معاينة البريك

مجموعة البريكس وعدم الانحياز اليوم

لا ينفصل توسّع عضوية مجموعة البريكس عن توسّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) والأحلاف المشابهة له حول العالم. وإذا قرأت الجملة السابقة بطريقة سطحية من دون استيعاب ما تعنيه، عندئذٍ تبدو خاطئة: شتّان بين البريكس والناتو. فالناتو بشكله الجديد المعولم حلف تراتبي ومتجانس وعسكري. ومن هذه الصفات المذكورة، ما من صفة تنطبق على مجموعة البريكس: فهي ليست تراتبية، وأعضاؤها من توجهات مختلفة وبينهم في أحيانٍ كثيرة اختلافات سياسية، وأهدافها ليست عسكرية، وليست حلفاً إنّما مجرّد منظّمة. والحال أن اثنين من الدول الأعضاء الإحدى عشر في البريكس في صراع مع الغرب، سواء بشكل  مباشر أو غير مباشر، بيد أن هذا لا ينطبق على باقي الأعضاء. والبريكس ليست قوّة مقابلة للغرب أو الناتو. إلّا أنها تكبر استجابةً لعولمة الناتو. لماذا؟ لأنها المكان الوحيد حيث الأممُ غير الراغبة في المشاركة بالحرب الباردة الجديدة، أو حتّى بحرب ساخنة بين القوى العظمى، يمكنها «اللجوء» لتتجنّب خيار الاصطفاف مع أحد الأطراف.

شتّان بين البريكس والناتو. فالناتو بشكله الجديد المعولم حلف تراتبي ومتجانس وعسكري. ومن هذه الصفات المذكورة، ما من صفة تنطبق على مجموعة البريكسومن الجهالة بماهية البريكس أن يبحث المرء عن قواسم مشتركة بين أعضائها وعند عدم عثوره على أي منها ينبذها. والحال أن البحث عن القواسم المشتركة أمر منطقي في بعض الأحيان، ولكن ليس دائماً. دعونا نستعرض بعض السوابق التاريخية. يمكننا أن نفكّر في المنظّمات السياسية الدولية بصيغة إيجابية، أي أنها دول تجتمع لإيمانها بمجموعة من الأمور المشتركة (قد تدعوها قيماً). حين أسّس النازيون حلف مناهضة الكومنترن (الحلف الثلاثي)، آمنت الدول الأعضاء الممتدّة على قارتين بالقومية ومحاربة الشيوعية؛ وحين تأسّس حلف شمال الأطلسي في العام 1949، آمنت الدول الأعضاء بالديمقراطية واحتواء الاتحاد السوفياتي؛ وحين تأسّس حلف وارسو في العام 1955، آمنت الدول الأعضاء بنشر الشيوعية، أو على الأقل بالدفاع عنها حيث كانت تحكم آنذاك.

ولكن حين تشكّلت حركة عدم الانحياز في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات (انتبه إلى التواريخ!)، أو مجموعة الـ 77 في وقت لاحق، لم يكن لدى الأعضاء أجندة إيجابية مماثلة لما ذكرته للتو. بل كانت أجندتهم سلبية: لم يرغبوا في الاختيار بين أحد الجانبين في الحرب الباردة بين الغرب والشرق. لقد أرادوا البقاء بعيدين منها. عجز الكثيرون عن فهم منطق عدم الانحياز، وذلك على وجه التحديد لأنهم لم يستوعبوا أنه من الممكن إنشاء منظّمة تتألّف من بلدان غير متجانسة قد تختلف حول العديد من القضايا، ولكنها تجد أنه من المفيد، لأسباب جيوسياسية، أن تجتمع معاً في إطار فضفاض. لم تَرُق حركة عدم الانحياز للاتحاد السوفياتي ولا الولايات المتّحدة. فقد اعتقد السوفيات أنها غير ضرورية لكونه «الحليف الطبيعي» للعالم الثالث وحركات التحرّر من الاستعمار، وبدلاً من التجمّع في منظّمة جديدة، يجب على دول العالم الثالث ببساطة دعم الكتلة السوفياتية. ورأت الولايات المتّحدة في عدم الانحياز ما يرقى إلى الخيانة: مجموعة دول تساوي بين الديمقراطية والطغيان. بالكاد يخفي جون لويس غاديس، المؤرِّخ الأميركي للحرب الباردة، ازدراءه للحركة، وحين يتنازل ليلاحظها، يشير إليها بقوله «ما يسمى بحركة ”عدم الانحياز“».

ومع انتهاء الحرب الباردة انتهت الحركة. وهذا يبيّن دورها الحقيقي: أن تكون منطقة عازلة أثناء المواجهة العالمية بين الولايات المتّحدة والاتحاد السوفياتي، وأن تقلّل من احتمالات تحوّل أعضائها إلى ساحة حرب بالوكالة. وبمجرد انتهاء تلك المواجهة، لم يعد من مجال لعدم الانحياز. ولم يعد من الواضح ما الذي لا ينحاز إليه الأعضاء.

لم تَرُق حركة عدم الانحياز للاتحاد السوفياتي ولا الولايات المتّحدة. فقد اعتقد السوفيات أنها غير ضرورية لكونه «الحليف الطبيعي» للعالم الثالث وحركات التحرّر من الاستعمار، ورأت الولايات المتّحدة في عدم الانحياز ما يرقى إلى الخيانةلكن اليوم، وقد أخذت تتضح معالم حرب باردة جديدة، كان من الطبيعي أن تظهر مجدّداً الحاجة إلى منظّمة تضمّ البلدان غير الراغبة في المشاركة فيها (وتشمل، على نحو غير متناسب إلى حدّ ما، ولأسباب تاريخية، البلدان التي تخوض حرباً أو صراعاً مع حلف شمال الأطلسي والغرب، وتحديداً روسيا والصين). ويرفض العديد من المعلّقين مجموعة البريكس الجديدة لأنهم يكرهون فكرة اجتماع دول العالم الثالث سابقاً ممن ارتفعت أهمّيتها الاقتصادية. ويخشى هؤلاء أن يتحدّى التجمعُ التفوقَ الغربي في بعض المجالات الاقتصادية مثل التخلّص من الدولار أو تمويل البنية التحتية الدولية. والبعض الآخر، كما ذكرت، يعتقد عن خطأ أن أي تجمّع يجب أن يقوم على بعض الأفكار والقيم والمصالح المشتركة، أو على الضغوط من قوة مهيمِنة. ولمّا لم يجدوا أياً من تلك الأربعة بين دول البريكس، لم يتقبَّلوا المنظّمة. والحال أنه إذا زادت القواسم المشتركة بين دول البريكس، فسوف تكون أقوى. لكنها لا تعمل على ذلك، ولا يمكنها –لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية مختلفة. بيد أنه لا يمكن تجاهل أو الاستخفاف بحقيقة أن عدداً متزايداً من الدول يرغب في الانضمام إلى مجموعة البريكس. كما أن رفض المجموعة المشاركة في التجارة العالمية الجديدة أو الحروب بالوكالة أو الحروب الفعلية قد يقلّل من احتمالية نشوب مثل هذه الحروب. وقد يساعد النفوذ الاقتصادي للمجموعة في الحدّ من الاختلالات الاقتصادية الصارخة بين الدول الغنية والمتوسطة الدخل والفقيرة في جميع أنحاء العالم.

نُشِر المقال على مدوّنة الكاتب في 25 آب/أغسطس 2023.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.