معاينة IMF

صندوق النقد الدولي وبريكس: لا عودة إلى بريتون وودز

عُقِدت هذا الأسبوع (الأسبوع الماضي) الاجتماعات نصف السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن. وفي الوقت نفسه، اجتمع تحالف بريكس بلس في قازان، روسيا. يلخص لنا تزامن هذين الاجتماعين حال الاقتصاد العالمي في العام 2024.

بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الوكالتين الرائدتين للتعاون الدولي والعمل على صعيد الاقتصاد العالمي. وهما مؤسستان ولدتا من اتفاقية بريتون وودز التي أرست النظام الاقتصادي العالمي المستقبلي المزمع إقامته مع نهاية الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت، أدلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بكلمات تنبؤية قال فيها: «في لحظتنا التاريخية هذه نقف عند مفترق طرق، فإما يتّجه العالم نحو الوحدة والازدهار المشترك، أو يتباعد بالضرورة إلى كتل اقتصادية متنافسة».

كان روزفلت يشير إلى الانقسام بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى. انتهت تلك «الحرب الباردة» مع انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1990. ولكن بعد 35 عاماً، صار لكلمات روزفلت سياق جديد: بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وكتلة ناشئة من دول «الجنوب العالمي» من جهة أخرى.

كرَّسَ النظام الاقتصادي العالمي المنبثق عن بريتون وودز الولايات المتحدة كقوة اقتصادية مهيمنة في العالم. في العام 1945، كانت الولايات المتحدة أكبر دولة صناعية في العالم وتمتلك أهم قطاع مالي وأقوى القوات العسكرية وهيمنت على التجارة والاستثمار العالميين من خلال الاستخدام الدولي للدولار.

لم تتغيّر شروط الإقراض في صندوق النقد الدولي كثيراً. لربما حدث تخفيف بسيط لعبء الدين، أي إعادة هيكلة بعض القروض الحالية، لكن لم يحدث أن أُلغِيَت أي ديون

اضطلع جون ماينارد كينز بدور كبير في صفقة بريتون وودز. وقد ذكر في تعليق له أن «فكرته البعيدة النظر لإنشاء مؤسسة جديدة توازن بطريقة عادلة بين مصالح الدول الدائنة والمدينة قد رُفِضَت». ولخّص كاتب سيرته، روبرت سكيدلسكي، النتيجة قائلاً: «بطبيعة الحال، حصل الأميركان على مبتغاهم بسبب قوتهم الاقتصادية. وتخلّت بريطانيا عن حقها في التحكّم بعملات إمبراطوريتها السابقة التي أصبحت اقتصاداتها تحت سيطرة الدولار بدلاً من الجنيه الإسترليني». وفي المقابل، «حصل البريطانيون على ائتمان للبقاء، ولكن بفائدة. وقال كينز للبرلمان البريطاني إنّ الصفقة لم تكن إثباتاً للقوة الأميركية، بل تسوية معقولة بين أمتين عظيمتين لهما الأهداف نفسها؛ استعادة اقتصاد عالمي ليبرالي». أما الدول الأخرى فقد جرى تجاهلها بالطبع.

هيمنت الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ إنشائهما، سواء على صعيد الأفراد أو السياسات. وعلى الرغم من بعض الإصلاحات الطفيفة في التصويت وآليات اتخاذ القرار على مدى الـ80 عاماً الماضية، لا يزال صندوق النقد الدولي تحت الإدارة الفعلية لمجموعة السبع الكبار، مع حرمان الدول الأخرى من الصوت تقريباً. يضم مجلس إدارة صندوق النقد الدولي 24 مقعداً، تمتلك الولايات المتحدة  وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية واليابان والصين مقاعد فردية، مع تمتع الولايات المتحدة بحق النقض (الفيتو) على أي قرارات كبرى.

أما فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، يشتهر صندوق النقد الدولي بفرضه «برامج التكييف الهيكلي». كانت قروض الصندوق تُمنح للدول التي تعاني من ضائقة اقتصادية بشرط أن توافق على موازنة عجزها وتقليص الإنفاق العام وفتح أسواقها وخصخصة القطاعات الحيوية من الاقتصاد. وما زالت السياسة الأشيع التي يوصي بها الصندوق هي تقليص أو تجميد رواتب القطاع العام. كما يرفض صندوق النقد الدولي حتى الآن الدعوة إلى فرض ضرائب تصاعدية على دخل وثروات الأفراد والشركات الأغنى. وفي عامنا هذا، تواجه 54 دولة أزمة ديون، والكثير منها ينفق على خدمة ديونه أكثر ما ينفق على التعليم أو الصحة. وقد سلطتُ الضوء على عدد من تلك الأزمات في مدونتي.

لا تزال معايير البنك الدولي لتقديم القروض والمساعدات لأفقر الدول تتبع النظرة الاقتصادية التقليدية التي ترى الاستثمار العام مجرد وسيلة لتحفيز القطاع الخاص على تولي مهام الاستثمار والتنمية. يتجاهل خبراء الاقتصاد في البنك الدولي دور الاستثمار والتخطيط الحكومي، ويركّزون بدلاً من ذلك على خلق «أسواق منافسة عالمياً وتحرير أسواق العوامل والمنتجات والتخلّي عن الشركات غير المنتجة وتعزيز المنافسة وتعميق أسواق رأس المال».

وافق المجلس التنفيذي للصندوق على تعيين كريستالينا جورجييفا لولاية ثانية في رئاسة صندوق النقد الدولي، وهي الآن تتحدث عن سياسات اقتصادية «شاملة». وتقول إنّها ترغب في زيادة «التعاون العالمي وتقليل الفوارق الاقتصادية». يَدّعي صندوق النقد الدولي أنّه يهتم الآن بالعواقب السلبية للتقشف المالي، ويشير في الغالب إلى ضرورة حماية الإنفاق الاجتماعي من التخفيضات من خلال شروط تحدِّد حداً أدنى من الإنفاق. لكن أظهر تحليل أجرته منظمة أوكسفام لسبعة عشر برنامجاً حديثاً من صندوق النقد الدولي أنّه مقابل كل دولار واحد شجع صندوق النقد الدولي هذه الدول على إنفاقه على الحماية الاجتماعية، طُلب منها خفض أربعة دولارات من خلال تدابير التقشف. وخلص التحليل إلى أنّ الحدود الدنيا للإنفاق الاجتماعي كانت «غير كافية قطعاً ولا متسقة ولا شفّافة، وفشلت في النهاية».

حتى وقت قريب، رأى صندوق النقد الدولي أنّ تحقيق نمو أسرع يعتمد على زيادة الإنتاجية وتدفق رأس المال بحرية وعولمة التجارة الدولية و«تحرير» الأسواق، بما فيها سوق العمل (أي إضعاف حقوق العمال والنقابات). لم يكن لعدم المساواة أي اعتبار. كانت هذه المعادلة النيوليبرالية للنمو الاقتصادي. لكن تجربة الركود الكبير في 2008-2009 والركود الناتج عن الجائحة في 2020 منحت دروساً مريرة لهرم الاقتصاد في صندوق النقد الدولي. فاليوم، يعاني الاقتصاد العالمي من «نمو متعثر».

graph 1

لذا، يشعر صندوق النقد الدولي بالقلق. قالت جورجييفا إن السبب وراء تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الاقتصادات الكبرى يرجع إلى ارتفاع مستوى عدم المساواة في الثروة والدخل: «علينا أن نصحّح ما كان خطأً شديد الخطورة في خلال المئة عام الماضية – استمرار ارتفاع عدم المساواة الاقتصادية. تظهر أبحاث صندوق النقد الدولي أنّ تقليل عدم المساواة في الدخل يمكن ربطه بنمو أعلى وأكثر استدامة». كما أنّ تغير المناخ، وارتفاع مستوى عدم المساواة، وزيادة «التجزئة» الجيوسياسية تهدّد النظام الاقتصادي العالمي واستقرار النسيج الاجتماعي للرأسمالية. لذا، لا بد من فعل شيء ما.

أيام الكساد الطويل في العقد الثاني من الألفية، انقسمت العولمة على أسس جيوسياسية، وقد فُرِض قرابة 3,000 إجراء يقيّد التجارة في العام 2023، أي قرابة ثلاثة أضعاف عددها في العام 2019. تشعر جورجييفا بالقلق: «تتعمّق التجزئة الجيو-اقتصادية مع قيام البلدان بتحويل تدفقاتها من التجارة ورأس المال. تزداد المخاطر المناخية وتؤثّر بالفعل في الأداء الاقتصادي، بدايةً من الإنتاجية الزراعية إلى موثوقية النقل وتوافر التأمين وكلفته. قد تعيق هذه المخاطر المناطق ذات الإمكانات السكانية الأكبر، كأفريقيا جنوب الصحراء».

في هذه الأثناء، يخلق ارتفاع أسعار الفائدة وتكاليف خدمة الديون ضغطاً على ميزانيات الحكومات، ولا يترك مساحة كافية للدول لتوفير الخدمات الأساسية والاستثمار في الناس والبنية التحتية.

graph 2

لذا، تسعى جورجييفا إلى نهج جديد لولايتها الجديدة الممتدة لخمس سنوات. لا بد من التخلي عن النموذج النيوليبرالي السابق للنمو والازدهار لصالح «نمو شامل» يهدف إلى تقليل الفوارق وليس مجرد تعزيز الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي. ولا بد أن تكون القضايا الرئيسة الآن: «الشمول والاستدامة والحوكمة العالمية، مع تركيز مرحب به على القضاء على الفقر والجوع».

لكن هل يمكن لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي حقاً تغيير أي شيء، حتى لو أرادت جورجييفا ذلك، حين تتحكم الولايات المتحدة وحلفاؤها في هذه المؤسسات؟ لم تتغيّر شروط الإقراض في صندوق النقد الدولي كثيراً. لربما حدث تخفيف بسيط لعبء الدين، أي إعادة هيكلة بعض القروض الحالية، لكن لم يحدث أن أُلغِيَت أي ديون. أما أسعار الفائدة على هذه القروض، فصندوق النقد الدولي يفرض في الواقع غرامات خفية إضافية على الدول الفقيرة جداً التي تعجز عن الوفاء بالتزامات سدادها! بعد تصاعد الاحتجاجات ضد هذه الغرامات، خفّض الصندوق هذه المعدلات مؤخراً من دون أن يلغيها، ما قلّل التكاليف على المدينين بمقدار لا يتجاوز 1.2 مليار دولار سنوياً.

كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كانت رئيسة صندوق النقد الدولي السابقة. ألقت خطاباً رئيساً مهماً في الربيع الماضي أمام مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في نيويورك. وتحدثت لاغارد بحنين عن فترة ما بعد التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي التي يُزعم أنّها كانت بداية فترة جديدة مزدهرة من الهيمنة العالمية للولايات المتحدة و«تحالف الراغبين». «في فترة ما بعد الحرب الباردة، استفاد العالم من بيئة جيوسياسية مواتية بشكل ملحوظ. في ظل القيادة الولايات المتحدة، ازدهرت المؤسسات الدولية القائمة على القواعد وتوسّعت التجارة العالمية. وقد عمّقَ ذلك سلاسل القيمة العالمية، ومع انضمام الصين إلى الاقتصاد العالمي، حدثت زيادة هائلة في معرض العمل العالمي».

وفي هذه الأيام ظهرت موجة العولمة التي شهدت ارتفاع التجارة وتدفقات رأس المال؛ وهيمنة مؤسسات بريتون وودز مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي كانت تفرض شروط الائتمان؛ وقبل كل شيء، التوقعات بأن تندرج الصين تحت الكتلة الإمبريالية بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2001.

لكن لم تَسِر الأمور كما هو متوقع. انتهت موجة العولمة على نحو مفاجئ بعد الركود العظيم، ولم تلتزم الصين بفتح اقتصادها أمام الشركات المتعددة الجنسيات الغربية. وقد أجبرت هذه الوضعية الولايات المتحدة على تغيير سياستها تجاه الصين من «الانخراط» إلى «الاحتواء»، مع تصاعد هذا الاتجاه باطراد في السنوات الأخيرة. ثم جاءت الإرادة المتجددة للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لتوسيع نفوذهما شرقاً، لضمان إفشال روسيا في محاولتها للسيطرة على الدول الحدودية وإضعاف روسيا مرة واحدة وإلى الأبد كقوة معارضة للكتلة الإمبريالية. وهذا تسبّب في غزو روسيا لأوكرانيا.

وهذا يقودنا إلى صعود مجموعة دول بريكس. وبريكس اختصار للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، الأعضاء الأصليين. والآن، في قازان، سوف يُعقَد أول اجتماع لمجموعة بريكس بلس بأعضائها الجدد: إيران ومصر وإثيوبيا والإمارات العربية المتحدة (وربما السعودية أيضاً).

يدور الكثير من الحديث المتفائل بين اليسار عن أنّ ظهور مجموعة بريكس سيغير ميزان القوى الاقتصادية والسياسية على مستوى العالم. الحق أنّ الدول الخمس الأعضاء في المجموعة تمتلك الآن ناتجاً محلياً إجمالياً مجتمعاً أكبر من ناتج مجموعة السبع من حيث تعادل القوة الشرائية (مقياس لما يمكن أن يشتريه الناتج المحلي الإجمالي محلياً من السلع والخدمات). وإذا أضفنا الأعضاء الجدد، تصبح الفجوة أكبر.

graph 3

لكن توجد بعض التحذيرات. أولاً، داخل مجموعة بريكس، الصين صاحبة الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة (17.6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، تليها الهند في المرتبة الثانية بفارق كبير (7%); بينما لا تتجاوز روسيا (3.1%) والبرازيل (2.4%) وجنوب أفريقيا (0.6%) معاً نسبة 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لذا، فهذه القوة الاقتصادية ليست متساوية داخل المجموعة. وحين نقيس الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد، فإنّ المجموعة تتخلف عن الركب. حتى عند استخدام الدولار الدولي المعدل بأسعار الشراء، يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة 80,035 دولاراً، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف نظيره في الصين الذي يبلغ 23,382 دولاراً.

graph 4

ستظل مجموعة بريكس بلس قوة اقتصادية أصغر بكثير وأضعف مقارنةً بكتلة مجموعة السبع الإمبريالية. علاوة على ذلك، تتمتع مجموعة بريكس بتنوع كبير من حيث السكان ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي والجغرافيا وتركيبتها التجارية. وغلب على النخب الحاكمة في هذه البلدان أن تكون في صراع مع بعضها البعض (الصين ضد الهند؛ البرازيل ضد روسيا؛ إيران ضد السعودية). وعلى عكس مجموعة الـسبع التي تتمتع بأهداف اقتصادية لا تني تتجانس تحت السيطرة القوية للولايات المتحدة، تفتقر مجموعة بريكس إلى توحيد الأهداف الاقتصادية – باستثناء ربما محاولة الابتعاد عن الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة، ولا سيما الدولار الأميركي.

حتى هذا الهدف سيكون من الصعب تحقيقه. كما أشرت في مقالات سابقة، على الرغم من التراجع النسبي في الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة على مستوى العالم وفي استخدام الدولار، لا يزال الأخير العملة الأهم للتجارة والاستثمار والاحتياطيات الوطنية. فنصف التجارة العالمية تُسعَّر بالدولار، ولم تتغير هذه النسبة بشكل كبير. كان الدولار الأميركي مشاركاً في حوالي 90% من المعاملات العالمية في سوق صرف العملات، ما يجعله العملة الأكثر تداولاً في هذا السوق. وقرابة نصف القروض العابرة للحدود، والسندات الدولية، وفواتير التجارة مُسجّلة بالدولار الأميركي، بينما يشكّل حوالي 40% من رسائل سويفت و60% من الاحتياطيات العالمية من العملات الأجنبية.

graph 5

يواصل اليوان الصيني تحقيق مكاسب تدريجية، فقد زادت حصة الرنمينبي في حجم التداول العالمي للعملات الأجنبية من أقل من 1% قبل عشرين عاماً إلى أكثر من 7% الآن. لكن لا تمثّل العملة الصينية سوى 3% من الاحتياطيات العالمية من العملات الأجنبية، مرتفعة من 1% في العام 2017. ولا تبدو الصين أنّها قد غيرت حصة الدولار في احتياطياتها في خلال السنوات العشر الماضية.

أشار جون روس إلى نقاط مشابهة في تحليله الممتاز عن «التخلي عن الدولار»، إذ قال: «باختصار، إنّ البلدان أو الشركات أو المؤسسات التي تشارك في التخلي عن الدولار إما تعاني أو تواجه خطر المعاناة من تكاليف ومخاطر كبيرة. في المقابل، لا توجد مكاسب فورية مكافئة من التخلي عن الدولار. لذلك، لن تُقدِم الغالبية العظمى من البلدان أو الشركات أو المؤسسات على التخلي عن الدولار ما لم تُجبَر على ذلك. وبالتالي، لا يمكن استبدال الدولار بصفته العملة الدولية من دون تغيير كامل في الوضع الدولي العالمي، بيد أنّ الظروف الدولية الموضوعية غير متوفرة لتحقيق هذا بعد».

علاوة على ذلك، فإنّ المؤسسات متعددة الأطراف التي من شأنها أن تشكِّل بديلاً عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي القائمين (المدعومين من الاقتصادات الإمبريالية) لا تزال صغيرة وضعيفة. على سبيل المثال، نجد بنك التنمية الجديد الخاص بمجموعة بريكس الذي أُسّس في العام 2015 في شنغهاي. يرأس البنك الرئيسة السابقة البرازيلية اليسارية ديلما. ويدور الكثير من الحديث عن أنّ بنك التنمية الجديد يمكن أن يقدّم بديلاً ائتمانياً يحل محل المؤسسات الإمبريالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن لا يزال أمامه طريق طويل لتحقيق ذلك. علّق أحد المسؤولين السابقين في البنك الاحتياطي الجنوب أفريقي قائلاً: «إنّ الفكرة القائلة بأنّ مبادرات البريكس، وأبرزها إلى الآن مبادرة بنك التنمية الجديد، ستحل محل المؤسسات المالية متعددة الأطراف التي تهيمن عليها الدول الغربية مجرد حلم بعيد».

وكما قال باتريك بوند مؤخراً: «يتضح التوجه المزدوج لمجموعة بريكس (الكلام اليساري والتصرف اليميني) في التمويل العالمي، لا في دعمها المالي القوي لصندوق النقد الدولي طوال فترة ما بعد 2010 فحسب، ولكن أيضاً في قرار بنك التنمية الجديد – البديل المفترض للبنك الدولي – بتجميد محفظته الروسية في أوائل آذار/مارس، لأنّه بخلاف ذلك، لم يكن ليحتفظ بتصنيف ائتماني غربي AA+». تملك روسيا 20% من أسهم بنك التنمية الجديد.

مجموعة البريكس تجمع متنوع من الدول، تتولى حكوماتها زمام الأمور بلا رؤية دولية واضحة، وهي قطعاً لا تقوم على مبدأ الأممية العمالية، إذ يقودها الكثير من الأنظمة الاستبدادية التي لا تُعطي العاملين أي صوت، أو حكومات لا تزال مرتبطة بشدة بمصالح الكتلة الإمبريالية.

 البريكس تجمّع متنوّع من الدول، تتولى حكوماتها زمام الأمور بلا رؤية دولية واضحة، ويقودها الكثير من الأنظمة الاستبدادية أو حكومات لا تزال مرتبطة بمصالح الكتلة الإمبريالية

لنعد إلى بريتون وودز ونبوءة روزفلت. يرى الكثير من الكينزيين العصريين اتفاق بريتون وودز واحداً من أعظم نجاحات السياسة الكينزية في تحقيق نوع من التعاون العالمي الذي يحتاجه الاقتصاد العالمي للخروج من كساده الحالي. المطلوب، كما ترى، أن تجتمع جميع الاقتصاديات الكبرى في العالم للعمل على صياغة اتفاق جديد بشأن التجارة والعملات، مع وضع قواعد تضمن أن تعمل جميع الدول من أجل المصلحة العالمية. وقد رأى اثنان من الكينزيين من الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة مؤخراً أنّ «نوعاً مختلفاً من الرؤية العالمية لم يكن أوضح من وضوحه اليوم. يظهر ذلك عند النظر إلى أي من مشكلات عصرنا، من المناخ إلى عدم المساواة إلى الإقصاء الاجتماعي... يتطلب تصميم إطار اقتصادي عالمي جديد حواراً على مستوى عالمي».

بالفعل، ولكن هل من الممكن حقاً في عالم تسيطر عليه كتلة إمبريالية يقودها نظام تغلب عليه الحمائية الاقتصادية والعسكرة (مع إمكانية وصول ترامب في الأفق) أن يقاومها مزيج فضفاض من الحكومات التي غالباً ما تستغل شعوبها وتقمعها؟ في هكذا وضع، تظل الآمال في نظام عالمي جديد منسّق في المال والتجارة والتمويل مستبعدة. لن يتحقق بريتون وودز جديد وعادل في القرن الحادي والعشرين – على العكس تماماً.

لنعد إلى تصريحات لاغارد: «أهم عامل يؤثر في استخدام العملات الدولية هو قوة الركائز». بمعنى آخر، من جهة، لدينا اتجاه الاقتصادات المتدهورة في الكتلة الإمبريالية التي تواجه نمواً بطيئاً وانكماشات على مدار بقية هذا العقد؛ ومن جهة أخرى، اتجاه التوسع المستمر في الصين وحتى الهند. يعني هذا أن الهيمنة العسكرية والمالية للولايات المتحدة وحلفائها قائمة على أرجل ضعيفة تتمثّل في ضعف الإنتاجية والاستثمار والربحية. وهذه وصفة لتفكك عالمي وصراعات متزايدة.

نُشِر هذا المقال في مدوّنة مايكل روبرتس في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة منه. 

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.