خالد فهمي: هذه هي أسباب هزيمة 1967
اندلعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 جولة أخرى من الحرب في سياق الصراع العربي الفلسطيني مع إسرائيل. وسرعان ما تحوّلت إلى حرب إبادة على قطاع غزة، وتوسّعت إلى لبنان والمنطقة بأشكال متفاوتة. ومن التمارين المفيدة لفهم هذه الحرب وحيثياتها ومآلاتها واستشراف ما يمكن أن يترتّب عنها هي الاستفادة من تاريخ حروب إسرائيل السابقة. ولهذه الغاية أُجريت هذه المقابلة مع الدكتور خالد فهمي، الأستاذ المحاضر في قسم التاريخ في جامعة تافتس بولاية ماساتشوستس الأميركية، الذي سبق له أن درّس في جامعات مثل برنستون وهارفارد وكولومبيا، وله مؤلفات عدّة منها «كل رجال الباشا» الذي يتناول فيه مرحلة حكم محمد علي وبناء دولة مصر الحديثة، وكتاب «سعي إلى العدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة».
نص المقابلة:
هناك فكرتان رئيستان في النقاش العام، خصوصاً في لبنان، بشأن تقييم الحرب الجارية. تعتبر الفكرة الأولى أن ما يجري هزيمة شبيهة بهزيمة العام 1967، ويترتّب عليها تداعيات مُشابهة من نقد الذات ونقد العقل العربي، أما الفكرة الثانية فتحاجج أن ما يجري هي حرب استنزاف تخوضها منظّمات ومجموعات ضد إسرائيل.
دعنا نبدأ بالنقطة الأولى عن الهزيمة، كيف تم فهمها والتعامل معها من الأطراف المختلفة، سواء المجتمع المصري أو نظام عبد الناصر، على المديين القريب والبعيد.
خالد فهمي: الحديث عن الهزيمة والمقارنة بين ما حدث في العام 1967 والوضع الحالي هو مدخل مهم لنبدأ به. هذه المقارنة ليست جديدة؛ إسرائيل نفسها تعقد مقارنة بين اللحظتين. فهي ترى في الأحداث الحالية، كما في هزيمة 1967، فرصة لإعادة رسم الخريطة الإستراتيجية للمنطقة لمصلحتها، من خلال ترجمة النتائج العسكرية على الجبهات المصرية والسورية والأردنية والفلسطينية إلى حقائق دبلوماسية وسياسية جديدة. وهم يرون فيما يحصل اليوم في غزة ولبنان فرصة تسمح لها بإعادة رسم الخريطة بشكل إستراتيجي وإحداث تغيير جوهري في المنطقة كلها.
ومع ذلك، أعتقد أن هذه المقارنة ليست دقيقة تماماً على الرغم من أني لا أملك إجابة مُحدّدة عليها ولكن يمكن تلمّس بعض الإجابات. إذا أخذنا مصر، التي تعتبر أهم منافس عربي لإسرائيل وكانت أكبر طرف عربي هُزم في حرب 1967، حين فقدت سيناء التي تشكّل 6% من مساحة مصر، وتعرّضت لتدمير شامل في سلاحها الجوّي وخسرت بسببها أكثر من 90% منه و85% من معداتها البرّية من دبابات وناقلات جند ومدافع. بالإضافة إلى خسائر بشرية هائلة تجاوزت 10 آلاف قتيل، مع عدد مماثل من الأسرى والجرحى وإجهاز إسرائيل على الجيش.
بعد الهزيمة قال عبد الناصر: لم نُهزم طالما لم نوقّع معاهدة صلح ولم نتخلَ عن مبادئنا وعن الشعب الفلسطيني. لقد كان واضحاً أن الهزيمة عسكرية، لكنها لم تمثّل هزيمة للمشروع السياسي أو الوطني
مع ذلك، مصر لم تستسلم. في 9 تموز/يونيو 1967، أعلن عبد الناصر استقالته، لكن خرجت في اليوم نفسه الجماهير إلى الشوارع تطالبه بالعدول عن قراره، حتى قبل أن ينهي خطابه. هناك جدل عن محاولة تفسير هذه المطالبات ومدى عفوية هذه التظاهرات، إذ يرى البعض أنها نُظّمت من الاتحاد الاشتراكي بهدف إنقاذ النظام، بينما تشكّك شهادات أخرى بالموضوع وتشير إلى أن الناس نزلت إلى الشوارع طواعية. أنا أرى أن الأمر هو مزيج من الاتجاهين. من خلال قراءتي لعدد كبير من الشهادات، يمكنني القول إن الناس نزلت إلى الشوارع طواعية قبل أن يتدخّل الاتحاد الاشتراكي ويشرك العمّال.
ما يهمّ هنا هو الرسائل التي حملتها هذه الجماهير، وما أرادوا قوله لعبد الناصر. كان البعض غاضباً من عبد الناصر وحمّله مسؤولية الهزيمة وطالبوه بتحمّل المسؤولية لإخراج البلاد من هذه الأزمة. وهناك من رفض الاستسلام أو التفاوض حاملاً شعار أننا لن نستسلم على الرغم من الهزيمة. وكان البعض رافضاً لتعيين زكريا محي الدين الذي سمّاه عبد الناصر في خطابه. مثّل محي الدين في المخيلة المصرية الرجل الأكثر استعداداً للتفاوض مع الأميركيين. وعندما ذهب الناس إلى منزله، التقوا محمد فايق (أحد مستشاري عبد الناصر)، وضربوه بالطوب ظناً منهم أنه زكريا محي الدين. بمعنى أننا نرفض الاستسلام وتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، وبعبارة أخرى، نرفض نتائج هذه الحرب.
وهو ما تجلّى لاحقاً في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في آب/أغسطس 1967، الذي أعلن «اللاءات الثلاث الشهيرة»: لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل.
وعبد الناصر نفسه في أحد خطاباته أو تصريحاته بعد الهزيمة قال: لم نُهزم طالما لم نوقّع معاهدة صلح ولم نتخلَ عن مبادئنا وعن الشعب الفلسطيني. بمعنى آخر، كان واضحاً أن الهزيمة عسكرية، لكنها لم تمثّل هزيمة للمشروع السياسي أو الوطني. لم يسقط النظام، وظلت الأفكار الداعمة له قائمة. لم يكن هناك أحد يطالب عبد الناصر قائلاً: لقد تعبنا، نحن نتحمّل أعباء القضية الفلسطينية، وليس لنا طاقة بمواجهة إسرائيل. لم تُقل هذه العبارات في العام 1967. ولم توقّع مصر معاهدة صلح بعد الهزيمة مباشرة، بل بعد 12 عاماً في العام 1979. وللمفارقة، كان ذلك بعد نصر مُفترض في حرب 1973.
السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كعرب هو: كيف ندرس هذا الموقف؟ وعلى من يعقدون المقارنات أن يتذكّروا أن الهزيمة وقعت، وأن هناك إدراكاً بها، وأن إسرائيل عاشت لحظة نشوة بعد هذه الهزيمة. ومع ذلك، لم تُترجم تلك الهزيمة إلى وقائع على الأرض أو معاهدات أو وقائع دبلوماسية جديدة.
بعد أقل من عام، أو ربما عام واحد، من الهزيمة في حزيران/يونيو 1967، شنّت مصر ما عُرف بـ«حرب الاستنزاف». ماذا كانت حيثيات هذه الحرب وأهدافها في سياق الإستراتيجية العامّة للصراع مع إسرائيل؟ تبدو هذه المسألة مهمّة في حين تحاول منظّمات في الإقليم اليوم للتنظير بأنها تخوض اليوم حرب استنزاف ضد إسرائيل أيضاً.
خالد فهمي: كان الجيش مهزوماً ويحتاج وقتاً لإعادة بنائه. كان الحصول على السلاح سهلاً، لكن التدريب عليه يتطلّب وقتاً، وكذلك إعادة بناء ثقة الجندي المصري بنفسه وبقيادته. وهذا يستدعي اشتباكاً عسكرياً لأن الثقة لا تُبنى بالكلام النظري في المحاضرات فقط بل من خلال المعارك. وفي الوقت نفسه، لم يكن الجيش مستعداً للمعركة.
من جهة أخرى، لم تكن لدى مصر القدرة على استعادة الأرض فوراً، على الرغم من رفع الشعار «ما أُخذ بالقوّة لا يُسترد إلا بالقوّة». بمعنى أن الأرض لن تُستعاد بمعاهدة سلام بل بالحرب. في المقابل، لم يكن هناك جهوزية لحرب ولم يكن مُمكناً أيضاً الانتظار طويلاً. كانت هذه المعضلة أو الإشكاليّة لصانع القرار المصري: ليس لدي ما يكفي من السلاح لتحرير الأرض وهزيمة إسرائيل، ولكن ليس لدي أيضاً رفاهية الانتظار. وكل يوم يمرّ يجعل المهمة أكثر صعوبة، وكلّما ثبتت إسرائيل أقدامها أكثر في الأراضي المحتلة، زادت التحدّيات. إذن، ماذا أفعل؟
تمثّل الجواب بدرس نقاط تفوّق العدو العسكرية ونقاط تفوّق مصر. إسرائيل متفوّقة في المدرّعات وسلاح الجوّ، ومصر متفوقة في العدد والمدفعية. وعليه، اتخذ خيار فتح جبهة حرب تُطلق فيها مصر قنابلها وصواريخها على المواقع الإسرائيلية المتحصّنة. لم يعنِ ذلك أن مصر قادرة على عبور قناة السويس، ولكنه يعني أن الإسرائيليين الذين يعتقدون أنهم يمكنهم الاسترخاء والاصطياد على شاطئ القناة كما يحلو لهم لن يستطيعوا فعل ذلك. وكان المراد تحقيق أكبر عدد من الإصابات المُمكنة. وهذا كان الاستنزاف.لم يقل أحد: لقد تعبنا، وليس لنا طاقة بمواجهة إسرائيل. لم تُقل هذه العبارات في العام 1967. ولم توقّع مصر معاهدة صلح بعد الهزيمة مباشرة، بل بعد 12 عاماً، وللمفارقة، كان ذلك بعد نصر مُفترض في حرب 1973بقي الإسرائيليون في حالة خوف دائم بسبب عمليّات الكوماندوس، مثل خطف جنود أو زرع متفجّرات. استمرّت العمليات شهوراً. لاحقاً أغرِقت المدمّرة الإسرائيلية «إيلات» قبالة سواحل بورسعيد، وردّت إسرائيل باستخدام سلاح الجوّ واستهداف المواقع المدفعية المصرية، ثم توسّعت في قصف العمق، وقد شمل القاهرة والوادي وصولاً إلى نجع حمادي في الجنوب.
بالنتيجة، قرّرت مصر بناء ما سُمّي بـ«حائط الصواريخ» بمساعدة من الاتحاد السوفياتي. في زيارة شهيرة لعبد الناصر إلى موسكو في كانون الثاني/يناير 1970، طلب من القيادة السوفياتية تزويده بأحدث أنظمة الدفاع الجوي ومقاتلات لحماية فرق العمل التي ستبني حائط الصواريخ. وفقاً لما نقله محمد حسنين هيكل، جاء الردّ السوفياتي بداية بأن هذه الخطوة تمثل تصعيداً خطيراً قد يؤدّي إلى مواجهة مع الولايات المتّحدة. وبحسب هيكل أيضاً، ردّ عبد الناصر قائلاً: «هذا يعني أنكم سوف تخسرون الحرب. إسرائيل تحصل على أحدث الأسلحة من الولايات المتّحدة من دون تردّد، بينما أنتم تتردّدون في تزويدي بما أحتاجه. إن كان هذا موقفكم، فأنا لست مستعداً للاستمرار، وسوف أستقيل». يعكس هذا الردّ الصارم، وفقاً له، جدّية، ولم يكن مجرّد مناورة.
بعد ذلك، وافق السوفييت على تزويد مصر بأحدث تكنولوجيا للدفاع الجوي، بما في ذلك منظومات صواريخ ومقاتلات لم يسبق أن خرجت من حلف وارسو. وبالتعاون مع الخبراء السوفييت، تمكّنت مصر من بناء حائط الصواريخ تدريجياً وبشكل معقّد حتى وصل إلى حافة قناة السويس بحلول آب/أغسطس 1970. حمت هذه المظلة الدفاعية القوات المصرية المرابطة على طول القناة، ما أعاق قدرة إسرائيل على اختراق العمق المصري كما كانت تفعل سابقاً. وفي النهاية، تم التوصّل إلى وقف إطلاق النار في آب/أغسطس 1970 وفقاً لمبادرة روجرز.
كان بناء حائط الصواريخ مُكلفاً للغاية، وشارك فيه الآلاف من المدنيين والعسكريين المصريين. تولى عدد كبير من المهندسين بناء الدشم، وهي عبارة عن منصّات إسمنتية تُوضع عليها الصواريخ. ووضع حول هذه الصواريخ مدافع دفاع جوي تُطلق قذائف تنفجر في السماء لحماية البطاريات. لم تمر ليلة من دون أن تتعرّض هذه الدشم للقصف. بمجرّد الانتهاء من بناء دشمة، كانت إسرائيل تقصفها في اليوم التالي، ما خلق سباقاً مع الزمن. تمثّل التحدّي في كيفية بناء هذه الدشم والبطاريات بسرعة كافية لتحقيق الحماية المطلوبة. وضِع هدف استكمال بناء البطارية في غضون أسبوع، لتكون كلّ بطارية قادرة على حماية البطارية المجاورة لها. ولهذا السبب، أُطلق عليها اسم «حائط الصواريخ»، إذ كانت كل بطارية توفر حماية متكاملة ضمن شبكة دفاعية. عندما أدركت إسرائيل ما يحدث، بدأت تنفيذ هجماتها على ارتفاعات منخفضة. وهنا ظهرت الحاجة إلى بطاريات جديدة قادرة على التعامل مع الطائرات المحلقة على ارتفاعات منخفضة أيضاً مثل منظومة «سام 3».
كانت تلك إذن ربّما اللحظة الفريدة التي يحاول فيها طرف معادٍ لإسرائيل أن يجد حلّاً جدّياً لسلاح الجو الإسرائيلي الذي يشكّل إحدى نقاط قوّتها العسكرية الأساسية. وهذا يقودنا، إلى نقطة أوسع تتعلّق بالتفوّق التكنولوجي. يبدو أننا أمام مئة عام من التفوّق التكنولوجي العسكري الإسرائيلي على كل القوى في المنطقة. هل توافق على قول إن هذه الفجوة كانت الأضيق في مرحلة مصر الناصرية؟ وماذا يمكن النظر إلى التكنولوجيا العسكرية في إطار متكامل يشمل ظهيراً دولياً وتصنيعاً محلياً ودورة اقتصادية متكاملة. كيف كان الوضع في مصر قبل وبعد 1967 على هذا الصعيد؟
خالد فهمي: أنا أعمل حالياً على مشروع الصواريخ المصري وتحديداً في أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي. لقد كان مشروعاً تكنولوجياً متطوّراً، وتمت الاستعانة بخبراء ألمان غربيين لبناء صواريخ طويلة المدى، ونحن نعرفها في مصر مثل «الظافر» و«القاهر». شكّلت هذه الصواريخ موضوعاً للسخرية لأننا لم نرها تستخدم فعلياً ضدّ إسرائيل بل في عروض عسكرية فقط. وبالتالي هناك أسئلة عن ما إذا كانت هذه الصواريخ حقيقية أم لا؟
قبل الخوض في هذا الموضوع دعني أقول شيئاً عن النقطة التي ذكرتها عن الفجوة التكنولوجية بين إسرائيل والدول العربية. هناك واقعة أستشهد بها أحياناً، وهي زيارة حاملة الطائرات الأميركية لإسرائيل منذ حوالي سبع أو ثمان سنوات. وصلت إلى ميناء حيفا للتزوّد بالوقود، وشكل رسوها حدثاً مهماً، يومها كان بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء وزار حاملة الطائرات برفقة زوجته. وفي تلك الزيارة، قال لهم بالإنكليزية: «نحن حاملة طائراتكم في المنطقة»، معنى ذلك أن رئيس دولة أو رئيس حكومة دولة يعلن بشكل فجّ وعلني أنه يعمل لمصلحة دولة أخرى ويتباهى بذلك.
وُجِدت هذه الفكرة منذ بداية المشروع الصهيوني في عهد هرتزل، الذي قال إننا سوف ننشئ مرتكزاً عسكرياً ضدّ «الهمجية». تستخدم هذه العقلية المصطلحات العسكرية للتعريف بإسرائيل، فهي بالفعل رأس الحربة الغربية. قد يبدو هذا الكلام شعارات قديمة، ولكن هذا هو الواقع. هم يعترفون بذلك ويتفاخرون به. والآن هناك تعهّد أميركي بتفوّق إسرائيل على الدول العربية مجتمعة، في التكنولوجيا والعسكر، وخصوصاً في سلاح الطائرات.
تتعلّق الفكرة بفلسفة حرب الاستنزاف: إدراك نقاط قوة العدو ووضع خطة تكتيكية مبنية على رؤية إستراتيجية طويلة المدى، قوامها عدم الاستسلام. لقد كان الهدف واضحاً: «أنا أضعف، لكنني لن أستسلم»
وبالعودة إلى السؤال، في رأيي، أدرك عبد الناصر تفوّق سلاح الجوّ الإسرائيلي منذ العام 1956، في تحليله لنتائج العدوان الثلاثي، الذي شكّل في آنٍ انتصاراً دبلوماسياً له وهزيمة عسكرية بسبب هزيمة سلاح الجوّ المصري. كان لهذه الهزيمة الكثير من الأسباب، منها أن سلاح الجو دُمّر في العام 1956 على الأرض من الطيران الفرنسي والبريطاني وليس الإسرائيلي فقط. وأيضاً بسبب مواجهات جوية بين الطائرات المصرية التي حصلت عليها مصر من طراز ميغ 15، والطائرات الإسرائيلية التي حصلت عليها من فرنسا مثل مستير 4. أدرك عبد الناصر أن المستير تميّزت بسرعة أعلى مقارنة بالميغ، إلا أن مداها كان أقصر، وكانت أكثر قدرة على المناورة والقتال، ومدافعها أقوى وأسرع وأكثر كفاءة. بدأ يدرك أن هناك تفوقاً لسلاح الجوّ الإسرائيلي على سلاح الجوّ المصري. وفي رأيي، استثماره في مشروع الصواريخ طويلة المدى أتى نتيجة لهذا الإدراك. حاول أن يواجه هذا التفوّق الإسرائيلي في الجو عن طريق إنشاء سلاح رادع للحيلولة دون وصول طائراتهم إلى الأراضي المصرية. ولسان حاله، بما أنني لا أستطيع الوصول إليهم مباشرة، سأعمل على تطوير صواريخ بعيدة المدى لقصف مدنهم، تماماً كما يهدّدون مدني.
أنتقل إلى العام 1967 وأقول إن الدرس الذي تعلّمه عبد الناصر من هزيمة 1967 كان أكثر وضوحاً، إذ دُمّر سلاح الطيران للمرة الثانية، وهذه المرة كانت النتيجة أكثر فداحة. تتعلّق الفكرة هنا بفلسفة حرب الاستنزاف، وهي كما حاولت الإشارة سابقاً: إدراك نقاط قوة العدو ووضع خطة تكتيكية مبنية على رؤية إستراتيجية طويلة المدى، قوامها عدم الاستسلام. كان الهدف واضحاً: «أنا أضعف، لكنني لن أستسلم». إذن، ما هي الأوراق التي أملكها؟ لدي تفوّق عددي، مدفعية أقوى، ودفاع جوي متطور، بالإضافة إلى عامل الوقت الذي يمكن أن يكون في صفي. فسوف أستفيد من هذه العوامل لوضع خطة.
برأيي، خطة الجيش المصري في العام 1973 كانت تطويراً لهذه الأفكار. كان الهدف هو خوض حرب قد لا تُحرّر الأرض بالكامل، لكنها تُدار تحت مظلة دفاع جوي تمكّن القوات من عبور قناة السويس. لم تكن الفكرة توجيه ضربة قاضية للعدو، بل استغلال التفوّق المدفعي المصري مقابل تفوّق إسرائيل في المدرعات.
كيف يمكن قراءة «التحوّل» بين ناصر والسادات من هذه الزاوية؟
خالد فهمي: السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كعرب هو: متى استسلمنا؟ وكيف؟ في حالة مصر، كان الاستسلام في العام 1977 بزيارة السادات إلى القدس، ثم في اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، وأخيراً في معاهدة السلام العام 1979.
لم تكن المعاهدة نتيجة قرار فردي من السادات فحسب. ولا بد أن نفهم السادات في سياقه التاريخي. السادات لم يأتِ من فراغ، ولم ينزل علينا من السماء، بل جاء من رحم دولة عبد الناصر، لقد كان نائباً له وأحد أعضاء الضباط الأحرار. بالتالي، علينا كعرب، أن نتحمّل مسؤولية فهم السياق الذي سمح لشخص مثل السادات بالخروج من عباءة عبد الناصر. وهذا يشير إلى وجود جناح يميني داخل دولة عبد الناصر.
من ناحية أخرى، يجب أن نُدرك التحوّل الكبير الذي أحدثه السادات بين عامي 1973 و1979، وهو التحوّل الذي مكّنه من تغيير مسار السياسة الخارجية بشكل جذري. وهنا يبرز سؤال مهم: هل كانت تلك التحوّلات نتيجة لثورة اجتماعية واقتصادية وفكرية وثقافية أحدثها السادات؟ أم أن هذه التحوّلات كانت موجودة بالفعل، وكانت تعمل في الخفاء، والسادات كان مجرّد تعبير سياسي عنها؟ هذا سؤال ينبغي علينا أن نطرحه لفهم كيف حدثت الهزيمة. الاستسلام لم يقع في العام 1967، بل بعد 12 عاماً. لذا، نحن بحاجة إلى فهم ما جرى في خلال تلك المدة. في البداية كانت هناك حرب استنزاف، ثم جاءت حرب التحريك، والتحريك قاده السادات. وكل هذا يستدعي منا التفكير العميق.
دعني أذكر لك واقعة أخرى، لأن هذا الدور مهم جداً بالنسبة إلينا لفهم ما حدث. بعد هزيمة 1967، عاد السفير المصري في الاتحاد السوفياتي، مراد غالب، إلى مصر. وقد كان صديقاً مقرّباً لعبد الناصر، واعتُبر مهندس العلاقات المصرية-السوفياتية طوال فترة حكمه. فور عودته، توجّه إلى عبد الناصر في منزله ومكتبه، ووجده مهموماً ومكتئباً. يذكر مراد غالب في مذكراته أنه رأى عبد الناصر وكأنه قد تقدّم في العمر عشر سنوات.
السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كعرب هو: متى استسلمنا؟ وكيف؟ في حالة مصر، كان الاستسلام في العام 1977 بزيارة السادات إلى القدس، ثم في اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، وأخيراً في معاهدة السلام العام 1979
حاول مواساته قائلاً: «سيادة الرئيس، لسنا أول من ينهزم، وسوف نتمكّن من الوقوف مجدّداً».
ردّ عليه عبد الناصر بمرارة: «هل رأيت ما حدث لنا يا مراد؟».
حاول مراد التخفيف عنه: «سيادة الرئيس، هون على نفسك. لسنا أول من ينهزم، وكل أزمة لها نهاية».
فرد عبد الناصر: «الهزيمة مروعة».
فسأله مراد: «لكن، ألا توجد جوانب إيجابية؟».
ردّ عبد الناصر ساخراً: «إيجابية؟! ما الإيجابي في كل ما يحدث الآن؟».
عندها أجاب مراد غالب: «سيادة الرئيس، لقد تخلّصت من الإنكشارية».
الانكشارية هم الحرس القديم للسلطان العثماني، وكانوا يمنعون حدوث التطوير في الدولة العثمانية، وقد قضى عليهم السلطان محمود الثاني في تموز/يونيو 1826 في مذبحة مشابهة لمذبحة المماليك. قتلهم جميعاً وتخلّص من الحرس القديم وتمكّن من بناء جيش جديد.
وكأن غالب يقول لرئيس الدولة ثمة أمراً إيجابياً، وكأنه يقصد أنه تخلّص من قائد الجيش عبد الحكيم عامر ومن رجاله. صدقي محمود كان أولهم، وهو المسؤول عن فقدان الجيش المصري لسلاح الجو في العام 1956. حاول عبد الناصر التخلّص من محمود منذ العام 1956، ولكنه لم ينجح، لأنه كان صديقه المقرّب وقائد الجيش أو «المشير» كما كان يُسمى في ذلك الوقت. أما عبد الحكيم عامر، فقد كان داخل مصر في دولة أخرى تحت جهاز مخابرات حربية وسجون حربية، يحاول أن يلوي ذراع عبد الناصر.
ما البنى التي كانت تعبّر عنها إذن شخصيات مثل ناصر أو عبد الحكيم عامر وما قاله مراد غالب عن «الإنكشارية»؟ ما هو دور البنى الداخلية في مسار مصر الناصرية والهزيمة التي حدثت في العام 1967؟
خالد فهمي: هناك نقطتان تتعلّقان بالبنية الداخلية. أولاً، يجب ألا تختزل دولة عبد الناصر في شخصه. مصر الناصرية ليست عبد الناصر فقط، بل هي مؤسّسات، وفي داخل هذه المؤسّسات كان هناك تناحر، ويجب دراسة هذا التناحر. وأنا أزعم أن سبباً أساسياً من أسباب الهزيمة كان هذا التناحر.
من الناحية التكنولوجية والدبلوماسية والاقتصادية كانت إسرائيل أقوى منا. وبهذا المعنى، قد تكون الهزيمة حتمية. لكن هناك درجات وأنواع مختلفة من الهزيمة. ولا أتحدث هنا عن الهزيمة الدبلوماسية كما ذكرنا، فنحن لم نستسلم في العام 1967. عسكرياً، هناك فرق بين أن ينسحب الجيش المصري من غزة ويصل إلى العريش أو يقف عند المضايق، وبين أن يبقى 50 ألف جندي في سيناء، أو أن أفقد 80 ألف جندي في يوم ونصف اليوم أو يومين، وأفقد سلاح الطيران بالكامل وسلاح البرّ، وأن أخسر شبه جزيرة سيناء. هذه هزيمة تحتاج إلى تفسير، والتفسير يجب أن يأخذ في الاعتبار البنى الداخلية داخل النظام، بما في ذلك الجيش نفسه ومدى جاهزيته وكل ما يتعلق بذلك. وما أقوله هو أن هذه التفاصيل ربما تعكس كيفية أداء الجيش في سيناء باعتباره انعكاساً لهذا الصراع بين عبد الحكيم وعبد الناصر.
أفضل من درس هذا الموضوع هو الباحث المصري حازم قنديل، يدرّس في جامعة كامبريدج، وله كتاب رائع بالإنكليزية بعنوان Soldiers, Spies and Statesmen (عسكر، جواسيس، ساسة)، يتناول مثلث القوة في الدولة المصرية. القوة العسكرية هي الجيش، والجواسيس تتضمّن القوة الأمنية من أجهزة الأمن والمخابرات الحربية والمخابرات العامة والمباحث وأمن الدولة، حسب تسمياتها المختلفة وتنظيماتها. والساسة هنا تعني رأس الدولة، أي مؤسّسة الرئاسة في مصر.
مؤسسة الرئاسة قوية، والجيش قوي، وأجهزة الأمن قوية. وعلى عكس ما يظن البعض بأن هذه الأجهزة الثلاثة تعمل في تناغم، إنها في حالة تناحر بين بعضها. وتقودنا هذه الفكرة إلى رواية أو قصة غاية في التشويق والتعقيد عن علاقة هذه الأجهزة الثلاثة من العام 1952 حتى 2011. من أهم فصول الكتاب هو الفصل الذي يتناول العام 1967، ويتحدّث عن هذا التناحر الذي جعل مراد غالب يقول لعبد الناصر لقد تخلصت أخيراً من ضلع من الأضلاع الثلاثة، وهو عبد الحكيم ومؤسسة الجيش التي كانت تحت سيطرته. ويمكننا دراسة كل الخطوات التصعيدية التي أدّت في النهاية إلى حرب 5 حزيران/يونيو، لا على أنها نتيجة لتصعيد من عبد الناصر كما يظن البعض، ولكن على أنها تصعيد من عبد الحكيم عامر، بينما كان عبد الناصر يحاول إيقافه وتقييده.
أرغب في أداة تحليلية من أربعة أركان: الجيش والأجهزة الأمنية والرئاسة والشعب. ولكن هذه هي المعضلة الكبرى في أنظمتنا العربية؛ غياب الشعب عن عملية صنع القرار. الشعب ليس جزءاً من السلطة
أما في ما يتعلق بالتصعيد في أحداث حزيران/يونيو 1967، هناك ثلاث خطوات تصعيدية معروفة، يجب أن نتذكرها جيداً في دراسة هذا الموضوع. في 15 أيار/مايو 1967، أعلنت مصر التعبئة العامة وحشدت 100 ألف جندي في سيناء، وفي 18 أيار/مايو، أعلنت مصر سحب قوات الأمم المتحدة من حدودها مع إسرائيل، وفي 22 من الشهر نفسه أعلن عبد الناصر إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. اعتبرت إسرائيل هذا إعلاناً للحرب ويخوّلها حق الردّ، ولذلك تعتبر إسرائيل حتى يومنا هذا أن الهجوم على مصر في 5 حزيران/يونيو كان هجوماً دفاعياً رداً على فعل عسكري سابق. وحتى الآن، ما زال الجميع في حيرة، سواء من المؤرّخين أو المحلّلين: لماذا اتخذ عبد الناصر هذه الخطوات التصعيدية الثلاث وهو يعلم أن إسرائيل متفوقة عليه عسكرياً؟ لا يزال هذا السؤال محيراً. يعتقد البعض أن السبب هو المعلومات المضلّلة التي قدّمها السوفييت، بحسب تحليل هيكل، أو ربما كان التصعيد الإعلامي الذي قامت به الأردن وسوريا والسعودية ضد عبد الناصر هو ما ورّطه.
لكن في رأيي، أفضل تفسير قدّمه حازم قنديل في كتابه، وهو أن كل خطوة من هذه الخطوات التي اتخذت، قام بها عبد الحكيم وليس عبد الناصر. ففي 15 أيار/مايو، وصلت معلومات سوفياتية تفيد بأن الإسرائيليين كانوا يحشدون قوّاتهم على الحدود مع سوريا، ما اضطر مصر إلى التصعيد لأنها كانت قد وقّعت معاهدة دفاع مشترك مع سوريا.
تفاصيل الموضوع معقّدة: وصلت المعلومات إلى مصر، ومن ثمّ إلى عبد الناصر، الذي أبلغ عبد الحكيم عامر بالأمر. نصح عبد الحكيم عامر بالتحقّق من صحة هذه المعلومة قبل اتخاذ أي إجراء. في ليلة 14 أيار/مايو أو صباح 15 أيار/مايو، توجّه رئيس أركان الجيش المصري محمد فوزي إلى سوريا، والتقى القادة السوريين الذين اصطحبوه في طائرة هليكوبتر إلى الحدود. لم يشاهد أي حشود إسرائيلية، وعاد ليبلغ عبد الحكيم عامر بهذه المعلومة. في تلك الأثناء، وقبل عودته، أعلن عامر وقادته التعبئة العامّة وحشد القوات من دون حضور عبد الناصر، إذ لم يكن الأخير مشاركاً في ذلك الاجتماع. أما القرار الثاني، فقد صدر بعد ثلاثة أيام، وتمثل في سحب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ومن المعروف الآن أن عبد الناصر لم يكن يرغب في سحب القوات بالكامل، بل كان يهدف إلى إعادة تمركزها. عندما أُعلن الخبر، تبيّن أن النص الذي أرسله عبد الحكيم عامر استخدم تعبير «سحب» وليس «إعادة تمركز». وحين نُبّه عبد الحكيم عامر إلى الفرق، ردّ قائلاً: «على أي حال، الرسالة أُرسلت». أما قرار إغلاق المضيق فقد كان أخطر القرارات. نعلم اليوم أن عبد الحكيم عامر وعبد الناصر، ومع كلّ منهما فريقه، اجتمعوا في منزل عبد الناصر ليلة 20 أيار/مايو. في الاجتماع، قيل لعبد الناصر: «لقد سحبنا قوات الأمم المتحدة، فما الذي سنفعله الآن في شرم الشيخ؟».
ردّ عبد الناصر: «قلت لكم، نحن الآن في ورطة. يجب أن نرسل قوات مصرية لتحتل منطقة شرم الشيخ. ماذا سنفعل إذا وصلنا إلى شرم الشيخ؟».
فأجاب عبد الحكيم عامر: «نغلق المضيق»، فاعترض الحاضرون قائلين: «هذا يعني الحرب. هل نحن مستعدّون للحرب؟»
ردّ عبد الناصر مقترحاً: «أقترح أن نعلن السيطرة على المضيق من دون إغلاقه، ونبقي الأمر غامضاً ومبهماً».
لكن اعترض عبد الحكيم عامر قائلاً: «هذه إهانة للجيش المصري. أرسل جنودي ليشاهدوا السفن الإسرائيلية تمرّ تحت أنوفهم صعوداً وهبوطاً في المضيق؟ كيف أضمن ألا يأخذ أحد جنودي الحمية ويطلق النار؟ لا بدّ أن أصدر أوامر واضحة بإغلاق المضيق».
فأجروا تصويتاً ثانياً، لأن التصويت الأول كان في صف عبد الناصر. بدأ عبد الحكيم عامر بتصعيد الموقف. ماذا كان يقول عبد الحكيم بهذا الكلام؟ كان يقول ما معناه: «أنا جاهز، جيشي جاهز»، وهذا بالمناسبة هو الوقت الذي قال فيه عبد الناصر: «هل أنت جاهز؟»، فردّ عليه عامر: «برقبتي يا ريّس». وكأنه يقول: «أنا جاهز وأنت جبان» من دون أن يصرّح بذلك بوضوح.
يختلف قائد الجيش مع رئيس الدولة، وهو المفترض أن يكون القائد الأعلى للقوات المسلّحة، ويقول له تقديراتك خاطئة وتقديراتي صحيحة. ثم يلوي ذراعه أمام زملائه بهذا الشكل، ويطالب بإجراء تصويت جديد، وهو يعلم أن النتيجة ستكون في صالحه. هذا بمثابة تلويح بانقلاب، قد لا يكون انقلاباً فعلياً، ولكنه يحمل رسالة مفادها: «الجيش جاهز وأنت لست جاهزاً». وهذا كان واضحاً، ولدينا صورة شهيرة لعبد الناصر في اليوم التالي، عندما زار إحدى القواعد الجوية في سيناء وأعلن منها إغلاق المضيق. يمكنك رؤية لغة جسده؛ كان عبد الناصر جالساً مع أشخاص اعتبرهم أعداءه. من وجهة نظره، هؤلاء لم يكونوا رجاله بل رجال المشير. كان الطيّارون وقادة القوات الجوّية حاضرين. قال لهم في ذلك الاجتماع: «سوف نغلق المضيق، لكننا لن نبدأ الحرب. يجب أن ننتظر الضربة الأولى منهم».
حمل عبد الناصر أفكاراً عظيمة نؤمن بها حتى اليوم، لكنه أقصى الشعب. وكما نقول في مصر: هذه جمهورية بلا جمهور. أنشأ نظاماً لا دور فيه للجمهور سوى النزول إلى الشارع للتصفيق
بعد أن قال عبد الناصر هذا، حصل توتر لأنه قال للطيّارين ألا يهاجموا. بعد انتهاء الاجتماع، غادر عبد الناصر القاعدة، وعاد عبد الحكيم مرّة أخرى. خاطب الجنود والضباط والطيّارين، قائلاً لهم: «لا تخافوا يا رجال، سوف نحارب». وصلت هذه العبارة إلى عبد الناصر بعد يومين. فاستدعى عبد الحكيم إلى مكتبه وسأله: «لماذا تصعّد الأمور؟ ماذا تعني بهذا الكلام الذي وصلني؟»… هناك شواهد كثيرة أخرى يمكنني سردها. وتشير هذه الأحداث إلى أن الجيش لم يكن يدين بالولاء لعبد الناصر، بل كان ولاؤه الأول لعبد الحكيم. وكان هناك أشخاص، عسكريون ومدنيون، حول عبد الحكيم يقولون «تخلّص منه. إلى متى سيظل يضغط علينا؟».
كانت العلاقة بين الرئاسة والجيش وأجهزة الأمن علاقة تناحر. هذه خريطة تحليلية مفيدة وغنية قدمها لنا حازم قنديل في كتابه. لكن مأخذي على هذا الطرح هو أنه يغفل دور الشعب عن المؤسسات الثلاث. أرغب في أداة تحليلية من أربعة أركان: الجيش والأجهزة الأمنية والرئاسة والشعب. ولكن هذه هي المعضلة الكبرى في أنظمتنا العربية، بما في ذلك النظام الناصري، غياب الشعب عن عملية صنع القرار. الشعب ليس جزءاً من السلطة، وتقتصر السلطة على هذه الفروع الثلاثة. حتى عندما استُخدم الشارع يوم 9 حزيران/يونيو للتصفيق لعبد الناصر، كان ذلك مجرّد استغلال سياسي.
تكمن الإشكالية الجوهرية في النظام الناصري في أمرين، حمل عبد الناصر أفكاراً عظيمة نؤمن بها حتى اليوم، مثل التحرّر الوطني، ومحاربة الاستعمار، والتصدّي للصهيونية وإسرائيل، والانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني، فضلاً عن مبادئ العدالة الاجتماعية والاكتفاء الذاتي، وكلّها مبادئ سامية. لكنه أنشأ نظاماً سمح فيها لشخص مثل عبد الحكيم عامر بتأدية هذا الدور القاتل، وفي الوقت نفسه أقصى الشعب. كما نقول في مصر: هذه جمهورية بلا جمهور. أنشأ نظاماً لا دور فيه للجمهور سوى النزول، كما حدث يوم 9 حزيران/يونيو، للتصفيق. وكان يعرف كيف يستغل الشارع في صراعه مع عبد الحكيم.
السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم: ما نتيجة غياب الشعب عن عملية صنع القرار في كل الدول العربية؟ الموضوع ليس مجرد زعيم فاسد، بل خلل جوهري.
تحدّثتَ عن الشعب أو القوى الاجتماعية الشعبية، وقد تساءل كثيرون عن المفارقة الصارخة لغياب دور شعبي جدّي لمواجهة التحوّل الاجتماعي الذي قاده السادات والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعها بعد ناصر. ولكن الآن أيضاً نجد غياباً شبه تام للقوى الاجتماعية الفاعلة في العالم العربي، سواء في النضال الاجتماعي أو في القضايا الكبرى مثل الصراع العربي الإسرائيلي. والمفارقة هنا صارخة أيضاً؛ ففي الأسبوع الماضي، منعت إسبانيا شحنات أسلحة متّجهة إلى إسرائيل عبر شركة «ميرسك» من المرور بمرافقها، ما اضطر هذه السفن إلى التوجّه نحو موانئ المغرب ومصر. أتى هذا الموقف في إسبانيا نتيجة لجهود الحزب الشيوعي الفاعل في إسبانيا وتنسيق مجموعات فلسطينية معه. في المقابل، يبدو المشهد العربي خالياً من أي قوى اجتماعية شعبية، سواء في مواجهة إسرائيل أو في قضايا النضال الاجتماعي.
خالد فهمي: هذا هو جوهر القضية. برأيي، جوهر المسألة يكمن في غياب الحراك الاجتماعي والسياسي في البلدان العربية، سواء كان ذلك احتجاجاً على السياسات الحكومية أو اعتراضاً على القمع الاجتماعي والاقتصادي. لكن ما أود التأكيد عليه هو أن التحوّل الذي قاده السادات لم يمر من دون مقاومة. فقد كانت هناك مقاومة من العمّال والفقراء، وكانت انتفاضة كانون الثاني/يناير 1977 واحدة من أبرز مظاهر هذه المقاومة، وهي ليست بالأمر السهل. ولكن كما أشرت، لم تكن هذه المقاومة منظّمة؛ لم تكن هناك حركة عمّالية قوية، ولا أحزاب شيوعية فاعلة، بل إن الشيوعيين كانوا ممنوعين من العمل السياسي. زجّ عبد الناصر بالشيوعيين في السجون، ثم أطلق سراحهم في العام 1965 ليصفقوا له، وهو ما يعكس مفارقة عميقة. الخلاصة التي أريد الوصول إليها هي أننا بحاجة إلى تعقيد سرديتنا؛ فالسردية الحالية التي تقارن بين هزيمة 1967 وهزائمنا الراهنة هي سردية سطحية ومضللة. نميل إلى القول بأننا انهزمنا في العام 1967، لكن الحقيقة أن الاستسلام الكامل جاء بعد سنوات طويلة. ولفهم هذه المرحلة، علينا أن ندرس فترة السادات بدقة مع التخلّي عن النظرة التبسيطية التي ترى في السادات مجرد قائد انقلب على عبد الناصر. في الواقع، السادات خرج من رحم الدولة الناصرية، وهذا يتطلب منا دراسة الدولة الناصرية نفسها: كيف نشأت؟ وكيف أدارت سياساتها؟
علينا أن نتحلّى بالشجاعة الأدبية لتحليل أخطائنا، بما في ذلك نقد عبد الناصر من دون التخلّي عن المبادئ التي حملها. ليس من الخطأ القول إن أفكار عبد الناصر كانت سامية، لكن الطريقة التي حاول من خلالها تحقيقها كانت خاطئة.
بالنسبة إلي، أرى أهمية في كتابة السير الذاتية. لقد انتهيت مؤخراً من كتابة سيرة محمد علي، وأرغب الآن في كتابة سيرة عبد الناصر. ولكن تحليل شخصية عبد الناصر شيء، ودراسة نظامه وسياساته والأجهزة التي كان يديرها شيء آخر تماماً. هذه مسؤوليتنا اليوم: أن نعود لدراسة هذه الحقبة وأن ننجز العمل الذي لم يُنجز في الماضي.
يبدو أن ما حدث يعود إلى البنية الداخلية للنظام والدولة، وهي التي دفعت فعلياً إلى الهزيمة. أو ربما يعود الأمر إلى فشلها، منذ البداية، في بناء ما يُعرف بدولة الرفاه الاجتماعي أو تطوير قاعدة تكنولوجية قوية. الهزيمة ليست حدثاً مفاجئاً؛ إنها مسار طويل. مثال آخر على هذا هو بعض النقد الموجه لفكر التحرّر، أو لبعض مذاهب التحرّر الوطني، التي تضع الصراع الخارجي في مقدمة الأولويات على حساب الصراع الداخلي، بل وتعتبر أن الصراع الخارجي هو الحلّ لكل المشكلات الداخلية. أطرح هذا الموضوع لأنه يمثل واحدة من أكثر النقاط راهنية. في كثير من الدول، سواء كانت أنظمة حاكمة أو مجموعات داخلية، نجد أن هناك من يرى أن خوض الصراعات الداخلية، وأعني بها النضال الاجتماعي، ليس له جدوى، بل قد يكون ضاراً. والفكرة هنا أن هذه الصراعات قد تضعف موقفهم في مواجهة العدو الخارجي أو الاستعمار. لكن ما تقوله، وهو ما أوافق عليه، هو أن العكس تماماً هو الذي حدث. فعدم خوض الصراع الداخلي، الذي يتجلّى في بلورة شكل الدولة وخوض النضال الاجتماعي، أدّى إلى إضعاف الموقف في مواجهة التحدّيات الخارجية، ما أسفر عن الهزيمة أمام العدو الخارجي. هل توافق على هذا التأطير لما قلتَه؟
خالد فهمي: لناصر شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». وقد قصد بهذا الشعار الكثير من الأمور، لكنه أيضاً كان يقول لنا أجّلوا الكلام عن الديمقراطية والتنمية. أنا أتفق معك. والأمر يتعلق بالتمثيل السياسي للطبقات الاجتماعية والطبقات الشعبية. على سبيل المثال، لا يوجد عندنا اتحاد عمّال مستقل يعبّر عن قضايا الطبقة العاملة المصرية أو اتحادات للمهندسين أو للأساتذة الجامعيين أو غيرها. لا يجب أن تكون الديمقراطية التمثيلية بالضرورة على النحو الذي نراه في الغرب. السؤال السياسي في جوهره هو الإجابة على مسألة التمثيل السياسي للطبقات الاجتماعية والتعبير عن مختلف أطياف الشعب.
على سبيل المثال، عند نشوء اتحاد عمّال مستقل يُعبّر عن قضايا وواقع الطبقة العاملة المصرية، أو عند نشوء اتحادات للمهندسين أو الأطباء أو أساتذة الجامعات، ليس من الضروري أن يكون التمثيل ديمقراطياً بالصيغة التي نراها في الغرب. لكن المشكلة أن الشعب في مصر الناصرية، تحديداً، لم يكن له أي صوت حقيقي سوى في خطاب مُبهم وشعارات فضفاضة.
لدينا مشهد دال قبل حرب 1967، تحديداً في 28 أيار/مايو. أصدر البرلمان المصري، الذي كان يُعرف آنذاك باسم مجلس الأمة، برئاسة السادات، قانوناً يُخوّل رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة لاتخاذ أي قرارات يراها ضرورية لإدارة الأزمة. ولم يكتفِ المجلس بهذا، بل علّق أعماله تماماً، وقرّر أنه لن يصدر أي قوانين أو قرارات لأن رئيس الجمهورية صار يمتلك جميع الصلاحيات. الأكثر غرابة هو أن أعضاء المجلس قرّروا تسليم عبد الناصر هذا القرار بأنفسهم، وساروا في مسيرة من مقرّ مجلس الأمة إلى منزل عبد الناصر في منشية البكري لتقديم القرار له.
أيهما يأتي أولاً؟ تحرير القدس الذي يمرّ عبر دمشق وعمّان والقاهرة؟ أم أن النضال الداخلي هو السبيل لتحقيق ذلك؟ القضيتان متشابكتان بطبيعتهما
لكن، برأيي، وقت الأزمات، وخصوصاً في زمن الحرب، هو تحديداً الوقت الذي ينبغي فيه أن يطرح الشعب أسئلة صعبة. يجب أن يسائل القادة والمسؤولين، ويطالب بمعرفة الخطط والإجراءات، حتى تحت ذريعة الأمن القومي. لا ينبغي ترك هذه الأمور غامضة؛ يجب أن يكون هناك جهاز أو هيئة مسؤولة عن متابعة هذه القضايا، حتى لو كانت أسرار الأمن القومي على المحك. يجب على الشعب ألا يتخلّى عن حقه ودوره في المساءلة والرقابة. هذه ليست مجرد حقوق؛ إنها واجبات أساسية في الأوقات الحرجة.
يقودنا هذا النقاش إلى سؤال قديم كان مطروحاً في أوساط القوميين العرب والثورة الفلسطينية: أيهما يأتي أولاً؟ تحرير القدس الذي يمرّ عبر دمشق وعمّان والقاهرة؟ أم أن النضال الداخلي هو السبيل لتحقيق ذلك؟ القضيتان متشابكتان بطبيعتهما. نحن أمام منظومة دولية معقّدة، تتجسّد في كيان استثنائي مثل إسرائيل، التي ليست كأي دولة أخرى. تشمل تعقيداتها الجوانب التاريخية والعسكرية والاستخباراتية والطريقة التي زُرعت بها في قلب المنطقة. وما يحدث على الساحة الدولية ليس بعيداً منا، بل هو حاضر بقوة في قلب العالم العربي. لذلك، لا يمكن الفصل بينهما.
في خلال الحرب على لبنان أشار البعض إلى أن اسرائيل ليست متفوقة على لبنان عسكرياً وتكنولوجياً فحسب، بل كذلك في متانة دولتها والعقد الاجتماعي فيها على نقيض ما نرى في لبنان من حالة تفكّك للدولة وهشاشة العقد الاجتماعي. وهذا يقودنا إلى مسألة الأزمة الحقيقية في النظام العربي الرسمي والدولة الوطنية. نرى مشهداً يمتد من لبنان وسوريا إلى العراق وليبيا والسودان، حيث لا يقتصر الأمر على الدمار أو الحروب، بل يتجاوز ذلك إلى انهيار العقد الاجتماعي وفكرة الدولة نفسها. وسط هذا الانهيار، يتردّد شعار «إعادة الإعمار». لكنه غالباً ما يُختزل في بناء البيوت والجسور لا التفكير بمشروع جدّي مُتكامل يتضمّن خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية استراتيجية تُعيد تشكيل علاقات الدولة والمجتمع. سؤالي هنا، الذي أراه مدخلاً للنقاش، يتعلّق بتأمل تاريخنا الحديث: ما هي أشكال الدولة التي برزت عبر تاريخنا والمهام التي اضطلعت بها خصوصاً أنك عملت طوال ثلاثين عاماً على تجربة محمد علي باشا في مصر.
خالد فهمي: أولاً، من الواضح أن نموذج الدولة الوطنية أو القومية بعد مرحلة التحرّر الوطني قد فشل في بلداننا العربية بأشكال مختلفة. خذ مثلاً لبنان وليبيا وسوريا حيث لا يوجد حتى مفهوم واضح للعقد الاجتماعي. في المقابل، لدينا مصر التي تمتلك دولة قوية نسبياً وفكرة عقد اجتماعي، لكن هذا العقد - في رأيي - مختل.
يعتمد النظام المصري الحالي، كما يعرضه السيسي، على فكرة أنه مختلف عن الدول الأخرى المنهارة مثل لبنان أو ليبيا أو اليمن أو سوريا. وكما يقولون بالإنكليزية، this is a Faustian deal، أي «صفقة فاوستية»1. لكنني أرفض هذا الخيار، إذ ينبغي ألا يوضع الناس أمام هذا النوع من الخيارات المشوّهة.
حتى أنني أعارض خيار عبد الناصر الذي كان يعرض على المصريين عقداً اجتماعياً يقوم على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مقابل التخلّي عن الحقوق السياسية والدستورية. وهذا، برأيي، كان أحد أسباب هزيمة 1967. أما اليوم، فإن الخيار المطروح أسوأ بكثير: «سأضمن لكم أن تبقوا أحياء، لكنكم ستتنازلون عن كلّ حقوقكم، سواء كانت سياسية أو دستورية أو اقتصادية أو اجتماعية». الرسالة الحالية هي: «اشكروا الله لأنكم أحياء، واشكروني لأنني لم أقتلكم». هذا ما يقوله لنا السيسي. ما أحاول قوله هو أن لنا، عرب ومصريين، الحق في رفض هذا الخيار البائس، بل واحتقار من يطرحه علينا. لا يمكن أن نقبل بأن يكون العقد الاجتماعي الوحيد المتاح هو مجرد البقاء على قيد الحياة، من دون أي ضمانات اجتماعية أو سياسية. كما لا يمكننا قبول الانزلاق نحو هويات طائفية بحجة مواجهة عدو خارجي، كما يحدث في لبنان. هذه خيارات بائسة لا بد من رفضها.
لا أقصد أننا يجب أن نصبح مثل سويسرا أو فرنسا، لكن علينا أن نصنع نموذجنا الخاص. إذا قرأنا تاريخنا، قد نجد في تجربة محمد علي نموذجاً يستحق التأمل. كان مشروعه يبدو ناجحاً، لكن القوى الخارجية، وتحديداً بريطانيا بالتعاون مع الدولة العثمانية، حالت دون تحقيقه. رأت بريطانيا في مشروع النهضة الصناعية الذي خطّط له محمد علي تهديداً لاقتصادها، فقرّرت التصدّي له عسكرياً ومنعته من جني ثمار استثماراته العظيمة. ولكن مشروعه كان مشروعاً أسَرياً وربما نجح في تحقيق هذا الأمر.
في ضوء ذلك، كيف يمكننا أن نستفيد من هذه التجارب التاريخية لمواجهة تحدياتنا الحالية؟
خالد فهمي: لهذا السبب كنت أقول إن هذا الكلام يتكرّر كثيراً. عندما أعلن عبد الناصر الميثاق الوطني في العام 1962، أشار بالفعل إلى محمد علي ومواجهته مع بريطانيا. ويطرح هذا النوع من الخطاب غالباً كشعارات، لكن عند دراسته بالتفصيل، نجد أموراً تستدعي إعادة التفكير. أنا شخصياً قضيت 30 عاماً أدرس تجربة محمد علي، وأرى أن هناك جوانب تستحق التوقف عندها، تماماً كما كنا نعيد تقييم عبد الحكيم عامر. أعتقد أن هذا هو التحدي الذي نواجهه الآن. نحن كعرب، وكأفراد معنيين بقراءة الماضي والحاضر، لا يكفينا استشراف المستقبل، بل علينا أن نحاول رسمه. مشكلتنا، كما أراها، هي أن تاريخنا الحديث لا يسعفنا، سواء في ثورات 2011 و2013. ليس لدينا لحظات مضيئة يمكننا أن نستند إليها بفخر. نحن نعيش في قرن الهزائم.
نحن كعرب لا يكفينا استشراف المستقبل، بل علينا أن نحاول رسمه. مشكلتنا، كما أراها، هي أن تاريخنا الحديث لا يسعفنا، سواء في ثورات 2011 و2013. ليس لدينا لحظات مضيئة يمكننا أن نستند إليها بفخر. نحن نعيش في قرن الهزائم
عند التفكير في الثورات الملوّنة في أوروبا الشرقية، مثل المجر، تشيكوسلوفاكيا، الاتحاد السوفياتي، أو حتى ألمانيا الشرقية ورومانيا، نجد أن لديهم ماضٍ يمكنهم العودة إليه. على الرغم من فترات الظلام التي مرّوا بها، كالحكم النازي أو الحقبة السوفياتية، إلا أنهم يستطيعون محوها والعودة إلى لحظات أسبق أنقى تصلح كنقطة انطلاق لإعادة بناء دولتهم. أما نحن، فلا نمتلك تلك اللحظة المرجعية. في مصر، على سبيل المثال، هناك من يكره عهد عبد الناصر ويدعو للعودة إلى زمن الملكية. ولكن، أي ملكية؟ تلك كانت حقبة احتلال! وحتى لو فكرنا في ما قبل الاحتلال، سنجد أن هذه النوستالجيا ليست مبنية على واقع قوي.
هذا أيضاً يظهر في لبنان. هناك من يتحدّث عن حقبة ما قبل الحرب الأهلية، والدولة التي سبقت تلك الحرب، متجاهلاً أن تلك المرحلة وتلك الدولة كانت تنطوي على بذور وأسباب اندلاع الحرب الأهلية.
خالد فهمي: نحن بحاجة إلى أن نمتلك الشجاعة، وأن يتحلى كل واحد منا بالجرأة ليواجه حقيقة أننا يجب ألا نفضل شيئاً سيئاً فقط لأن ما أتى بعده كان أسوأ. الحرب الأهلية، على سبيل المثال، هي أمر سيء وكارثي، لكن ذلك لا يعني التغاضي عن المشاكل التي كانت موجودة قبلها. وفي مصر، لا يمكننا نتجاهل الاحتلال أو الفقر والمرض الذي عانته البلاد في الحقبة الملكية، بحجة أنه «على الأقل لم يكن هناك تعذيب في سجون عبد الناصر». لذلك كنت أقول إن هذه المفاضلات بائسة. من حقّنا أن نرفض كليهما: لا نريد اقتتالاً داخلياً، ولا نريد دولة فاسدة. نحن نطمح لدولة قوية ترعى شعبها، وهذا هو جوهر التحدي الأخلاقي.
عندما أدرس حقبة عبد الناصر، وأعرف جيداً ما حدث في عهد السادات، أسمع البعض يقول: «على الأقل كان هناك كذا في عهد عبد الناصر». لكنني أقول: ينبغي ألا نقبل بمنطق «على الأقل». حتى الآن، عندما أقرأ بعض خطابات عبد الناصر، أجد نفسي متأثّراً إلى حدّ البكاء. هناك خطابات أُلقيت في ظروف معينة، مثل حرب الاستنزاف، لم تكن موجّهة للصحافة أو للاستهلاك العام، بل كانت كلمات صادقة أسرّ بها لجنوده في لحظات حاسمة. كان يتحدّث عن الموت والشرف والأرض، وكأنه واحد منهم. تلك الكلمات مؤثرة للغاية، وأنا مؤمن بصدقها. ولكن هذا لا يعني إعفاءه من المسؤولية التاريخية. فمثلاً، من الذي جاء بشخص مثل عبد الحكيم عامر أو السادات؟ ولا يمكنني أيضاً إعفاء نفسي فكرياً وأدبياً، ولا إعفاء الشعب المصري من مسؤوليته عن الانزلاق إلى تلك المآسي. ولا أعفي الأحزاب الشيوعية من مسؤوليتها حين قرّرت حل نفسها لأنها انبهرت بالإنجازات التي كان عبد الناصر يحقّقها. اختارت تلك الأحزاب دخول السجون مقتنعة بأنه يخوض حرباً ضد الاستعمار، أو لأنها اعتبرت انتصاره في العام 1956 تأكيداً لصدقه في مواجهة القوى الاستعمارية. لكن هذا ليس كافياً. تقتضي المسؤولية أن نملك الجرأة لتحدي تاريخنا، لطرح الأسئلة الصعبة، ولتخيّل مستقبل مختلف مبني على أسس جديدة. أسس تؤكد على دور الشعب ومشاركته الفاعلة. برأيي، نحن بحاجة إلى دولة قوية، لكن ليس على حساب الحريات والحقوق الشخصية. نحتاج إلى دولة رعاية اجتماعية وضمان اجتماعي. علينا أن نتخيّل هذا النموذج معاً ونفكر في الآليات التي تتيح إنشاءه. هذا هو دورنا. أما النماذج الأخرى، الطائفية أو الدينية، فقد جُربت وفشلت. لم تحقّق الأهداف المنشودة. وهذا لا يعني أن نقبل بالواقع القائم. علينا أن نحفز أنفسنا للتفكير في نماذج جديدة غير موجودة بعد. التحدي الفكري والحضاري أمامنا هو أن نرفض الواقع الحالي، لأنه واقع بائس ومهين. الأنظمة الحالية تُذل شعوبها، وهذا عار علينا جميعاً.