معاينة lebanon healthcare

انهيار متسارع لنظام صحي قاصر

مشهد الانهيار 

يشهد لبنان واحدة من أكثر الأزمات الصحية والاجتماعية تعقيداً في تاريخه الحديث. فالنظام الصحي الذي كان يُعد من الأفضل في المنطقة، بات اليوم على شفير الانهيار، نتيجة تراكمات متشابكة من الفساد الإداري، وسوء الحوكمة، والانهيار الاقتصادي، والانقسامات السياسية التي أعاقت أي مسار إصلاحي حقيقي.

لم تَعُد مؤسسات الرعاية الصحية قادرة على تلبية الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، في وقتٍ ترتفع فيه معدلات الفقر وتُستنزف فيه الطبقة الوسطى، وتُترك الفئات الأضعف لمصيرها في مواجهة الأعباء الصحية والمالية. التقارير الدولية، ومن بينها تقارير البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، ترسم مشهداً قاتماً، إذ انّه أكثر من نصف السكان غير مغطّين بأي شكل فعّال من أشكال التأمين الصحي، والإنفاق الخاص على الصحة تجاوز 75% من إجمالي الإنفاق الصحي، ما يجعل من الرعاية الصحية امتيازاً لا يُتاح إلا للقادرين.

أكثر من نصف السكان غير مغطّين بأي شكل فعّال من أشكال التأمين الصحي، والإنفاق الخاص على الصحة تجاوز 75% من إجمالي الإنفاق الصحي، ما يجعل من الرعاية الصحية امتيازاً لا يُتاح إلا للقادرين

وفي ظل غياب شبكة حماية اجتماعية شاملة، وتراجع التمويل العام، وارتفاع تكلفة الاستشفاء والأدوية، أصبح الوصول إلى العلاج أمراً بالغ الصعوبة، بل مستحيلاً لكثيرين. لقد تحوّل القطاع الصحي في لبنان إلى «نظام طارئ هشّ»، لا يقوى على التكيّف مع الصدمات، ولا يملك احتياطيات للمستقبل، لا سيما في حال تفاقم الأزمات أو اندلاع أزمات إنسانية جديدة كالنزوح أو الكوارث.

خيارات مستحيلة: العلاج أم الطعام؟

في مشهدٍ يختزل مأساة لبنان الاقتصادية بأقسى صورها، يجد المواطنون أنفسهم أمام خيارات مستحيلة: العلاج أم الطعام؟ الدواء أم السكن؟ تشير أحدث البيانات الصادمة (تموز/يوليو 2024) إلى أن 75% من إجمالي الإنفاق الصحي في لبنان يتحمله المواطنون من جيوبهم الخاصة (وزارة الصحة والبنك الدولي)، وهي نسبة تجعل من لبنان واحداً من أعلى دول العالم في إنفاق المواطنين الشخصي على الصحة.

بحسب الأرقام فإنّ 79% من الأسر اللبنانية اضطرت لبيع ممتلكاتها الأساسية، من حليّ زواج إلى أراضٍ عائلية، لتغطية فواتير المستشفيات وثمن الأدوية (مسح الأمم المتحدة). أما 62% من المرضى فيؤجلون علاجهم، محوّلين أمراضاً كان يمكن علاجها بسهولة إلى حالات حرجة تهدد حياتهم (منظمة الصحة العالمية).

هذه ليست مجرد إحصاءات، بل قصص إنسانية مؤلمة: أمهات يتركن علاج السرطان لإطعام أطفالهن، عجائز يعانون آلاماً مبرحة من دون مسكنات، مسنين يموتون بأمراض مزمنة بسبب عدم قدرتهم على شراء الأدوية. لم يعد النظام الصحي في لبنان يعاني من أزمة تمويل فحسب، بل أصبح يمارس «انتقاء الضحايا»، فمن يملك ينجو، ومن لا يملك يُترَك لمصيره.

إنسحاب الدولة من مسؤولياتها الصحية!

في صورةٍ تكشف عن انسحاب الدولة من قطاع حيوي، تتراجع الموازنة الصحية اللبنانية إلى مستويات كارثية غير مسبوقة. تشير أحدث المؤشرات إلى أن الحكومة اللبنانية خصصت 1.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للصحة - وهو أدنى مستوى في تاريخ لبنان - بينما انخفضت قيمة الموازنة الصحية بالدولار بنسبة 92% منذ العام 2019، في انهيارٍ يُمثل شهادة وفاة للقطاع الصحي العام.

79% من الأسر اللبنانية اضطرت لبيع ممتلكاتها الأساسية، من حليّ زواج إلى أراضٍ عائلية، لتغطية فواتير المستشفيات وثمن الأدوية

والنتائج المروّعة لهذا التراجع تظهر جليةً في أروقة المستشفيات الحكومية، في حين أنّ 53% من المراكز الصحية تعمل بأقل من 40% من طاقتها، محوّلة هذه المؤسسات إلى هياكل فارغة من المعدات والأدوية والكوادر. هذا ليس مجرد تقليصاً للخدمات، بل نحراً منظّماً لنظام كان يُعتبر سابقاً من أفضل الأنظمة في المنطقة (حسب ما تواتر لمسامعنا).

تكمن خلف هذه الأرقام كوارث إنسانية: مرضى يُتركون في الممرات من دون علاج، عمليات جراحية تُلغى يومياً بسبب نقص المستلزمات، والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: كيف وصلت الأمور إلى مرحلة أصبحت فيها الدولة عاجزة عن توفير أبسط مقومات الرعاية الصحية لشعبها؟ وهل يمكن الحديث عن دولة تتنصل من واجبها الأساسي في حماية صحة مواطنيها؟  

انهيار مبدأ التكافل الاجتماعي

في بلدٍ قيل أنّه كان يُعتبر نموذجاً للرعاية الصحية في المنطقة العربية، استفاق اللبنانيون ذات يوم ضحايا نظامٍ منهارٍ تركهم عراةً أمام الأمراض والأزمات. تكشف أحدث بيانات «المرصد اللبناني للصحة» عن مشهدٍ مروّع، إذ بات 57.3% من السكان يعيشون من دون أي غطاء صحي، فيما 85% من العاملين في القطاع غير المنظّم وهم - عماد الاقتصاد المنكوب - محرومون من أبسط أشكال التأمين الصحي. وبلغت الأزمة ذروتها مع كبار السن، إذ أن 72% منهم عاجزون عن تأمين أدويتهم المزمنة، لتتحوّل شيخوختهم إلى عقوبة يومية بين آلام المرض وعذاب العوَز. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل تمثل انهياراً كاملاً لمبدأ التكافل الاجتماعي، وتحولاً خطيراً في مفهوم المواطنة الأساسية.

في ظل هذه الكارثة، أمسى اللبنانيون أمام خيارين مرّين: إمّا الدخول في دوامة الفقر بسبب نفقات العلاج الباهظة، أو التخلي عن حقهم في الحياة عبر إهمال صحتهم. النظام الصحي الذي كان يفترض به أن يكون شبكة أمان، تحوّل إلى فخّ يزيد من هشاشة الفئات الأكثر ضعفاً.  

تشير أحدث المؤشرات إلى أن الحكومة اللبنانية خصصت 1.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للصحة - وهو أدنى مستوى في تاريخ لبنان - بينما انخفضت قيمة الموازنة الصحية بالدولار بنسبة 92% منذ العام 2019

لا تعكس هذه الفجوة الهائلة في التغطية الصحية إفلاساً مالياً فحسب، بل تشير إلى انهيارٍ أخلاقي في العقد الاجتماعي للدولة مع مواطنيها. فكيف يمكن لدولة أن تدّعي السيادة وهي عاجزة عن حماية صحّة شعبها؟ وأين تذهب مسؤولية الطبقة الحاكمة التي حوّلت الحق الدستوري في الصحة إلى امتيازٍ حصريّ للأغنياء؟ وهل يمكن اعتبار ذلك جريمة صحية منظّمة؟

تحديات إضافية على نظام صحي منهار

في ظل نظام صحي يعاني من انهيار متسارع، تُضاعف أزمة اللاجئين في لبنان من حدّة الكارثة، إذ تحوّل القطاع الصحي إلى ساحة للاختبار الأصعب بين حقوق السكان الأصليين وضرورات استضافة النازحين. وفقاً لأحدث بيانات مفوضية الأمم المتحدة للاجئين (UNHCR)، فإن لبنان، الذي لا يتجاوز عدد سكانه 6 ملايين نسمة، يستضيف ما يقارب 1.6 مليون لاجئ سوري (25% من إجمالي السكان)، بالإضافة إلى 180 ألف لاجئ فلسطيني مسجل، ما يجعل منه البلد الأعلى في نسبة اللاجئين إلى السكان في العالم.

فرض هذا الواقع ضغوطاً غير مسبوقة على المستشفيات والمراكز الصحية التي تعاني أساساً من شحّ التمويل وانهيار البنية التحتية. وفي ظل غياب الدعم الدولي الكافي، تحوّلت المستشفيات الحكومية إلى ملاذ أخير للاجئين واللبنانيين على حد سواء، ما أدى إلى استنزاف الموارد المحدودة أصلاً. 

هذه الأزمة ليست مجرّد أرقام، بل قصص إنسانية مأساوية: عائلات لبنانية تُحرم من العلاج بسبب الاكتظاظ، ولاجئون يعانون دون رعاية كافية، وأطباء يُجبرون على اختيار من يُنقذون بسبب نقص الأدوية والأسِرّة. فهل يمكن لنظام صحي مُنهك أن يتحمل هذا العبء الإضافي؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن بين الواجب الإنساني والحقوق.

خسارة الكوادر الطبية وأثرها على النظام الصحي

في ظلّ عاصفة متلاحقة من الأزمات، يشهد لبنان نزيفاً غير مسبوقاً لكفاءاته الطبية، يُهدّد بتحويل النظام الصحّي إلى هياكل فارغة من خبراتها. فالأرقام تصدح بالكارثة: 3,750 طبيباً- أي ما يعادل نصف الكادر الطبي تقريباً - غادروا البلاد منذ العام 2019، بينما يُعلِن 70% من خريجي كليات الطب عزمهم على الهجرة فور تخرجهم، وفقاً لنقابة الأطباء.  

3,750 طبيباً- أي ما يعادل نصف الكادر الطبي تقريباً - غادروا البلاد منذ العام 2019، بينما يُعلِن 70% من خريجي كليات الطب عزمهم على الهجرة فور تخرجهم

لم تعد هذه الهجرة الجماعية مجرد ظاهرة، بل تحوّلت إلى كارثة وطنية تترك آثارها الدامغة على الأرض: أغلقت 63 مستشفى أقساماً متخصّصة، محوّلةً أمراضاً كانت قابلة للعلاج إلى أحكام إعدام صامتة للمرضى. خلف هذه الإحصاءات، ثمة قصص إنسانية مأساوية: مرضى أورام بلا أطباء متخصصين، عمليات قلب مفتوح تُلغى لغياب الجرّاحين، وعائلات تتنقّل بين المطارات بحثاً عن علاجٍ فقدته مستشفيات الوطن وحملات التبرع للمرضى من كل حدب وصوب.  

الواقع المرير يُظهر أن هجرة الكوادر الطبية لم تعد مجرد خسارة كفاءات، بل انهيارٌ لمنظومة صحية بأكملها. فأين يذهب مستقبل الطب في بلدٍ يُشرّد أطباءه؟ والسؤال الأكبر: متى سنصل إلى نقطة اللاعودة، حيث يصبح علاج المواطن اللبناني حلماً مستحيلاً في وطنه؟

فوضى سوق الدواء وغياب الرقابة

في مشهدٍ يختزل انهيار المنظومة الصحية بأبشع صوره، تتحوّل الصيدليات اللبنانية إلى واجهات فارغة، بينما تزدهر السوق السوداء بوصفات الموت. 65 دواءً أساسياً اختفى من رفوف الصيدليات (وزارة الصحة)، فيما تقفز أسعار الأدوية السرطانية بنسبة 500%، محوّلة علاج الأمراض الخبيثة إلى حكم إعدام مالي على المرضى.  

ولا تقتصر المأساة على النّقص فقط، بل تمتد إلى فوضى عارمة في سوق الدواء، إذ أن 45% من الأدوية المتداولة غير مصرّح بها رسمياً، ما يضع المرضى أمام خيارين مريرين: إما شراء أدوية مجهولة المصدر، أو الموت بصمت. 

وفي ظل غياب الرقابة الحكومية الفاعلة، أصبحت صحة اللبنانيين سلعة في سوق سوداء تتحكم بها عصابات الاستغلال. السؤال الذي يدوّي في وضح النهار: كيف وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الدواء - ذلك الحق الأساسي - رهينة للمتاجرين بالآلام؟ وأين تذهب مسؤولية الدولة في حماية مواطنيها من هذه الجريمة الصحية المنظمة؟

خيبات الأمل في تنفيذ الخطط الصحيّة

في خضمّ الانهيار الشامل، تتهاوى الوعود الحكومية والدولية لإنقاذ القطاع الصحي أمام صخرة الواقع المرير. فبعد سنوات من الأزمات المتلاحقة، لا تزال خطة التغطية الصحية الشاملة (UHC) حبراً على ورق، بينما يعيش اللبنانيون على فتات المبادرات المؤقتة. فمشروع البنك الدولي البالغ 30 مليون دولار- على الرغم من أهميته - يبدو كقطرة ماء في محيط الاحتياجات، فيما تتحول برامج الدعم من المنظمات الدولية إلى مسكنات وقتية لا تعالج جذور الأزمة. 

تقفز أسعار الأدوية السرطانية بنسبة 500%، محوّلة علاج الأمراض الخبيثة إلى حكم إعدام مالي على المرضى 

هذه ليست مجرد إخفاقات بيروقراطية، بل خيارات سياسية مُكلِفة يدفع ثمنها المرضى كل يوم. وبين خيال الخطط البراقة وواقع الانهيار المتسارع، يبرز سؤال مصيري: هل يمكن بناء نظام صحي على أنقاض الدولة؟ أم أن اللبنانيين محكوم عليهم بالانتظار إلى ما لا نهاية واقعين بين شرنقة وعود المعونات واستحقاقات الإصلاح؟ الكارثة الصحية لا تنتظر، والناس يموتون الآن... فمن سيكسر هذه الحلقة المفرغة؟

خطة إنقاذ للنظام الصحي في لبنان

بما أنّ القطاع الصحي في لبنان يشهد انهياراً متسارعاً فهذا يتطلب خطة إنقاذ فورية وشاملة. تبدأ بالإصلاحات العاجلة، من خلال إنشاء صندوق طوارئ صحي بتمويل دولي لشراء الأدوية والمستلزمات، مع الإشراف عليه من خلال لجنة مستقلة لضمان الشفافية. وإنشاء برنامج دواء لجميع المواطنين عبر صيدليات حكومية تبيع الأدوية بسعر التكلفة، وحماية الكوادر الطبية عبر رواتب عادلة مع إعفاءات ضريبية.

وعلى المدى المتوسط، يفترض توحيد التغطية الصحية لجميع المواطنين، وتمويلها عبر ضرائب على التحويلات والكماليات وغيرها، مع تطوير نظام رقمي موحّد لإدارة الأدوية والمواعيد. بينما على المدى الطويل، يجب تحقيق تغطية صحية شاملة عبر ضريبة صحية ومن مساهمات القطاع الخاص، وتطوير المستشفيات الحكومية من خلال إدارات مهنية وإقامة شراكات مع القطاع الخاص والتركيز على الطب الوقائي.

ومن أجل ضمان النزاهة ومنع الفساد، يجب تشكيل هيئة رقابية مستقلة وإنشاء منصة إلكترونية للإبلاغ عن الفساد وربطها بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بالإضافة إلى تدريب الشباب على مراقبة الخدمات الصحية وإشراك المجتمع المحلي أيضاً في الرقابة. إنّ هذه الإجراءات الطموحة قد تنقذ النظام الصحي وتضمن الرعاية للجميع.