Preview سيارات ومدن

سيَّارات ومدن

  • من الواضح أن التغييرات التكنولوجية التي تؤثِّر في الإنتاج والاستهلاك، تنطوي على تبدّلات جوهرية في أنماط الاستهلاك عند الجماهير العمّالية، وعلى عواقب بعيدة المدى على عل النظام الرأسمالي، وقد لحقت بالعواصم الإمبريالية المتقدّمة للنظام الرأسمالي العالمي. والمسألة المطروحة هنا يمكن لنا تسميتها بالاقتصاد السياسي للسيّارة
  • لم يكن من الممكن إزالة الفوارق القديمة بين المدينة والريف والضاحية - يشار إليها غالباً بالتمدّد العمراني - لولا السيّارة التي، مع شبكة الطرق والأوتوسترادات السريعة المُكمّلة لها، قدّمت ما يمكن تسميته بعامل التنقّل المُعمّم الذي حلّ محل أنماط التنقّل السابقة المحدودة والمُحدّدة

للمدن، في نهاية المطاف، الكثير من القواسم المشتركة مع السيَّارات. في الواقع، تبدو وكأنّها تتحوَّل شيئاً فشيئاً إلى سيّارات. تكمن ألغاز عميقة هنا، ولا يمكن لضحالة الفهم البشري اختراقها. بطريقة ما، نحن لا نعلم كيف تتداخل الأشياء. 

راسل بايكر، نيويورك تايمز، 8 آذار/مارس 1973

 

ركّزت معالجة التكنولوجيا، في النظرية الماركسية، بشكل عام على الإنتاج ووسائل الإنتاج وطابع عملية العمل والمسائل ذات الصلة. وهذه المعالجة تسير على خطا ما قدّمه ماركس نفسه في فصله الشهير عن الآلات والصناعة الحديثة في المجلّد الأوّل من «رأس المال» في القسم المُخصّص لإنتاج فائض القيمة النسبي. ولا يرد في هذا الفصل ولا في أي مكان آخر في «رأس المال» أي نقاش أو تحليل لأثر التكنولوجيا في الاستهلاك، وأثرها من خلال الاستهلاك في عمليّات تراكم رأس المال والتطوّر الاجتماعي.

ولا يعود السبب إلى استبعاد ماركس أي دور للاستهلاك في العملية الرأسمالية. بل على العكس، نجده يكتب في المقدّمة الشهيرة من «نقد الاقتصاد السياسي»:

«إن إنتاجاً مُحدّداً إذاً يُحدِّد استهلاكاً وتوزيعاً وتبادلاً مُحدَّداً، بالإضافة إلى تحديده علاقة معيّنة بين هذه اللحظات المختلفة. ولا بدّ من الاعتراف بأن الإنتاج بشكله الأحادي الجانب يتحدَّد باللحظات الأخرى. فمثلاً إذا توسّعت السوق، أي دائرة التبادل، ينمو الإنتاج كمّاً ويتعمّق تقسيم العمل بين فروعه المختلفة».نشر كاوتسكي هذه المقدمة للمرّة الأولى في العام 1930 ولا يجب الخلط بينها وبين مقدّمة «نقد الاقتصاد السياسي» المنشور في العام 1859. إنها مقدّمة الغروندريسة «أسس نقد الاقتصاد السياسي» التي لم تنشر كاملة إلّا في العام 1939. وهذا الاقتباس من طبعة ألمانيا الشرقية لعام 1953، ص 20.

يتّضح من هذه الفقرة ومن مقاطع أخرى من المقدّمة أن ماركس رأى الإنتاج والاستهلاك جوانبَ مترابطة جدلياً لعملية واحدة مُعقّدة. وكما في كلّ الحالات المماثلة، يمكن – وليس بالضرورة – من حيث المبدأ، لأي تغيير بدأ في أي جزءٍ كان أن يتشعّب في الكلّ، مُحرِّكاً بذلك سلاسل تغيير محدودة أو تراكميّة. قدّم ماركس وصفاً كلاسيكياً وتحليلاً لسلسلة التغيير التراكميّة داخل عملية الإنتاج في مقطعٍ جميلٍ يستهلّه بأن «التغيير الجذري في نمط الإنتاج في أحد مجالات الصناعة ينطوي على تغيير مماثل في مجالات أخرى».رأس المال، المجلّد الأول، ص. 418-422.

شهدت عشرينيات القرن الماضي بداية سيرورة تراكمية شديدة التعقيد، وبلغت ذروتها في ما أصبح معروفاً راهناً بـ«الأزمة الحضرية». وشكّل خفض سعر السيّارة وتوسيع شبكة الطرقات والأوتوسترادات قوى الدفع الأساسية والمحفِّزة لهذه السيرورةوحقيقة أن ماركس لم يأتِ على تحليل سلسلة كهذه تنطوي على الإنتاج والاستهلاك معاً، لا تنبع من رفضه الاعتراف بإمكانية وجودها، أو حتى بأنّها موجودة بالفعل. إذ يكتب في معرض مناقشته عواقب الآلات:

«إن النتيجة المباشرة لاستخدام الآلات تنحصر في أنها تزيد فائض القيمة وتزيد معه كتلة المنتوجات التي يتمثّل فيها فائض القيمة هذا؛ إذن، فهي تنحصر في أن الآلات تزيد ذلك الجوهر المادي الذي تستهلكه طبقة الرأسماليين وأتباعها، مثلما تزيد حجم هذه الشرائح الاجتماعية نفسها. وإن تنامي ثروة هذه الشرائح والتضاؤل النسبي لعدد العمّال اللازمين لإنتاج وسائل العيش الضرورية يخلقان حاجات جديدة إلى مواد الترف، سويّة مع وسائل جديدة لإشباعها. وبذلك يتحوّل قسم متعاظم من المنتوج الاجتماعي إلى منتوج فائض ويُصار إلى إعادة إنتاج واستهلاك قسم متعاظم من المنتوج الفائض بأشكال مُترفة بالغة التنوّع. وبتعبيرٍ آخر: يزداد إنتاج مواد الترف».كارل ماركس، تر. فالح عبد الجبار، رأس المال - المجلد الأول، (بيروت: دار الفارابي، 2013)، صـ550. (م)

يُظهِر هذا المثال بوضوح التفاعل بين الإنتاج والاستهلاك الناتج عن التغيّر التكنولوجي، وهو بحسب بعض وجهات النظر أبعد ما يكون من كونه عديم الأهمّية. ولعل السبب في أن ماركس عرَّجَ على هذه المسألة من دون التعمّق في تحليلها، كما فعل عند تحليله تأثير الآلات في عمليّة الإنتاج نفسها، أنّه عدَّ تأثيرها مُقتصِراً على أنماط استهلاك طبقة الرأسماليين وأتباعها. وفيما يتعلّق بالطبقة العاملة، فقد رأى في الاستخدام الرأسمالي للآلات عواقبَ كارثية، فقد دمَّرَ الحرفيين، وخفَّض أجور عمّال المصانع من خلال تبسيط عملهم، ومهَّد الطريق أمام التوظيف الجماعي للنساء والأطفال. وبالمقارنة، فإن مسألة تحفيز استهلاك مواد الترف من جانب الطبقة الرأسمالية كانت ذات أهمّية ثانوية ومن المُمكن، لا بل من الواجب التجرّد منها، من أجل دراسة النظام الرأسمالي وطريقة اشتغاله.

لكن بعد مرور قرن على نشر المُجلّد الأوّل من رأس المال بات من الواضح أن التغييرات التكنولوجية التي تؤثِّر في الإنتاج والاستهلاك، تنطوي على تبدّلات جوهرية في أنماط الاستهلاك عند الجماهير العمّالية، وعلى عواقب بعيدة المدى على عمل النظام الرأسمالي، قد لحقت بالعواصم الإمبريالية المتقدّمة للنظام الرأسمالي العالمي.في هذه الملاحظات أستند حصراً إلى تجربتي الشخصية والمعرفة المُكتسبة عن الظروف في الولايات المتّحدة. ولكن أعتقد أن ما يقال ينطبق في المقام الأول على المراكز الإمبرياليّة الأخرى في أوروبا الغربيّة واليابان. إن المسألة المطروحة هنا يمكن لنا تسميتها بالاقتصاد السياسي للسيّارة، وهي -على حدّ علمي- لم تخضع البتّة لتحليل جدّي في الأدبيّات الماركسية. 

في البداية، أحيطت السيارة بالفضول، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى مادة ترف دخلت في استهلاك الطبقة العليا. كتب لويس ممفورد: «ما دام عدد السيّارات قليلاً، فكلّ من امتلك سيّارة بات ملكاً، إذ كان بإمكانه الذهاب إلى حيث يشاء والتوقّف أينما يشاء، وقد بدت هذه الآلة بحدّ ذاتها أداةً تعويضيّة لتضخيم الأنا بعدما تقلّصت بفعل نجاحنا في المكننة».Quoted in William V. Shannon, “The Untrustworthy Highway Fund,” The New York Times Magazine (October 15, 1972), p. 121. وهذا بوضوح ما كان عليه الحال في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى: في العام 1910، وُجِدَت سيّارة واحدة لكلّ 19 ألف شخص في الولايات المتّحدة.ما لم يذكر خلاف ذلك، جميع الأرقام من الملخّص الإحصائي للولايات المتّحدة في أعوام مختلفة. ولكن، في خلال العقد التالي، بدأت السيّارة تدخل نطاق الاستهلاك الشعبي، وانخفض معدّل الأفراد إلى السيّارات بسرعة من 11 إلى 1 بحلول العام 1920. ومن جهة التكنولوجيا والإنتاج، كان العامل الحاسم هنا إصدارَ هنري فورد نموذج «تي فورد» المنخفض الكلفة والمنطوي على (في آنٍ معاً كسبب ونتيجة) تقنيّات تخفّض الكلفة مثل خطّ التجميع والقطع القابلة للتبديل.

إن العدد الموجود على الطرق، والموزّع في معظمه من خلال سوق السيّارات المُستعملة، ازداد بشكل تراكمي إلى نحو 90 مليون سيّارة بحلول العام 1970؛ فالضغط على الطرق السريعة يتولّد من العدد الإجمالي للمركبات لا المبيعات الجديدةمنذ العام 1920، شهد معدّل الأشخاص لكلّ سيارة مزيداً من الانخفاض، وبلغ 4.5 في العام 1930، 4.1 في العام 1940، 3.1 في العام 1950، 2.4 في العام 1960، وصولاً إلى 1.9 في العام 1970. بعبارة أخرى، حالياً يفوق عدد السيّارات عدد الأشخاص بمقدار النصف في الولايات المتّحدة. وأصبحت السيّارة سلعة استهلاك جماهيرية بكلّ ما للكلمة من معنى. وقد ألحقت في سياق هذه العملية تغييرات عميقة في الوجود الاجتماعي لجميع طبقات المجتمع وشرائحه.

وأوضح تجلّيات هذه العملية – أشرنا إليه، الراحل بول باران وأنا، بمجتمع السيّاراتMonopoly Capital (Monthly Review Press, 1966), p. 241 and passim – الازدحام المروري والتلوّث، وهي أيضاً التأثيرات التي ساهمت في تركيز الاهتمام العام على الآثار الاجتماعية والبيئية لكثرة السيّارات في المجتمع. إلّا أن ظاهرتي الازدحام المروري والتلوّث سطحيّتان بالأساس، فهما أشبه بالأعراض الخارجية لمرض مُتجذّر في أعضاء الجسد. وإذا أردنا التعامل مع هذا المرض، فعلينا تجاوز الأعراض ودرس مُسبِّباته. في هذه الحالة، ما نحتاجه أوّلاً وقبل كلّ شيء هو فهم كيف أن السيّارة، في طور تحوِّلها إلى سلعة استهلاكية جماهيرية، أثّرت في جغرافيا البلد وديموغرافيّته وحوّلتهما في آخر المطاف.

قبل عصر السيارات، كان بين المدينة والريف انفصال مادي واضح. كانت المدينة مساحة مبنيّة ومُحدّدة يقع خارجها الريف. كان على مَن يعمل في المدينة ويعيش خارجها الاعتماد على السكك الحديدية للدخول إلى المدينة والخروج منها. ومع اقتصار السكك الحديدية على تقديم خدمة النقل من محطّة إلى أخرى وصعوبة الوصول إليها إلّا من مسافات قصيرة نسبياً على جانبيْ السكّة، كانت المساحات المُتاحة للضواحي السكنية محدودة للغاية، وغالباً يسكنها ذوي الدخل المرتفع ومن يعمل في خدمتهم، ما أتاح لفئة ضئيلة من الطبقة البرجوازية التمتّع بمزايا العيش في الريف بالقرب من المراكز الحضرية.نشأت في ضاحية من هذا النوع. قبل سنوات عدّة من الحرب العالمية الأولى، انتقلت عائلتي من نيويورك إلى ضاحية عبر نهر هدسون في نيوجيرسي. كان منزلنا على بعد ميل تقريباً في اتجاه واحد من المدينة ومحطّة القطار، وعلى بعد مسافة مُماثلة للمسافة التي يسكنها الذين كانوا يتنقّلون. وفي الاتجاه الآخر، كان بين بيتنا والنهر (الذي لا يمكن عبوره إلّا بالعبّارة في تلك الأيام، باستثناء المترو الذي يسير تحت الماء بين مانهاتن ونيوارك/ مدينة جيرسي) أكثر من ميل من الغابات البرّية التي لم تمَس. ولكن انتشار السيّارات وبناء جسر جورج واشنطن فوق نهر هدسون حوّل المنطقة بالكامل وغيَّر علاقتها بالمدينة وفق ما ورد في النص.

لم يغيّر انتشار السيّارة على هذا النحو كثيراً. في السنوات الأولى، كانت السيّارات باهظة الثمن وغير موثوقة، لذا لم يتمكّن إلّا ميسوري الحال من تحمّل كلفة شرائها وصيانتها. بالإضافة إلى ذلك، كانت الطرقات، باستثناء طرقات المدن والقرى، قليلة وبحالٍ سيّئة. في ظلّ هذه الظروف، ومن زاوية الضواحي، أتت السيارات مُكمّلة للأنماط الموجودة أصلاً بدلاً من أن تغيّرها. فهذه السيّارات المملوكة من الركّاب أصحاب الدخل المرتفع، وغالباً يقودها السائق الخاص (وهو يقوم بدور الميكانيكي والسائق في آنٍ معاً في وقتٍ كانت فيه محطّات التصليح غير موجودة)، زادت المساحات والضواحي التي يمكن للركّاب الإقامة فيها، لكنها لم تدخل أي عنصر جديد في المعادلة. شهدت عشرينيات القرن الماضي بداية سيرورة تراكمية شديدة التعقيد، وبلغت ذروتها في ما أصبح معروفاً راهناً بـ«الأزمة الحضرية». وشكّل خفض سعر السيّارة وتوسيع شبكة الطرقات والأوتوسترادات قوى الدفع الأساسية والمحفِّزة لهذه السيرورة.

فيما يتعلّق بالإنتاج، يقدِّم تطوير السيّارات وصناعتها تصويراً كلاسيكياً لقوانين التراكم الرأسمالي. اقتصرت صناعة السيّارة، في الأصل، على مئات الورش الصغيرة التي كانت مُخصّصة سابقاً لصناعة العربات وتستخدم أساليب الحرف اليدوية بشكل أساسي، لكن سرعان ما أصبحت مُمكننة ومُركّزة في عدد قليل من الشركات الكبيرة. في طور هذه العمليّة، تمّ ابتداع تقنيّات جديدة، وسوِّغت أشكال واستراتيجيات جديدة للتنظيم والإدارة. أمّا شركة «فورد»، الخاضعة للسيطرة الحصرية لهنري فورد الأب، فقد شكّلت المثال الأمثل لما أسماه ماركس «تركّز رأس المال»، إذ توسّعت بالكامل من خلال استثمار أرباحها الخاصّة. من جهة أخرى، تعبّر «جنرال موتورز» أيضاً عن مركزة رأس المال بالمعنى الماركسي، أي الجمع بين عدد من الشركات الُمنفصلة في شركة واحدة، وهو نمط تتبعه أيضاً «كرايسلر» و«أميركان موتورز»، وهما الشركتان الأميركيتان اللتان حافظتا على وجود الشركات الأميركية في صناعة السيّارات. في خلال المرحلة التنافسية الشرسة من تطوُّر القطاع وصولاً إلى أوائل عشرينيات القرن الماضي، انخفضت الأسعار بالتوازي مع التكاليف. على سبيل المثال، عندما أطلِق طراز «تي فورد» في العام 1908، كان سعرها ألف دولار، وبحلول العام 1924، انخفض السعر إلى ما دون 300 دولار، أي بأكثر من 70%.David S. Landes, The Unbound Prometheus: Technological Change and Industrial Development in Western Europe from 1750 to the Present (Cambridge University Press, 1969), p. 442. وفي خلال الفترة نفسها، ارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي بالأسعار الجارية بأكثر من الضعف (من نحو 300 دولار في العام 1908 إلى 660 دولاراً في العام 1924).حُسِب هذا الرقم بالاستناد إلى: Historical Statistics of the United States Colonial Times to 1957 (U.S. Government Printing Office, 2nd Printing, 1961), pp. 7, 139.، 139. الرقم لعام 1908 لا يمكن مقارنته مع رقم العام 1924 لأن رقم الدخل القومي في تلك السنة كان متوسّط السنوات 1907-1911. والنتيجة الواضحة لهذه التغييرات تمثّلت في فتح سوقٍ جديدة وواسعة للسيّارات في خلال عقد ونيف: بلغ العدد الإجمالي لسيّارات الركّاب المُسجّلة في العام 1910 نحو نصف مليون، وارتفع هذا العدد بنحو أربعين ضعفاً ووصل إلى عشرين مليون في العام 1925.المرجع السابق، ص. 462.

في بعض الأحيان والأماكن، فاقت حركة المرور القدرة الاستيعابيّة للطرقات المُتاحة، ما شكّل اختناقات مرورية وكثّف الضغوط على السلطات؛ وفي أوقاتٍ وأماكن أخرى، تجاوز البناء نموّ حركة المرور قبل أن تعود الحركة وتتجاوز البناء من خلال مزيد من السيَّارات والازدحاماتلولا التوسيع الهائل لشبكة الطرق ما كان لهذه السيّارات أي مكانٍ تذهب إليه. كمؤشّر تقريبي لما كان يحدث هنا، ازدادت أميال الطرق المُعبّدة بنسبة 81% بين العامين 1910 و1920، وبنسبة 88% بين العامين 1920 و1930، و97% بين العامين 1930 و1940.المرجع السابق، ص. 458. خُفِّضَت الزيادة إلى 42% في عقد الأربعينيّات بسبب تقليص كبير في البناء الجديد في خلال الحرب العالمية الثانية، ولا يبدو أن الأرقام المقارنة مُتاحة لعامي 1960 و1970. وفي الوقت نفسه، تمّ بالطبع تحسين الجودة والقدرة الاستيعابيّة للطرقات بشكلٍ كبير. في السنوات الأخيرة، زادت سعة شبكة الطرق السريعة من خلال تطوير الطرق القائمة أو إنشاء طرق سريعة مُتعدّدة المسارب موازية للطرق الحالية أو محلها.

لا يجب الافتراض أن كلّ هذا حدث بعملية سلسة ومستمرّة. بالطبع شكَّلت ضخامة الإنتاج وبيع السيّارات الجديدة القوّة الديناميكية المُهيمنة، بحيث ارتفع عددها من زهاء مليوني سيارة في العام 1920 إلى 8 ملايين أو أكثر في السنوات القليلة الماضية (من دون الشاحنات والحافلات والواردات). ولكن نظراً لأن السيّارات تعمّر لمدة تصل إلى عشر سنوات أو أكثر، فإن العدد الموجود على الطرق، والموزّع في معظمه من خلال سوق السيّارات المُستعملة، ازداد بشكل تراكمي إلى نحو 90 مليون سيّارة بحلول العام 1970؛ فالضغط على الطرق السريعة يتولّد من العدد الإجمالي للمركبات لا المبيعات الجديدة. كان أثر هذا الضغط متفاوتاً وقد تمّت الاستجابة له من مختلف الوحدات الحكوميّة على المستوى المحلّي والولايات والفيدرالي بتفاوتٍ أيضاً. ففي بعض الأحيان والأماكن، فاقت حركة المرور القدرة الاستيعابيّة للطرقات المُتاحة، ما شكّل اختناقات مرورية وكثّف الضغوط على السلطات؛ وفي أوقاتٍ وأماكن أخرى، تجاوز البناء نموّ حركة المرور قبل أن تعود الحركة وتتجاوز البناء من خلال مزيد من السيَّارات والازدحامات.

إن السرد السابق للتفاعل بين السيّارات والطرق وصفيٌ بطبيعته ويعجز عن الإحاطة بالقوّة الهائلة للقوى الاقتصادية التي دفعت بهذه العمليّة إلى الأمام، لا سيّما في خلال السنوات الـ25 الماضية، منذ تعافي صناعة السيّارات من الإغلاق شبه التامّ الذي فُرِض عليها في خلال الحرب العالمية الثانية. إن المصالح الخاصّة التي تتجمّع حول السيّارة وتعتمد عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من أجل ازدهارها هي من الناحية الكمّية أكثر تعداداً وثراءً من المصالح المرتبطة بأي منتج آخر أو مجموعة أخرى من السلع في الاقتصاد الأميركي. وهنا ملخصٌ سريعٌ:

  • قطاع صناعة السيّارات بحدّ ذاته. المراتب الأولى والثالثة والسابعة في قائمة فورتشن للشركات الـ500 الأعلى إيراداً تحتلّها شركات مُنتجة للسيّارات، والقطاع بأسره هو القطاع الأكثر ربحيّة في الاقتصاد.أظهر تصنيف للصناعات التحويلية في الولايات المتّحدة، بحسب متوسّط معدّل العائد على رأس المال لمدّة عشر سنوات (في الفترة من 1949 إلى 1958)، احتلال صناعة المركبات والأجزاء المرتبة الأولى بنسبة 28.2%، في حين أن عائد الصناعة المُصنّفة في المرتبة الثانية يصل إلى 23.2%. B. C. Minhas, An International Comparison of Factor Costs and Factor Use (Department of Economics, Stanford University, 1960), p. 80.
  • تعتمد الصناعات التحويلية إلى حدّ كبير على السيّارات. ثلاث شركات من ضمن أكبر عشر شركات على قائمة فورتشن (المراتب 2 و6 و8) هي شركات نفطية. ووفقاً لأحد الباحثين، فإن 22 من بين الشركات الـ50 الأكبر (بما فيها شركات السيّارات والنفط المذكورة سابقاً) «تستمدّ الجزء الأكبر من إيراداتها من السيّارات والطرق السريعة».John Jerome, The Death of the Automobile (New York: W. W. Norton, 1972), p. 112. يعكس عنوان كتاب جيروم التفكير بالتمني أكثر من الحقيقة الحالية أو المرتقبة.
  • تعتمد الصناعات الخدمية بشكل كبير على السيّارات. ونتحدّث هنا عن وكلاء السيّارات وتجّار السيّارات بالجملة وقطع الغيار ومحطّات البنزين وجميع أنواع مرافق التصليح والصيانة. في العام 1967، انضوى زهاء نصف مليون منشأة تحت هذه الفئات التي تستخدم أكثر من مليوني موظّف. إذا افترضنا أن المالكين يعملون في معظم الحالات، فيمكننا أن نستنتج أن ما يزيد عن 3% من مجمل القوى العاملة تعمل في الصيانة المباشرة للسيّارات. ولا يأخذ هذا الرقم في الحسبان فئات التوظيف الأخرى، من قبيل موظّفي الفنادق والمنتجعات، المعتمدة على السيّارات بالقدر نفسه، وإن كان بشكل غير مباشر.

إن المصالح الخاصّة التي تتجمّع حول السيّارة وتعتمد عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من أجل ازدهارها هي من الناحية الكمّية أكثر تعداداً وثراءً من المصالح المرتبطة بأي منتج آخر أو مجموعة أخرى من السلع في الاقتصاد الأميركي

  • مستخدمو الطرق السريعة لأهدافٍ ربحيّة. بعد عملية مركّزةٍ سريعة، بلغ عدد شركات النقل بالشاحنات بين المدن نحو 1250 شركة في العام 1968، وكانت توظّف نحو نصف مليون عامل وتنقل 20% من الشحن لمسافات طويلة في البلاد. في الوقت نفسه، يتركّز اتحاد «تيمسترز»، وهو الاتحاد الأكبر في البلد ويضمّ أكثر من مليون و700 ألف عضو، في مجالات النقل بالشاحنات والتخزين. بالإضافة طبعاً إلى كون معظم الشركات الكبرى تمتلك أساطيلها الخاصّة من الشاحنات. كما يوجد أنواعٌ أخرى من مستخدمي الطرق السريعة التجاريّة مثل الحافلات (داخل المدن وبينها) وسيّارات الأجرة.
  • بناة الطرق السريعة، بما في ذلك قسم كبير من قطاع البناء (نحو 11% من مجمل القيمة المُضافة لعام 1968) وعدد كبير (نحو 600 ألف في العام 1969) من العاملين الحكوميين (الفدرالي، والمركزي والمحلّي) المستخدمين في تخطيط الطرق السريعة والإشراف عليها وصيانتها وإصلاحها.
  • أخيراً وليس آخراً، هناك جماهير تقود السيّارات (في العام 1968 كان هناك نحو 101 مليون سيّارة مٌسجّلة من جميع الأنواع و105 ملايين سائق مُرخَّص). ومع أن مشكلات الازدحام والتلوّث المتزايدة على نحو خطير تدفع بالعديد من سائقي البلاد إلى إعادة النظر بقيادة السيّارات، فإنّه في خلال فترة انتشار السيّارات من العام 1910 حتى الستينيات، شعروا بشكلٍ أو بآخر بأنّهم مقيّدين، ومُحبطين، بشبكة طرق وأوتوسترادات سريعة رديئة. لذلك منحوا تأييدهم السياسي بحماسة بالغة لتشييد الطرق، التي بلغت ذروتها مع إطلاق الحكومة الفيدرالية، في العام 1956، لنظام الطرق السريعة بين الولايات والبالغ كلفته مليارات الدولارات، مدعوماً بجهاز «الصندوق الاستئماني للطرق السريعة» الذي كَفل استخدام جميع الضرائب الفدرالية من المركبات والبنزين والمعدات ذات الصلة، في بناء شبكة واسعة من الطرق السريعة.يوضح المقطع التالي من دراسة جون جيروم، المذكورة آنفاً، التغيير في موقف الرأي العام تجاه بناء الطرق اليوم. يشير إلى أنه في العام 1956، افتخر بناة الطرق بعملهم: «كيف عُرضت الإصدارات الصحفية! أربعمائة ميل مربّع من الرصيف! مليون ونصف فدان من حقّ المرور الجديد! حفريات لدفن كونيتيكت حتى الركبة. رمال وحصى وحجارة من أجل بناء جدار حول العالم بعرض 50 قدماً وارتفاع 9 أقدام. كمية إسمنت كافية لستة أرصفة حتى القمر…». لكن بحلول العام 1971، أوقفت الدعاوى القضائية المحلّية أو إجراءات الحكومة المحلّية بناء مشروعات الطرق السريعة في 15 مدينة أميركيّة كبرى... أصبح من المستحيل تقريباً قبول طريق سريع جديد في أي منطقة حضريّة، وكان العديد من أجزاء الخطّة الريفيّة في خطر.... وتعبّر بيانات «مكتب الطرقات» الصحفية عن التغيير الكبير في المزاج الأميركي. عندما بدأ تنفيذ الطريق السريع، كان استهلاك مليون ونصف فدان من حقّ المرور أو أربعمئة ميل مربع من الغابات مادة جيّدة للتفاخر. أمّا الآن فقد أصبح الاعتراف بذلك أمراً مُخجلاً»، المرجع السابق ـ ص 104-106. هذا التغيير في موقف الرأي العام ينبئ بلا شك بتغييرات مهمّة أخرى في المستقبل. لكن هذا الموضوع يقع خارج نطاق هذا النص.

إن هذا التعداد البسيط للمكوّنات الأساسية لما يمكن تسميته بـ«مجمّع صناعة السيّارات»، يمكن وينبغي له، في أي دراسة مُتعمِّقة، أن يُستكمل بتحليل لبنيّته وطريقة عمله. ويكفي هنا أن نلحظ أن هذه المصالح المختلفة يمثّلها عدد كبير من الجمعيّات التجارية والمنظّمات الأخرى المموَّلة بمعظمها والمزوّدة بالموظّفين والناشطة طول الوقت على جميع المستويات الحكومية وميدان البروباغندا وتكوين الرأي. وعلى حدّ تعبير جيروم «إن سرعة العمل والتملّق والإكراه، تبادل المعروف وتحصيل الديون السياسية، تتمّ من خلال شبكة واسعة ومُتشابكة من الجمعيّات وجماعات الضغط».المرجع السابق، ص 113. كما هو متوقَّع، بعبارة أخرى، فإن سلطة مجمع صناعة السيّارات وثروته الاقتصادية الهائلة، قد تمّت تعبئتهما بفعالية وحملهما على التأثير على المستويين السياسي والأيديولوجي.

دعونا ننتقل الآن إلى أثر الاستخدام الكثيف للسيّارات في تطوّر المدن وأنماط عيش سكّانها. والأمر الحاسم في هذا الصدد كان محو خطّ الفصل الحادّ والقديم بين المدينة والريف. قمّ بالقيادة من وسط أي مدينة أميركيّة في أيّ اتجاه كان، وسوف تصل طبعاً إلى الريف المفتوح. لكنّك لن تعبر أبداً حدوداً مُرسّمة وتفصل بوضوح أحدهما عن الآخر، بل سوف تشاهد انخفاضاً تدريجياً في كثافة الإسكان. لقد ابتُلِعت ضاحية الركّاب القديمة على جانبيْ السكة الحديدية ودُمِجت في منطقة حضرية مُترامية الأطراف.صحيح أن المناطق التي تبعد 50 ميلاً أو أكثر عن مركز المدينة، ويُشار إليها في بعض الأحيان باسم «الضواحي الخارجية»، تتمتّع ببعض خصائص الضواحي القديمة. ومع ذلك، لا توجد ميزات بنيويّة كتلك التي فرضها الاعتماد على سكك الحديد التي تحميها من الابتلاع أيضاً. ويبدو أن هذا هو مصيرها النهائي، طالما استمرّ النمو السكّاني ولم يحدث تغيير جوهري في النظام الاقتصادي-الاجتماعي. وفي بعض الأماكن، لا سيّما في الشمال الشرقي بين بوسطن وواشنطن، اصطدمت المناطق الحضرية المُترامية الأطراف أو المدن الكبرى ببعضها البعض.درس الجغرافي الفرنسي جان جوتمان بشكل مكثّف منطقة بوسطن - واشنطن، التي تشمل نيويورك وفيلادلفيا وبالتيمور بالإضافة إلى عدد من المدن الأخرى الأصغر ولكن لا تزال كبيرة (Megalopolis: The Urbanized Northeastern Seaboard of the United States، نيويورك، 1961). بالطبع، يتعيّن على جوتمان التعامل مع السيّارة في العديد من السياقات، ولكنه لا يبدو على دراية بدورها الحاسم في ديناميكيّة العملية التي يتمّ دراستها، وهو أمر يمكن تفسيره بشكل أفضل من خلال عدم وجود أي إطار نظري منسجم في الكتاب. في مثل هذه الحالات، سوف تأخذك رحلتك من أحد مراكز المدينة عبر حلقات مُتّحدة المركز تقريباً ومتناقصة الكثافة إلى مجموعة أخرى من الحلقات المُتحدة المركز ومتزايدة الكثافة.

لم يكن من الممكن إزالة الفوارق القديمة بين المدينة والريف والضاحية - يشار إليها غالباً بالتمدّد العمراني - لولا السيّارة التي، مع شبكة الطرق والأوتوسترادات السريعة المُكمّلة لها، قدّمت ما يمكن تسميته بعامل التنقّل المُعمّم الذي حلّ محل أنماط التنقّل السابقة المحدودة والمحدّدة. يمكن للسيّارة أن تسير في أي اتجاه ولأي مسافة كانت. أمّا عربة الخيل فهي حكماً لا تستطيع السير سوى لمسافات قصيرة، كما أن خطوط سكك الحديد والعربات مُقيّدة بمسار سككي، وتقتصر بالتالي على بعض الطرق المحدّدة. تفرض أنماط التنقّل هذه شكلاً مُحدّداً على كلّ من الاقتصاد والمجتمع، مثل الهيكل العظمي الذي يفرض شكلاً محدّداً على الجسم الحيّ. مع قدوم عامل التنقّل المُعمّم، زالت هذه القيود وصارت الأنماط المواقعية الجديدة كلّياً مُمكنة.

أتاحت الاحتكارات الكبرى، ببحثها عن أسواق جديدة، لقطاعات أخرى من الاقتصاد، تقنيّات ميكانيكيّة وإلكترونيّة وكيميائيّة وغيرها من التقنيات المتطوّرة، أحدثت بدورها ثورة في أساليب الإنتاج في هذه القطاعاتتصبح مُمكنة، ولكنها لا تفرض أو تطبق أي نموذج معيّن جديد. فما يحدث فعلياً تحدّده اعتبارات أخرى. وهنا يجب، على ما أعتقد، أن نعطي الأولوية لمجمل عملية تراكم رأس المال التي تسعى نحو فرص الاستثمار المُربحة وتستجيب لها من جهة، وتخلق من جهة أخرى فرصاً جديدة. النقطة المهمّة هي أنّه مع المزيد من الحريّة في التنقّل، يمكن لشكل الاقتصاد والمجتمع أن يتكيّف مع مدّ وجزر عمليّة التراكم على نحو أسرع وكامل مما لو كان الحال بخلاف ذلك. وقد زاد بشكل كبير احتمال حدوث عمليّات تغيير تراكميّة بدلاً من العمليات المُقيّدة ذاتياً. علاوة على ذلك، كانت هناك إمكانيّة وسرعان ما تُرجمت إلى حقيقة، وهي أن التغيّر التراكمي، بمجرّد انطلاقه، سوف يحدِّد مساره، وغالباً بتناقض مع الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى نشأته في المقام الأوّل.

بدأ انتشار السيّارات بعد ذلك بقليل، ولكنّه تزامن بالأساس مع الانتقال من الرأسمالية التنافسية إلى الرأسمالية الاحتكارية. كانت الشركات العملاقة الناشئة، ومن ضمنها تلك التي تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على السيّارات، أكثر ربحيّة من سابقاتها، واستطاعت بالتالي أن تنموّ أسرع من القطاعات الأصغر والأكثر تنافسيّة في الاقتصاد (تركّز رأس المال حسب ماركس)؛ ومنحتهم مواردهم المالية الضخمة القدرة على هندسة سلسلة غير منقطعة من عمليّات الاندماج (مركزة رأس المال عند ماركس). من الناحية التكنولوجية، إن هذا القطاع الاحتكاري والمُهيمن بازدياد، كان (ولا يزال) ديناميكياً للغاية، ويُظهِر ميلاً قوياً لأساليب إنتاج أعقد وكثيفة الاستخدام لرأس المال. علاوة على ذلك، أتاحت الاحتكارات الكبرى، ببحثها عن أسواق جديدة، لقطاعات أخرى من الاقتصاد، تقنيّات ميكانيكيّة وإلكترونيّة وكيميائيّة وغيرها من التقنيات المتطوّرة، أحدثت بدورها ثورة في أساليب الإنتاج في هذه القطاعات. والمهمّ من وجهة نظرنا الحالية، هو أن الزراعة الأميركية، وعلى الرغم من أنّها لم تفسح المجال بسهولة للاحتكار، سرعان ما تمّت مكننتها وإدخال الكيماويات إليها، ما أدّى إلى تفريغ الريف نسبياً من سكّانه وتكدّس المزارعين والمزارعين المحاصصين والعمّال الزراعيين في المدن. نتيجة لهذه الهجرة الداخلية والنمو السكّاني الطبيعي، شهدت المدن توسّعاً بوتيرة سريعة في فترة انتشار السيّارات. في منتصف القرن بين العامين 1910 و1960، ارتفع عدد سكّان المدن من 42 مليون إلى 125 مليون، أي بنحو 300%؛ في حين ارتفع عدد سكّان الريف من 50 مليون إلى 54 مليون، أي بنحو 8% فقط.

من شأن نموّ حضري بهذا الحجم أن يترافق مع زيادة مماثلة في المساحة الجغرافية للمدن حتى لو أن المناطق السكنيّة الجديدة شيّدت من مبانٍ ذات كثافة سكانيّة عالية. ولكن بالنظر إلى عامل التنقّل العام الذي أوجدته السيّارة، أصبح نمط التمدّد العمراني المنطوي على أكثر من زيادة متناسبة في المساحة ممكناً وواقعاً. وحيث، في وقتٍ سابق، كان أطفال المهاجرين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة، قد انتقلوا إلى الأحياء المتراصّة داخل المدينة المبنية في خلال صعودهم السّلم الاقتصادي، تحوّل اتجاه انتقالهم الآن نحو الأطراف والضواحي السابقة على جانبيُ خطّ السكك الحديدية. أمّا الأحياء الفقيرة، في المقابل، فلم يعد يملؤها المهاجرون القادمون من الخارج (وضعت الحرب العالمية الأولى حدّاً نهائياً لهذا النوع من الهجرة) وإنما مَن طُرِدوا من الزراعة الأميركية، ومن بينهم أعداد كبيرة وبشكل غير متناسب من السود والأميركيين المكسيكيين والبورتوريكيين.

والآن يأتي الفصل الأخير لما يمكن تسميته بـ«دراما السيّارة والمدينة»، حيث أن التدفّق الهائل للسكّان من المدينة الداخليّة القديمة يجلب معه أكثر بكثير من مجرّد تغيير في أنماط السكن. مع خروج الناس، تنتقل جميع أنواع الأنشطة الاقتصادية معهم، لتبدأ بذلك عملية تقادم وانحلال في المركز. وأوّل مَن يلحق بحركة انتقال السكان هي بالطبع مؤسّسات البيع بالتجزئة والخدمات. ولكن، سرعان ما ينضمّ إليها المصنّعون وتجّار الجملة الذين من ناحية، يجدون عمالة وأراضٍ أرخص في الضواحي، ومن ناحية أخرى يتصدّون لتدهور المركز. تأتي أوّلا حركة السكن، ولكن سرعان ما تقوّي حركة الوظائف حركة السكن التي بدورها تحفّز المزيد من حركة الوظائف، وهكذا دواليك في عملية تراكميّة تعيد إنتاج نفسها.

قد يظن المرء أنه سينتج عن هذا الأمر حركة إسكان متواصلة ومُتسقة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في المساحة التي تشغلها الحركة الوافدة، مع تناقص متناسب في الكثافة السكّانية مع الابتعاد من المركز، بحيث يكون في النهاية ترسيم واضح بين المنطقة المبنية والمساحة المفتوحة خارجها. ولكنّ الأمور لا تجري على هذا النحو في نظام الملكية الخاصة للأراضي المعمول به في الولايات المتّحدة. عادة، توجد مساحات كبيرة من الأراضي غير المطروحة في السوق ولا يستخدمها المستثمرون (أو المضاربون، بالأحرى)، ونتيجة لذلك، يجب على عمليّة التطوير العمراني أن تتجاوز مناطق من الأراضي المفتوحة.في لغة مُخطّطي مدن شمال أميركا، إن الأرض «المطوّرة» هي تلك التي تستخدم فعلياً لأي غرض حضري (بما في ذلك الحدائق)، بينما تُعتبر أي أرض أخرى داخل المنطقة الحضرية «غير مطوّرة» أو «مفتوحة». بالإضافة إلى ذلك، يتمّ الحدّ من الكثافة السكانية من خلال أنظمة تقسيم المناطق التي تنصّ على حدّ أدنى من العقارات السكنية في أجزاء من المدينة، وعادةً تكون بعيدة عن الوسط ويسيطر عليها البيض من ذوي الدخل المرتفع والمتوسّط، ومُصمّمة لإقصاء الفقراء والسود من أحيائهم. أمّا الأثر المترتّب عن ذلك فهو تمدّد المدينة على مساحة أكبر بكثير ممّا قد تمليه العوامل الاقتصادية وتلك المتعلّقة بالتنقّل. يقول هانس بلومنفيلد إن «الكثافة السكّانية في المناطق الحضرية لا تمثّل إلّا خمس أو سدس الكثافة التي كانت موجودة منذ قرنٍ، يوم كان السير على الأقدام الشكل الرئيس للتنقّل».Hans Blumenfeld, “Criteria for Judging the Quality of the Urban Environment,” The Canadian Architect (November, 1972), p. 47.

في وقتٍ سابق، كان أطفال المهاجرين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة، قد انتقلوا إلى الأحياء المتراصّة داخل المدينة المبنية في خلال صعودهم السّلم الاقتصادي، فيما تحوّل اتجاه انتقالهم الآن نحو الأطراف والضواحي السابقة على جانبيُ خطّ السكك الحديديةيعني هذا أنّه يتعيَّن يومياً نقل كمّ هائل من السلع والأشخاص للحفاظ على استمرارية حياة المدينة. أمّا الجزء الأكبر من ذلك فيتعلّق بالتنقّل بمعناه التقليدي، أي حركة الأشخاص القاطنين في الضواحي ذهاباً وإياباً للعمل في وسط المدينة (من الواضح أن هذا النقل يخلق مشكلات خاصّة إذ يتركّز في خلال ساعات قليلة في الصباح والمساء). لكنّ من الناحية الكلّية يتعلّق ذلك بمسائل مختلفة: تأمين السلع إلى الوحدات الاقتصادية المُتناثرة في جميع أنحاء المنطقة الحضرية؛ تنقّل الأطفال من المدرسة وإليها؛ توجّه المتسوّقين إلى منافذ البيع بالتجزئة والعودة إلى المنزل؛ إلتقاء الناس ببعضهم البعض لأغراض اجتماعية؛ ونوع جديد من التنقّل المتزايدة أهمّيته وهو ذهاب العمّال الذين يعيشون ويعملون في الضواحي من وإلى وظائفهم، بما قد ينطوي عليه من رحلات قصيرة نسبياً في القسم نفسه من المدينة ولكن قد يشمل أيضاً رحلات طويلة من قسم على جانبٍ واحدٍ من المدينة مروراً عبر المركز ووصولاً إلى قسم آخر على الجانب الآخر منها (مع كافّة الاختلافات المُمكنة بينهما). باستثناء التنقّل التقليدي، المُمكن معه استخدام وسائل النقل العام، فإنّ الحركة إلى المدينة ومنها تتمّ حالياً بواسطة سيارة خاصّة. يمكن تكوين انطباع عن مدى اتساع حجم السفر بالسيارة الخاصّة من خلال البندين التاليين المّستخرجين من الأعداد الأخيرة لصحيفة نيويورك تايمز: وفقاً لاستطلاع رأي أجرته غالوب، يسافر 81% من جميع العمّال الأميركيين من وإلى العمل بالسيَّارة. (30 أيّار/مايو 1971)؛ أفادت وكالة أسوشيتيد برس أن «ربّات المنازل الأميركيّات يجتزن ما معدّله 100 ميل أسبوعياً لتوصيل أحد أفراد الأسرة وإجراء المهمّات في المدينة» (23 كانون الثاني/يناير 1973). مع التزايد المستمرّ في عدد السيّارات وسكّان المدن والتمدّد العمراني، من غير المستغرب أن يظهر التلوّث والازدحام كتجليّات لأزمة حضرية حادّة،وهذا من دون احتساب المرض الاجتماعي والبيئي لمسار انحلال المدينة الداخلية. أو أن يتحوّل العامل العام للتنقّل، الذي كانت عليه السيّارة في عصرها الذهبي، أكثر فأكثر إلى نقيضه.

تجدر الإشارة إلى نقطة أخيرة في هذه الدراسة الأوّلية حول الترابط والتفاعل بين السيارة والمدينة. حين نتكلّم عن التنقّل التقليدي (الذهاب من الضواحي إلى وسط المدينة والعودة)، فإنّنا نشير بالأساس إلى عدد صغير من المدن الكبيرة والقديمة في آنٍ معاً، بمعنى أن ضواحيها كانت تعتمد على خطط سكك الحديد في عصر ما قبل السيّارات – وعلى رأسها نيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وبوسطن وسان فرانسيسكو. بالإضافة إلى ذلك، يوجد في هذه المدن مراكز أعمال متطوّرة جدّاً ولا ترتبط مباشرة بالإنتاج وتشمل مقار الشركات الوطنية أو الإقليمية والمصارف وشركات التأمين ومكاتب الشحن وإلى ما هنالك. وعلى الرّغم من وجود حركة خروج ملحوظة لتأدية هذه الوظائف، فمزايا الإبقاء عليها في منطقة واحدة مُتراصّة، حيث يسهل الحفاظ على التواصل المباشر والسريع، كبيرة جدّاً، لدرجة أن هذه المناطق التجاريّة المركزيّة قد نمت بالتوازي مع النمو العام للمدينة الكبيرة. ونتيجة لذلك، تمكنّت نشاطات اقتصاديّة واجتماعيّة أخرى يشملها مفهوم «وسط المدينة» - الفنادق والمطاعم والمسارح وقاعات الحفلات الموسيقيّة والمتاحف والمتاجر الأنيقة الكبيرة والمحلّات المتخصّصة - من أن تستمرّ بل ازدهرت أيضاً.

أينما توجد هذه الشروط، تحتفظ المدينة بجزءٍ كبير من بنيتها وطابعها التقليديين، وذلك على الرغم من التوسّع العمراني للأحياء الفقيرة والعشوائيّات المُتهالكة والغيتوهات بين وسط المدينة والضواحي. وأينما تغيب هذه الشروط أو توجد بشكل غير متطوّر نسبياً - وهذا هو الحال في معظم المدن التي عرفت أغلب نموّها في خلال عصر السيّارات - يغلب توجّه قوي لتفكّك البنية الحضرية القديمة وظهور بنية جديدة من دون سابقة تاريخية لتحلّ محلها. فقد جلبت عمليّة التمدّد العمراني تحوّلاً نحو اللامركزيّة في معظم الوظائف المُرتبطة بوسط المدينة، وما نتج عن ذلك من تعدّد المراكز الفرعيّة، حيث يقدّم كلّ منها بعض الخدمات المتوفرة في وسط المدينة - مناطق التسوّق وفروع المصارف والفنادق والمطاعم ودور السينما - وإنّما مع خلوها من طابع وجاذبيّة وسط المدينة. وحين الوصول إلى هذه المرحلة، تختفي المدينة كشكل مُخطَّط ومُنظِّم للحياة المتحضِّرة ليحل محلها تجمّع من دون شكل واضح للناس والمساكن والسيّارات والطرق والوحدات الاقتصاديّة، تتداخل في منطقة جغرافيّة مُتّصلة ودائمة التوسّع إلى هذا الحدّ أو ذاك. ولوس أنجلس النموذج الواضح لهذا النوع من المناطق الحضرية. وقد وصفها هاريسون ساليسبري بوضوح منذ العام 1959 في سلسلة من المقالات الثاقبة في صحيفة نيويورك تايمز على الشكل التالي:

هنا، قابعة تحت غطاء من الضباب الدخاني، تطوِّقها حلقات من الطرق السريعة، باطنها مزقته شرائط الخرسانة وحقول الإسفلت، وشرايينها الدائرية تضخّ من دون قبلة مُحدّدة، هنا يكمن النموذج الأولي لـ«غازوبوليس»، منطقة المستقبل وفيها الحياة تقوم على العجلات المطاطية.

لم تعد لوس أنجلوس مدينة بالمفهوم التقليدي: سام س. تايلور، المدير العام لحركة المرور في لوس أنجلوس، يسمّي لوس أنجلوس «منطقة متنقّلة».  

ومَن يتطلّع نحو المستقبل، نحو النتيجة النهائية لتحوّل المدينة الأميركية إلى مدينة سيّارات بالكامل، فإن لوس أنجلوس هي الظاهرة التي يجب تحليلها بأكبر قدر من العناية.

حين ذهب لينكولن ستيفنز إلى الاتحاد السوفياتي بعد الثورة البلشفية، أعلن: «لقد رأيت المستقبل، ووجدته يعمل». 

يمكن لزائر لوس أنجلوس اليوم إعادة صياغة حديث ستيفنز والقول: «لقد رأيت المستقبل، ووجدته لا يعمل». (3 آذار/مارس 1959)

منذ كتب هاريسون نصّه هذا حصلت الكثير من التغييرات، وبات المستقبل في صورة «غازوبوليس» أبعد احتمالاً ممّا كان عليه حينها. حتّى أن وكالة حماية البيئة الفيدرالية المُنشأة حديثاً اقترحت تخفيض حركة مرور السيّارات في لوس أنجلوس بنسبة 80% من خلال تقنين البنزين من أجل التعامل مع مشكلة الضباب الدخاني. ومن المؤكّد أن هذا الاقتراح طُرِح ليحدث صدمة وليس لأن وكالة حماية البيئة أو أي أحد كان يتوقّع أن يؤخذ على محمل الجد (تشير أحد التقديرات أن تخفيض حركة المرور بنسبة 80% في لوس أنجلوس يعني فقدان 400 ألف وظيفة). ومع ذلك، يُعدُّ هذا الأمر - مثل التغيير الملاحظ في موقف الرأي العام تجاه نظام الطرق السريعة الفيدرالية - واحداً من الدلالات العديدة على أن التطوّر الحضري في الولايات المتّحدة يدخل في فترة جديدة تتركّز فيها الجهود الجدِّية على تحويل السيّارة من سيِّد على الناس إلى خادم لهم.

إن التدفّق الهائل للسكّان من المدينة الداخليّة القديمة يجلب معه أكثر بكثير من مجرّد تغيير في أنماط السكن. مع خروج الناس، تنتقل جميع أنواع الأنشطة الاقتصادية معهم، لتبدأ بذلك عملية تقادم وانحلال في المركزأي محاولة للتوسُّع في هذا الموضوع سوف تأخذنا أبعد من حدود مقال يهدف إلى توضيح دور السيَّارة في نشأة الوضع الحضري الحالي.أضيف أن هذا القيد على نطاق هذه الدراسة منعها من الاستفاضة في الجوانب النوعية لهذه الحالة أو تناول ما هو أبعد من مجرّد إشارات عابرة. أُسقِط التأثير المختلف لمسار التجوّل الحضري بواسطة السيّارات في مستويات الدخل والفئات الاجتماعية المختلفة بشكل شبه كلّي: الفقراء الذين لا يستطيعون تحمّل تكاليف السيّارات وكذلك كبار السنّ وذوي الإعاقات الذين لا يستطيعون استخدامها بغض النظر عن دخلهم، الذين يتم إما شلّ حركتهم أو حصرهم في مناطق محدودة وقيد التحلّل. في الختام لن أقول سوى أنّني أعتقد بأن بعض الإجراءات التخفيفية مُمكنة، على الأقل من حيث المبدأ، في إطار الرأسمالية الاحتكارية، بيد أنني  لا أعتقد أن أي تغييرات جوهرية في بنية المدن وعلاقتها بالمجتمع مُمكنة من دون تغيير جذري في النظام الاجتماعي. في ما أسميته بحالة التنقّل التقليدية، لا بدّ من تحسين كبير في وسائل النقل العام من وإلى الأحياء الداخليّة في المدينة، وكذلك داخل الأحياء الداخليّة. وبالتوازي ربّما مع بعض القيود المفروضة على استخدام السيّارات في الأحياء الداخليّة، قد يخفّف الكثير من الازدحام خصوصاً في فترة الذروة. إلّا أنّها لن تؤثِّر في أنواع أخرى من الحركة داخل المدينة الكبيرة والتي تقلّ احتمالية تحسينها وتسييرها من خلال تحسين وسائل النقل العام.من المرجّح أن يكون المرء مُتأثراً بتجربته الشخصية عندما يتعلّق الأمر بإصدار أحكام من هذا النوع. أنا أعيش في نيويورك الكبرى في منطقة كانت يوماً ضاحية قديمة الطراز. ومن خلال تحسين مناسب في خدمة القطارات التي يستخدمها السكّان وشبكة المترو والحافلات والتاكسي في المدينة الداخلية - وهذه تعاني الآن - يمكنني بسهولة تخيّل أنه لن تغريني القيادة إلى وسط المدينة. من ناحية أخرى، أجد أيضاً صعوبة في تخيّل نظام نقل عام متطوّر يمكن أن يحلّ مكان السيّارة الخاصّة بشكل مرضٍ في الأنواع المختلفة من الحركة التي تكون ضرورية للحياة اليومية في المدينة الكبرى. كما وأنّها لن تفعل شيئاً للتصدّي لعمليّة تمدّد المدينة، أو حتى عكسها.

لتحقيق هذه الغايات، وفي الوقت نفسه القضاء على الازدحام والتلوّث، وجعل المدينة مكاناً أفضل للعيش، يبدو أن الشرط اللازم (لكنه غير كافٍ) هو كسر الارتباط السببي بين موقع النشاط الاقتصادي وتوقّعات الأرباح بناء على موقع النشاط. إذا تمّ التخطيط لنمط وظيفي عقلاني وتأمينه لسنوات مقبلة سوف يكون من الممكن تطوير مجتمعات سكنيّة جديدة ذات كثافات سكّانيّة مناسبة وأنظمة نقل عام فعّالة داخلها وفيما بينها. وهذا لا يتطلّب ملكية عامّة للأراضي فحسب، بل إضفاء الطابع الاجتماعي على عملية الاستثمار بأكملها بحيث يمكن توجيه الإنتاج وفق احتياجات الناس وليس متطلّبات الربح.

نُشِر هذا المقال في Monthly Review في العام 1972.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.