس.
  • قانون الجنسية لعام 1952، الذي يسمح للفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل بين عامي 1948 و1952 ولا سواهم بأن يصبحوا مواطنين في إسرائيل، مستثنياً بالتالي كل الذين هُجِّروا أو ذهبوا إلى المنافي بسبب النكبة. وهذان القانونان يؤسّسان معاً لسخافةٍ أخرى، وهي «التمييز بين الجنسية اليهودية والجنسية الإسرائيلية». والحق أنه لا وجود لما يُسمّى الجنسية الإسرائيلية، إذ لا يشار في جوازات السفر وبطاقات الهوية إلاّ إلى «يهودي» أو «عربي» لا غير.
  • قانون منع التسلل لعام 1954، الذي يُعرّف الفلسطيني الذي «غادر» إسرائيل لأي سبب من الأسباب بأنّه «دخيل». إذ ربما يطالبون بحق العودة لاسترداد أراضيهم وممتلكاتهم المنهوبة. وقد أدّى هذا إلى استحداث فئة جديدة ستُطبّق على العديد من المجموعات غير المرغوبة، مثل طالبي اللجوء الأفارقة، بدءاً من العام 2008.

تضيف القوانين والأحكام القضائية الأخرى المزيد من القيود الشخصية والعائلية إلى بنية الأبارتهايد الإسرائيلي. بعد احتلال المزيد من الأراضي في العام 1967، عمدت إسرائيل إلى منح الفلسطينيين في القدس الشرقية وضع «الإقامة الدائمة»، وهو وضع قابل للإلغاء ويجعلهم أجانب في منازلهم. وأصدرت هويات الضفّة الغربية وغزة لبقية الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة. وتمتد آثار نظام الهوية إلى كافة جوانب الحياة الفلسطينية، بدءاً من العمل وحتى المكان الذي يجوز أو لا يجوز للأسرة أن تعيش فيه. وقد أدّى رفض إسرائيل المستمر لمطالب العوائل بلمّ شملها، حتى بالنسبة لأطفال وأزواج مواطنيها من الفلسطينيين، إلى تشتيت العائلات أو إجبارها على العيش كأسرتين. توثّق نادرة شلهوب كيفوركيان، الأستاذة في الجامعة العبرية في القدس، كيف أن جنون العظمة الصهيوني المرتبط بالتعرّض للغزو أو الخضوع لاضطهاد الأغيار، يستخدم الزواج كسلاح ويوُصم المهاجرين النازحين داخلياً بأنهم مغتصِبون مجازياً للأمة.

تمثّل الفظائع وسيلة للترهيب والترويع في سياق الهدف الأكبر، وهو التوسّع في الاستيلاء على الأراضي والذي مازال مستمراً حتى يومنا هذا عبر عمليات الضمّ

أما تاج هذا الصرح القانوني الضامن للسيطرة الصهيونية فهو قانون الدولة القومية اليهودية، الذي تم إقراره في الكنيست في تموز/يوليو 2018، وما زال حتى اليوم محل نزاع في المحاكم الإسرائيلية من جانب الرافضين من الفلسطينيين واليهود. ويهدف قانون 2018، الذي يروم أن يغدو تتويجاً للقوانين الأساسية الإسرائيلية، إلى تقنين سلسلة من التدابير الثقافية والسياسية والاجتماعية واللغوية بقصد تهويد كل شيء وإخضاعه بالكلية للسيطرة الإسرائيلية وجعل الفصل العنصري قانوناً للأرض.

 ومن بين أحكامه:

  • إعلان دولة إسرائيل «دولةّ قومية للشعب اليهودي» و«حق تقرير المصير القومي» «مقصوراً على الشعب اليهودي» داخل حدودها.
  • التهويد الشامل للرموز والأعياد الوطنية الرسمية (نجمة داود، الشمعدان، ما يسمى بيوم الاستقلال، يوم ذكرى المحرقة، وما إلى ذلك).
  • إعلان «مدينة القدس الموحّدة والكاملة عاصمة لإسرائيل»، وإعلان اللغة العبرية اللغة الرسمية للدولة، والحطّ بالتالي من مكانة اللغة العربية.
  • إعلان «الاستيطان اليهودي كقيمة وطنية» والوعد بأن الدولة «ستعمل على تعزيز بنيتها وتطويرها».

وعليه، لا يتغول قانون الدولة القومية على حق الفلسطينيين في تقرير المصير فحسب، بل وعلى حقهم في أن يكونوا مواطنين متساوين على أرضهم. كما أنه يلحق أشدّ الضرر بالفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة بوصفها هدفاً للمستوطنات غير القانونية.

وقد استمر النضال ضد قانون الدولة القومية منذ تشريعه. وفي خضم المناقشات في الكنيست التي سبقت اعتماده، ردّت الأحزاب العربية بتعديلات من شأنها أن تجعل إسرائيل «دولة لكل مواطنيها». بيد أن وزيرة العدل أيليت شاكيد ردّت مستشهدة بالفصل الصهيوني بين المواطنة والقومية، قائلة إن «إسرائيل دولة يهودية. إنها ليست دولة للجميع». أي أن هناك حقوق متساوية لجميع المواطنين ولكن ليس هنالك حقوقاً وطنية متساوية. في نهاية العام 2020 وأوائل العام 2021، قامت 15 مجموعة وفرداً - ضمّت الفلسطينيون واليهود والأكاديميون والمحامون والمزراحيم والبدو وحزب القائمة العربية المشتركة وحزب ميرتس اليهودي وعدالة - بتقديم التماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية احتجاجاً على الآثار التمييزية والمعادية للديمقراطية الناجمة عن قانون الدولة القومية. وأكد التماس «عدالة» أن فشل المحكمة العليا في إلغاء القانون بالكامل من شأنه أن «يديم مبادئ نظام الفصل العنصري كأساس للنظام القانوني في إسرائيل».

وشأنه شأن جميع النُّظم القانونية المُكرّسة لتقنين هيمنة مجموعة على أخرى، يستند النظام الإسرائيلي إلى أسلحة جهاز الشرطة وإلى العنف. واليوم، باستطاعة أي زائر أن يرى الجوانب الملموسة للحالة الأمنية التي تسود إسرائيل: قوّة الاحتلال الإسرائيلية المدججة بالسلاح؛ الدوريات الجائلة في الشوارع التي يقوم بها ضباط قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومئات الحواجز وغيرها من القيود المفروضة على الحركة، وجدار الفصل العنصري العملاق، وكل مظاهر العسكرة المتفشية في الحياة اليومية. وشأنه شأن الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية والفاشية، ينطوي غلوّ الصهيونية في التحصين العسكري على معانٍ سيكولوجية ووجُودية عميقة. تربط شلهوب كيفوركيان «سياسة الخوف» المتأصّلة في القوة الاستعمارية الاستيطانية في الحالة الإسرائيلية بما تسميه اللاهوت الأمني. والذي يشير إلى مجموعة من المعتقدات التي تضيف الأمر التوراتي المرتبط بميثاق الله مع اليهود إلى ختم «الأمن القومي» المسلم به على أي إجراء شرطي أو عسكري أو أية مصادرة ترغب الدولة في اتخاذها. فهو يصنف الفلسطيني أو «الآخر» كإرهابي بالإمكان، حتى قبل أن يولد أو بعد أن يموت بالفعل (تأمل ممارسة قوات الاحتلال الإسرائيلي المتمثلة في عدم السماح للعوائل الفلسطينية بالحصول على جثامين الفلسطينيين الذين يقتلهم الجنود الإسرائيليون)، في الوقت الذي يطوّبون فيه المستوطنين بوصفهم «المختارين» من الرب. ذلك على الرغم من المفارقة المتمثلة في حاجة الدولة الصهيونية إلى ضحاياها الفلسطينيين. وتصف شلهوب كيفوركيان تلك الحاجة المتناقضة لمحو أو تهجير الشعب الأصلي والإبقاء عليه حاضراً كتهديد مستمر في الوقت نفسه. فمن دون الآخر الفلسطيني، فإن الجهاز الأمني بأسره بدءاً من الحواجز ونقاط التفتيش والبيئات العسكرية ومصادرة الأراضي ناهيك عن مليارات الدولارات المكرّسة سنوياً للمساعدات العسكرية الأميركية وصناعة الأمن والمراقبة الإسرائيلية العالمية سيفقد مبررهُ. الأمر أشبه بديالكتيك السيد والعبد لهيغل، حيث لا يمكن للسيد أن ينفي  العبد نفياً كاملاً؛ وكما يكفّ السيد الذي لا عبد له عن أن يكون سيداً، تكف إسرائيل عن الوجود في غياب الفلسطينيين.

المظاهر العنصرية الأخرى للصهيونية

ولكن ماذا عن «الأغيار»، بمن فيهم اليهود الذين لا ينتمون إلى  الخلفية الأشكنازية البيضاء التي ينتمي إليها مؤسّسو الصهيونية الأوروبيون؟ إن 73 عاماً من التحوّل الأوروبي وتبييض الهوية الإسرائيلية يُميطان اللثام عن العداء للمُنحدرين من أصلٍ أفريقي ومشرقي، ذلك العداء الذي تتقاسمه الصهيونية مع الاستعمار الأوروبي الغربي. تقول الناقدة الثقافية والأستاذة في جامعة نيويورك إيلا شوحط: «الحق أن غالبية يهود الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم يكونوا صهاينة بالتأكيد»، لقد شكّل النزوح في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي نوعاً من «الانتزاع» بالقياس إليهم. شوحط نفسها كانت جزءاً من موجة الهجرة اليهودية التي تدفقت من العراق، تحت ضغط القومية العربية والدعاية الصهيونية المعادية للعرب. وهي ترى أن «الوضع الملتبس» لليهود العرب و«اختراع المزراحيين» هو أمرٌ محفوف بالخسارة الثقافية وعدم التمكين. وعلى الرغم من ذلك فقد ظهرت المقاومة هنا أيضاً، مجسدةً في تشكيل الفهود السود الإسرائيليين في خلال السبعينيات.

في منتصف القرن العشرين، كان العديد من أبرز المثقفين اليهود في أوروبا والولايات المتّحدة - مثل عهد نوعام، ومارتن بوبر، وهانز كوهن، وآلبرت أينشتاين، وهنا أرنت - ينتقدون الشكل العرقي القومي الذي اتخذته الصهيونية، ويدعون لنوع من الصهيونية الثقافية، أو دولة ثنائية القومية في فلسطين

منذ العام 1948 وحتى منتصف الستينيات، تمخض الهوس الإسرائيلي بتحقيق التفوق الديموغرافي اليهودي على الفلسطينيين عن سياسة فصامية تمثلت في تعبئة ما يقرب من مليون يهودي من دول مثل اليمن والمغرب وتونس والعراق وإيران، ومن ثم السعي اليائس إلى «تجريدهم من عروبتهم» عبر الممارسات البيوسياسية التي ترقى في نظر الكثيرين إلى الإبادة الجماعية. والمثال الأشهر والموثق هو قيام مجموعة من الأطباء والممرضين والمتخصّصين الاجتماعيين الإسرائيليين بخطف آلاف الأطفال اليمنيين من ذويهم وتسليمهم لأبوين من اليهود الأشكناز بغرض التبنّي. وقد قيل لذويهم إن أطفالهم ماتوا في المستشفى من دون الإشارة قط إلى مكان الدفن ومن دون وجود شهادات وفاة. وفي شباط/فبراير 2021 فحسب، أعربت الحكومة الإسرائيلية رسمياً عن «أسفها» إزاء تلك الأفعال المشينة، وصوّتت على تقديم تعويضات كبيرة للعوائل اليمنية المتضرّرة. وثمّة مثال مزعج مشابه هو المهاجرين الإثيوبيين. في السبعينيات، بدأ الموساد حملة لنقل آلاف اليهود الإثيوبيين جوّاً من مخيمات اللاجئين السودانيين إلى إسرائيل. بيد أن هذه المحاولة الرامية إلى رفع أعداد اليهود عن طريق المهاجرين الأفارقة السود تسبّبت في صراع مع العنصرية الأشكنازية البيضاء. يُعتبر الشباب والشابات الإثيوبيون مؤهلون للخدمة في الجيش، وغالباً يخدمون كحرّاس عند نقاط التفتيش الواقعة على الخطوط الأمامية. مع ذلك، منذ وصولهم إلى إسرائيل، تعرّضت الجالية اليهودية الإثيوبية، التي يبلغ عددها الآن حوالى 135 ألفاً، للتمييز في مجال السكن، وفي ارتفاع معدّل البطالة، وفي المدارس المنفصلة. لقد عانوا من ارتفاع معدّل الفقر بشكل غير متكافئ واحتجوا على الحوادث المرتبطة بوحشية الشرطة المتكرّرة. في العام 2013، وبعد الكشف عن الأمر في حملة إعلامية عالمية، اعترف مسؤولو الحكومة الإسرائيلية بقيامهم في وقت سابق بحقن النساء الإثيوبيات المهاجرات بعقار منع الحمل «ديبو بروفيرا» المثير للجدل، بأعداد كبيرة قياساً إلى  النساء الأشكناز، وذلك من دون معرفة أو موافقة المرأة الإثيوبية. وعلى إثر تأكيد الدراسات على انخفاض معدّل الولادات بين النساء الإسرائيليات الإثيوبيات بمقدار النصف لأسباب غير معروفة، مُنعت هذه الممارسة رسمياً. تُشكل العنصرية البيضاء حجر عثرة في طريق الهدف الديموغرافي المتمثل في زيادة عدد اليهود بغض النظر عن اللون. وهكذا، نقلت إسرائيل مئات اليهود الإثيوبيين جوّاً إلى إسرائيل من منطقة تيغراي المحاصرة في العام 2020.

وعلى الرغم من توقيع إسرائيل على اتفاقية الأمم المتّحدة لحقوق اللاجئين في العام 1951، إلا أنها دائماً ما تتجاهل التزاماتها التي نصّت عليها المعاهدات في نموذج معتاد لازدراء القانون الدولي وحقوق الإنسان. في 2008-2009، ومع بداية وصول الموجة الجديدة من اللاجئين الأفارقة الوافدين من إريتريا والسودان وساحل العاج إلى إسرائيل عبر مصر، طبّقت المحاكم والمشرعون السياسيون الإسرائيليون على «الدُّخلاء» الجدد من الأفارقة أدوات الإقصاء والتقييد نفسها التي استُخدمت لعقودٍ ضد الفلسطينيين. إن الهوية العرقية، وليس الإقامة أو الاضطهاد في بلادهم الأصلية، هي التي تحدّد وضعهم القانوني وتحدّ من حقوقهم وحركتهم وحتى قدرتهم على العيش.

في أواخر العام 2007، أقرّ الكنيست تعديلاً على قانون منع التسلل يسمح بترحيل اللاجئين الأفارقة إلى بلدانهم الأصلية (مثل السودان، حيث واجه العديد منهم تهديدات بالقتل) أو ترحيلهم إلى بلد ثالث مختلف ثقافياً (مثل رواندا). فيما جرى احتجاز آخرين في بيئة نائية في سجن «حولوت» المترامي في الصحراء، وذلك لغرض واضح وهو جعل حياتهم «شديدة البؤس لدفعهم إلى مغادرة البلاد طوعاً» على حد تعبير وزير الداخلية الإسرائيلي السابق. ويشير الموسيقي والكاتب الدنماركي الإسرائيلي جوناثان أوفير، الذي يكتب في كثير من الأحيان عن السياسات العنصرية لإسرائيل، إلى أن انتقادات ترامب العنصرية المتكرّرة بشأن المهاجرين الملونين و«البلدان القذرة» تبدو مستمدّة مباشرة من قواعد اللعبة التي يتبعها كبار المسؤولين الإسرائيليين، الذين وصفوا اللاجئين الأفارقة لسنواتٍ بالدخلاء و«السرطان الذي يرعى في أجسامنا». مع ذلك، قاوم الأفارقة في إسرائيل الترحيل، وقيّدوا أنفسهم بالسلاسل خارج الكنيست في العام 2018، وقاموا بعقد مزادٍ تمثيلي على غرار  «مزاد العبيد» في سياق الاحتجاج على المعاملة اللاإنسانية، وتمكّنوا من الاستحواذ على اهتمام وسائل التواصل الاجتماعي العالمية.

مصادرة الأراضي والضمّ الزاحف

لطالما كان المشروع الصهيوني يتمحور حول الاستيلاء على الأرض والسيطرة عليها كما يشي عنوان الكتاب. إن إقامة شعب آخر في هذه الأرض ورعايته إياها لأمدٍ طويل كان يمثل إشكالاً ومُنغّصاً مثلما لاحظ سعيد. والقسم الأساسي في قصة إسرائيل يدور حول الكيفية التي تعاطى بها اليهود الإسرائيليون مع هذا الإشكال على مدار ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن. شكّلت حرب العام 1967 نقطة تحوّل كبرى، فقد مثلت انتصاراً للقوات الصهيونية ونكسة للفلسطينيين. أسفرت الحرب عن سيطرة إسرائيل على الأراضي المأهولة بالفلسطينيين والتي كانت تحت ولاية الأردن ومصر: الضفّة الغربية بكاملها وقطاع غزة بالإضافة إلى القدس الشرقية والجولان السوري وشبه جزيرة سيناء (التي استردتها مصر لاحقاً). وهو ما أدّى إلى تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين أصبحوا لاجئين في الداخل أو الخارج. بدأ هنا ما أصبح يُعرف بالاحتلال العسكري، الذي يفترض أنه يخضع للقانون الدولي باسم «قانون الاحتلال الحربي»، في حين تحوّلت إسرائيل عقب غزوها العسكري لمصر إلى «قوة عسكرية هائلة» على الصعيد الدولي.

وعلى الرغم من إصرار المسؤولين الإسرائيليين في المناقشات الدبلوماسية والأمم المتحدة على أن حرب العام 1967 وما نتج عنها كانت دفاعية في الأساس، إلا أنه ما من شك في أن هدف إسرائيل كان التوسّع الإقليمي. منذ العام 1967، استخدمت إسرائيل مجموعة متنوّعة من السياسات الرامية إلى الاستيلاء على الأراضي والتحكّم في استخدامها، كأن تعلن بعضها أرضاً للدولة، أو منطقة عسكرية مغلقة، أو محمية طبيعية. ولطالما شكّلت تلك الممارسات الخارجة على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أداة رئيسة للتوسّع الصهيوني، حتى في المناطق المصنّفة فلسطينية.

تضيف القوانين والأحكام القضائية الأخرى المزيد من القيود الشخصية والعائلية إلى بنية الأبارتهايد الإسرائيلي.  بعد العام 1967، عمدت إسرائيل إلى منح الفلسطينيين في القدس الشرقية وضع «الإقامة الدائمة»، وهو وضع قابل للإلغاء ويجعلهم أجانب في منازلهم

وضعت «اتفاقيات أوسلو» إطاراً قضائياً يقسّم الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية التي تمّ ضمّها، إلى ثلاث مناطق: المنطقة(أ)، الخاضعة للسيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينية وهي تشكل حوالى 18% من الضفة الغربية؛ المنطقة (ب)، وتمثل ما يقرب من 22% حيث من المفترض أن تتمتع السلطة الفلسطينية بالسيطرة المدنية، ولكن من الناحية العملية، على الأقل منذ العام 2000، ينفرد الإسرائيليون بالسيطرة الكاملة؛ والمنطقة (ج)، التي تمثل 60% من الضفة الغربية، التي تمارس إسرائيل السيطرة الكاملة عليها، لحين البدء في «مفاوضات الوضع النهائي» المؤجّلة إلى آجل غير مسمى. وقد وفّر ذلك الترتيب غير العادل الذي فرضته الشرطة الإسرائيلية والهيمنة العسكرية على المنطقة بأكملها الغطاء لـ:

  • توسيع المستوطنات غير القانونية المنتشرة في كل أرجاء المنطقة (ج) والقدس الشرقية وطرد الفلسطينيين من منازلهم وحقولهم.
  • بناء الطرق الالتفافية التي تتيح للمستوطنين إمكانية التنقل الرأسي والأفقي عبر التضاريس والاتصال المباشر بإسرائيل، مع الإمعان في تجزئة المنطقة وتقييد حركة الفلسطينيين.
  • الحرمان المستمر للفلسطينيين من تصاريح البناء أو التجديد، ودفعهم إلى البناء «بشكل غير قانوني»، وتعريض منازلهم وبنيتهم التحتية للهدم، وفي بعض الأحيان يطلب منهم القيام بعملية الهدم بأنفسهم.
  • ضم أجزاء من منطقة وادي الأردن والبحر الميت الخصبة بحكم الأمر الواقع، والاستمرار في استهداف التجمّعات البدوية بجرف الأراضي والبناء والنقل القسري من الضفّة الغربية، علماً أن البدو يقاومون ويعيدون البناء مراراً وتكراراً.

يتعرّج الجدار الفاصل الذي اعتبرته محكمة العدل الدولية غير قانوني على طول الضفّة الغربية، ويشكّل في حد ذاته وسيلة لضمّ الأراضي. بدأ بناء الجدار في العام 2003 بعد الانتفاضة الثانية ولا يزال البناء مستمراً، ومن المتوقع أن يصل طوله في النهاية إلى 440 ميلاً. وفي بعض الأماكن، يقطع الجدار ما يصل إلى أحد عشر ميلاً داخل الضفة الغربية، مما يؤدي عملياً إلى ضمّ مساحة واسعة من الأراضي الفلسطينية، فاصلاً بين ما يقرب من خمسة وعشرين ألف فلسطيني عن حقولهم وقراهم ومنازلهم. لقد أصبحت طبيعته المادية التي تلوح في الأفق الرمز الأبرز للأباَرتهايد الإسرائيلي و«مفهومه عن الأمن الاستعماري والإقليمي والديمغرافي». بيد أن الجدار قد أصبح بالمثل موقعاً للمقاومة، حيث يكتسي من أوله إلى آخره بأطول معرض للغرافيتي وفن الاحتجاج التشكيلي في العالم.

ويشكّل المستوطنون تهديداً إضافياً للفلسطينيين الذين يعيشون في ظل المستوطنات غير القانونية الآخذة في التوسّع. وقد أُنشئت حوالى 37 بؤرة استيطانية جديدة من دون تصريح في الضفة الغربية في خلال السنوات الأخيرة. ولا تفعل السلطات الإسرائيلية شيئاً حيال تلك الأبنية غير القانونية، ولا تلبث أن توافق عليها في نهاية المطاف على اعتبار «أراضي الدولة» وفق الذريعة الشائعة. ونادراً ما تؤدي الشكاوى الفلسطينية المقدمة إلى الشرطة الإسرائيلية بشأن أعمال التخريب والمضايقات التي يقوم بها المستوطنون إلى توجيه تهم جنائية. يقوم المستوطنون المعصومون من العقاب بالعدوان الدائم على القرى الفلسطينية، ورعي حيواناتهم هناك، والسباحة في الماء، ومضايقة السكان ولا سيما النساء. وتتمكّن الحكومة الإسرائيلية عبر السماح بهذه التوغلات من تحقيق الضمّ الفعلي من دون مرسوم رسمي. والحق كما قال ناثان ثرال، تحظى إقامة المستوطنين في الأراضي المنهوبة داخل الضفة الغربية والقدس الشرقية بدرجة من الامتياز المدني والسياسي مماثلة لتلك التي كان يتمتع بها اليهود في إسرائيل ما قبل العام 1967. ويدحض هذا الواقع «وهم الأنظمة المنفصلة» ويوضح أنه لا يوجد سوى نظام فعلي وحيد يمارس السلطة والفصل العنصري من النهر إلى البحر.

والحق أن تاريخ النكبة المستمر برمته هو قصة إزالة واستبدال، سواء في المناطق الحضرية أو الريفية. وكما قالت الصحافية في صحيفة هآرتس عميرة هاس، تعمل «المنظّمات غير الحكومية اليمينية اليهودية التي تستولي على الأراضي الدينية والمسيحية» كفرع غير رسمي للحكومة، مما يساعد على تنفيذ سياسات المسؤولين والمحاكم الإسرائيلية الرامية إلى تهجير الفلسطينيين من الأرض التي سكنوها من قديم الزمن. ففي حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية المحتلة، على سبيل المثال، سعت المنظمات الاستيطانية اليمينية على مدار عقود إلى تأمين تهجير السكان الفلسطينيين عن منازلهم من أجل تسكين المستوطنين اليهود. وقد طُرِد ما يقرب من 67 شخصاً بالغاً وطفلاً بالقوة من الحي في ربيع العام 2021، مع مواجهة عشرات العائلات الأخرى للطرد الوشيك. مع ذلك، يرفض الفلسطينيون توصيفهم بالضحايا ويستمرون في المقاومة. عندما أمرت المحكمة العليا الإسرائيلية 6 من العائلات التي كانت تنتظر الإخلاء بـ«التوصل إلى اتفاق» مع المستوطنين ليصبحوا مستأجرين لهم، حشدت حملة (Save Sheikh Jarrah) التي انطلقت على وسائل التواصل الاجتماعي آلاف الاحتجاجات من فلسطين والعالم، بما في ذلك في الكونغرس الأميركي. وأعلنت الأُسر الفلسطينية المهدّدة أنها «ترفض بشدّة» أي اتفاق من هذا القبيل: «هذه منازلنا، ولن يملك المستوطنون أرضنا، وسوف نواصل حملتنا الدولية لوقف هذا التطهير العرقي».

العسكرة والاعتقال والتحكيم الجائرة

يجسد النظام الجنائي المزدوج والمتحيّز الذي تطبّقه إسرائيل بحد ذاته أحد الأمثلة الصارخة على الأبارتهايد الإسرائيلي. إذ لا يخضع للقانون المدني العادي أو حتى الجنائي سوى الإسرائيليين اليهود، بمن فيهم المستوطنين. وفي المقابل يخضع جميع الفلسطينيين لنظام منفصل يحكمه القانون العسكري، حيث يغدو الجنود والمحاكم العسكرية قضاة وهيئة محلفين وجلادين. ويبلغ معدل الإدانة الموثق للفلسطينيين بعد الاعتقال 99%. وعلاوة على ذلك، يسمح القانون العسكري الإسرائيلي باخضاع أي فلسطيني، بما في ذلك الأطفال، «للاعتقال الإداري» قبل المحاكمة، واحتجازه لمدة تصل إلى 75 يوماً من دون توجيه اتهامات إليه. يصبح المعتقلون أثناء تلك المدة عرضة للإيذاء الجسدي واللفظي الذي يشمل التعذيب والضرب والحبس الانفرادي والاعترافات القسرية والحرمان من الزيارات لأسابيع أو أشهر متتالية.

تمخض الهوس الإسرائيلي بتحقيق التفوّق الديموغرافي اليهودي على الفلسطينيين عن سياسة فصامية تمثلت في تعبئة مليون يهودي من دول عربية، ومن ثم السعي إلى «تجريدهم من عروبتهم» عبر الممارسات البيوسياسية التي ترقى إلى الإبادة الجماعية

وشأنها شأن الولايات المتحدة، فإن إسرائيل دولة اعتقال، حيث يعمل الواقع والتهديد المستمر بالاعتقال الجماعي كشكل سائد من أشكال السيطرة البيوسياسية على «الأقليات». منذ العام 1967، جرى اعتقال واحتجاز حوالي 800 ألف فلسطيني: أي ما يمثل نحو 20% من إجمالي السكّان الفلسطينيين و40% من جميع الذكور. ومعنى هذا أن كل عائلة فلسطينية على وجه التقريب لديها أفراد معتقلون حالياً، أو كانوا معتقلين، كما يعني أنه لا سبيل إلى فصل النضال ضد النظام العقابي الإسرائيلي الخبيث عن النضال الفلسطيني العام من أجل الحرية. وعلى هذا، شكّل الإضراب الدوري عن الطعام الذي يقوم به السجناء أحد أكثر أشكال المقاومة الشعبية الفلسطينية شيوعاً واتساعاً، حيث تعبّر الأمّهات وأفراد الأسر الأخرى والنشطاء والمنظّمات عن تضامنهم من خلال المسيرات الاحتجاجية والبيانات والتجمّعات في خيام دعم الإضراب.

أمّا فيما يتعلق بالأطفال، تتسم إسرائيل بقسوة فريدة من نوعها في انتهاكاتها لحقوق الإنسان. إنها الدولة الوحيدة في العالم التي تحاكم ما بين 500 و700 طفل لا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً في المحاكم العسكرية سنوياً. ويتعرّض الأطفال المعتقلون للتعذيب الجسدي والنفسي، والعزل عن الوالدين أو المحامين، والضرب، والحبس الانفرادي، والاعترافات القسرية. والواقع أن النظام الجنائي الإسرائيلي الجائر يهيمن على الأسر الفلسطينية ويجعل حياتهم اليومية أشبه بالحصار. إن عملية تنفيذ الاعتقالات تُطبّع انتهاكات حقوق الإنسان التي تقمع عائلات ومجموعات بأكملها. يقوم الجنود بشكل روتيني بمداهمات في الليل، ويقتحمون المنازل بالكلاب والليزر بحثاً عن «المشتبه بهم» ويروعون الأطفال، ويأخذون الأشخاص إلى أماكن احتجاز مجهولة. في إحدى القضايا في العام 2021، أمر المدعي العسكري بإعادة اعتقال صبي فلسطيني يبلغ من العمر 17 عاماً يعاني من ظروف صحيّة تهدّد حياته، وحكم عليه بالسجن الإداري لمدة 6 أشهر بزعم إلقاء الحجارة، وهي تهمة تقليدية ضد الأولاد الفلسطينيين.

تزهو إسرائيل بتطويرها لنظام المراقبة الأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية - الكاميرات، والقياسات الحيوية، وبرامج التجسّس المدمجة في تطبيقات الوسائط الاجتماعية، والمسيرات - بهدف السيطرة على الخارجين عليها وما تراه تهديداً إرهابياً عاماً. بيد أن المستهدف الرئيسي من هذه التقنيات - بصرف النظر عن السوق العالمية للحكومات الوطنية والعسكرة المحلية لقوات الشرطة - هم الفلسطينيون في حياتهم اليومية. تطارد المراقبة وعسكرة الحياة اليومية الأطفال الفلسطينيين عند كل منعطف: الخوف المستمر من المداهمات الليلية أو اعتقال الوالدين والأشقاء والأصدقاء؛ الحبس في الأحياء المحظورة أو الشوارع الصغيرة المزدحمة في مخيمات اللاجئين وانعدام أي مساحة للعب؛ وقبل كل شيء، الحاجة إلى اليقظة المستمرة.  حيث يقوم الجنود، على سبيل المثال، بمضايقة الفتيات أثناء سيرهن إلى المدرسة ويقتحمون فصولهن الدراسية لاعتقال المعلمات. تطلق شلهوب كيفوركيان على ارتكاب أعمال العنف والسجن الافتراضي بحق الأطفال اسم «سياسة العقم». ومن خلال عشرات المقابلات مع الأطفال الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس الشرقية، قامت بتوثيق الآثار القاسية للعنف على قدرتهم على النمو عاطفياً وتعليمياً. 

يخترق الاستعمار الاستيطاني بيوت وأحياء الفلسطينيين رجالاً وأطفالاً على حد سواء بصورة شخصية. يتعرّض الفلسطينيون في القدس الشرقية والمنطقة (ج) المحاطة بالمستوطنات اليهودية للمضايقات والاعتداءات يومياً، بينما يغض جنود الاحتلال والمسؤولون الإسرائيليون النظر. تقوم عصابات المستوطنين اليمينية، مثل تاج مهير (أتباع الإرهابي الصهيوني المتوفى مئير كاهانا) بارتكاب أعمال التخريب، وتنقش على جدران المنازل والمساجد شعارات قبيحة معادية للإسلام. إن الترويع الذي تمارسه عصابات المستوطنين في الطرق، بالإضافة إلى الفحص المستمر الذي يقوم به جنود قوات الاحتلال الإسرائيلي وكاميرات المراقبة، يثير عند النساء الفلسطينيات الخاضعات للاحتلال شعوراً بأنهن يتعرّضن للمتابعة المستمرة، والمطاردة، وأنهن سجينات في بيوتهن. وفي المناطق الريفية والبدوية، يقوم  المستوطنون بحرق المحاصيل الفلسطينية، وقطع أشجار الزيتون، وتسميم الآبار، وسرقة المياه الجوفية في القرى، مما يتسبّب في نقص مزمن في المياه. يوضح أحد المزارعين الفلسطينيين في المنطقة (ج)، وقد عانت قريته من السطو على المياه، أنه يتعيّن على الفلسطينيين الحصول على تصريح لكي يتمكنوا من حفر الآبار بأنفسهم، وهو ما لا يحدث على الإطلاق. يقول غاضباً: «ولكنها أرضنا، ولا يتعيّن علينا الحصول على تصريح للعيش عليها. نريد أن نعيش».

عندما يحتدم التوتر، وغالباً ما يقع ذلك في أيام العطلات المهمة، يغدو التواطؤ بين قوات الشرطة الإسرائيلية والمتطرّفين اليهود اليمينيين واضحاً للعيان. إن الأحداث التي وقعت في خلال شهر رمضان من العام 2021 تطابق العديد من الأمثلة السابقة للعنف الحكومي وغير الرسمي.  أولاً، بحجة حفظ النظام، أقامت الشرطة الحواجز ونقاط التفتيش حول درجات باب العامود في البلدة القديمة، وهو المكان الذي يتجمّع فيه الفلسطينيون عادةً في خلال ليالي شهر رمضان. ثم بدأت عصابات من اليهود الشباب، التي نظّمتها جماعة لهافا اليمينية المتطرفة، في الانتشار عبر شوارع المدينة القديمة، وهم يهتفون «الموت للعرب» ويهاجمون منازل الفلسطينيين، ويروعون المشاة والأطفال. وبحسب أحد السكان الفلسطينيين، عمدت «الشرطة إلى فتح الطريق أمام المستوطنين ومَنعتنا من الوصول إلى منازلنا»، وهو وضع «مخيف ومروع للغاية». عندما تجمّع الفلسطينيون المسلمون للصلاة في ثالث أقدس موقع لهم، المسجد الأقصى، تعرّضوا لهجمات متكرّرة من القوات الإسرائيلية، ممّا أدّى إلى إصابة مئات الفلسطينيين ونقلهم إلى المستشفى. واستمرت دائرة العنف حيث قصفت إسرائيل وقتلت نحو 243 مدنياً، من بينهم 67 طفلاً. والشباب اليهودي الصهيوني يستعدون للسير مرة أخرى عبر البلدة القديمة. وبهذه الطريقة، أصبحت عصابات المستوطنين - على غرار الميليشيات الخاصة في كل نظام فاشي - «فروعاً خاصة للحكومة» وفي الأخير «أداة لنزع الملكية». وتستمر النكبة مستهدفة طرد الفلسطينيين كافة من القدس.

الهشاشة المؤسّسية والموت البطيء ومعاناة غزة

توقف العديد من منتقدي السياسات الإسرائيلية إزاء الاستراتيجية طويلة المدى التي يسميها البعض «الموت البطيء»، وهي العملية التي تستنزف طاقة الفلسطينيين وإرادة المقاومة أو البقاء في فلسطين عن طريق السياسات والممارسات المتمحورة حول المضايقة والترهيب والعنف المتقدّم ذكرها أعلاه. في كثير من الأحيان يتعرّض المنخرطون في المقاومة إما لإطلاق النار بنيّة القتل أو لإطلاق النار بقصد شل الحركة، كأن يستهدف جنود الاحتلال الإسرائيلي سيقان المتظاهرين لشلّ حركتهم أو لتركيعهم. ويقول المؤلف والمنظّر الكويري جاسبر بوار: من خلال «الممارسة المستمرة للتشويه» أو «تجنّب القتل» تتمكّن السلطات الإسرائيلية من الادعاء بأنها لا ترتكب إبادة جماعية، وإنما تتحرّى ضبط النفس حين تهاجم المدنيين الفلسطينيين. وقد اكتسبت هذه الممارسات سمعة سيئة في خلال الانتفاضة الأولى، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما دعا إسحق رابين إلى تحطيم أطراف الفلسطينيين. وقد عاودت الظهور على نحو أكثر وضوحاً في خلال مسيرة العودة الكبرى في 2018-2019، حيث لم يُقتل المئات بنيران القناصة الإسرائيليين فحسب، بل وأصيب العشرات منهم بالشلل الدائم والعمى والتشويه.

المحاولة الرامية لرفع أعداد اليهود عن طريق المهاجرين الأفارقة السود تسبّبت في صراع مع العنصرية الأشكنازية البيضاء

أما المثال الصارخ الدَّال على السياسة الاستعمارية الإسرائيلية القائمة على الاستنزاف والتجريد من الإنسانية والموت البطيء فيتمثل في قطاع غزّة. تتبدّى غزة في سجلات الاستعمار الاستيطاني العنصري كمفارقة مخيفة. وتدّعي إسرائيل أن احتلالها لغزة قد انتهى رسمياً في العام 2005؛ والحق أن نظام الحكم الاستعماري ظلّ قائماً عن بُعد، متمثلاً في شنّ أربع حملات واسعة على القطاع (عملية الرصاص المصبوب في عامي 2008-2009، وعمود الدفاع في العام 2012، والجرف الصامد في العام 2014، والقصف المتجدّد في العام 2021) وإنفاذ القانون. يعد الحصار المستمرّ منذ ما يقرب من 15 عملاً من أعمال العقاب الجماعي. ولا يقتصر الأمر على تسبُّب القصف الإسرائيلي المتكرّر في تدمير 150,258 مبنى وتشريد وقتل عشرات الآلاف من المدنيين؛ بالإضافةِ إلى ذلك تسيطر إسرائيل على سائر مداخل غزة ومخارجها، وتقيد استيراد المواد الغذائية والطبية ولوازم البناء، وتحدّ من وصول الكهرباء إلى بضع ساعات في اليوم. وبفعل الحصار والهجمات أصبح ما يزيد عن 90% من المياه في غزة غير صالح للشرب، وبحسب مسؤولين في الأمم المتحدة، أصبحت ظروف الحياة في القطاع غير صالحة للعيش.

إن العبارة التي تصف غزة بأنها أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم - على الرغم من أنها أصبحت الآن مجرد عبارة مبتذلة - تعكس حقيقة حرفية، إذ يعيش ما يقرب من مليوني نسمة، معظمهم من اللاجئين الداخليين الذين شرّدتهم النكبة، في منطقة تزيد مساحتها قليلاً عن 140 ميلاً مربعاً. لا يسعهم الحصول على تصاريح للمغادرة عبر «نقطتي التفتيش الحدوُديتين الخاضعَتين لسيطرة مشددة في الشمال والجنوب»، مهما كانت دواعي المغادرة، سواء لأسباب طبية أو للسفر أو للتعليم. إن محاولة الهروب من دون تصريح، سواء عن طريق البحر أو «عبر السياج المحيط الذي يخضع لحراسة مشدّدة» على الحدود مع إسرائيل، تعني الموت المحقّق. وعليه، يتعيّن على المرء أن يتساءل عن طبيعة الوظيفة التي تؤديها غزة في سياق الأبارتهايد الإسرائيلي، باستثناء كونها ساحة للتدريب على الحرب؟ على حد تعبير الأستاذ ومؤسّس «هندسة إنهاء الاستعمار» إيال وايزمان: لا تزيد غزة عن كونها «مختبرٍاً» لفحصِ «كل تقنيات التحكم الجديدة، والذخائر، والأدوات القانونية والإنسانية»، لكن الأهم من ذلك كله أنها «مختبرٌ لحدود العنف».

بينما كان هذا الكتاب قيد الإعداد، كان العالم يمر بجائحة فيروس كورونا الرهيبة التي أودت بحياة الملايين ودمّرت الاقتصادات وأنظمة الرعاية الصحية. لقد كشف فيروس كوفيد-19 والأزمة اللاحقة المتعلّقة بتوزيع اللقاح عن فداحة اللامساواة في مجال الرعاية الصحية، سواء داخل البلدان أو فِيما بينها على مستوى العالم.  ولم يتجلَ ذلك بصورةٍ زاعقة في أي مكان مثلما تجلّى في سياق الأبارتهايد الإسرائيلي، وبالتحديد في سياق الأبارتهايد الطبي، حيث أفضت عقود من مواظبة الاستعمار على «تقويض التنمية» في الأرض الفلسطينية المحتلة، ولا سيما في غزة، إلى حرمان الفلسطينيين من توافر المرافق الصحية، والأدوية الأساسية، والبنية التحتية اللازمة لأعمال الرعاية الصحية. 

مع ارتفاع معدلات الإصابة والوفيات بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين في خريف وشتاء 2020-2021، كثفت إسرائيل من شراء اللقاحات وتوزيعها، وحظيت بإشادة وسائل الإعلام التي احتفت بحملة التطعيم الأكثر طموحاً وسرعة في العالم لمواطنيها، بما فيهم المستوطنين الذين يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية غير القانونية. وبحلول أوائل العام 2021، كانت إسرائيل قد قامت بتطعيم أكثر من نصف مواطنيها اليهود، وتطعيم نسبة أقل من السكّان الفلسطينيين في القدس الشرقية. وإلى جانب فلسطينيي القدس الشرقية، استبعدت هذه الجهود تماماً 5 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت الضغوط الداخلية والخارجية الهائلة، وافقت الحكومة الإسرائيلية على مضضٍ في نهاية المطاف على توفير اللقاحات لما يقرب من 130 ألف فلسطيني يعملون بأجور منخفضة في مواقع البناء والمصانع داخل إسرائيل وفي المستوطنات. 

ولم تلبث اللامساواة الفاضحة في برنامج توزيع اللقاحات الإسرائيلي أن أثارت الاحتجاج الدولي. وانضم إلى أكثر من 100 منظمة فلسطينية غير حكومية وجماعة لحقوق الإنسان متخصصون دوليون في مجال الصحة، ومجموعة من الممثلين الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي، والصوت اليهودي من أجل السلام، وحتى مجموعة الضغط الموالية لإسرائيل جي ستريت بهدف تذكير إسرائيل بالتزاماتها الواضحة. بوصفها قوة احتلال عسكرية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي: يتعيّن عليها حماية حق السكان الخاضعين لسيطرتها في الصحة، بما في ذلك حصولهم على الأدوية واللقاحات الحيوية. ولطالما تنصّلت إسرائيل من هذه المسؤولية، استناداً إلى تفسيرها لـ«اتفاقية أوسلو»، مُصرّة على السيطرة على جميع جوانب حياة الفلسطينيين وحركتهم عندما يتعلق الأمر بأي شيء يخصّ «الأمن»، فيما تُحمّل السلطة الفلسطينية وحماس المسؤولية عندما يتعلّق الأمر بالرعاية الصحية وغيرها من الاحتياجات الاجتماعية.

وكما هو الحال في أماكن أخرى، لا يكشف الوباء في فلسطين وإسرائيل عن الانعدام الكامل للأخلاق فحسب، بل ويكشف عن الطبيعة اللاعقلانية المطلقة للعنصرية. ويتمسّك الصهاينة الإسرائيليون بوهمهم المتمثل في الخصوصية الأخلاقية والسياسية، والتّعامي عن رؤية مصيرهم المشترك وعلاقتهم بالمواطنين الفلسطينيين، على الرغم من المخاطر الداهمة التي يتعرضون لها. يتعلق الأمر أساساً بالسلطة، وليس بالأخلاق أو حتى بالصحة العامة. ولا يزال الإسرائيليون يسيطرون على كل ما يمكن أن يتدفق من السلع والأدوية والأشخاص إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة أو إلى خارجها. ولم يبادروا إلى التساهل قليلاً والموافقة على تطعيم العمّال الفلسطينيين إلاّ عندما واجهوا إدانة دولية. وكما لاحظ أحد مراقبي هيومن رايتس ووتش، «إن تطعيم الفلسطينيين الذين يتعاملون مع الإسرائيليين يؤكد أن الحياة الفلسطينية بالنسبة للسلطات الإسرائيلية ليست مهمة إلا بقدر تأثيرها على الحياة اليهودية».

الصمود: المقاومة مستمرة

إن أولئك الذين يوبخون منتقدي الصهيونية - ومن المؤكد أنهم سوف يستهدفون هذا الكتاب - كثيراً ما يشكون من أننا «نركّز» على إسرائيل بشكل غير عادل. مع أن العكس هو الصحيح. إن الهدف الرئيس من كتاب «أرض لديها شعب»، ومن هذه المقدمة التاريخية، يتمثل في الكشف عن تماثل الصهيونية مع العديد من حالات الاستعمار الاستيطاني العنصري الأخرى. تتلخّص النقطة الجوهرية في أن نعي أن الصهيونية لا تشكّل استثناءً ولا تستحق التبرئة، وأنه يتعيّن علينا جميعاً، يهوداً وفلسطينيين، أن ندين رغبتها في تكرار خطايا الاستعمار والفصل العنصري التي ابتليت بها معظم مجتمعات ما بعد الاستعمار. أما الأمر الاستثنائي فيكمن في رفض الفلسطينيين للاستسلام. 

منذ العام 1967، استخدمت إسرائيل مجموعة متنوّعة من السياسات الرامية إلى الاستيلاء على الأراضي والتحكم في استخدامها، كأن تعلن بعضها أرضاً للدولة، أو منطقة عسكرية مغلقة، أو محمية طبيعية

وكما تُذكرنا المراجعة التاريخية السابقة والجدول الزمني الملحق في نهاية الكتاب، فلطالما قوبلت تلك الأخطاء بالمقاومة. ولم تتجسّد هذه المقاومة في أي مكان بشكل أقوى مما كانت عليه في غزة، مع مسيرة العودة الكبرى التي قادها الشباب على امتداد عامي 2018 و2019، والتي احتجت بشجاعة على الحصار الطويل المضروب على غزة، ودعت إلى تنفيذ حق العودة للفلسطينيين. وقد افترت وسائل الإعلام الرئيسية ذات الميول الصهيونية على حركة المقاومة الشعبية الضخمة التي تسيطر عليها حماس واصفةً إياها بأنها «إرهابية»، في الوقت الذي أطلقت فيه القوات الإسرائيلية العنان لهجمات القنّاصة التي شوّهت وقتلت عمداً مئات المتظاهرين والمسعفين الذين تجمّعوا سلمياً بالقرب من السياج الحدودي مع إسرائيل. وعندما أطلق المتظاهرون طائرات ورقية حارقة غير مميتة، شنّ الإسرائيليون غارات جوية. وبحسب للأمم المتحدة، لقي ما يقرب من 214 فلسطينياً حتفهم، من بينهم 46 طفلاً، وقد أصيب في هذه الاحتجاجات أكثر من 36,100 شخصاً، ربعهم من الأطفال، والعديد من الإصابات نجم عن استخدام الذخيرة الحية. وقد أثارت هذه الأحداث أعضاء منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام» والعديد من اليهود ممن لا ينتمون إليها. كما لم يكن بوسعنا «نجاهل» أن هذه الفظائع تمثل ثماراً مريرة للصهيونية. 

منذ المسيرة الكبرى، وعلى الرغم من الإرهاق وخيبة الأمل، أظهر سكان غزة قدرة غير عادية على الصمود. وفي العام 2020، انتقل النشطاء الشباب من المسيرة إلى أشكال جديدة من العصيان المدني. وفي تكرار آخر لحركة الحرية، «بدنا نعيش»، خرج سكان غزة إلى الشوارع للاحتجاج على البطالة وارتفاع الضرائب والأسعار، حيث جرى الاعتماد بشكل أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي كمنفذٍ للتعبير عن الغضب والاحتجاج الاجتماعي. في أعقاب تقليد طويل من النضال الفلسطيني، تحوّل سكان غزة إلى التعبير الثقافي والفن. تمثل منظمة «نحن لسنا أرقاماً»، التي تتخذ من غزة مقراً، مشروعاً لسرد القصص، اضطلعت بتوجيه ما يزيد عن 300 شاب فلسطيني إلى كتابة القصص والمقالات التي تُنشر بعد ذلك على موقعها على الإنترنت.  بالإضافة إلى ذلك، استخدمت المنظّمة منصتها على الإنترنت لاصطحاب الزوّار في جولات عبر أنحاء غزة، وقامت بتنظيم سلسلة من النقاشات لمثقفِين وناشطين فلسطينيين، وتوفير دعم الصحة العقلية لكتابها. 

يمثل التعبير الثقافي عبر القصص والشعر والفن والمسرح والأغنية شكلاً دائماً من أشكال مقاومة القمع، يسعى هذا الكتاب لا إلى تكريمه فحسب، وإنما إلى محاكاته أيضاً. وثمة مثال مذهل آخر على الفن بوصفه مقاومة في حي بطن الهوى في سلوان، وهي بلدة فلسطينية كبيرة وقديمة تقع في القدس الشرقية المحتلة، تعاني من مضايقات المستوطنين والتهجير. تعرض الحي للإخلاء بموجب أوامر أصدرتها مجموعة المستوطنين الإسرائيليين «عطيرت كوهانيم»، بينما كان هناك ما يقرب من 84 آخرين يعارضون الإخلاء في المحاكم الإسرائيلية. قام مشروع فني رائع برسم جداريات لعيون عملاقة وطيور وزهور على مباني تلة بطن الهوى، المواجهة للقدس الغربية والبلدة القديمة.  يُطلق على هذا العمل الفني اسم «أنا شاهد على سلوان»، ويرد هذا التشكيل الفني النظرة الاستعمارية إلى مرتكبي الجريمة. وبهذه الطريقة، يغدو الفن أداة لإنهاء الاستعمار البصري، (أنظر الصورة في الصفحة 147)، و«يجعل ما كان غير مرئياً مرئي ويمكّن الآخرين من أن يشهدوا على العنف الاستعماري والسلب، تضامناً مع الشعب الفلسطيني».

تشمل المقاومة الفلسطينية معارضة الصور النمطية الجندرية والجنسية التي يكرّسها الصهاينة وغيرهم عن الفلسطينيين والعرب والمسلمين بشكل عام. لقد قوّضت الناشطات النسويات الفلسطينيات الصور الزائفة عن النساء الفلسطينيات (والمسلمات) كضحايا للاضطهاد الجندري بحاجةٍ إلى الشفقة و«الإنقاذ»، واحتفلنَ بأجيال من القيادات النسائية الفلسطينية الشرسة والصريحة في كل العصور منذ عشرينيات القرن الماضي. قام الفلسطينيون المثليون بتنظيم أنفسهم ضد حملة «الغسل الوردي» التي تقوم بها إسرائيل وهو برنامج تسويق وعلاقات عامة تنظمه الحكومة لوصف إسرائيل بأنها صديقة لمجتمع المثليين، ممّا يعزّز سمعتها بالتالي كدولة حديثة وعالمية وديمقراطية ونصيرة لحقوق الإنسان.

يرسم الفلسطينيون المنتمون إلى مجتمع المثليين وغيرهم من الناشطين صورة مختلفة ومعارضة على نحو جلي. عملت المنظمة الفلسطينية الشعبية «القوس للتنوع الجنسي والجندري في المجتمع الفلسطيني» بشكل مستقل منذ العام 2007، على تأسيس ثقافة نابضة بالحياة تحتفي بالتنوّع الجنسي والتوجّهات الجنسية والجندر. يتحدّى التحليل السياسي الهام الذي تقدّمه «القوس» البروباغندا الصهيونية من خلال فضح الغسيل الوردي باعتباره ليس مجرد «استراتيجية تسويق عالمية»، بل أداة تدعم الاستعمار الاستيطاني والعنف الاستعماري. قد تتباهى قوات الاحتلال الإسرائيلي بتجنيدها العلني لضباط مثليين، «أما حين يتعلق الأمر بالتعامل مع الفلسطينيين، فلا يشكّل نوع الجندي القائم على نقطة التفتيش ولا لونه ولا ميوله الجنسية فرقاً كبيراً، فهم جميعاً يحملون الأسلحة نفسها، ويرتدون الأحذية نفسها، ويحافظون على النظام الاستعماري نفسه. 

أخيراً، من المهم أن نفهم حركة التحرير الفلسطينية قد اتخذت باستمرار منظوراً أممياً قوياً، يحدّد ويعبر عن التضامن المادي مع العديد من حركات التحرير الأخرى في العالم. وعلى هذا النحو، ساهمت بما لا يُقاس في حركات التضامن العالمية ضد الاستعمار والعنصرية والفصل العنصري والإمبريالية. وبالمثل، ساعدت تلك التحركات الدولية على بثّ الأمل في النضال الفلسطيني. وتكثر الأمثلة على الدعم المتبادل القوي (جنوب أفريقيا، وبورتوريكو، وأيرلندا الشمالية، والجزائر، ومنطقة البحر الكاريبي)، بيد أن العلاقة الديناميكية التي امتدت لعقود بين النضال الفلسطيني والحركة الهادفة إلى تحرير السود ومناهضة العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة تتمتع بسمعة مائزة اليوم. قبل ستينيات القرن الماضي، كان جميع القادة الأميركيين من أصل أفريقي، باستثناء عدد قليل منهم، ينظرون إلى الصهيونية باعتبارها نضالاً ضد الاستعمار، وتبنّوا سردية الخروج اليهودي التوراتية. وعلى نحو مماثل، دعم الزعماء السود في منتصف القرن العشرين تأسيس دولة إسرائيل باعتبارها انتصاراً لشعب مضطهد على تاريخ من العبودية والاضطهاد والإبادة الجماعية. لقد تطلّب الأمر من مالكولم إكس الانفصال عن «المنطق الصهيوني» (عنوان مقالته التي كتبها في العام 1964، بعد زيارة الفلسطينيين في مخيم مصري للاجئين) وتسمية الصهيونية بأنها «شكل جديد للاستعمار» المدعوم من «المنظومة الدولارية» الأميركية. 

بعد الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1967، اتخذت العلاقات الأفروأميركية/الفلسطينية منعطفاً حاداً باتجاه تحرير فلسطين. اتخذ الراديكاليون السود في شيكاغو، وقادة حزب الفهد الأسود مثل فريد هامبتون وهيوُي نيوتن، ولجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية، والسجين السياسي جورج جاكسون، مواقف قوية تدين الدولة الإسرائيلية باعتبارها صنيعة الإمبريالية الأميركية، وتدين الصهيونية كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني العنصري. كان لأعضاءِ حزب الفهد الأسود علاقة وثيقة مع الحركة الفلسطينية، حيث أصدروا العديد من بيانات التضامن الرسمية في العقد الممتد بين عامي 1970 و1980 واجتمعوا مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في مناسبات عدة في الجزائر العاصمة في 1969-1970.

ولعل التعبير الأكثر ديمومة وقوة عن التضامن الأسود مع الفلسطينيين هو ذلك الذي صاغته النسويات السود والفلسطينيات. في العام 1971، كتب السجناء السياسيون الفلسطينيون المعتقلين في السجون الإسرائيلية رسالة تضامن إلى أنجيلا ديفيس، التي كانت مسجونة آنذاك في الولايات المتحدة. في خلال معظم حياتها، شكّل الالتزام الثابت بتحرير فلسطين جزءاً لا يتجزأ من نشاط ديفيس العالمي الاستثنائي وفكرها الثوري. وعلى غرار صديقتها، الشاعرة النسوية السوداء العظيمة جون جوردان، حاولت «إبراز نقاط الالتقاء بين السود وتحرير فلسطين». تستشهد ديفيس بمشاركتها في العام 2011 ضمن وفد تاريخي مكوّن من النساء الملوّنات وناشطات من نساء السكان الأصليين، بقيادة الناشطة الفلسطينية والأستاذة رباب عبد الهادي، إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة، باعتبارها محطة مهمة في هذه الرحلة. 

وعلى خطى أنجيلا ديفيس، أنشأت العديد من النسوة الملونات نقاط التقاء للسياسة متعددة الجوانب وبناء التحالفات، وأيَّدْنَ التضامن الفلسطيني ودعم حركة المقاطعة (BDS) من خلال الحملات المناهضة للحرب، والعنصرية، وعنف الدولة، والاستعمار، ومجمع السجون الصناعي. في آذار/مارس من العام 2021، نشرت مجموعة من النشطاء النسويين الفلسطينيين المقيمين في الولايات المتحدة «ميثاقاً جماعياً نسوياً فلسطينياً» يعترف بـ«تحرير فلسطين كقضية نسوية حاسمة» وبالتاريخ الطويل للمرأة الفلسطينية التي تناضل في سبيل «إنهاء الأشكال المتعددة للقمع». وسرعان ما اجتذب هذا الميثاق مئات التواقيع الفردية والتأييدات التنظيمية من سائر أنحاء الولايات المتحدة وفلسطين وعدد من الدول في العالم، تتويجاً لعقود من العمل النسوي المتقاطع. 

أدى التزامن بين جريمتين فظيعتيِن في العام 2014 - القتل الوحشي لمايكل براون على يد الشرطة في فيرغسون بولاية ميسوري، والحصار الإسرائيلي والمذبحة التي ارتكبها بحق المدنيين في غزة - إلى تعزيز الروابط بين السود والفلسطينيين. ورفع المتظاهرون في فيرغسون لافتات تتعهّد بالتضامن مع فلسطين، وأرسل الفلسطينيون إلى المتظاهرين في فيرغسون نصائح بشأن طرق الحماية من عبوات الغاز المسيل للدموع، وهي العبوات نفسها التي تحمل العلامة التجارية الأميركية وأمطرت على سكان غزة. في العام التالي، سافر وفد تاريخي آخر إلى فلسطين - يتألف من منظمين شباب وصحافيين وفنانين يمثلون حركات «حياة السود مهمة»، «المدافعون عن الحلم»، «مشروع الشباب السود» و«نشطاء فيرغسون»، وجميعها تقريباً من تأسيس أو بقيادة نساء ملوّنات - بهدف بناء  العلاقات السياسية والتعلّم من النضال الفلسطيني. في العام نفسه، وقّع حوالى 1,100 من المنظمين والناشطين والفنانين والطلاب والأساتذة ورجال الدين والسجناء السياسيين السود من 25 دولة، بالإضافة إلى 50 منظمة، على بيان «أسود من أجل فلسطين» معلنين فيه «التزامنا بالعمل من خلال الوسائل الثقافية والاقتصادية والسياسية لضمان تحرير فلسطين في الوقت نفسه الذي نعمل فيه من أجل تحقيق أهدافنا الخاصة».

يجسّد النظام الجنائي المزدوج الذي تطبقه إسرائيل أحد الأمثلة على الأبارتهايد، إذ لا يخضع للقانون المدني العادي أو حتى الجنائي سوى الإسرائيليين اليهود، فيما يطبق القانون العسكري على جميع الفلسطينيين، حيث يغدو الجنود والمحاكم العسكرية قضاة وهيئة محلفين وجلادين

لا غنى لصمود وحيوية الحركة الفلسطينية عن التضامن الدولي. وعلى هذا النحو، يُنظر إليها على أنها تهديد مباشر للصهيونية. وأولئك الذين ينخرطون فيها يصبحون هدفاً لحملات رجعية شرسة تشنها المنظمات الموالية لإسرائيل، والتي تستخدم اتهامات العداء للسامية مثل القنابل الخطابية. تواجه الحركات السوداء هذا الخطر بانتقام خاص. عندما نشرت حركة حياة السود رؤيتها الشاملة لمنصّة حياة السود في العام 2016، تجرّأت على تضمين قسم يدين مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيين المرسلة إلى الحكومة الإسرائيلية كل عام، وعسكرة حياة الفلسطينيين، والمستوطنات غير القانونية، والفصل العنصري، «والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني». وقد أثار هذا البيان على الفور، ولا سيما استخدامه لكلمة «إبادة جماعية»، وابلاً من الهجمات الغاضبة من جانب الجماعات الصهيونية، مثل رابطة مكافحة التشهير ومجلس علاقات المجتمع اليهودي. لقد أصبح التضامن مع فلسطين ومعاداة الصهيونية بمثابة تهمة «الشيوعية» الجديدة. 

اليهودية المناهضة للصهيونية في الوقت الحاضر

في العام 2018، تبنت منظّمة «الصوت اليهودي من أجل السلام»، ورقة موقف بعنوان «نهجنا تجاه الصهيونية». وفي بيان يعكس سنوات عدة من المشاورات الديمقراطية الصارمة بين جميع ناخبيها المحليين والوطنيين، خلصت المنظمة إلى أن «الصهيونية كانت إجابة زائفة وفاشلة على السؤال الحقيقي اليائس الذي واجهه العديد من أسلافنا عن كيفية حماية حياة اليهود من معاداة السامية المجرمة في أوروبا». ونقلاً عن الكاتبة النسوية اليهودية ميلاني كاي-كانترويتز، التي دافعت عما أسمته «الشتات» كبديل للصهيونية، يؤكد البيان أن: «الصهيونية التي سيطرت وما زالت قائمة حتى اليوم هي حركة استعمارية استيطانية، أسست دولة فصل عنصري يتمتع فيها اليهود بحقوق تفوق سواهم. نحن نعارض الصهيونية بلا مراء لأنها تتعارض مع مُثُلنا عن العدالة والمساواة والحرية لجميع الناس. إننا نختار التضامن». 

لم تعد مقاربة «منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام» موقفاً هامشياً بين التقدميين، ولا سيما اليهود منهم، في الولايات المتحدة وخارجها. تُظهر استطلاعات الرأي اتساع الفجوة بين الأجيال الأكبر سناً والأصغر سناً من اليهود الأميركيين حيال الصهيونية. فقد انخفض الدعم لإسرائيل ولجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية القوية (إيباك) بشكل ملحوظ بين الشباب، الذين يرفضون قبول المطابقة الزائفة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. ويتزايد عدد الشباب اليهود الذين يعيشون ويعبّرون عن «يهوديتهم» بطرق تفصل التقاليد والقيم الروحية عن الولاء السياسي لدولة إسرائيل. ويتضمّن ذلك وعياً متزايداً بأن النكبة واستمراريتها في السياسات الإسرائيلية المعاصرة تلقي بظلالها القبيحة الهائلة على أصول الدولة الإسرائيلية ومعاني الصهيونية نفسها. كما يتضمّن تحوّلاً جذرياً في اللغة المستخدمة لوصف الواقع التاريخي والحالي، حيث أصبحت مصطلحات مثل «الاستعمار الاستيطاني» و«الفصل العنصري» شائعة بصورةٍ مضطردة، ليس بين الناشطين فحسب، بل وبين المثقفين اليهود الليبراليين ومنظّمات الدفاع. في كانون الثاني/يناير 2021، نشرت منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية لحقوق الإنسان بياناً أعلنت فيه أن «النظام الذي يستخدم القوانين والممارسات والعنف المنظّم لترسيخ سيادة مجموعة على أخرى هو نظام فصل عنصري»، وقالت أن «نظام  الهيمنة اليهودي الإسرائيلي من نهر الأردن إلى البحر المتوسط» هو أبارتهايد بصورة لا لبس فيها. وقد حظي هذا البيان باهتمام هائل في جميع أنحاء العالم، حتى مع تقصيره في الاعتراف بأن الفلسطينيين كانوا يقولون ذلك منذ عقود عدة.

كانت سنوات ترامب وتداعياتها، بالنسبة للكثيرين منا، أحلك فترة عرفناها. ومع ذلك، فإن ما بدا وكأنه سيل من الأزمات العالمية والمحلية المرتبطة بالعنصرية النظامية، والوباء، والكوارث المناخية، والهجرة، والظلم الاقتصادي، وغير ذلك الكثير، قد أتاح في الوقت نفسه الفرصة المواتية لتحالفات حيوية متعددة الأعراق وتحالفات استراتيجية. بالنسبة لمنظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام» فإن وقوفنا كيهود مع المسلمين والمهاجرين والملوّنين، وكل أولئك الذين يندرجون تحت أجندة الكراهية العنصرية البيضاء، قد غدا وثيق الارتباط مع التزامنا بتحقيق العدالة لفلسطين وإنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي. انضمت منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام» وفرعها السياسي إلى 56 منظمة فلسطينية وإسلامية شريكة، في مواجهة «التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة»، من أجل تعريف الصهيونية بأنها معاداة للسامية واعتماد ذلك من  منصات التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك.

لقد ساعدنا في انتخاب ممثلين تقدميين مؤيدين لفلسطين على مستوى الكونغرس والولايات والمستوى المحلي، ثم عملنا معهم لوضع تشريع للحد من التمويل العسكري الأميركي لإسرائيل، وهزيمة القوانين المناهضة لمقاطعة إسرائيل، وإنهاء ما يسميه الكثيرون الآن برامج التبادل الأمني المميت بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد واصلنا العمل ضمن تحالفات مجتمعية تقودها نساء ملوّنات من أجل إلغاء السجون، وتحويل الأموال العامة من الشرطة إلى رعاية المجتمع والسلامة، ووقف احتجاز المهاجرين. وبالشراكة مع مجموعات التضامن الإسلامية والفلسطينية، حاولنا حشد حملة تصويتية بين أعضاء الكونغرس الأميركي التقدميين للضغط على إسرائيل من أجل إنهاء الفصل العنصري الطبي وتوفير اللقاحات المضادة لفيروس كورونا في جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي إشارة إلى أن العمل الائتلافي يؤتي ثماره، وقع عشرات من الأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس على رسالة إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يدعون فيها إلى تغيير جدي في سياسة الولايات المتحدة تجاه فلسطين وإسرائيل، بما في ذلك معارضة هدم المنازل وبناء المستوطنات وسائر أشكال الضمّ المستمر بحكم الأمر الواقع و الاستعمار الاستيطاني بأي شكل من الأشكال» في الضفة الغربية والقدس الشرقية، مع المطالبة باللقاحات «لكل الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكري»، بما فيهم «سكان قطاع غزة المحاصر». وعقب ذلك في نيسان/أبريل 2021، قدّمت عضوة الكونغرس بيتي ماكولوم قانون الأطفال والأسر الفلسطينية، الذي يحظر المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل بالنظر إلى الانتهاكات الفادحة حقوق الإنسان: هدم المنازل، وقتل المدنيين الفلسطينيين، وضم أراضيهم، والاحتجاز العسكري للأطفال، بين جرائم أخرى. وكانت هذه خطوة تاريخية، على الرغم من أنها مجرد بداية لنضال طويل وشاق في الكونغرس الأميركي. وفي الوقت نفسه، دعا الحاخام جيل جاكوبس، المدير التنفيذي لمنظمة T’ruah، وهي منظمة حاخامية لحقوق الإنسان، الجماعات اليهودية إلى التوقف عن تصنيف العصابات اليهودية اليمينية المتطرفة التي ترهب الأحياء الفلسطينية كـ«قلة من المندسين». كما خاطب الحاخام جاكوبس شبكة المؤسسات والمنظمات الصهيونية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها (مثل الصندوق المركزي لإسرائيل)، التي توجّه ملايين الدولارات إلى الجماعات اليمينية والإرهابية الإسرائيلية. وحثت إخواننا اليهود بالقول إنه «علينا أن نصر على أن المؤسسات التي نرتبط بها لا تساهم في الجماعات التي تروّج للإبادة الجماعية وتستخدم اليهود للمشاركة في أعمال العنف». ويشير استخدام حاخام أميركي محايد لكلمة «إبادة جماعية» فيما يتعلق بمعاملة المنظمات الإسرائيلية والصهيونية للفلسطينيين يشير إلى تحول خطابي مهم.

ويوجد في إسرائيل يهود شجعان وقفوا في وجه العسكرة المعادية للفلسطينيين وسياسات الفصل العنصري التي تنتهجها حكومتهم. وقد يتجشمون في بعض الحالات مواجهة العقاب وحتى السجن، مثل حالة رفض الخدمة العسكرية الإجبارية. بالإضافة إلى منظمات مثل منظمة «ميسافوت» (الرفض)، وهي شبكة من النشطاء الذين يدعمون الإقصاء السياسي والعسكري ويفتحون نقاشاً نقدياً بين الجمهور الإسرائيلي؛ ومنظمة «زوخروت»، التي تهدف إلى تثقيف الجمهور اليهودي الإسرائيلي بشأن النكبة، وتنظّم جولات عبر مواقع القرى الفلسطينية المدمرة، ليس لخلق الوعي فحسب وإنما لإنماء حسّ المسؤولية والمساءلة بين اليهود؛ واللجنة الإسرائيلية المناهضة لهدم المنازل، التي تتخذ تدابير سلمية مباشرة ضد هدم المنازل الفلسطينية وتُعارض بناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عموماً؛ وحركة المقاطعة من الداخل، التي تحث الاسرائيليين على الانضمام لحركة المقاطعة ودعمها، والتي عملت لسنوات في تحدٍّ للتوجُّهات اليمينية والعنصرية المتفاقمة في الحكومة. فضلاً عن الجماعات النسوية اليهودية، مثل تحالف النساء من أجل السلام، والذي كان، حتى إغلاقه مؤخراً، يوثق الصفقات والاستثمارات القاتلة في التكنولوجيا العسكرية الخاصة بالمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي؛ ومجموعة «نقطة تفتيش»، وهي مجموعة من النساء اليهوديات الإسرائيليات اللواتي يراقِبْن ويوثّقن سلوك الجنود والشرطة عند نقاط التفتيش في الضفة الغربية المحتلة، بالإضافة إلى الإجراءات المتخذة في المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وهي جزءٌ من الحركة الدولية التي تدرج الحرب والعسكرة والاحتلال الاستعماري ضمن القضايا التي تشغل النسوية.

العبارة التي تصف غزّة بأنها أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم تعكس حقيقة، حيث يعيش ما يقرب من مليوني نسمة، معظمهم من اللاجئين الداخليين الذين شردتهم النكبة، في منطقة تزيد مساحتها قليلاً عن 140 ميلاً مربعاً

يرتقي اليهود التقدميون في إسرائيل إلى مستوى الحدث عندما تنشأ أزمات معينة، مثل الهجمات على غزة، أو عمليات الضم في وادي الأردن، أو طرد اللاجئين. في العام 2018، وقَّعت مجموعة مكونة من 36 ناجياً من الهولوكوست الإسرائيلي على رسالةٍ تحمل احتجاجاً على محاولة الحكومة القيام بترحيل حوالي 38,000 من طالبي اللجوء الأفارقة، مشددةً على تعارض مثل هذا الإجراء مع الطابع الأساسي لإسرائيل بوصفها ملاذاً للاجئين اليهود. وطالب خبراء الصحة العامة الإسرائيليون الحكومة الإسرائيلية بتوفير التطعيمات اللازمة بشكل عاجل للفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة من منطلق الحفاظ الصحة العامة والمساواة، بهدف الحد من الوباء. وبطبيعة الحال، تحدث صحافيون ومثقفون إسرائيليون أفراد، مثل عميرة هاس، وإيلان بابيه، وشلُومو ساند، وجَدعون ليفي، وجوناثان أوفير، وآخرين على مدى عقود من الزمن دعماً للحقوق الفلسطينية وفضح المظالم المقترنة بالنكبة والاحتلال. هذه الجهود ليست سوى خطوات صغيرة ولكنها تُشجع على «البدء في التأسيس الآني للمستقبل، والتخطيط الأولي لمجتمع ما بعد الفصل العنصري/ما بعد الصهيونية». 

وربما بدأ العالم أخيراً في الاستماع. في الثالث من آذار/مارس 2021، أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أن المحكمة ستبدأ تحقيقاً رسمياً في جرائم الحرب المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها «التهجير القسري» وبناء المستوطنات غير القانونية. وقد رحبت السلطة الفلسطينية بقرار المحكمة الجنائية الدولية، بيد أنه قوبل بالتنديد من جانب الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، وقد وصفه نتنياهو كما هو متوقع بأنه «معادٍ للسامية» وفي أواخر نيسان/أبريل 2021، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش، المنظمة الدولية الرائدة في مجال حقوق الإنسان على الصعيد العالمي، التقرير الأقوى والأكثر مصداقية حتى الآن، والذي أكد على أن القمع الإسرائيلي الرسمي والمنهجي للفلسطينيين يشكل جرائم جنائية ضد الإنسانية تتمثل في الفصل العنصري والاضطهاد، على النحو المحدّد في نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية والقانون العرفي الدولي. ويدعو التقرير مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق مع المسؤولين الإسرائيليين المتورّطين في هذه الجرائم ومحاكمتهم، ويدعو جميع الدول، بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، إلى اعتقال ومعاقبة الأطراف الإسرائيلية المتورطة وحظرها من السفر.

ولكي نكون واضحين، يتعين علينا ألا نخلط بين هذه التطورات وبين العدالة التي تقتضي الاعتراف الكامل بحق الفلسطينيين في العودة، واستعادة الأراضي والممتلكات المنهوبة، وحقّهم في المساواة الكاملة وفي الكرامة للفلسطينيين كافة، ووضع نهاية دائمة لعنف النكبة المستمرة. ولعلنا نشهد شيئاً من بداية المساءلة وأفول الصهيونية.

في العام 1944، وفي خضم الحرب العالمية الثانية، وصفت المنظّرة السياسية اليهودية هنا أرنت الشبح الذي لا يزال يطارد الصهيونية والمناهضين لها من الفلسطينيين واليهود والمستعمَرين والمُهجَرين بالقوال: 

«تكمن العقبة الحقيقية التي تَحُوُل دون العثور على حلٍّ لمشكلة اللاجئين وانعدام الجنسية في حقيقة أنها غير قابلة للحل طالما بقيتْ الشعوب منظمة ضمن إطار النظام القديم للدول القومية. وفي المقابل من ذلك، يميط عديمو الجنسية اللثام عن أزمة الدولة القومية. ولن نتَغلب على هذه الأزمة عبر مراكمة الظلم لمجرد قدرتنا على إعادة بناء نظام لا يتوافق مع المغزى الحديث للعدالة ولا مع الظروف الحديثة التي تعيش في ظلها الشعوب فعلياً».

لقد تشكلت الدولة الإسرائيلية في عالم يحدده «نظام الدول القومية القديم» المتمحور حول مبدأ السيادة، أي السلطة الكاملة على الأرض والناس وشروط الانتماء. وتمثل مقاومة الصهيونية باسم التحرُّر الفلسطيني وحق العودة تحدياً لذلك المبدأ والهيمنة والعنصرية المتأصلة في الدول القومية. وربما نحن نحتاج إلى أن نتخيل شيئاً مبتكراً لم يعرفه العالم الحديث حتى الآن: ألا وهو سلامة الشعوب وتقرير مصيرها وإمكانية «العيش المشترك الحقيقي للشعوب». لقد كرَّس الكُتّاب والشعراء والفنانون المشاركون في هذا الكتاب أصواتهم وذكرياتهم لمواجهة الظلم الصهيوني والتغلب عليه. معًا، من مواقع ووجهات نظر مختلفة، يساعدنا جميعًا في إرشادنا صوب المزيد من الرؤى الجماعية ونحو مستقبل أكثر تحرراً.

نشرت هذه المقدمة في Monthly Review.