رجا الخالدي: نحن أمام تداعيات بنيوية وتغيير شامل

منذ العام 1993، تُمارس سلطات العدو سياسات الإغلاق على قطاع غزّة، حيث يعيش حالياً نحو 2.2 مليون نسمة. وفرضت منذ 17 عاماً حصاراً مطبقاً عليه. في أعقاب عملية طوفان الأقصى، يوم السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، اتخذت «إسرائيل»، مدعومة من قوى الهيمنة الغربية، قرار إبادة الفلسطينيين، عبر ارتكاب المجازر وقطع المياه والكهرباء والطعام والدواء عن غزّة، وتخيير السكّان بين الموت أو الترحيل.
لا يُمكن فصل ما يجري في غزة عن تاريخ احتلال كيان العدّو لفلسطين، واستغلاله لكامل أرضها ومواردها وشعبها، وحرمان الفلسطينيين من كامل حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. 
في ظل جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال أمام عيون العالم كلّه، ومخاطر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للفلسطينيين، هل يوجد مكان لمقاربة باردة تتناول الجوانب الاقتصادية في تشكيل الواقع الحالي؟
من جملة الأهداف التي حافظت عليها دولة الاحتلال على مدار تاريخها الدموي، لا سيما بعد أوسلو، كان منع نشوء اقتصاد فلسطيني، ودمجه كلّياً في الاقتصاد الإسرائيلي المُهيمن. ما خلق رأس مال فلسطينياً تابعاً بالكمال للاقتصاد الاسرائيلي،  وبالتالي جعل مصالحه الآنية غير مُتوافقة مع موجبات أولوية التحرّر الوطني، وبدا حريصاً جدا على المحافظة على الوضع القائم لتعزيز ريعه.  
تحت عنوان «الوطن والطبقة: أجيال التحرير الفلسطيني»، كتب رجا الخالدي في مجلّة الدراسات الفلسطينية (ربيع 2019) أنه: «خلال التصادم المزمن بين مصالح الوطن ومصالح الطبقة، انبثقت ظروف مادية لجيل التحرير الفلسطيني الجديد أعادت صوغ أشكال المواجهة مع الإقصاء والسيطرة الاستعمارية الاستيطانية». وأضاف: «مع عدوانية الموقف الإسرائيلي والأميركي المُتجدّد يبدو أنّ إدامة النظام الفلسطيني الحالي في السلطة، تتطلّب أن يتقبّل القطاع الخاص ومصالح رأس المال المقاومةَ الجماهيرية المتجدّدة للقمع الإسرائيلي، وأن يدعمها، مهما تكن محدودة ومتفرقة». 
هل يُمكن النظر إلى ما يحصل في غزّة، في سياق هذا التصادم، أي أن عملية طوفان الأقصى هي أيضاً من تعبيرات إعادة صياغة أشكال المواجهة، ليس فقط مع الاحتلال، بل أيضاً بين قوى اجتماعية أنهكها الاحتلال، وبين قوى اجتماعية تشكّلت في ظل صعود رأس مال فلسطيني خاضع للسيطرة الإسرائيلية، ويرتبط بمصالح مادية غير معنية بالتحرّر الوطني؟
رجا الخالدي، باحث فلسطيني تنموي اقتصادي، عمل بين عامي 1985 و2013 في أمانة مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD). ويشغل منذ العام 2019 منصب مدير عام معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس.

ما هي التداعيات الاقتصادية لما يحصل في غزّة اليوم؟

من الصعب أن نتنبئ حالياً أو نُقيّم أو نستخلص الآثار الاقتصادية للحرب على غزّة. المتوفّر من إحصاءات عن غزّة قبل الحرب الحالية، معطوفة على ما يجري على الأرض، تُؤكّد لنا أي قطاعات سوف تُسجّل الخسائر الأكبر ونسبتها. حجم الخسائر سيفوق بأبعاد ما شاهدناه في الجولات التي اندلعت سابقاً. 

نحن أمام تغيير شامل، بغض النظر عن نتيجة الحرب. ليس هناك عنوان للاقتصاد الفلسطيني في غزّة الآن، سوى الدمار الذي يشمل البشر، والمساحات، والقدرات الزراعية

نحن أمام تغيير شامل، بغض النظر عن نتيجة الحرب. ليس هناك عنوان للاقتصاد الفلسطيني في غزّة الآن، سوى الدمار الذي يشمل البشر، والمساحات، والقدرات الزراعية… كل القطاعات الإنتاجية المُمكن الاستثمار فيها عنوانها اليوم الدمار والتوقّف المطول عن العمل. حتى أنّ أي قدرة إنتاجية ذاتية يمكن أن تسلم من نتائج الحرب، سوف تكون مُقيّدة أكثر بكثير من الجولات السابقة. ما نخاف منه أيضاً هو التسبّب بتشريد جماعة تُصبح لاجئة من دون أي إمكانية للعودة.

Previewرجا خالدي

 

هل تقصد بـ«التغيير الشامل» الوضعية السياسية لما بعد اتفاق أوسلو؟

انتهت «أوسلو» سياسياً واقتصادياً، لم تعد قائمة والحمدلله. لذلك التداعيات هي أبعد من ذلك ويُمكن وصفها بالبنيوية.

كان اقتصاد غزّة يُساهم بنحو 35% من الناتج المحلّي الإجمالي الفلسطيني، وربّما النسبة أكبر إذا أضفنا ناتج العمّال الذين يعملون داخل الأراضي المحتلّة. تراجعت هذه النسبة خلال السنوات الـ15 الماضية إلى ما يُقارب الـ20%، ولكن اليوم لم يعد هناك إمكانية لإعادة اللحمة الاقتصادية ما بين غزّة وبقية فلسطين والأراضي المحتلّة. لم يتبقَ شيء يُمكن أن تُساهم من خلاله غزّة بالناتج المحلّي والوطني. 

حتى لو عجزت «إسرائيل» عن تحقيق أهدافها المُعلنة، وأنا لا أستبعد أن تخرج المقاومة منتصرة، فلن يكون هناك اقتصاد لبنائه في غزّة، بل إغاثة في الحدّ الأقصى

المشكلة الثانية أننا أصبحنا نتكلّم عن اقتصاد وشعب في غزة بشكل منفصل عن الضفّة الغربية وبقية المناطق الفلسطينية. لذلك يجب إعادة اللحمة عبر برنامج سياسي - وطني، وليس اقتصادياً. في حال خرجنا من هذه الحرب من دون هذا البرنامج، حتى لو عجزت «إسرائيل» عن تحقيق أهدافها المُعلنة، وأنا لا أستبعد أن تخرج المقاومة منتصرة، فلن يكون هناك اقتصاد لبنائه في غزّة، بل إغاثة في الحدّ الأقصى.

قدرات غزة البشرية تدمّرت، ولكن يوجد فيها صمود وقدرات علمية وتكنولوجية وإنتاجية جدّاً واعدة… انقطاع غزة عن المشروع الفلسطيني بسبب الانقسام شيء مؤسف جداً، لأن القدرة التي يمكن الاستفادة منها كبيرة جداً.

للأسف، العنوان الاقتصادي لغزّة في المرحلة المقبلة، هو الدمار وليس إعادة الإعمار لأن التداعيات كبيرة.

قتل البشر، تدمير البنية التحتية، حالة دمار شاملة، كيف يُمكن وصف حاجات غزة؟

انقطعت المياه والكهرباء وسبل العيش، هناك تراكم لأزمة غذائية، فقر الدم، مخاطر انتشار الأوبئة… غزّة بحاجة لكلّ شيء. هناك مخاطر لم تظهر كلّ ملامحها بعد. لا أعرف كيف سوف نتعافى من الأزمة. نحن بحاجة إلى مشروع على مستوى خطّة مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية، هذا في حال أردنا الحديث عن مستقبل اقتصادي لغزّة. لنكن واضحين، هذا ليس نتيجة لهذه الحرب، بل بسبب «إسرائيل» التي تُريد تحقيق هذا الدمار.

 نحن بحاجة إلى مشروع على مستوى خطّة مارشال في حال أردنا الحديث عن مستقبل اقتصادي لغزّة. لنكن واضحين، هذا ليس نتيجة لهذه الحرب، بل بسبب «إسرائيل» التي تُريد تحقيق هذا الدمار

صمود الشعب في غزة أسطورة، ولكن لم نشهد كهذا الحصار في العالم. وأمام هذا الواقع لا أرى في الأفق سوى مرحلة سنة أو سنتين من الإغاثة. القصّة غير محصورة بتوفّر الأموال، فحتى لو حصلنا على التمويل، كيف سوف نُعيد الإعمار؟ من سوف يُعيد الإعمار؟ الموضوع صعب جداً.

إذا كان العنوان الاقتصادي لغزّة في السنوات المقبلة هو الإغاثة وليس إعادة الإعمار، هل يعني ذلك أن الاحتلال يسعى من جملة أهدافه إلى  تدمير الأسس - الهشّة أصلاً - للاقتصاد الفلسطيني، والمحافظة على سيطرته على البنية التحتية الفلسطينية، واستخدام الموارد، واستغلال العمّال الفلسطينيين كيد عاملة رخيصة في قطاعات العمل الإسرائيلية؟

لنعد إلى العلاقة الاستعمارية وكيف حاولت إسرائيل الادعاء أنها انسحبت من غزّة، وأنّ ما يجري داخلها هو شأن الغزيين. ولكنّها في الوقت نفسه، تتحكّم بالحدود البرّية والبحرية والجوية، بإدارة التجارة بين الصادرات والواردات… كلّ هذه الأمور تُشير إلى أنّنا أمام تحدٍّ كبير، خصوصاً أنّه ليس هناك مجال للعودة إلى ما كان عشية الحرب في ما خصّ إدارة الوضع. 

غداً، أشكّ أن يكون لليد العاملة من غزّة أي مستقبل خارجها، وداخل غزّة لا يوجد قطاعات شغّالة، ماذا سيعمل هؤلاء؟ تخلق «إسرائيل» وضعاً صعباً

حاولت «إسرائيل» إقناع نفسها والداخل أن السلام الاقتصادي، عبر تشغيل نسبة من أبناء غزّة داخل المستوطنات، يمكن أن يكون ثمناً بسيطاً تضطر لدفعه إلى غزّة في مقابل الهدنة الطويلة. تطوّر التحكّم باليد العاملة في خلال آخر سنة يلفت الانتباه ويُذكّرنا بكل سياسات «إسرائيل» الاقتصادية. قبل العام 2000، كانت غالبية العاملين في المستوطنات من غزّة، وبعد العام 2005، ظنّت «إسرائيل» أنّها تشتري الشعب الفلسطيني بإصدار 20 ألف تصريح عمل، كجزء من السياسات العامة الإسرائيلية تجاه اليد العاملة الرخيصة والمتنقلة بسهولة، وكانت تعد أنّه من ضمن التسهيلات زيادة نسبة تصاريح العمل. إنّ وسيلة السلام الاقتصادي لم تفلح على الاطلاق. غداً، أشكّ أن يكون لليد العاملة من غزّة أي مستقبل خارجها، وداخل غزّة لا يوجد قطاعات شغّالة، ماذا سيعمل هؤلاء؟ تخلق «إسرائيل» وضعاً صعباً.

هل يتحمّل رأس المال الفلسطيني مسؤولية في هذا السياق؟ وهل يمكن للمشروع الوطني الفلسطيني أن يتحرّر من هيمنة الاقتصاد الاسرائيلي؟

العلاقات الاقتصادية - الإسرائيلية موجودة منذ بدء الاحتلال كتعاون من الباطن، وانطلقت الشراكات بعد اتفاق «أوسلو» واندمجت المصالح في بعض الأحيان بين رأس المال اليهودي والفلسطيني التجاري أو الصناعي. هذه الظاهرة توطدت في السنوات العشر الأخيرة، مع تعافي الاقتصاد بعد الانتفاضة الثانية حتى العام 2020 مع جائحة كورونا. هذا التشبيك يرتفع على أكثر من مستوى، وفي الفترة نفسها كانت السلطة ترفع شعار الإنفكاك عن التبعية الاقتصادية، ولكن أي انفكاك وأنت لديك 200 ألف عامل من الضفّة الغربية يعملون داخل المستوطنات، ويشكّلون نحو 15% من القوّة العاملة للضفّة. نحن نتكلّم عن ارتباطات عضوية لهذه التبعية. صراحة الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية مشاركتين في هذه الارتباطات، إلا أن الطبقة العاملة مكرهة، لأن العمّال لا يملكون خياراً آخر، ومن يتحمّل مسؤولية ذلك هو النظام الرأسمالي الاستعماري.

ربّما نكون قادرين ليس فقط على التغيير السياسي، ولكن أن نعود للإنتاج الذاتي، ونستنهض القدرات التي أُهملت في خلال فترة اتفاقيتي «أوسلو» و«باريس

أما رأس المال الفلسطيني فلا يتحرّك ككتلة موحّدة بل تتفاوت مسؤوليّته الوطنية حسب النشأة، هناك رأس مال مُغترب، وهناك طبقة رأسمالية أصيلة بنت نفسها حجراً فوق حجرٍ، وهناك طبقة وُجِدت بعد اتفاق «أوسلو» وحصلت من السلطة على امتيازات واحتكرت قطاعات مُعينة ولا تتحمّل أي مسؤولية مجتمعية. أيضاً، لا يُمكن إلقاء اللوم على رأس المال لأنه يتعامل مع الإسرائيلي. لا يجب ان ننسى أنّ كلّ واحد منا يعيش داخل الأراضي الفلسطينية يتعامل يومياً مع «إسرائيل» بشكل أو بآخر، أكان ما نضطر دفعه من ضرائب أو التجارة وشراء الاحتياجات الرئيسية…  موضوع المقاطعة مناسب في كلّ أنحاء العالم إلّا في فلسطين. هذا لا يُلغي أنّه من واجبنا ومن الضروري أن نُناقش كيف نُقاطع «إسرائيل» ونُخفّف من تبعيتنا.

هناك حاجة لتغيير سياسي. تغيير الرؤية الاقتصادية السائدة لدى رؤوس الأموال، وصنّاع السياسات، والمؤسّسات الدولية من البنك الدولي وصندوق النقد، والدول المانحة. ربّما هذه الحرب صراحة تخدم ذلك. ربّما نكون قادرين ليس فقط على التغيير السياسي، ولكن أن نعود للإنتاج الذاتي، ونستنهض القدرات التي أُهملت في خلال فترة اتفاقيتي «أوسلو» و«باريس».

إنّ الانفكاك عن التبعية للاقتصاد الإسرائيلي يبقى كلاماً فارغاً طالما أنّ 70% من تجارتك مع «إسرائيل»، وبغياب القدرة الاستثمارية الإنتاجية، ووجود 200 ألف عامل من الضفّة يعملون داخل الأراضي المُحتلة.

كم تبلغ حاجة الاقتصاد الإسرائيلي للعمالة الفلسطينية؟ 

أدارت «إسرائيل» القوة العاملة البشرية كسوق عمل منفصل إلى حدّ ما عن اليهودي الإسرائيلي، ويستطيع فقط العمل في قطاعات مُعينة. بقيت تستعين بهم في المهن التي لا يعمل فيها اليهودي، ومنعت عملهم في القطاعات التكنولوجية المرتبطة بالأمن والعسكر. 

25 سنة بعد اتفاق أوسلو، صحيح أنّه تطوّرنا خدماتياً، عمرانياً، تنظيمياً بسنّ بعض القوانين… ولكنّها كلّها أمور جزئية وهامشية. المسائل الجوهرية لم تتمّ معالجتها

يُمكن الحديث عن تحوّل الفلسطينيين من طبقة الفلّاحين التي هاجرت جزئياً بعد النكبة، إلى طبقة عاملة رخيصة. غالبية الفلسطينيين العرب داخل الأراضي المُحتلة، هم دون خطّ الفقر الإسرائيلي، لكن مقارنة بالمجتمع العربي أصبحوا يُكوّنون طبقة وسطى تبلغ حوالي مليون و800 ألف. على الرغم من ذلك، لا تتساوى في الحصول على الفرص مع الإسرائيليين، وتتطلّب عملية اندماجهم بالمجتمع الإسرائيلي مساومات في الهوية والمواقف السياسية. حتى الفلسطينيين الذين وصلوا إلى مراتب عُليا، بعد 75 سنة لم ترغب «إسرائيل» بدمجهم، ويُمكن الحديث اليوم عن إقليم اقتصادي فلسطيني، مُشتتين، ولكن متمركزين ومعزولين في حيّز جغرافي هو المثلث، والجليل، والنقب. المنظومة التنظيمية التمييزية ضدهم تُعزّز من انفصالهم، وتُساهم أيضاً في الحفاظ على اللحمة الوطنية التي نشهدها. مثلاً حين حصلت هبّة العام 2021، كل عربي تفاجئ بموقف فلسطينيي الأراضي المُحتلة، الذي يوجد نظرة نمطية تجاههم بأنّه تابعين لـ«إسرائيل». 

ولكن، كلّ المزايا التنموية التي مُمكن أن نتحدّث عنها، والاقتصاد الفلسطيني الموحّد، مُرتبطة بالسيادة. السيادة الناقصة هي الجواب لكلّ الفشل الفلسطيني، وبغياب السيادة لا يُمكن القيام بشيء. وصلنا إلى مرحلة أصبح مفروض علينا أن نُفكّر بطريقة مختلفة، وهي أنّ السيادة السياسية شرط مُسبق للتطوّر الاقتصادي. 25 سنة بعد اتفاق أوسلو، صحيح أنّه تطوّرنا خدماتياً، عمرانياً، تنظيمياً بسنّ بعض القوانين… ولكنّها كلّها أمور جزئية وهامشية. المسائل الجوهرية لم تتمّ معالجتها، وغابت الشروط المسبقة اللازمة لفكّ التبعية الاقتصادية، حتى بغياب دولة مستقلّة. نُفكّر حالياً ماذا يمكن أن نعمل لنقوّي مناعتنا ونُدعّم قوّة الصمود، ونبني ركائز مُجدية لتحقيق السيادة. 

الاقتصاد الإسرائيلي سوف يدخل مرحلة من الهبوط. المهم بالنسبة لنا، الصمود والتأقلم الذي له بُعد سياسي - نضالي في حالتنا. هل من أحد يملك قدرة صمود أكثر من شعب غزّة؟ 

برأيي من المهم أن نبدأ التفكير بالأمر من هذا المنطلق: قوّة «إسرائيل» العالمية واندماجها بالاقتصاد العالمي، وقدراتها التجسّسية، والهرولة ورائها عربياً وآسيوياً فيما يتعلّق بشراء أسلحتها أكلت ضربة لم تُترجم عملياً بعد في البورصة (انهيار الشركات المعنية بالتكنولوجيا والتسلّح). كما انكسرت صورة الجيش الإسرائيلي، تحطّمت صورة التفوّق التكنولوجي، أصلاً كل ما قام به بنيامين نتنياهو مهّد بشكل ممتاز لإضعاف القطاع التكنولوجي. لذلك الاقتصاد الإسرائيلي سوف يدخل مرحلة من الهبوط. المهم بالنسبة لنا، الصمود والتأقلم الذي له بُعد سياسي - نضالي في حالتنا. هل من أحد يملك قدرة صمود أكثر من شعب غزّة؟ وهذا الموجود في كلّ قرى الضفّة. 

ما المطلوب الآن، المصالحة على أي أساس؟ كجزء من مشروع وطني يُعزّز اللحمة حول مشروع التحرير؟ وكيف يُمكن دمج فلسطينيي الـ48 بهذا المشروع؟ 

هناك برنامج تحرّري جديد لا بديل عنه، أتأمّل أن تنضمّ له القوى الأخرى ويكون لكلّ فريق دوره فيه، فحماس لا تبحث عن حكم فلسطين لوحدها. إنجاز المصالحة أمر غير أساسي في هذه المرحلة، فهذا أصلاً أقلّ الإيمان أن يحصل. ولكن، بغضّ النظر عن البرنامج، الأحداث على الأرض تفرض نفسها على الجميع، ويضطر حتى من لا يُعجبه ذلك إلى الانضمام. 

هناك من ينظر إلى النضال الاجتماعي والتقدّمي كانحراف عن القضية أو على حساب التحرّر الوطني، هذا غير صحيح، يجب أن يسير المشروعان جنباً إلى جنب بعض

 المدخل هو وجود برنامج تحرّري قابل للتطبيق. ويبدو أنّ المقاومة أكّدت وجود عُنصر قوي يُمكن البناء عليه، كنّا نعتبره غير مُجدي، وهو الخيار العسكري، ولكن تبيّن أنّه مُجدٍ في حال أُدير بطريقة مختلفة عن التجارب الفلسطينية السابقة. 

يجب إعادة بناء الأواصر بين غزّة وبقية المناطق. والمهم أن ندخل مرحلة النضالات، المشروعة والمتأخّرة في حالتنا، وغير المتناقضة مع المضي قدماً بمشروع التحرر الوطني. هناك من ينظر إلى النضال الاجتماعي والتقدّمي كانحراف عن القضية أو على حساب التحرّر الوطني، هذا غير صحيح، يجب أن يسير المشروعان جنباً إلى جنب بعض. وقّعنا «أوسلو»، وشغلنا أنفسنا بأمور ثانوية، لأننا نقول إننا غير قادرين على إنجاز الأمور الكبيرة. ولكن بظلّ ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يعد يُمكن العودة إلى ما كان قائماً.