Preview قانون العمل الجديد في مصر

مشروع قانون العمل في مصر
قيود جديدة وحقوق مهضومة

  • تقدّمت الحكومة المصرية بمشروع قانون عمل جديد يهدر حقوق العمّال، مُنحاز لأصحاب الأعمال، وينتقص من مكتسبات العمّال القليلة الواردة في القانون الحالي.
  • في ظل توازن القوى الحالي يمكن إصدار قانون للعمل يتجاهل مصالح العمّال الجماعية ويهدر حقوق العمّال، من الحقّ في الأجر العادل وحتى حقّ العمل نفسه، ولكن على أرض الواقع لا توجد موازين قوى نهائية.

من المتعارف عليه أن قانون العمل يدخل ضمن حزمة التشريعات المُنظِّمة لعلاقات العمل، مثل التأمينات والمعاشات، وقانون النقابات العمّالية، والتي يفترض أنها مكمّلة للقوانين الاقتصادية مثل قانون الاستثمار، ويفترض أيضاً أن تحقّق تلك القوانين درجة من التوازن في علاقات العمل بين العمّال وأصحاب الأعمال، بحيث تضع قواعد مُلزِمة تحمي العامل من تغوّل سلطة رأس المال المُستغلَّة، ولهذا سُمِّيت هذه القوانين «اجتماعية»، أي أنها تهدف إلى تحقيق السلم المجتمعي من وجهة نظر المشرِّع.  فهل تراعي الحكومة هذه المبادئ العامّة عند تقديمها لمشاريع القوانين الاجتماعية؟

مشروع قانون العمل الجديد يجيب على هذا السؤال بـ«لا»، ويمكن إيضاح ذلك من خلال ملاحظاتنا على هذا المشروع في نقاط عدّة.

في غيبة العمّال

أولاً، طريقة إخراج هذا المشروع بقانون كانت في غيبة العمّال. دائماً تسارع الحكومة لعرض مشاريع القوانين على جمعيات رجال الأعمال واتحادات الصناعات لأخذ رأي رجال الأعمال ومناقشتهم فيما يعبّر عن مصالحهم، وأخذ تلك المصالح بالاعتبار عند صياغة القانون، فيما تتجاهل عرض هذا القانون شديد الأهمّية والخطورة على حياة الملايين، على عمّال مصر ومنظّماتهم النقابية المُستقلّة والمصانع والمنشآت المختلفة ومنظّمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية المنحازة للعمّال، تكتفي الحكومة بالإعلان عن نقاش شكلي مع ممثلين عن «اتحاد العمّال الحكومي» الذي عوّدنا على دعمه لمشاريع الحكومة كافّة منذ نشأته في العام 1957.

إذا كان التنظيم النقابي غائب أو تابع للحكومة، وحقّ الإضراب مقيّد، من يلزم رجال الأعمال بما ورد في قانون العمل؟تكتمل دورة غياب العمّال عن مناقشة ما يمسّ حياتهم وأكل عيشهم بدخول المشروع إلى غرفتي الشيوخ والنواب في البرلمان، الذي يغيب عنه نوّاب من العمّال يمثّلون مصالح طبقتهم، وما يزيد الطين بلة أنه برلمان يغلب عليه رجال الأعمال والمنحازين إليهم. ينتج هذا الوضع في الأخير قوانين تعصف بحقوق ومكتسبات الملايين من العمّال، وقوانين لا تحقق الغاية المُعلنة عنها، وهي تحقيق التوازن في علاقات العمل، بحيث لا تترك يد سلطة رأس المال الباطشة حرّة فيما تفعل.

ثانياً، ما هي القوة المُلزمة لتلك القوانين؟ وكيف تجبر أصحاب العمل على الالتزام بها؟ ومن يراقب تطبيقها؟ وهل يتمكّن العمّال من الدفاع عن فتات الحقوق الواردة في تلك القوانين؟ هذه أسئلة مشروعة ومنطقية، لأن أصحاب الأعمال الذين تتناقض مصالحهم مع العمّال لن يلتزموا بالقوانين من تلقاء أنفسهم، ولا بدّ من قوة جبرية تراقب وتلزم وتعاقب.

واقع الحال يخبرنا بأن هناك خلل رهيب ينسف منطق إصدار قوانين مماثلة. خلل فيما يتعلّق بالعقوبات فجميع تشريعات العمّال الاجتماعية تتضمّن مساواة زائفة في العقوبة بين العمّال وأصحاب الأعمال. يتمثّل هذا الخلل في العقوبات المالية التي ترد في هذه القوانين، يعاقب العامل بالخصم من أجره إذا خالف التزاماته الواردة في عقد العمل أو القانون، وهي عقوبة مؤلمة تخصم من فتات أكل عيشه ممّا يجعلها سيفاً رادعاً يثني العامل عن القيام بأي مخالفة. في حين وضع العقوبة نفسها على رجال الأعمال «بمبالغ زهيدة» لا تحقّق الهدف المرجو منها، ويستطيع صاحب العمل وهو الذي يرفع سيف «الفصل التعسفي» في وجه العمّال دائماً التحلّل من كل التزاماته الواردة في قانون العمل بدفع غرامات تافهة لا تنتقص من ثروته شيء.

غياب التنظيم النقابي الحرّ

الخلل الثاني، الذي يعمّق الخلل السابق، هو غياب التنظيم النقابي الحرّ، الذي يمكن أن يخلق درجة من التوازن في تلك العلاقة، عندما يتمكّن العمّال من الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، ويفرضون حقوقهم الواردة في القوانين، باستخدام سلاح الردع وقوّة الجبر الحقيقية وهي «الإضراب»، فإذا كانت الدولة مُمثلة في وزارة القوى لا «بتهش ولا بتنش» فيما يخص حقوق العمّال،  وإذا كان التنظيم النقابي غائب أو تابع للحكومة، وحقّ الإضراب مقيّد، من يلزم رجال الأعمال بما ورد في قانون العمل؟

تفصل بين العامل والمنشأة التي يعمل بها  وتحصر علاقته بمقاول الأنفار، الذي أضحى اسمه «وكالة تشغيل خاصة»ثالثاً، تقنين مخالفات أصحاب الأعمال، حتى بعد أن تصدر القوانين بفتات الحقوق، يستطيع رجال الأعمال الالتفاف عليها والتحلّل منها، وفرض أمر واقع مخالف للقانون في غياب أي سلاح بيد العمّال، ولا يكون أمامهم إلّا الإذعان لشروط صاحب العمل. تستمر تلك المخالفات سنين طويلة حتى تصبح من المستقرّ عليه، وتتحوّل من مخالفات إلى بديهيات، ثمّ تأتي الحكومة وتقنِّن هذه المخالفات في مشاريع العمل الجديدة.

على سبيل المثال، كان قانون العمل يُحدِّد بشكل واضح العمل المؤقّت والعمل الدائم، بحيث يمكن تشغيل العمّال باليومية ولمدّة مُحدّدة، ويجري بعدها تسريحهم بانتهاء العمل الموسمي أو المؤقت، في حين كان القانون يمنع تشغيل العامل باليومية في العمل الذي يتسم بالدوام، بل يعتبر عقد العمل مُحدّد المدة عقداً مفتوحاً إذا استمرّ الطرفان في تنفيذه.

أمّا المشروع الجديد فجاء بتقنين وتأطير عمالة اليومية تحت مسمى وكالات التشغيل الخاصة، التي تفصل بين العامل والمنشأة التي يعمل بها  وتحصر علاقته بمقاول الأنفار، الذي أضحى اسمه «وكالة تشغيل خاصة».

رابعاً، العدوان على المكتسبات العمّالية، وهي على سبيل المثال لا الحصر، تخفيض الحدّ الأدنى للعلاوة السنوية الدورية من 7% من الأجر الأساسي إلى 3%، وحذف الفقرة الخاصة بربط الأجور بالأسعار فيما يتعلّق بوضع الحدّ الأدنى للأجور في المواد 21 و79 من مشروع القانون.

أيضاً جرى إلغاء النصّ الخاص بجعل سلطة توقيع جزاء الفصل من العمل للمحكمة العمّالية حصرياً، وجعله من سلطات صاحب العمل في المشروع الجديد، وهو ترسيخ وتقنين لمخالفة أصحاب العمل لهذه المادة وفقاً للقانون الحالي. إلى ذلك، تركت المادة 125 من القانون للوائح العمل تحديد صاحب سلطة توقيع جميع الجزاءات.

في المادة 142 نصّ القانون على تعويض شهرين عن كلّ سنة خدمة في حالة الفصل التعسّفي، ولم يُحدِّد القانون ماهية الأجر الذي يقصده. القانون في تعريفه للأجر عدَّد ثلاثة أنواع؛ الأجر الأساسي، وأجر التأمين، والأجر الشامل،  فأي أجر يحسب على أساسه التعويض؟ القانون الحالي أكثر وضوحاً وحدّد الأجر الشامل، وهو ما يُعدُّ انتقاصاً من مكتسبات العمّال.

حقوق العاملات

خامساً، استمرار معاناة المرأة العاملة، حيث استبعد المشروع عاملات الخدمة المنزلية ومن في حكمهم من الخضوع لأحكامه، ما يعني خروج عاملات المنازل من أي حماية أو رعاية، على الرغم من أن القانون نفسه نظّم وقنّن عمل عاملات المنازل الأجنبيات عند تنظيم عمل الأجانب، ولا نفهم ما هو الفرق بين عاملة المنزل الأجنبية والمصرية حتى يشمل هذه ويتجاهل تلك.

اتحاد عمّال مصر الذي تأسّس في العام 1957 لم يتخذ قراراً بالإضراب عن العمل إلّا مرّتين فقط في تاريخهكما أن القانون ميّز بين أصحاب النوع الواحد عندما منح العاملة في القطاع الخاص الحقّ في إجازة وضع مدّتها ثلاثة أشهر، في حين تحصل زميلاتها من عاملات قانون الخدمة المدنية على إجازة وضع مدتها أربعة أشهر، أليس الوضع نفسه؟

جاء مشروع القانون خالياً من أي إشارة إلى توفير بيئة عمل آمنة للمرأة العاملة في مواجهة ظاهرة التحرّش التي تتعاظم في مواقع العمل، حيث تتحمّل النساء ما لا يتحمّله بشر من تحرّشات واستغلال جنسي من أجل لقمة العيش. كان يجب أن يتضمّن قانون العمل نصوصاً وعقوبات رادعة ضدّ تحرّشات العمل، بالإضافة إلى العقوبة الجنائية المنصوص عليها في قوانين أخرى. قانون العمل هنا هو الضامن لتحريك العقوبة الجنائية، لأنه إذا لم يوفّر الحماية والأمان الوظيفي للمبلغة/ المجني عليها، وإذا لم يمكّنها من تقديم شكوى وفتح تحقيق إداري أولي يثبت الواقعة في مكان ووقت حدوثها، فإن ذلك يجعل الوصول إلى العقوبة الجنائية أصعب. كما أن تنظيم قانون العمل لهذه القضية يعطي العاملات القدرة في الدفاع عن أنفسهن بشكل جماعي في إطار علاقات العمل، مُستخدمات كلّ وسائل النضال العمّالي، وهذا يختلف عن تقييد كلّ عاملة بالدفاع عن نفسها منفردة بالتبليغ إلى الشرطة أو النيابة العامّة. 

تقييد الإضراب

كنا نأمل أن يعالج المشروع الجديد العيوب والمشكلات التي أوجدها القانون الحالي الصادر في العام 2003، خصوصاً فيما يتعلّق بممارسة حقّ الإضراب، واستخدام آلية المفاوضة الجماعية،  ووضع حدّ أدنى للأجور. 

فيما يتعلّق بحقّ الإضراب جاء المشروع الجديد بالقيود نفسها على حقّ الإضراب، بما فيها قيد «حظر الإضراب في المواقع الاستراتيجية التي يصدر بتحديدها قرار رئيس الوزراء»، وذلك على الرغم من صدور العديد من الأحكام القضائية التي نسخت هذه المادة مُعتبرة الإضراب حقّاً لجميع العمّال من دون تفرقة بما فيها العمّال في القطاعات الاستراتيجية في الدولة. كما خالف المشروع بهذا النص الاتفاقيات الدولية التي صدّقت عليها مصر وأضحت تسري مسرى القانون المحلّي كالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

كان عمّال مصر قد عانوا معاناة كبيرة من عدم قدرتهم على استخدام حقّهم المشروع في الإضراب أو دخول مفاوضات جماعية، بسبب اشتراط القانون أن يكون ذلك عبر منظّماتهم النقابية «المُعترف بها من الدولة»، وبما أن التنظيم النقابي كان موالياً للحكومة، لم يستطع العمّال استعمال حقّهم المشروع في الإضراب والمفاوضة. لك أن تتخيّل معي أن اتحاد عمّال مصر الذي تأسّس في العام 1957 لم يتخذ قراراً بالإضراب عن العمل إلّا مرّتين فقط في تاريخه: قرار إضراب عمّال المناجم والمحاجر في العام 1994، وقرار إضراب مصنع طنطا للكتان في العام 2006.

لم يعالج المشروع الجديد مشاكل انعقاد المجلس القومي للأجور، بل أغفل نص المشروع الجديد (المادة 79) تحديد مدة زمنية دورية يراجع فيها المجلس القومي للأجور الحدّ الأدنى، وترك المدة مفتوحة بما يعني عدم تعديل الحدّ الأدنى لسنوات طويلة، في وقت تتسارع وتيرة ارتفاع معدّلات التضخّم وانخفاض الأجور الحقيقية بسبب ارتفاعات الأسعار. وما زاد الطين بلّة هو حذف المشروع عبارة ربط الأجور بالأسعار الواردة في القانون الحالي.

استبعد المشروع عاملات الخدمة المنزلية ومن في حكمهم من الخضوع لأحكامه، ما يعني خروج عاملات المنازل من أي حماية أو رعايةالطبقة العاملة كانت ولا تزال تطالب بقانون عادل للعمل، قانون لن يصدر إلّا إذا كان العمّال طرفاً أصيلاً في مناقشته وصياغته. لن يتحقّق التوازن الذي يتحدّثون عنه في علاقات العمل، إلّا إذا امتلك العمّال تنظيماً نقابياً حرّاً يُعبِّر عن إرادتهم. التشريعات الاجتماعية كلٌّ متكامل، لهذا لن يكون هناك قانون عادل للعمل من دون قانون يضمن حرية التنظيم النقابي.

الصيغة النهائية لمشروع قانون العمل الجديد، والذي يُعدُّ له منذ سنوات، لم تظهر كاملة بعد، ولكن ما ظهر منها، والسياق العام الذي يُعدُّ فيه مشروع القانون يوضح على نحو لا لُبثَ فيه الاتجاه العام للقانون وانحيازه ضدّ مصالح العمّال.

لكن الخطأ الذي يقع فيه معدّو القانون أنهم لم يتعلّموا شيئاً من قانون العمل الحالي الذي صدر في العام 2003.

لقد وضع قانون العمل الحالي ضوابط صارمة للإضراب تجعله شبه مستحيل، فتفجّرت آلاف الإضرابات من دون العودة إلى القانون. ووضعت قواعد للمفاوضة الجماعية في ظل غياب التمثيل العمّالي المستقل ففشلت آليّات التفاوض القانونية، وفرض العمّال المفاوضات المباشرة مع أصحاب الأعمال والحكومة عبر الاحتجاجات الجماعية. ووضع القانون آليّة لمراجعة الحدّ الأدنى للأجور، تمثّلت في المجلس القومي للأجور، لكنها لم تراعِ التمثيل العمّالي والسياق الاقتصادي والاجتماعي، ففشلت تلك الآلية في مراجعة الحدّ الأدنى للأجور منذ تطبيق القانون في 2003 وحتى تفجّر ثورة يناير في 2011 التي فرضت مراجعة الأجور.

في ظل توازن القوى الحالي يمكن إصدار قانون للعمل يتجاهل مصالح العمّال الجماعية ويهدر حقوق العمّال، من الحقّ في الأجر العادل وحتى حقّ العمل نفسه، ولكن على أرض الواقع لا توجد موازين قوى نهائية، والمؤكّد أن الحركة العمّالية في صعودها قادرة على تغيير القوانين، بينما لم تتمكّن القوانين أبداً من تغيير الحركة العمّالية.