
عين على الصندوق
ذعر في صندوق النقد الدولي: هل تسحب الولايات المتّحدة عضويتها؟
تتسم اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين (21-26 نيسان/أبريل 2025) بطابع خاص غاب عن الاجتماعات السابقة، إذ يسود جوّ من القلق، وحتّى الذعر، بين قيادات مؤسّستي «بريتون وودز»، سببه الخوف من أنّ تقدم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الانسحاب منهما.
بعد أقل من شهر من اعتلائه سدة الرئاسة، أصدر ترامب أمراً تنفيذياً في 4 شباط/فبراير الماضي ينصّ على قيام وزير الخارجية الأميركية وممثل الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة بمراجعة لجميع المنظمات الحكومية الدولية التي تكون الولايات المتحدة عضواً فيها، فضلاً عن جميع الاتفاقيات والمعاهدات التي تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها لتحديد ما يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وما إذا كان يمكن إصلاحها، وذلك في غضون 180 يوماً من صدور الأمر. بالإضافة إلى ذلك، يدعو «مشروع 2025»، وهو الدليل الذي يتصرّف ترامب على أساسه في ولايته الثانية، إلى ضرورة انسحاب الولايات المتحدة من صندوق النقد والبنك الدوليين. فضلاً عن ذلك، تشير خطوات ترامب منذ توليه الحكم، ولا سيما فرض رسوم جمركية عالية وانسحاب الولايات المتحدة من بعض المنظّمات الأممية، إلى أن الإدارة الجديدة تنوي تفكيك النظام الأممي الذي أرسي بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك النظام الاقتصادي الذي اتخذ شكله الحالي في سبعينيات القرن الماضي مع هيمنة النيوليبرالية. وعلى الرغم من ذلك، لم تعطِ الإدارة الجديدة أي إشارة واضحة بشأن الاتجاه الذي تعتزم اعتماده لناحية البقاء أو الانسحاب من أهم مؤسستين عالميتين معنيتين بصيانة النظام الاقتصادي والمالي العالمي.
تشير خطوات ترامب إلى أن الإدارة الجديدة تنوي تفكيك النظام الأممي الذي أرسي بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك النظام الاقتصادي الذي اتخذ شكله الحالي في سبعينيات القرن الماضي مع هيمنة النيوليبرالية
إن غموض الإدارة الأميركية والخوف من إقدامها على المحظور، دفع قيادات صندوق النقد والبنك الدوليين إلى المبالغة في مغازلة الولايات المتحدة واستمالتها من أجل عدم سحب عضويتها. وهنا أريد التركيز على صندوق النقد الدولي. فقد أدلت المديرة التنفيذية للصندوق، كريستالينا جورجيفا، الأسبوع الماضي بخطابها المعتاد الذي يفتتح اجتماعات الربيع، وقد عبّرت فيه عن مدى الانحناء الذي يمكن أن تأخذه قيادة الصندوق من أجل إقناع ترامب بالتمسّك بعضوية المؤسسة. وقد كان الأمر جليّاً في شكل الخطاب كما في مضمونه.
أولاً، دعا الصندوق مراسلة اقتصادية مُحافظة من قناة «فوكس نيوز» المفضّلة عند ترامب لمحاورة جورجيفا. ثانياً، حرصت جورجيفا على المصادقة على مشاعر ترامب وإدارته بأن الولايات المتحدة تتعرّض لإجحاف كبير في التجارة العالمية، وقالت إن الحواجز غير الجمركية على التجارة العالمية مرتفعة جداً، مظهرة رسماً بيانياً يظهر أن الصين زادت هذه الحواجز عبر السنين. وقد كان لافتاً في الخطاب تجنّب انتقاد الرسوم الجمركية، ما يشير إلى تغيير محتمل للصندوق من ناحية التخلّي عن معارضته التاريخية المطلقة للرسوم الجمركية لإرضاء ترامب. كما أشادت بالخطوات التي تتّخذها الإدارة لناحية تحسين فعالية القطاع العام وإزالة العوائق أمام القطاع الخاص بالإشارة الى التقشّف الذي يقوده إيلون ماسك. ومن بين أمور كثيرة، حرصت جورجيفا على مديح الأداء الاقتصادي للولايات المتّحدة، وطمأنت العالم أن رسوم ترامب الجمركية سوف تبرّد الحركة الاقتصادية لكنها لن تسبّب أي ركود اقتصادي، داعية إلى الهدوء والتروي. وفي حوارها مع مراسلة «فوكس نيوز»، فسّرت جورجيفا كيف أن الصندوق لا يستخدم أموال دافعي الضرائب الأميركيين كغيره من المنظّمات، وهو ما بدا وكأنها تقول لترامب مباشرة: «عضوية الولايات المتحدة هي دون كلفة مالية بل مربحة نتيجة العائد على الفائدة من حقوق السحب الخاصة التي تمتلكها».
لكن، يبقى السؤال، هل من الممكن أن تنسحب الولايات المتّحدة من صندوق النقد الدولي؟
برأيي هذه الاحتمال، حتى ولو كان وارداً، إلا أنه غير مرجّح. الولايات المتّحدة لها الحصة الأكبر من صندوق النقد الدولي، نحو 17.4% من الكوتا، وهو ما يعادل حوالي 65 مليار دولار أميركي، ما يعطيها حقّ النقد في القرارات المهمة. وهذا له آثار مزلزلة على المؤسسة ويمكن أن يؤدي إلى اضمحلالها. لذلك، فإن الانسحاب يعني خلق هوة مالية كبيرة جدّاً ما يحدّ بشكل كبير من قدرة الصندوق على تقديم خدماته، وخصوصاً الإقراض. كما أن ذلك قد يفتح الباب أمام بعض البلدان من أجل تأدية دور أكبر عبر ردم هذه الهوة وزيادة حصتها من الكوتا في الصندوق، وبالتالي تعزيز تأثيرها وملء الفراغ الذي قد يولّده انسحاب الولايات المتحدة. ولا يخفى على أحد أن الصين هي أبرز هذه الدول التي تضغط منذ سنوات من أجل تعديل توزيع الحصص داخل الصندوق لعكس حجمها الاقتصادي المتعاظم. وعلى الرغم من كون الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، تملك الصين ثالث أكبر حصة في الصندوق بعد اليابان بنسبة 6.4% فقط. لذلك، يمكن لسدّ الطريق أمام الصين أن يكون وحده كافياً لإثناء ترامب عن الانسحاب من الصندوق. ولكن هذا لا يعني أن الادارة الأميركية تريد الإبقاء على الأمور كما هي، بل الاحتمال الأكبر هو استخدام التهديد بالانسحاب من أجل الضغط على الصندوق وتوجيهه بشكل سافر لخدمة أجندة الإدارة الأميركية غير المكترثة بالقوة الناعمة والمقنّعة. وعليه، بأي اتجاه قد تدفع الإدارة الجديدة الصندوق؟ هناك الكثير من الأمور التي يمكن للولايات المتحدة أن تضغط لتحقيقها في الصندوق، وسوف أمرّ على أبرز 3 أولويات يمكن أن تعتمدها الإدارة الجديدة.
الاحتمال الأكبر هو استخدام التهديد بالانسحاب من أجل الضغط على الصندوق وتوجيهه بشكل سافر لخدمة أجندة الإدارة الأميركية غير المكترثة بالقوة الناعمة والمقنّعة
أولاً، من شبه المؤكّد أن تفرض إدارة ترامب على الصندوق أن يعود إلى مهمّاته الأساسية أي العمل حصراً من أجل تحقيق التوازنات الماكرو اقتصادية مثل الحدّ من العجز المالي وتحقيق الفوائض عبر التقشّف واستقرار النظام النقدي وتقليص حجم القطاع العام. وهو ما يعني باختصار عودة الصندوق إلى وجهه الفجّ الذي اعتاده العالم، وخصوصاً في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ما جعل السياسات المالية والاقتصادية التي تعتمدها الإدارة على المستوى الوطني أولوية للصندوق في إقراضه الدول، تماماً كما فعلت إدارات سابقة خصوصاً حين تم الوصول إلى اتفاق واشنطن في القرن الماضي، الذي تم على أساسه فرض النيوليبرالية حول العالم. وينتج عن عودة الصندوق إلى مهماته الأساسية التخلّي عن التدخّل في المجالات التي لا تعدّ من مهمات الصندوق الأساسية مثل التغيّر المناخي، واللامساواة الجندرية، والإنفاق الاجتماعي كما شرحت في مقال سابق. وبدأ هذا يتحقق فعلاً، وللمرة الأولى منذ سنوات لم تأتِ المديرة التنفيذية في خطابها الأسبوع الماضي على ذكر التحديات المناخية أو النساء أو اللامساواة. كما أن جو البلدان الأساسية في الصندوق، وخصوصاً الأوروبية، يشير إلى أنها تعتمد تكتيك «طأطأة الرأس» لتمرير المرحلة الحالية، أي عدم الدفع نحو أولويات المناخ والجندر وغيرها. ويجري ذلك في مرحلة دقيقة، إذ يعتزم الصندوق البدء في مراجعة سياساته الداخلية لجهة تصميم برامج القروض والمشروطية، فضلاً عن كيفية مراقبة الأداء الاقتصادي للدول الأعضاء تحت البند الرابع.
ثانياً، سوف تضغط الولايات المتحدة الأميركية من أجل تعطيل كل المحادثات بشأن إعادة توزيع الحصص داخل الصندوق، والتي سوف تحدّد توزيع الأصوات داخل المؤسّسة. في العام 2023، اختتم الصندوق المراجعة الـ 16 للكوتا عبر زيادة متناسبة بشكل متساوي للحصص (أي من دون تغيير الأحجام). ولكن اتفق الأعضاء، ومن ضمنهم الولايات المتّحدة، على مواصلة النقاشات من أجل الاتفاق على المقاربة التي يجب اتباعها لإنتاج معادلة جديدة تحدّد الحصص الأعضاء داخل الصندوق. فقد طالبت الصين وكثير من الاقتصاديات الصاعدة بمعادلة جديدة تحقّق توازناً مقبولاً داخل الصندوق، وتقضي بتحديد الحصص على أساس الحجم الاقتصادي للدول. وكان من المفترض أن يتم الاتفاق على ذلك في حزيران/يونيو 2025 تحضيراً للمراجعة الـ 17 للكوتا. والآن، هناك شبه إجماع على أن هذا المسار سوف يتوقف.
ينتج عن عودة الصندوق إلى مهماته الأساسية التخلّي عن التدخّل في المجالات التي لا تعدّ من مهمات الصندوق الأساسية مثل التغيّر المناخي، واللامساواة الجندرية، والإنفاق الاجتماعي
ثالثاً، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم صندوق النقد الدولي بشكل أكبر لدعم الدول التي تعتبرها صديقة، وفي الوقت نفسه دفع الصندوق للامتناع عن دعم دول أخرى. وهذا ليس جديداً، ولو أنه لم يكن سافراً في السنوات الأخيرة حينما كانت الولايات المتحدة شديدة الانتقائية. لذلك من المرجح أن توسّع إدارة ترامب المروحة لتشمل بلدان أكثر. ويمكن أن تدفع بشروط تفاضلية لبعض الدول مثل الأرجنتين. في الأسبوع الماضي، وصل الصندوق إلى اتفاق مع الأرجنتين على قرض جديد بقيمة 20 مليار دولار، ولا توفر جورجيفا فرصة من أجل مديح الأرجنتين وسياساتها الاقتصادية التي تعدّ من الأكثر عنفاً في العالم من ناحية التقشّف، وزيادة اللامساواة وبتر القطاع العام. ومن ناحية أخرى، من المرجح استخدام الصندوق لمعاقبة الدول التي تعتبر قريبة من الصين عبر فرض شروط قاسية للإقراض أو اشتراط دعم الصندوق من أجل إبعاد بعض الدول عن الصين. ويمكن أن يتجلّى ذلك عبر المحادثات القائمة بين الدول المقرضة، من ضمنها الولايات المتحدة والصين، التي يسيّرها الصندوق لمعالجة أزمة الديون الحادّة التي تعاني منها الكثير من بلدان الجنوب العالمي.
في النهاية، يكمن الاتجاه الأكثر ترجيحاً في المدى القصير في خلع الصندوق الثوب الجميل الذي ارتداه في السنوات الأخيرة من أجل تسويق سياساته التقشّفية الخطيرة عبر إدخاله الهواجس المناخية والجندرية واللامساواة. ويمكن أن يحصل ذلك عبر إقالة المديرة التنفيذية الحالية التي يتهمها الجمهوريون في الولايات المتّحدة بقربها من الصين إذ بيّنت تحقيقات أجريت في العام 2021 أنها عدّلت تقارير وبيانات لصالح الصين حينما كانت الرئيسة التنفيذية للبنك الدولي. وسوف تبيّن مجريات اجتماعات الربيع بعض الإشارات الإضافية لناحية كيفية تعامل الصندوق مع الولايات المتحدة، وأي اتجاه يمكن أن تتخذه الإدارة الأميركية. وهناك إجماع على أن هذه الفترة مفصلية، وسوف تقرر اتجاه النظام المالي والاقتصادي العالمي والمؤسسات التي تديره. وتبيّن كل هذه الأمور أن أي تغيير عميق في عمل هذه المؤسسات وأولوياتها، وخصوصاً صندوق النقد الدولي، ليست مرهونة بمصلحة شعوب وبلدان الجنوب العالمي بل بتغييرات عميقة وصدمات تهزّ النظام العالمي مدفوعة بصدامات بين البلدان والاقتصاديات الأكثر قوة في العالم.