Preview حاويات للشحن في مونتريال

حاويات شحن في مونتريال.
الصورة الأصلية لـGuillaume Bolduc.

الرأسمالية والفقر العالمي وحال الاشتراكيات الديمقراطية

  • السردية القائلة بأن صعود الرأسمالية دفع عجلة التقدّم ضدّ الفقر المُدقع لا تدعمها الأدلة التجريبية. على العكس من ذلك، ارتبط صعود الرأسمالية بانخفاض ملحوظ في رفاهية الإنسان، وهو الاتجاه الذي لم ينقلب إلّا في القرن العشرين، عندما سعت الحركات الاجتماعية الراديكالية والتقدمية إلى انتزاع بعض السيطرة على الإنتاج وتنظيمه بشكل أكبر لتلبية الاحتياجات البشرية.
  • الفقر المدقع ليس حالةً طبيعية، بل إنه نتيجة لانتزاع الملكية والمصادرة والاستغلال. وليس من المحتم أن يكون موجوداً في أي مكان، وبالتأكيد ينبغي ألا يكون موجوداً في أي مجتمع عادل وإنساني.
  • إذا كان هدفنا هو تحقيق تحسينات جوهرية في رفاه الإنسان، فينبغي قياس التقدّم بمستويات المعيشة اللائقة والوصول إلى وسائل الرفاه الحديثة. وفي الوقت الحالي لا تُظهِر الرأسمالية أي بادرة تشير إلى تحقيق هذا الهدف على الإطلاق، ويبدو أن الديناميكيات الإمبريالية في الاقتصاد العالمي تعمل بنشاط على منع تحقيق هذا الهدف.

على مدى السنوات العديدة الماضية، أصبحت السردية الجديدة عن الفقر العالمي متجذرةً في الخطاب السائد. وترى هذه السردية أن الفقر المُدقِع - وهو حالة من الحرمان المطلق المرتبط بنقصٍ حادٍ في السعرات الحرارية والمغذيات وعدم القدرة على الوصول إلى السلع الأساسية - هو الوضع الطبيعي للبشرية، وقد اِبتُليَ به نحو 90% من سكّان العالم قبل أن يؤدّي صعود الرأسمالية إلى تحرّر الناس من البؤس. وتعتمد هذه السردية في جزءٍ كبير منها على مخطّطٍ بياني يُبيِّن نسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع منذ العام 1820، وقد تراجع بنسبة 90% من نقطة البداية. طوَّر الخبير الاقتصادي السابق في البنك الدولي مارتن رافاليون، هذا المخطّط البياني بالأساس، ونشره في وقتٍ لاحق ستيفن بينكر في كتابه الأكثر مبيعاً «التنوير الآن». ومنذ ذلك الحين انتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي.

من غير المرجّح أن 90%، أو حتى 75%، من سكّان العالم عاشوا في فقر مُدقِع قبل صعود الرأسمالية. تاريخياً، كانت العمالة الحضرية غير الماهرة في جميع المناطق تميل إلى الحصول على أجور عالية بما يكفي لإعالةِ أسرة مكوَّنة من أربعة فوق خط الفقرمع ذلك، تعاني هذه السردية من العديد من المشاكل التجريبية، التي بحثناها في مقالٍ نُشر مؤخراً في World Development. أولاً، يتطلّب قياس الفقر معطيات مباشرة عن استهلاك الأسرة، ولكن هذه المعطيات كانت غير متوافرة عموماً قبل ثمانينيات القرن العشرين. وللتغلّب على هذا القصور، فإن مخطّط رافاليون/بينكر يعتمد على معدّلات نمو الناتج المحلّي الإجمالي التاريخية كمؤشِّر للتغيّرات في الاستهلاك الأسري. ومع ذلك، فإن هذه الطريقة ليست صالحة، لأن البيانات التجريبية تُظهِر أن المؤشّرين لا يتحرّكان معاً بشكل عام. وكما يشير الاقتصادي أنغوس ديتون، فإن المسوح الخاصّة بالناتج المحلّي الإجمالي واستهلاك الأسر «من الواضح أنها تقيس أموراً مختلفة». تتسم هذه المشكلة بالحدّة لا سيما في الفترة الاستعمارية، التي اتسمت بنزعِ الملكية وتدمير اقتصادات الكفاف، وهي التدخّلات التي ربّما قادت إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي مع تقييد حصول الناس في الوقت نفسه على الكفاف وسبل العيش. وللاطلاع على مناقشة مفصّلة لما يُحسب (وما لا يُحسب) في الناتج المحلي الإجمالي التاريخي، أنظر إلى الملحق (أ) من ورقتنا المنشورة في World Development.

والمشكلة الثانية هي أن المخطّط البياني يعتمد على عتبة الفقر المُدقع التي حدّدها البنك الدولي بنحو 1.90 دولار (تعادل القوة الشرائية في العام 2011). لقد تعرّض هذا المقياس للانتقادات لأكثر من عقدٍ من الزمان، لأن تعادل القوة الشرائية يستند إلى الأسعار في مختلف قطاعات الاقتصاد، في حين أن المهم عند التعامل مع الفقر هو أسعار السلع الأساسية الضرورية لتلبية الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والسكن والوقود. وتتفاوت هذه الأسعار تفاوتاً واسعاً من حيث الزمان والمكان على نحو لا يعكسه تعادل القوة الشرائية. ولتصحيح الأمر، طوّر المؤرخون الاقتصاديون طرقاً لقياس الدخل في مقابل تكلفة الاحتياجات الأساسية. إن تطبيق هذا النهج على الهند يُظهر أن الفقر المُدقِع كان منخفضاً نسبياً في عصر ما قبل الاستعمار (ربما حوالي 10% في أواخر القرن السادس عشر)، وارتفع في خلال فترة التكامل الرأسمالي، من 23% في العام 1810 إلى أكثر من 50% بحلول منتصف القرن العشرين، في تناقض صارخ مع السردية التي اقترحها مخطَّط رافاليون/بينكر.

وقد نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نسخة أحدث من مخطَّط رافاليون/بينكر، تكشف عن منحنى مماثل ولكن مع معدّل فقر أقل (75%) في الفترة التاريخية. وتستخدم هذه الصيغة تكلفة الاحتياجات الأساسية بدلاً من عتبة تعادل القوة الشرائية البالغة 1.90 دولار، ولكنها لا تزال تعتمد على معدّلات نمو الناتج المحلي الإجمالي كمؤشرٍ للتغيّرات في استهلاك الأسرة (في حين يُفترض أن ينمو استهلاك الأسر بمعدّل أبطأ من معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي في فترة ما بعد العام 1950، فإن النسبة تحدّد بشكلٍ خارجي، وتستخدم معدّلات نمو الناتج المحلي الإجمالي غير المتغيرة قبل العام 1950). يمثِّل المخطّط البياني لمنظمة التعاون والتنمية تحسناً كبيراً قياساً إلى نسخة رافاليون/بينكر، ولكنه لا يتغلّب على هذه المشكلة الأساسية. ونحن نعالج هذه المسألة في الملحق (أ) من مقالنا في World Development.

يتعلّق النقص الثالث في المخطّط البياني بتاريخ بدايته (1820). استخدم المخطّط ليروي قصة الرأسمالية، ولكن الاقتصاد الرأسمالي العالمي تأسّس في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. بعبارة أخرى، يستثني المخطّط البياني أكثر من ثلاثمائة سنة من التاريخ ذي الصلة. في خلال هذه الفترة، اعتمد النمو الاقتصادي في أوروبا الغربية على عمليّات نزع الملكية التي تسبّبت في تفكّك اجتماعي هائل (على سبيل المثال، الأراضي المُصادرة في أوروبا الغربية و«القنانة الثانية» في أوروبا الشرقية، والاستعباد الجماعي للأفارقة، واستعمار الأميركتين والهند، وما إلى ذلك). يستثني المخطّط البياني هذا التاريخ ويعطي انطباعاً بأن الفقر في خلال العام 1820 كان حالة أساسية.

ونظراً لهذه القضايا، فإن السردية التقليدية العامّة حول تاريخ الفقر المُدقِع تحتاج إلى إعادة تقييم. ولتحقيق هذه الغاية، تبنينا نهجاً تجريبياً لدراسة التأثير الاجتماعي للتوسّع الرأسمالي والتكامل الرأسمالي بالاستعانة بالبيانات المتعلّقة بالأجور الحقيقية (فيما يختصّ بتكاليف الاحتياجات الأساسية)، والطول البشري، ومعدّل الوفيات منذ القرن السادس عشر الطويل، بالنسبة لخمس مناطق من العالم (أوروبا، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا جنوب من الصحراء الكبرى، وجنوب آسيا، والصين). وتشير هذه البيانات إلى ثلاثة استنتاجات.

أولاً، من غير المرجّح أن 90% (أو حتى 75%) من سكّان العالم عاشوا في فقر مُدقِع قبل صعود الرأسمالية. تاريخياً، كانت العمالة الحضرية غير الماهرة في جميع المناطق تميل إلى الحصول على أجور عالية بما يكفي لإعالةِ أسرة مكوَّنة من أربعة فوق خط الفقر. ويبدو أن الفقر المُدقِع ينشأ في الغالب في خلال فترات الشدّة الاجتماعية والاقتصادية، مثل المجاعات والحروب ونزع الملكية المؤسّسي، والتي سادت بصورةٍ خاصّة في ظل الاستعمار. وبدلاً من أن يكون حالة طبيعية للبشرية، فإنه من أعراض السلب والتفكّك الاجتماعي الشديد.

الاستنتاج الثاني هو أن صعود الرأسمالية تزامن مع تدهور رفاهية الإنسان. ففي كل منطقة قيّمناها، ارتبط الاندماج في النظام العالمي الرأسمالي بانخفاض الأجور إلى ما دون مستوى الكفاف، وتدهوُر وضع الإنسان، وارتفاع ملحوظ في الوفيات المبكرة. ففي أجزاء من أميركا اللاتينية، وبلدان جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، وجنوب آسيا، لم تتعافى مقاييس الرفاه حتى الآن.

استنتاجنا الثالث هو أن التقدّم بدأ في وقت متأخِّر بكثير عمّا يوحي به مخطّط رافاليون/بينكر. في المناطق المركزية في شمال غرب أوروبا، بدأت معايير الرفاه في التحسّن في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أي بعد حوالي أربعة قرون من ظهور الرأسمالية. وفي الدول الطرفية وشبه الطرفية، بدأ التقدّم في منتصف القرن العشرين. وهذا يتوافق مع صعود العمل المنظم، والحركة المناهضة للاستعمار، وغيرها من الحركات الاجتماعية الراديكالية والتقدمية، التي نظمت الإنتاج حول تلبية الاحتياجات البشرية، وأعادت توزيع الثروة، واستثمرت في نُظُم الخدمات العامة. في أوروبا، زاد الاستثمار في الرعاية الصحية العامة، والتعليم، وغيرها من أشكال الضمان الاجتماعي من حوالي صفر% من الناتج المحلي الإجمالي في أواخر القرن التاسع عشر إلى ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي بحلول منتصف السبعينيات.

ولمناقشة هذه النتائج، نُحيل القراء إلى ورقتنا المنشورة في World Development. وهنا نسعى إلى التوسّع بتأملاتٍ إضافية عن الرأسمالية والفقر، ودور التصنيع، والآثار المترتبة على السياسة المستقبلية.

الفقر المدقع ليس معياراً مشروعاً للتقدم الاجتماعي

من المهم أن نوضح أن الفقر المدقع يُعرَّف من حيث سلع الكفاف. وهو يشير إلى عدم القدرة على الحصول على الغذاء والمأوى والملبس والوقود؛ ولا يشير إلى معايير الرفاهية الأعلى التي تتوفر اليوم كالحصول على الكهرباء، والرعاية الصحية الحديثة، والثلاجات، وما إلى ذلك. وليس من الصعب تلبية متطلّبات المعيشة الأساسية، وتشير البيانات التاريخية إلى أن المجتمعات البشرية قادرة عادة على القيام بذلك، حتى في سياقات ما قبل الصناعة، سواء من خلال عملها الخاص عبر الموارد المتاحة لها في بيئتها أو من خلال التبادل. والاستثناءات الرئيسية لهذا هي في حالات الكوارث الطبيعية، أو في ظل الظروف التي يُنتزع فيها الناس من الأرض والمشاعات، أو عندما يتم الاستيلاء على عملهم ومواردهم وقدراتهم الإنتاجية بواسطةِ طبقةٍ حاكمةٍ أو قوة إمبريالية. وتظهر البيانات التاريخية التي نستعرضها أن عملية الاستعمار والاندماج الرأسمالي هي التي دفعت الناس أساساً إلى الفقر المدقع وتسببت في تدهور المؤشرات الاجتماعية.

تشير التوقّعات إلى أنه في ظل الاتجاهات الحالية سيستغرق الأمر أربعين عاماً على الأقل للقضاء على الفقر المدقع وفقاً لمقياس البنك الدولي غير الكافي، بل ربّما يستغرق قرناً من الزمن.

والمضمون الجوهري لهذه النتيجة هو أنه لا ينبغي استخدام الفقر المدقع كمعيار لقياس التقدّم المتحقّق. لا ينبغي للفقر المدقع أن يوجد في هذا العصر. وحقيقة أن 17% من سكّان العالم يعيشون في فقر مدقع اليوم (وفقاً لبيانات روبرت ألين حول تكلفة الفقر والاحتياجات الأساسية) يجب أن تُفهم على أنها اتهام لنظامنا الاقتصادي، وعلامة على أن التفكك الاجتماعي الشديد لا يزال مؤسسياً في الاقتصاد العالمي الرأسمالي. صحيح أن انتشار الفقر المدقع أصبح اليوم أقل مما كان عليه في أوجِ الحقبة الاستعمارية، ولكن هذا ليس سبباً كافياً للاحتفال. إن ذروة الاستعمار كانت نتيجة للسياسة الرأسمالية وما كان ينبغي لها أن توجد على الإطلاق.

وعلاوة على ذلك، يمكن ويجب إنهاء الفقر المدقع على الفور. لا يتطلّب ذلك زيادة إضافية في الإنتاج الكلي، ولا يتطلّب حشداً هائلا للأعمال الخيرية؛ هو لا يتطلّب أكثر من استعادة إمكانية وصول الناس إلى الموارد الأساسية التي يحتاجونها للبقاء. ويبدو أن الاقتصاد العالمي الحالي، على الرغم من إنتاجه غير العادي، غير قادر على تحقيق هذا الهدف الأساسي: تشير التوقّعات إلى أنه في ظل الاتجاهات الحالية سيستغرق الأمر أربعين عاماً على الأقل للقضاء على الفقر المدقع، حتى وفقاً لمقياس البنك الدولي غير الكافي (بعد ثلاثة عقود مما وعدت به أهداف التنمية المستدامة)، بل وربّما يستغرق ذلك قرناً من الزمن. ينبغي إدانة الأمر باعتباره إخفاقاً. ولكن بدلاً من ذلك، يُفْرَضُ علينا أن نقبل بذلك كشكلٍ «طبيعي» من أشكال المعاناة التي لا داعي لوجودها ويمكن إنهاؤها على الفور. ما هو المطلوب؟ يتعيّن علينا أن نضمن حصول الفلاحين على الأراضي المنتجة، وحصول العمّال على عملٍ مضمون وأجور كافية، وحصول الجميع على السكن والغذاء بأسعار معقولة. هذا ليس بالأمر الصعب، إنه أساسي.

في ظل الرأسمالية، اعتمد التقدّم في الشمال على الإمبريالية

يبيِّن السجل التاريخي أن الاقتصادات المركزية قد شهدّت تقدّماً كبيراً في مؤشِّرات الرفاه الاجتماعي بعد العام 1880، مع صعود الحركة العمّالية، والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، والحركات التي ضمنت حقّ الاقتراع للعمّال من الرجال، ثم النساء في وقت لاحق. وتسارعت هذه المكاسب في أوائل/منتصف القرن العشرين، ممّا أدى إلى تحقيق معدّلات رفاهٍ مرتفعة للغاية. ومن الأهمية بمكان أن نفهم أن المكاسب التي تحقّقت في خلال هذه الفترة الأخيرة لم تكن راجعة إلى الحركات التقدّمية داخل المركز فحسب، بل إلى الحركات الاشتراكية في الدول الطرفية أيضاً، والتي أثبتت (وخصوصاً في حالة الاتحاد السوفياتي) أن البدائل الاشتراكية والشيوعية كانت ممكنة. ألهم صعود الاشتراكية في الشرق الحركات الاشتراكية في الغرب (وأشهرها في ألمانيا، التي كانت على شفا ثورة اشتراكية خلال انتفاضتي سبارتاكوس والرور 1919-1920). شكلت هذه الحركات الثورية تهديداً حقيقياً للرأسمالية في المركز. نجت الرأسمالية جزئياً من خلال سحق هذه الحركات، بصورةٍ عنيفةٍ في كثير من الأحيان، ولكن أيضاً من خلال تقديم تنازلات لمطالب الطبقة العاملة، بما في ذلك تحسين الأجور وبعض الخدمات العامة، على الرغم من عدم القبول مُطلقاً بالمطالب الأساسية المتعلّقة بإلغاء التسليح والديمقراطية الاقتصادية. وهكذا، نشأت دولة الرفاه الإجتماعي الديمقراطي.

كانت هذه الامتيازات ستودي بالرأسمالية إلى الركود لولا أن الرأسماليين كانوا قادرين على العثور على عمالة رخيصة في الأطراف، من خلال أشكال نزع الملكية الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذابيد أن تراكم رأس المال يتطلّب عمالة رخيصة، وكانت هذه الامتيازات ستودي بالرأسمالية إلى الركود لولا أن الرأسماليين كانوا قادرين على العثور على عمالة رخيصة في الأطراف، من خلال أشكال نزع الملكية الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وقد سمح امتياز الإمبريالية الفريد لرأس المال في المركز بالحفاظ على التراكم على الرغم من التنازلات الممنوحة لطبقاتها العاملة، وهو امتياز غير متاح لمعظم الدول في الأطراف. وهذا هو ما يفسِّر التفاوت الشديد الذي لا يزال مستمراً بين المؤشرات الاجتماعية في المركز الرأسمالي (حيث متوسِّط نسبة الرفاه للعامل غير الماهر هو 10-20) مقابل تلك الموجودة في الأطراف الرأسمالية، حيث متوسّط نسبة الرفاه أقل من 2، وحيث في كثير من الحالات لم تتعافَ الأجور و/أو ترتفع عن الإفقار الذي حدث في خلال فترة التكامل الرأسمالي. ولكي نفهم العلاقة بين الرأسمالية ورفاه الإنسان اليوم، يتعيّن علينا أن ننظر إلى الظروف المعيشية في المحيط الرأسمالي.

بالطبع، كان يمكن للمركز أن يتخذ اتجاهاً مختلفاً. كان بإمكانه قبول مطالب العمّال والحركات المناهضة للإمبريالية، والتخلّي عن ضرورات تراكم رأس المال، والانتقال إلى نظام ما بعد رأسمالي، وبالتالي تحقيق التقدم الاجتماعي من دون إمبريالية. إن التقدّم الاجتماعي لا يقتضي الإمبريالية، وإنما الرأسمالية هي التي تتطلبها.

ينبغي قياس التقدّم اليوم مقابل مستويات المعيشة اللائقة

ملاحظة أن الفقر المدقع لم يكن الحالة الطبيعية للبشرية قبل صعود الرأسمالية لا تعني أن الحياة كانت رائعة في ذلك الوقت. من الواضح أن لا أحد في ذلك الوقت كان بإمكانه الوصول إلى معايير الرفاهية المرتفعة المتوافرة اليوم. وهنا يصبح التصنيع والتطوّر التكنولوجي على قدر عظيم من الأهمية. أتاح التصنيع القدرة على إنتاج سلع جديدة لم تكن موجودة في الماضي: الكهرباء، والرعاية الصحية الحديثة، والنقل العام، ووقود الطهي النظيف، والتعليم العالي، وتكنولوجيا الاتصالات، والسلع المنزلية المعمِّرة، وما إلى ذلك، مما يجعل من الممكن تحقيق متوسط عمر مرتفع وحياة كريمة للجميع. ووفقاً لهذه المعايير، من الواضح أن معظم الناس كانوا فقراء قبل التصنيع، لأن هذه السلع لم تكن موجودة أو كانت نادرة للغاية.

لا يرجع هذا إلى العجز في القدرة الإنتاجية بل لأن الإنتاج مُنظم في الغالب حول تراكم رأس المال وتعظيم الأرباح وليس حول احتياجات البشر ورفاههموقد أثبتنا بالفعل أن الفقر المدقع ليس معياراً مشروعاً نقيس به التقدّم المُحرز في أي وقت. ولكن من المؤكد أنه لا ينبغي لنا أن نستخدمه كعتبة لرفاه الإنسان اليوم. تعد السلع عالية الجودة الموجودة اليوم ضرورية للعيش الكريم وينبغي أن تكون مُتاحة للجميع. وكحصة من القدرة الإنتاجية العالمية، فإن هذا لا يتطلّب الكثير (كما كانت الحال مع السلع الأساسية مثل الغذاء والمأوى في فترة ما قبل الصناعة). ومع ذلك، فإن حجم الفقر المعيشي مذهل: حيث يفتقر 2.4 مليار إنسان إلى الأمن الغذائي؛ 3.2 مليار شخص لا يستطيعون تحمل تكلفة نظام غذائي صحي؛ 3.2 مليار شخص يفتقرون إلى موقد طهي نظيف؛ 3.6 مليار شخص لا يمتلكون مرافق صرف صحي مُدارة بشكل آمن؛ ولا يحصل ما بين 3.8 و5 مليار نسمة على الخدمات الصحية الأساسية.

لا يرجع هذا إلى العجز في القدرة الإنتاجية (بل على العكس من ذلك، يمكن توفير هذه السلع لكل إنسان على كوكب الأرض بسهولة تامة)، بل لأن الإنتاج مُنظم في الغالب حول تراكم رأس المال وتعظيم الأرباح وليس حول احتياجات البشر ورفاههم. وحتى اقتصادات المركز تعاني من الحرمان من الحياة الكريمة، على الرغم من مستويات الإنتاج المرتفعة، حيث تعجز الملايين عن الحصول على السكن اللائق والرعاية الصحية والتغذية. وعلى الرغم من أن الحركات الاجتماعية التقدّمية قد أحرزت قدراً عظيماً من المكتسبات على مدى القرن الماضي من حيث تأمين الأجور العادلة والخدمات العامة والحقوق الاقتصادية، فإن الكفاح لابد أن يستمر من أجل تحقيق اقتصاد عادل حقاً.

ويؤكد الانتشار الواسع للحرمان من الحياة الكريمة في القرن الحادي والعشرين على حقيقة مهمة وهي أن التصنيع لا يضمن تحسن مستويات معيشة الناس العاديين. وكما هو الحال دائماً، فإن الأسئلة الرئيسية المطروحة هي: كيف تُستخدم القدرة الصناعية؟ هل تُستخدم لتأمين حياةٍ كريمة للجميع، أم لخدمة تراكم رأس المال؟ كيف يتم تقسيم العمل؟ هل يُعطى لجميع المناطق دوراً متساوياً في الإنتاج الصناعي، أم أن بعض المناطق أُجبرت على أداء دور الموردين التابعين في سلاسل السلع الأساسية العالمية؟ كيف يجري التعامل مع العمّال؟ هل تتوافر لديهم السيطرة على وسائل الإنتاج والوصول الآمن إلى السلع والخدمات الأساسية؟ كل هذا يعتمد على النظام السياسي ونظام الإمداد وتوازن القوى الطبقية. والتصنيع شرط ضروري ولكنه ليس كافياً لتحقيق حياة كريمة للجميع. وتعتمد التنمية الإنسانية على قوّة الحركات الاجتماعية التقدّمية التي تدفع في اتجاه تنظيم الإنتاج وفقاً للاحتياجات البشرية بدلاً من تراكم النخبة.

في الجنوب العالمي، تحدّ الرأسمالية من التطوّر التكنولوجي

وهذا يثير السؤال التالي: إذا كان الإنتاج الصناعي ضرورياً لتلبية مستويات المعيشة اللائقة اليوم، فربما تكون الرأسماليةـ - على الرغم من تأثيرها السلبي على المؤشرات الاجتماعية على مدى الأعوام الخمسمئة الماضية - ضرورية لتطوير القدرة الصناعية لتلبية هذه الأهداف العالية. وكان هذا هو الافتراض السائد في اقتصاديات التنمية على مدى نصف القرن الماضي. ولكنها لا تصمد أمام التدقيق التجريبي. بالنسبة لغالبية العالم، عملت الرأسمالية تاريخياً على لجم التطوّر التكنولوجي وليس تمكينه، ولا تزال هذه الديناميكية مشكلة رئيسية اليوم.

 لا يوظّف الرأسماليون التقنيات الجديدة إلا بقدر ما يكون ذلك مربحاً لهم، ويمكن أن يشكّل ذلك عقبة أمام التنمية الاقتصادية إذا كان الطلب على الإنتاج الصناعي المحلي ضئيلاً أو إذا كانت تكاليف الابتكار مرتفعةوقد أدرك الليبراليون والماركسيون على حد سواء منذ فترة طويلة بأن صعود الرأسمالية في الاقتصادات المركزية كان مرتبطاً بالتوسّع الصناعي السريع، على نطاق لم يسبق له مثيل في ظل الإقطاع أو الهياكل الطبقية السابقة للرأسمالية، وما هو أقل فهماً على نطاق واسع هو أن هذا النظام نفسه أنتج التأثير المعاكس في البلدان الطرفية وشبه الطرفية. والواقع أن الاندماج القسري للدول الطرفية في النظام العالمي الرأسمالي أثناء الحقبة الممتدة بين عامي 1492 و1914 كان يتسم بالتراجع الواسع عن التصنيع والزراعة، حيث اضطرت البلدان إلى التخصص في السلع الزراعية وغيرها من السلع الأولية، وكثيراً ما كان ذلك يجري في ظل ظروف «ما قبل الحداثة» و«الإقطاعية» الظاهرية.

ففي أوروبا الشرقية، على سبيل المثال، انخفض عدد سكان المدن بمقدار الثلث تقريباً في خلال القرن السابع عشر، حيث أصبحت المنطقة اقتصاداً زراعياً يقوم بتصدير الحبوب والخشب الرخيص إلى أوروبا الغربية. وفي الوقت نفسه، كان المستعمرون الأسبان والبرتغاليون يحوّلون القارتين الأميركيتين إلى مورّدٍ للمواد الثمينة والسلع الزراعية، مع قمع الدولة للتصنيع الحضري. عندما توسّع النظام الرأسمالي في أفريقيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دمّرت واردات النسيج والصلب البريطاني إنتاج النسيج المحلي وصهر الحديد، في حين فُرِضَ على الأفارقة بدلاً من ذلك التخصّص في زيت النخيل والفول السوداني، وغيرها من المحاصيل النقدية الرخيصة التي أنتجها العمل المُستعبَد. عانت الهند - التي كانت ذات يوم مركز التصنيع العظيم في العالم - من مصير مماثل بعد الاستعمار البريطاني في العام 1757، وبحلول العام 1840، تفاخر المستعمرون البريطانيون بأنهم «نجحوا في تحويل الهند من دولة مصنعة إلى دولة تصدر المنتجات الخام». تكشّفَت القصة نفسها في الصين بعد أن اضطرت إلى فتح اقتصادها المحلي للتجارة الرأسمالية في خلال الغزو البريطاني بين عامي 1839-1842. ووفقاً للمؤرخين، فإن تدفق المنسوجات الأوروبية والصابون والسلع المصنعة الأخرى «دمّر الصناعات اليدوية الريفية في القرى مسبباً البطالة والمصاعب للفلاحين الصينيين».

تحقّق التراجع الكبير في التصنيع في الدول الطرفية جزئياً من خلال التدخلات السياسية من جانب الدول الكبرى، على سبيل المثال من خلال فرض الحظر الاستعماري على التصنيع ومن خلال «المعاهدات غير المتكافئة»، والتي كان المقصود منها تدمير المنافسة الصناعية لمنتجي الجنوب، وإنشاء أسواق خاضعة للإنتاج الصناعي الغربي، ووضع اقتصادات الجنوب كرافدٍ للعمالة والموارد الرخيصة. ولكن تعزّزت هذه الديناميكيات كذلك بالسمات البنيوية للأسواق الموجّهة نحو الربح. إن الرأسماليين لا يوظفون التقنيات الجديدة إلا بقدر ما يكون ذلك مربحاً لهم. ويمكن أن يشكل ذلك عقبة أمام التنمية الاقتصادية إذا كان الطلب على الإنتاج الصناعي المحلي ضئيلاً (بسبب انخفاض الدخول، والمنافسة الأجنبية، وما إلى ذلك)، أو إذا كانت تكاليف الابتكار مرتفعة.

تغلّب الرأسماليون في الشمال العالمي على هذه المشاكل لأن الدولة تدخّلت على نطاق واسع في الاقتصاد من خلال وضع تعريفات عالية، وتقديم إعانات عامة، وتحمل تكاليف البحث والتطوير، وضمان الطلب الكافي للمستهلك من خلال الإنفاق الحكومي. ولكن في الجنوب العالمي، حيث حدَّت قرون من الاستعمار الرسمي وغير الرسمي من دعم الدولة للصناعة، كان تصدير السلع الزراعية الرخيصة أكثر ربحية بالنسبة للرأسماليين من الاستثمار في تصنيع التكنولوجيا المتطورة. وتعتمد ربحية التقنيات الجديدة كذلك على تكاليف العمل. وفي الشمال، حيث الأجور مرتفعة نسبياً، وجد الرأسماليون تاريخياً أنه من المربح استخدام التقنيات الموفرة للعمالة. ولكن في الاقتصادات الطرفية، حيث الأجور مضغوطة إلى حد كبير، كان استخدام تقنيات الإنتاج الكثيفة العمالة أقل تكلفة في كثير من الأحيان من دفع ثمن الآلات المكلفة.

لا شك أن التقسيم العالمي للعمل تغير منذ أواخر القرن التاسع عشر. فالآن انتقلت العديد من الصناعات الرائدة في ذلك الوقت، بما في ذلك صناعات المنسوجات والصلب وخطوط التجميع، إلى اقتصادات طرفية متدنية الأجور مثل الهند والصين، في حين انتقلت دول المركز إلى الأنشطة الإبداعية، والفضاء وهندسة التكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا المعلومات، والزراعة الكثيفة رأس المال. ومع ذلك فإن المشكلة الأساسية لا تزال قائمة. ففي ظل العولمة الليبرالية الجديدة (برامج التكيف الهيكلي وقواعد منظمة التجارة العالمية)، تُمنَع الحكومات في الدول الطرفية عموماً من استخدام التعريفات، وإعانات الدعم، وغير ذلك من أشكال السياسة الصناعية لتحقيق التنمية والسيادة الاقتصادية، في حين نجحت عملية إلغاء القيود التنظيمية في سوق العمل والموازنة العالمية للعمالة في الإبقاء على الأجور منخفضة للغاية. وفي هذا السياق، فإن السعي إلى تحقيق أقصى قدر من الربح يدفع رأسماليي الجنوب والمستثمرين الأجانب إلى ضخّ الموارد في قطاعات تصدير ذات تكنولوجيا خفيضة نسبياً، على حساب قطاعات الصناعة الأكثر حداثة.

وعلاوة على ذلك، وبالنسبة لتلك الأجزاء الطرفية التي تحتل أدنى درجات سلاسل السلع العالمية، فإن الإنتاج لا يزال منظماً وفق ما يسمى باتجاهات ما قبل الحداثة، حتى في ظل التقسيم الجديد للعمل. ففي الكونغو، على سبيل المثال، يُرسَل العمّال إلى المناجم من دون أي معدات حديثة للسلامة، حيث يحفرون أنفاقاً في أعماق الأرض بالمجارف، ويجبرون على ذلك تحت تهديد سلاح الميليشيات التي تدعمها الولايات المتحدة، حتى تتمكّن ميكروسوفت وأبل من تأمين الكولتان الرخيص الثمن اللازم لأجهزتهما الإلكترونية. كما توجد عمليات الإنتاج ما قبل الحديثة القائمة على «تكنولوجيا» إكراه العمّال في مزارع الكاكاو في غانا وساحل العاج، حيث يعمل الأطفال المستعبدون في ظروف وحشية مع شركات مثل كادبوري، أو في قطاع تصدير الموز في كولومبيا، حيث يشرف نظام إرهاب ريفي مؤلف من فرق موت خاصة على الفلاحين المستغَلين.

إن التطوّر العالمي غير المتكافئ، بما في ذلك استمرار علاقات الإنتاج «الإقطاعية» ظاهرياً، ليس أمراً محتماً. إنه أحد آثار الديناميكيات الرأسمالية. ويجد الرأسماليون في الأطراف أنه من المربح أكثر أن يوظِّفوا العمالة الرخيصة الخاضعة لظروف العبودية أو غيرها من أشكال الإكراه بدلاً من الاستثمار في الصناعة الحديثة.

التنمية الناجحة تتطلّب تخطيطاً عاماً

إن الترتيب الحالي للاقتصاد العالمي لا يمكن أن يحقق تنمية مجدية في الجنوب العالمي. وكما رأينا، فإن الديناميات الإمبريالية والتوجّه نحو الربح لرأس المال الوطني والاستثمار الأجنبي تعمل ضد هذه الإمكانية. وقد أدركت الحركات المعادية للاستعمار في منتصف القرن العشرين هذه الحقيقة. وهم يدركون أن تحقيق التنمية يتطلّب تعبئة الإنتاج بشكل مباشر لزيادة إنتاج المنتجات الرئيسية، وتطوير التقنيات اللازمة، وتقديم السلع والخدمات الأساسية.

حتى في ظل الرأسمالية، كانت اقتصادات المركز تعتمد دوماً على التخطيط العام لتيسير التطور التكنولوجي. في خلال الثورة الصناعية الأولى كانت إنكلترا واحدة من أقوى الدول تدخّلاً في العالم، حيث استخدمت تعريفات حمائية ومعدّلات ضريبية والإنفاق بالعجز لبناء القدرات الصناعية

كانت معظم هذه الحركات مستوحاة من المبادئ الاشتراكية بدرجات متفاوتة، والتي اعتبروها ضرورية للسيادة الاقتصادية والتقدّم الاجتماعي. تأثر الكثيرون بإنجازات الثورة الروسية. قبل العام 1917، كانت روسيا منطقة زراعية معزولة منخفضة الأجور تقوم بتصدير المواد الخام الرخيصة (الحبوب والقنب والكتان وغيرها) إلى أوروبا الغربية. في العام 1899، أشار وزير المالية الروسي سيرجي ويت إلى أن «العلاقات الاقتصادية لروسيا مع أوروبا الغربية يمكن مقارنتها تماماً بعلاقات الدول المستعمرة مع مدنها الكبرى». وقد غيّرت الثورة الشيوعية والانتقال إلى التخطيط في العام 1928 هذا الترتيب. من خلال تحديد أهداف الإنتاج للآلات والمصانع وغيرها من سلع المنتجين، تمكن الاتحاد السوفياتي من زيادة الإنتاج في القطاعات التي عادة ما يتم إهمالها في ظل الرأسمالية الطرفية. توسع الإنتاج الصناعي السوفياتي بسرعة على مدى السنوات الثلاث عشرة التالية: زاد الإنتاج المادي للحديد الخام بنسبة 352%؛ الطاقة الكهربائية بنسبة 857%؛ عدد المعدات الآلية بنسبة 1,997%؛ وعدد المركبات بنسبة 28,457%. وبحلول الخمسينيات - في خلال جيل واحد - أصبح الاتحاد السوفياتي اقتصاداً صناعياً حديثاً، وأول بلد ينجز العديد من المعالم الرئيسية في هندسة الفضاء، بما في ذلك إرسال أول شخص إلى الفضاء وإنشاء أول محطة فضائية.

أدرجت العديد من البلدان في الجنوب العالمي استراتيجيات تخطيط مماثلة في منتصف القرن العشرين. واتبع آخرون نهجاً «تنموياً» أكثر اختلاطاً معتمدين على السياسة الصناعية في إطار اقتصاد السوق. فقد استخدمت غالبيتهم التعريفات الجمركية والإعانات لدعم الصناعة الوطنية، فضلاً عن الإصلاح الزراعي والتأميم وفرض الضوابط على رأس المال والتمويل العام لتعبئة الاستثمار لصالح القطاعات المهملة والخدمات العامة. وقد نجح هذا النهج في تحقيق التنمية السريعة والتحسينات في النتائج الاجتماعية في خلال الخمسينيات وحتى السبعينيات، مُتغلباً على قرون من الركود أو التراجع. وتثبت الأدلة التي استعرضناها في World Development هذا التقدّم في الحالات المختلفة عبر أميركا اللاتينية وأفريقيا - جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا والصين.

ولا ينبغي أن يفاجئنا نجاح هذه الاستراتيجيات. فحتى في ظل الرأسمالية، كانت اقتصادات المركز تعتمد دوماً على التخطيط العام لتيسير التطور التكنولوجي. وفي خلال ما يسمى بالثورة الصناعية الأولى (بين عامي 1750 و1840)، كانت إنكلترا واحدة من أقوى الدول تدخّلاً في العالم، حيث استخدمت تعريفات حمائية عالية ومعدّلات ضريبية مرتفعة والإنفاق بالعجز العام لبناء القدرات الصناعية وتوجيهها، استخدمت ألمانيا واليابان والولايات المتّحدة سياسات تدخل مماثلة «للحاق» بإنكلترا منذ خمسينيات القرن التاسع عشر فصاعداً. وتبيّن مؤخّراً أن الاستثمار العام كان مسؤولاً عن العديد من الإبداعات الرئيسية التي أحدثتها ثورة تكنولوجيا المعلومات، بما في ذلك الإنترنت، ونظام تحديد المواقع العالمي، والشاشات التي تعمل باللمس، والتكنولوجيا الخلوية، وبطاريات أيون الليثيوم، ومحرّكات الأقراص الصلبة الدقيقة، وشاشات العرض البلورية السائلة، وسِيري، وغيرها.

وبالنسبة للدول الشيوعية في الأطراف، لم يكن الهدف هو تعبئة الموارد اللازمة للتصنيع فحسب، بل تنظيم الإنتاج حول الخدمات العامة والاحتياجات الإنسانية على نحو كان مهملاً أو حتى مستحيلاً في ظل الرأسمالية. وتؤكد الدراسات التجريبية أنها حققت نتائج اجتماعية أفضل من نظيراتها الرأسمالية عند أي مستوى معيّن من الإنتاج الوطني، بما في ذلك ارتفاع متوسط العمر المتوقع، والتحصيل التعليمي الأفضل، وانخفاض معدل وفيات الأطفال، كما أنها حقّقت تقدّماً قوياً في مواجهة الفقر المدقع: بحلول ثمانينيات القرن العشرين، كان انتشار الفقر الأساسي عند مستوى الصفر تقريباً في كل من الصين وروسيا. كما لاحظ الاقتصادي أمارتيا سين في دراسته لعام 1981 حول الصحة ومحو الأمية الإنجازات في جميع أنحاء العالم: «إحدى الأفكار التي لا بد وأن تكون موحية هي أن الشيوعية فعّالة في إنهاء الفقر». وقد سلّط سين الضوء بصفةٍ خاصة على الفروق الهائلة في معدلات الوفيات بين الصين والهند، قائلاً إن الهند عانت من أكثر من واحد وثلاثين مليون وفاة إضافية كل ثماني سنوات مقارنة بمعدل الوفيات في الصين والتي كان يمكن منعها باتباع سياسات بسيطة لضمان حصول الجميع على الغذاء والرعاية الصحية.

هذا التوجّه - وعصر السيادة الاقتصادية في الدول الطرفية - لم يدم طويلاً بطبيعة الحال. إن السياسة التنموية والاشتراكية التي تقودها الدولة قيّدت من إمكانية وصول الشمال إلى العمالة والموارد الرخيصة، وبالتالي تدخّلت الدول الكبرى، في بعض الحالات عن طريق الإطاحة بالحكومات التقدّمية والقومية من خلال الانقلابات (في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وإندونيسيا، والبرازيل، وغانا، وشيلي، وهلم جرا)، وفي حالات أخرى عن طريق فرض برامج التكيف الهيكلي التي قلبت سياسات الحركات المناهضة للاستعمار (إلغاء التعريفات الجمركية والإعانات الحمائية، وخفض الإنتاج العام والخدمات العامة، وخصخصة الأصول الوطنية). وتشير البيانات الواردة في ورقتنا المنشورة في World Development إلى أن هذه التدخّلات الاستعمارية الجديدة قلبت التقدّم المحرز في خلال الفترة التنموية، حيث انخفضت الأجور الحقيقية في كثير من الحالات إلى ما دون مستوى القرنين السابع عشر أو الثامن عشر. قاد التكيف الهيكلي في الصين وروسيا في أوائل التسعينيات إلى زيادة هائلة في الفقر المرتبط بالحاجات الأساسية، الذي ارتفع من الصفر تقريباً إلى 68% و24% على التوالي.

كانت هناك استثناءات، بالطبع. فقد سمحت الولايات المتحدة وحلفاؤها لتايوان وكوريا الجنوبية، بل ودعمتهما بقوة، بالاستمرار في استخدام سياسة التنمية التي تقودها الدولة، الأمر الذي أدى إلى بنائهما كطوقٍ وقائي حول الصين الثورية. وتمكّنت الصين، على الرغم من الحرمان من الاحتياجات الأساسية الناجم عن التكيف الهيكلي، من مواصلة الاستثمار في المشاريع العامة بنجاح كبير. وتجنّبت كوبا التكيف الهيكلي تماماً، وحافظت على اقتصاد اشتراكي، يتفوق اليوم على معظم البلدان الهامشية من حيث نسب الرعاية الاجتماعية، ومتوسط العمر المتوقع، ووفيات الرضع، والتغذية. كما عزّزت الحكومة الكوبية صناعة التكنولوجيا الحيوية العامة المزدهرة، والتي طوّرت ابتكارات طبية متطورة بما في ذلك عقاقير لقرحةِ القدم السكري ولقاحين على الأقل ضد كوفيد-19، على الرغم من خضوعها لحصار غير شرعي تفرضه الولايات المتحدة والذي يمنع استيراد التقنيات الطبية.

يوضّح هذا التاريخ إمكانيات الإفلات من التخلف في إطار الاقتصاد العالمي الإمبريالي. ولكنه محاط بتحذيرات. قد يفشل الإتجاه التنموي، من دون سياسة اشتراكية، في معالجة المشاكل الأساسية المتمثلة في التفاوت وعدم المساواة، كما توضح حالة كوريا الجنوبية. وقد يقود استمرار تراكم رأس المال إلى خلق ضغوط لخفض اليد العاملة، بما في ذلك من خلال الإمبريالية الفرعية، وهو ما يعمل ضد أهداف التطور البشري. ولا يمكن لهذا النهج أن يحقق الديمقراطية الاقتصادية والرفاه للجميع. قد يسمح التخطيط من أعلى إلى أسفل، كما هو الحال في الاتحاد السوفياتي والصين في فترة ماو تسي تونغ، باتباع سياسات تتعارض مع مصالح السكان - على سبيل المثال، السياسات الزراعية التي تسبّبت في المجاعة السوفياتية في بين عامي 1932 و1933. وهذا يتعارض مع الأهداف الاشتراكية للإدارة الذاتية للعمال والرقابة الديمقراطية على الإنتاج. وللتغلب على هذه المشاكل، نحتاج إلى استراتيجية اشتراكية في القرن الحادي والعشرين تتسم بالديمقراطية الجذرية وتوسّع نطاق الديمقراطية لتشمل الإنتاج ذاته.

خاتمة

وخلاصة القول إن السردية القائلة بأن صعود الرأسمالية دفع عجلة التقدّم ضد الفقر المدقع لا تدعمها الأدلة التجريبية. على العكس من ذلك، ارتبط صعود الرأسمالية بانخفاض ملحوظ في رفاهية الإنسان، وهو الاتجاه الذي لم ينقلب إلّا في القرن العشرين، عندما سعت الحركات الاجتماعية الراديكالية والتقدمية إلى انتزاع بعض السيطرة على الإنتاج وتنظيمه بشكل أكبر لتلبية الاحتياجات البشرية.

أما فيما يتعلق بشرط الفقر المدقع، فلا يمكن استخدامه على نحو مشروع كمعيار لقياس التقدم المحرز. إن الفقر المدقع ليس حالةً طبيعية، بل إنه نتيجة لانتزاع الملكية، والمصادرة، والاستغلال. وليس من المحتم أن يكون موجوداً في أي مكان، وبالتأكيد ينبغي ألا يكون موجوداً في أي مجتمع عادل وإنساني. ويمكن، بل ويجب، إلغاؤه على الفور.

نحن نعلم أن التنمية الرأسمالية تفتقر إلى الكفاءة البيئية عندما يتعلق الأمر بتلبية الاحتياجات الإنسانية. ولأن الإنتاج في ظل الرأسمالية منظم حول تعظيم الربح، ينتهي بنا الأمر إلى أشكال الإنتاج الضّارة بيئياًوإذا كان هدفنا هو تحقيق تحسينات جوهرية في رفاه الإنسان، فينبغي قياس التقدّم بمستويات المعيشة اللائقة والوصول إلى وسائل الرفاه الحديثة. وفي الوقت الحالي لا تُظهِر الرأسمالية أي بادرة تشير إلى تحقيق هذا الهدف على الإطلاق، ويبدو أن الديناميكيات الإمبريالية في الاقتصاد العالمي تعمل بنشاط على منع تحقيق هذا الهدف.

وكما رأينا، يوضح السجل التاريخي أن التخطيط العام والسياسة الاشتراكية يمكن أن يكونا فعّالين في تحقيق التنمية الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية السريعة. وإعادة اكتشاف قوّة هذا النهج أمر ضروري إذا أرادت حكومات الجنوب تعزيز سيادتها الاقتصادية وتعبئة الإنتاج لضمان حياة كريمة للجميع. ويتطلّب تحقيق هذا الهدف بناء حركات سياسية للطبقات العاملة والفلاحين في الجنوب تتمتع بالقوة الكافية لتحل محل الحكومات التي تستولي عليها حالياً الطُّغم السياسية المتحالفة مع رأس المال المحلي أو الدولي؛ والحدِّ من الاعتماد على الدائنين الكبار والعملات والواردات؛ وإنشاء تحالفات بين بلدان الجنوب قادرة على المواجهة. وينبغي أن تكون التشكيلات التقدمية في المركز مستعدة لدعم هذه الحركات والدفاع عنها.

إن الحجة المؤيدة للسياسة الاشتراكية واضحة، ولا سيما بالنظر إلى حقيقة الأزمة البيئية العالمية التي نواجهها، والتي يدفعها بشكل كبير الاستخدام المفرط لموارد الطاقة والمواد في الدول الكبرى، بما في ذلك تخصيصها الصافي للموارد من الدول الطرفية. ونحن نعلم أن التنمية الرأسمالية تفتقر إلى الكفاءة البيئية عندما يتعلق الأمر بتلبية الاحتياجات الإنسانية. ولأن الإنتاج في ظل الرأسمالية منظم حول تعظيم الربح، ينتهي بنا الأمر إلى أشكال الإنتاج الضّارة بيئياً: السيارات الرياضية، والأزياء السريعة، والأسلحة، والإعلانات بدلاً من وسائل النقل العام، والإسكان الميسور التكلفة، والأطعمة المغذية. والنتيجة هي اقتصاد عالمي تُفْرِط فيه الدول المركزية بشكل كبير في استخدام الموارد والطاقة ومع ذلك لا يزال النظام يفشل في تلبية العديد من الاحتياجات البشرية الأساسية.

وتشير النمذجة الحديثة إلى أن الحد من الكربون بسرعة كافية للبقاء من دون ارتفاع عند حد 1.5 درجة مئوية في متوسط درجة الحرارة العالمية في نهاية القرن سوف يتطلب تخفيضات كبيرة في استخدام الطاقة والمواد على الصعيد العالمي، تقع على الاقتصادات المركزية. ويمكن تحقيق هذا التخفيض مع القضاء في الوقت نفسه على الفقر وتوفير مستويات معيشية لائقة لسكان العالم البالغ عددهم عشرة مليار نسمة - بما في ذلك السكن، والكهرباء، والتدفئة/التبريد، والطهي النظيف، والتبريد، والنقل، والرعاية الصحية، والتعليم، والصرف الصحي، والهواتف المحمولة، والحوسبة. ولكن تحقيق ذلك يتطلب تخطيطاً ديمقراطياً: (أ) ضمان الإنتاج والتوزيع السريع للتكنولوجيات الفعالة؛ (ب) إعادة تنظيم الإنتاج حول تلبية الاحتياجات البشرية لا حول تراكم رأس المال؛ (ج) الحد من أشكال الإنتاج المدمِرة بيئياً والأقل ضرورة لتقليص الطاقة الزائدة وإنتاج المواد في المركز؛ (د) تقليص القوة الشرائية للأثرياء بصورةٍ كبيرة وتوزيع الموارد على نحوٍ أكثر إنصافاً.

يستند هذا المقال إلى البيانات والتحليلات الواردة في المقال الأصلي للمؤلفين حول مشكلة «الرأسمالية والفقر المدقع»، المنشور في مجلّة World Development الأكاديمية في العام 2022.

نُشِر هذا المقال في Monthly Review في الأول من تموز/يوليو 2023.