Preview العمل وأسواق العمل

في خلال مظاهرة أمام الجامعة الأميركية وتعرّض الطلاب للقمع والضرب بالغاز المسيل في العام 1975.
المصدر: أرشيف الجامعة الأميركية.

نحو تدمير نهائي لكلّ المؤسّسات التاريخية 
العمل وأسواق العمل

بعد تمهيدٍ بعددٍ من المقالات عن تاريخ الرأسمالية اللبنانية والنماذج الاقتصادية والمؤسّسات التي تولِّد نموّها، تتطرّق هذه المقالة إلى أسواق العمل أو العمل (Le Rapport Salarial)، وهي واحدة من تلك المؤسّسات إلى جانب دور الدولة، والانفتاح الاقتصادي، والمضاربة في أسواق السلع، والنقد.

تعدّ الترجمة الفرنسية أكثر تعبيراً عن تعقيدات هذه المؤسّسة وتعكس ترابط العمل وتداخله بالعديد من المؤسّسات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى. ففي النظريات الاقتصادية الشائعة، لا يختلف سوق العمل عن الأسواق الأخرى القائمة على العرض والطلب. هناك بعض الحواجز والمعوِّقات (Imperfections & Asymmetries) التي تمنعه من الوصول إلى نقطة التوازن بين العرض والطلب، وهذا يتطلّب من السياسات العامّة إزاحتها عبر إجراءات تزيد من «مرونة العمل» وتخفّف الإجراءات التعاقدية (Flexibility). هذا ما صار يطلق عليه تحرير أسواق العمل أو لبرلتها (من ليبرالية). 

على الرغم من كل التغيّرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، لا تزال نظرتنا إلى علاقات العمل محكومة، بطريقة ما، بالحقائق التي فرضتها إصلاحات دولة الرعاية في الغرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانيةفي المقابل، لا تعتبر النظرية الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي جون ماينارد كينز) أن سوق العمل هي فعلاً سوق مكتملة المواصفات، لأن الأجور هي نتيجة تفاوض بين الأجراء والشركات، حيث تبني هذه الأخيرة توقّعاتها على «الطلب الفعّال» (Effective Demand)، المبني بدوره على توقّعات مستقبلية ورؤية الشركات للتحدّيات الاقتصادية المتعدّدة. أمّا النظرية الماركسية التقليدية فتعتبر أن العمل ليس سلعة كباقي السلع، وأنه هو ما يخلق فائض القيمة، وأن قيمة قوّة العمل يتحكّم بها إلى درجة كبيرة جيش الاحتياط من العاطلين عن العمل ضمن رؤية الصراع بين العمل ورأس المال.  

العمل وأسواقه في نظرية المؤسّسات

في مقابل النظريات المذكورة سابقاً، تعتبر نظرية المؤسّسات أن علاقات العمل المأجور تحدّدها مجموعة من المؤسّسات المحكومة بعلاقات تكاملية، وهي، أي هذه المؤسّسات، تضبط العلاقة التعاقدية بين العمل والشركات ضمن الإطار الأوسع للنموذج الاقتصادي وآليّات نموّه (Regulation Model and Institutional Order). وبالتالي، فإن علاقات العمل المأجور تختلف حسب الزمان والمكان وتأخذ أشكالاً متعدّدة حسب الإطار الاقتصادي والاجتماعي الموجودة فيه.

وعلى الرغم من كل التغيّرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، لا تزال نظرتنا إلى علاقات العمل محكومة، بطريقة ما، بالحقائق التي فرضتها إصلاحات دولة الرعاية في الغرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي تقوم بشكل كبير على الحماية (Protections) والتفاوض بين العمّال وأرباب العمل، مع اختلافات بين الدول ومنها الولايات المتّحدة الأميركية خصوصاً.

لكن، مع انطلاق اللبرلة وتحرير الأسواق في الثمانينيات والتطوّر التكنولوجي والعولمة المرافقة، بدأت الحمايات تتراجع (حسب النموذج الصناعي بعد الحرب العالمية الثانية) أمام ضرورات المرونة (Flexibility) التي يتطلّبها الاستثمار. من هنا، نجد أن النقاش العام والحركات النقابية المطلبية حاولا طوال العقود الثلاث الأخيرة (لا سيما في أوروبا والاقتصاديات الناشئة) الحفاظ على المكتسبات الحمائية لدولة الرعاية والتوفيق بين المرونة والحماية (Flexi-Security) في حال تعذّر الأولى. 

المنهجية والمؤسّسات المفتاحية لفهم علاقات العمل

أولاً؛ القوانين كمؤسّسة تحمي العمل: من قانون العمل الذي يرعى علاقة التعاقد (أنواع العقود) بين الأجير وربّ العمل، إلى شروط التوظيف والطرد، ومحاكم العمل، والتعويضات (نهاية الخدمة، البطالة، المرض، وغيرها)، والضمان الاجتماعي، إلى الحقّ في تأسيس النقابات والانتساب إليها. 

ثانياً؛ المؤسّسة أو المؤسّسات التي ترعى «أشكال التفاوض» في علاقات العمل: الجمعيات العامّة، والنقابات (بما فيها نسب المنتسبين والناشطين)، والأحزاب، واللجان المتخصّصة، ومحاكم العمل، وطبيعة العلاقة بين الدولة والشركات والعمّال (تفاوض مركزي ولا مركزي على مستوى الشركات والقطاعات)... 

سبق عالم الريف عالم المدينة تعليمياً وتربوياً، وهذا ما سيُفسّر لاحقاً علاقة نخب الجبل بنخب مصر المدينية في إطلاق النهضة العربية. وهذا ما سيُفسّر أيضاً تقدّم جغرافية لبنان على الأقطار الأخرى في السلطنة العثمانية من ناحية التعليمثالثاً؛ مؤسّسة التعليم والتربية. وهنا، لا أتكلّم فقط عن إنتاج اليد العاملة المُنتجة الضرورية للسوق والاقتصاد (رأسمال بشري واجتماعي)، بل أتكلّم أيضاً عن مستوياته التضمينية (نسب الالتحاق، نوعية التعليم وقدمه وتكاليفه، وأهمية القطاع العام…) بالإضافة إلى تنافسيته مع البلدان المحيطة ومدى ارتباطه بالعالم. كل ذلك يخلق مُحدِّدات (Determinism) ونظاماً من المحفّزات (Incentives) للطلّاب للالتحاق باختصاصات معيّنة تدفعهم أو تثنيهم عن الاستثمار بالتعليم. 

رابعاً؛ سياسات العمل ومدى ارتباطها بواقع الاقتصاد الكلّي (Macroeconomics). هذه السياسات هي المؤسّسة الفاعلة (أو لا) في إدارة خلق فرص العمل وتحفيزها والتقليل من البطالة على كلّ المستويات وإعطاء أهمّية للعمل وحماية القطاعات والمهارات.

إن دراسة هذه المؤسسات الأربعة، بتكاملها وترابطها، يسمح بفهم «عالم العمل» بأسواقه وديناميّته عند وضعها تطبيقياً في النموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي تتمّ دراسته. عندها فقط يمكن فهم مستوى «التوافق» (Compatibility) بين مؤسّسات العمل ونظام نموّ النموذج الاقتصادي والاجتماعي.  

كيف نقرأ تطور علاقات العمل في لبنان على ضوء هذه المؤسّسات؟ 

  • مؤسّسة التعليم والتربية (Education System)

من بين المؤسّسات المفتاحية الأربعة لفهم علاقات العمل، يعدّ التعليم والتربية أقدمها وأهمّها في لبنان. فمؤسّسة التعليم فريدة في لبنان، وقد سبقت إنشاء لبنان الكبير بمئة عام، وهي تعطي فرادة للبنان من حيث ثقل قطاع التعليم الخاص مقارنة بواقع التعليم الرسمي في لبنان والمنطقة. فمن ناحية المدن والحواضر (طرابلس، بعلبك، صيدا)، لطالما كان هناك مدارس إسلامية تعلِّم الدين والتاريخ واللغة. لكن التربية والتعليم بشكلهما الحديث يجب ربطهما ببداية علاقة الموارنة مع روما وتأسيس المدرسة المارونية في العام 1584، ممّا مهَّد لمجمع اللويزة وإقراره إلزامية التعليم الأساسي في العام 1736. لتكرّ السبحة بعد ذلك مع الآباء العازاريين في العام 1834 مع تأسيس مدرسة عينطورة، ومجموعة مدارس إرسالية فرنكوفونية بعد مجازر 1860 (منها مدرستي بسكنتا وبيت شباب)، وقبلها مدرسة ثلاث أقمار للروم الأرثوذكس في العام 1852، وبعد ذلك مدرسة عين ورقة في دير غوسطا في العام 1889. في المقابل، بدأ العثمانيون بتنظيم القطاع التعليمي ونشر المدارس في العام 1846، وبعد ذلك تأسّست أول مدرسة للمقاصد في العام 1878 تحت وقع المنافسة. وأتى كلّ ذلك مع تراجع السلطنة العثمانية وصعود دور الإرساليات في جبل لبنان خصوصاً، ناهيك عن دور المطابع الآتية من أوروبا.

هذه الفرادة قلّ نظيرها بحيث سبق عالم الريف عالم المدينة تعليمياً وتربوياً. وهذا ما سيُفسّر لاحقاً علاقة نخب الجبل (وهي نخب مسيحية بأكثريتها) بنخب مصر المدينية في إطلاق النهضة العربية. وهذا ما سيُفسّر أيضاً تقدّم جغرافية لبنان على الأقطار الأخرى في السلطنة العثمانية من ناحية التعليم. ففي العام 1882، كان هناك 13 ألف طالب في مدارس بيروت بالمقارنة مع 7 آلاف في دمشق. هذا الثقل في القطاع التربوي الخاص والديني يفسّر إعطاء دستور 1926 حرّية التعليم للطوائف (90% من المدارس كانت دينية). وفي سنة الاستقلال، 1943، كان هناك شبكة استثنائية من 400 مدرسة فرنكوفونية خاصّة سمحت للبنان بالتقدّم الاقتصادي لاحقاً على صعيد الإقليم. ويضاف إلى عناصر القوة هذه، تأسيس الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية في بيروت في القرن التاسع عشر.

أعطت كلّ هذه العناصر اللبنانيين رأسمال بشري يتماشى مع الدور المعطى لبيروت منذ أواخر الفترة العثمانية وصولاً إلى ما بعد الاستقلال، على الرغم من التفاوتات الداخلية ومع المحيط الإقليمي. ومع صعود النفط في الخليج وتأسيس إسرائيل وبداية الانقلابات في المنطقة العربية، كان لبنان جاهزاً لاستقبال رؤوس الأموال والمساهمة في مدّ الخليج باليد العاملة اللبنانية. لكن هذا ليس كلّ شيء. أدّت المطالبات الشعبية إلى تأسيس الجامعة اللبنانية في العام 1951 ممّا ساهم بدمج نخب شعبية جديدة في الحياة الاقتصادية، بالإضافة إلى تأسيس دار المعلّمين وإطلاق التعليم المهني بعد ذلك مع معهد الدكوانة في العام 1967. وهذه المؤسّسات سيستند عليها الرئيس فؤاد شهاب بعد أحداث العام 1958 لتطوير قطاع التعليم الرسمي بكلّ مراحله ليشكّل 40% من حجم القطاع المدرسي والتربوي بحلول العام 1964، وهو ما استمرّ حتى بداية الحرب اللبنانية. 

أعطت كلّ هذه العناصر اللبنانيين رأسمال بشري يتماشى مع الدور المعطى لبيروت منذ أواخر الفترة العثمانية وصولاً إلى ما بعد الاستقلال، على الرغم من التفاوتات الداخلية ومع المحيط الإقليميأما بالنسبة إلى التعليم غير المُهيكل فلا يمكن إهمال قطاع الحرفيين وأصحاب الحرف والصناعيين الصغار الذين كانوا جزءاً لا يستهان به من القوى العاملة اللبنانية. للأسف ليس هناك أرقام جدّية عن هذا القطاع، الذي لا يكلِّف الدولة أو المجتمع الكثير من الأكلاف، ويقوم على تناقل المهارات بطريقة عضوية ضمن العائلة والمجتمعات المحلّية (Skills transfer)، ويقوّي مناعتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا القطاع الاقتصادي الذي ساهم بعدم انهيار عالم الريف كلّياً مع بقاء بعض أشكال الزراعات الجبلية الموسمية مُمكنة مع الوظيفة العامة. تجدر الإشارة إلى أن هذا القطاع بقي قوياً حتى نهاية الحرب، ولكن لم يقم التعليم المهني والتقني بدمجه بمناهجه التعليمية.

بالإضافة إلى ذلك، وخصوصاً مع صعود البترول وبروز النخب المعولمة، كان النقص في خلق الوظائف محلّياً (بسبب تراجع عالم الريف، والزيادة السكّانية، وتركّز الاقتصاد في العاصمة وقطاع الخدمات، والطبيعة الاحتكارية لبعض القطاعات الاقتصادية)، يُعوَّض عنه بهجرة اليد العاملة (كلّياً أو لفترات محدّدة) إلى الخليج وأفريقيا والأميركيتين.

هذا النموذج الذي سيزداد قوّة مع الحرب وفترة إعادة الإعمار، كان ينقذ دائماً الميزان التجاري السلبي ويخفّف من عدم الملائمة بين ما ينتجه النظام التعليمي وحاجات السوق على مستوى طلب العمالة. فنظام الخدمات بالتوازي مع القطاع غير المُهيكل والفرص في المهجر، سمح للنظام التعليمي والتربوي بالاستمرار بإعطاء نظام المحفّزات (Incentives) نفسه للأسواق والطلّاب للذهاب إلى أبواب مُحدّدة من الاختصاصات. وفي المحصلة، بقيت مؤسّسة التعليم مُنسجمة إلى حدّ كبير مع متطلّبات النمو الاقتصادي للنموذج اللبناني مع كلّ الأضرار الجانبية التي نعرفها حتى بداية الحرب. 

  • مؤسّسات عالم العمل الأخرى

على الرغم من التطوّر والصعود السريع للرأسمالية اللبنانية، لم يصبح للبنانيين قانون للعمل، ومحاكم للعمل، إلّا في العام 1946. ولم يكتمل تطوّر نظام الحمايات إلا مع إنشاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية الموظّفين في العام 1963 وتنظيم عمالة الأجانب في العام 1964. جاء هذا التطوّر على وقع المطالبات الشعبية والنضالات النقابية التي كانت قويّة في لبنان ومصر وفلسطين بدفع من الأحزاب الشيوعية والنقابات القريبة منهم. وهي نضالات ساهمت في تطوير القطاع التعليمي الرسمي. 

كانت هاتان المؤسّستان في علاقة جدلية مع نظام التعليمي، وتغذّتا من بعضهما البعض حتى نهايات الحرب الأهلية، على الرغم من القطع التاريخي الذي حدث في العام 1975. وتطوّر ذلك منذ تأسيس لبنان الكبير بدفع من موقع لبنان في الإقليم ودوره الوسيط الذي ثبت مع الرئيس كميل شمعون، ليأتي لاحقاً الرئيس فؤاد شهاب ويبني أسس الدولة الحديثة بإداراتها وأجهزتها التخطيطية.

قد تكون فترة شهاب الفترة الوحيدة التي ظهرت فيها سياسات عامة للعمل منسجمة نوعاً ما مع وضعية الاقتصاد الكلّي وحاجاته، بحيث كبرت الدولة قليلاً لكنها لم تتضخّم. ممّا سمح للبنان ببناء قاعدة اقتصادية للتصدير، زادت من صادراته وسمحت له بعد ذلك من مراكمة احتياط كبير من الذهب. وهذه وضعية استثنائية من الناحية الاقتصادية إذا ما قارناها مع الضعف النسبي لمستوى شمولية «التغطية الصحّية» في وقتها ومستوى التفاوتات بين الجماعات والمناطق. واستمرّ هذا النموذج بالعمل بمؤسّساته الأربعة بشكل قوي وتكاملي حتى بدايات الحرب وبداية تفكّك الدولة. 

قطيعة الحرب والتغيّرات العميقة 

بعد تفكّك الدولة وانهيار الليرة وتدمير جزء كبير من القاعدة الاقتصادية، فضلاً عن الهجرة وتراجع مستوى التعليم في خلال الحرب الأهلية، عمّقت فترة ما بعد الحرب الأزمة بسبب خياراتها السياسية والاقتصادية. وكانت أولى ضحاياها مؤسّسة العمل كما عرفناها. وهنا جردة سريعة عن أسباب تدمير مؤسّسات سوق العمل الذي سيمهد إلى خلل بنيوي سيضعف البلد اقتصادياً واجتماعياً تدريجياً:

قد تكون فترة شهاب الفترة الوحيدة التي ظهرت فيها سياسات عامة للعمل منسجمة نوعاً ما مع وضعية الاقتصاد الكلي وحاجاته، بحيث كبرت الدولة قليلاً لكنها لم تتضخّم. ممّا سمح للبنان ببناء قاعدة اقتصادية للتصدير

  • كيفية إدارة النظام التعليمي مع توزيع رخص على أسس زبائنية، وإضعاف التعليم الرسمي وغياب الإصلاحات الجدّية، ممّا أدّى إلى تراجع المستوى وجودة التعليم. إن خفض مستوى التعليمي ساعد على إعطاء «إشارات» للطلّاب لإهمال الخيارات المهنية والحرفية والتوجّه لتخصّصات موجّهة بشكل أساسي للهجرة والعمل في الخارج أو للانضمام إلى إدارات الدولة وجهازها الزبائني.
  • عدم فرض احترام قانون العمل على الرغم من تقوية الحمايات الاجتماعية من باب الزبائنية والفساد بطريقة غير مدروسة، بالتوازي مع ضرب الحوار بين فرقاء الإنتاج مع تهميش المجلس الاقتصادي-الاجتماعي الذي بقي صورياً.
  • ضرب مُمنهج للنقابات وإفراغها من الداخل لتصبح أداة صراع بين أهل السلطة، بالتوازي مع تحرير أسواق العمل بطريقة عشوائية (اتفاقيات الأخوة مع سوريا، وعدم ضبط اليد العاملة السورية، وتسهيل وفود يد عاملة مصرية وآسيوية بطريقة غير مدروسة وغير مهيكلة)، ومزاحمة اليد العاملة اللبنانية، ممّا أدّى إلى خسارة جيل كامل من المهنيين والحرفيين والصناعيين، وزاد من حجم قطاع العمل غير المهيكل حتى داخل القطاع المهيكل ذاته.
  • تبنّي سياسات اقتصادية أدّت إلى تعظيم القطاع العام، وتمركز أكبر للنشاط الاقتصادي في بيروت وقطاع الخدمات، وتحفيز هجرة الشباب إلى الأسواق الإقليمية لزيادة حجم التحويلات بغياب القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، ونشوء طبقة جديدة من الأغنياء الجدد على وقع الفساد والريع وتخطّي القوانين والإثراء غير المشروع.
  • أدّت هذه الخيارات والسياسات إلى انتفاء النقاش حول العمل ومؤسّساته ومحورية خلق فرص العمل، حتى في مؤشرات وزارة الاقتصاد والبيانات الوزارية ومؤشرات المصرف المركزي المعتمدة. واختصرت البطالة والفقر بالجانب الاجتماعي وصير إلى هضمهما بالتوظيفات الوهمية في القطاعين العام والخاص وعبر الهجرة. 

خاتمة

كما ذكرنا في المقالات السابقة، شكّلت الحرب قطعاً تاريخياً حتّى مع النظام التعليمي والتربوي. فتراجعت مستويات التعليم (خصوصاً في القطاع الرسمي ومدارس الأطراف بسبب العمليات العسكرية)، وزادت الهجرة وتكسّرت الأعراف في القطاعات غير المهيكلة. فيما صمد النموذج إلى حدّ كبير. لكن، للأسف، لحق الضرر الأكبر بهذه المؤسّسة الأساسية للعمل بعد الحرب.

فمع انهيار الأعمدة الأربعة لمؤسّسة العمل، لم يستفد لبنان حتى من انهيار العملة لإعادة الأهمية للعمل على حساب الريع، أو لزيادة تنافسيّته وإنتاجيته، بل على العكس خلق الانهيار موجة ثانية من اللاهيكلة

اليوم ومع انفجار الأزمة في العام 2019، حدثت القطيعة الثانية وانهار ما تبقى من مؤسّسة العمل وعلاقاته وأسواقه، خصوصاً مع وجود أعداد ضخمة من يد العاملة الأجنبية التي يوفّرها اللجوء السوري. فمع انهيار الأعمدة الأربعة لمؤسّسة العمل، لم يستفد لبنان حتى من انهيار العملة لإعادة الأهمية للعمل على حساب الريع، أو لزيادة تنافسيّته وإنتاجيته، بل على العكس خلق الانهيار موجة ثانية من اللاهيكلة، وقد طالت كل شيء بما فيه الإدارة العامة والأجهزة الأمنية والشركات الخاصة. بالنتيجة، انهار نظام التعليمي العام، أو ما بقي منه، فيما النظام التعليمي الخاص غير قادر على تمويل استمراريته. أمّا تدمير الوظائف التي تتطلّب كفاءة فيحدث على قدم وساق دافعاً مئات الألوف إلى الهجرة، بالتوازي مع خلق وظائف غير مهيكلة لليد العاملة الأجنبية تدفع الفقراء اللبنانيين إلى مزيد من البؤس والتهميش. ويأتي ذلك بالتوازي مع انهيار أنظمة الحماية وصناديقها وانكشاف نقابات السلطة. 

وسط كل هذا الخراب، لا مفاجئة بما يحدث أو ما سيحدث مع هذه السلطة. لكن الأسئلة التي يفترض طرحها هي: كيف نزيح النقاش الاقتصادي من تحدّيات الأزمة المالية والنقدية فقط إلى واقع الاقتصاد الحقيقي الذي يهدّد بقاء واستمرار البلد؟ وكيف نقلب المنطق لنفهم أن ضرب مؤسّسات نمو الاقتصاد الحقيقي هو الذي أدّى إلى انهيار النموذج المالي والنقدي وليس العكس؟ وكيف لنا إن نعيد «العمل» إلى صلب النقاش الاقتصادي كمؤسّسة محورية للنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي؟