فوّاز طرابلسي: التشخيص «السياسوي» يطمس السلطة الاقتصادية
ينتقد المؤرّخ والكاتب اللبناني، فواز طرابلسي، المقولة التي تقول «اكتفينا من الفهم، نريد التغيير». تفترض هذه المقولة ضمناً أننا نمتلك فهماً كافياً، ولكن ما نمتلكه الآن في الواقع ليس سوى مجموعة من الخرافات والمقولات الجزئية، التي تمثّل عائقاً أمام الإمكانات الحقيقية للتغيير. فالتشخيص السائد للسلطة في لبنان يمكن وصفه أنه تشخيص «سياسوي»، يحصر السلطة ضمن السياسة والسياسيين، ويقرأ الاقتصاد بوصفه سياسياً. أي يقدّم قراءة سياسية للاقتصاد، ويطمس السلطة الاقتصادية وعلاقتها بالسلطة السياسية، وهي العلاقة التي يمكن الإشارة إليها من خلال مفهوم «الأوليغارشية».
من يحكمنا؟
هناك الكثير من السرديّات والنظريات والمصطلحات المُستخدمة لمعرفة من يُحدِّد الخيارات السياسية والاقتصادية التي تؤثّر على حياة الناس في المجالات كافة، مثل الرواتب والأجور والتقاعد والرعاية الصحّية والتعليم وغيرها من الحقوق الأساسية، بالإضافة إلى تأثير هذه الخيارات على قراراتهم بالبقاء في لبنان أو الهجرة. وقد تكون أبرز هذه المفاهيم «الأوليغارشية». فما هي «الأوليغارشية»؟ ومن يحكمنا فعلياً؟
من الجيّد، ومن المهمّ، أن نفهم أن هذا الشعار أو هذه التهمة التي ظهرت في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، خصوصاً أنها لم تكن شائعة قبل ذلك. ما كان سائداً في الحركات السابقة، كحراك العامين 2012 و2015 هو «الطبقة السياسية» و«كلّن يعني كلّن». ولكن اكتُشِف لاحقاً عدم إمكانية الجلوس أمام المصرف المركزي والحديث عن سرقة الودائع مع الاستمرار في استخدام شعار «كلّن يعني كلّن». وكان لا بدّ من إدخال مفهوم جديد يشير إلى السلطة الاقتصادية. والمقاربة الأولى لموضوع «الأوليغارشية» هي أنها تعيِّن طبيعة السلطة الاقتصادية وعلاقتها بالسلطة السياسية.
الموضوع واسع، وسوف أحاول مقاربته من زوايا مُتعدّدة. بداية، أود التمييز بين ما هو سائد الآن في المرحلة المتأخّرة من النيوليبرالية حيث يستخدم مصطلح «الأوليغارك». ويختلف هذا المصطلح عن مفهوم «الأوليغارشي» كما يُستخدم في السياق اللبناني. «الأوليغارك» الروسي هو نتاج انهيار الاتحاد السوفياتي، ويشير إلى نمط من أصحاب رؤوس الأموال، من أمثال فلاديمير بوتين، الذين أصبحوا معروفين شعبياً بهذا الاسم. وهذه تسمية دقيقة. فالأوليغارك، وفقاً للتجربة الروسية، هو الشخص الذي كوّن ثروته عن طريق السلطة الاقتصادية للدولة أو رأسمالية الدولة. وكما هو معروف، يُسيطر بوتين و«جماعته» على كبريات شركات الغاز والنفط والنقل وتجارة الأسلحة المملوكة من الحكومة. ويديرها قلّة من رجال الأعمال ويراكمون من خلالها ثروات فاحشة.
ما حدث في روسيا ينطبق أيضاً على عدد من البلدان الأخرى التي كانت اشتراكية. يدعم هؤلاء الأوليغاركيون السلطة السياسية، ويحقّقون من خلالها مزيداً من الثراء والتراكم المالي. أي توظيف المال الذي جنوه من خلال السلطة السياسية لإعادة إنتاج ولائهم للسلطة السياسية. وينتمي داعمو بوتين إلى هذا النمط من رجال الأعمال. يخلق هؤلاء الأوليغاركيون في بعض الأحيان شخصيّات سياسية من ما يُشبه العدم. ويمكننا أن نرى نموذجاً في الأوليغاركي، الإسرائيلي الهارب المتهم بسرقة مليارات الدولارات من مصارف أوكرانيا، الذي موّل السيد زيلينسكي، رئيس أوكرانيا الحالي، وأعدّه للسلطة.إحدى السمات الأساسية للفكر اليميني، والتي تشكّل جزءاً من تعريفه، هي الفصل بين الاقتصاد والسياسة. ومن هذا المنطلق، عندما تناقش السياسة، يُغفل الاقتصاد.
يجب أن نعتني بهذا النموذج لأنه يثير تساؤلات عن كيفية إنتاج المصالح الاقتصادية من خلال الدولة.
يتمثّل الوجه الآخر للأوليغاركية في حكم العائلات وهيمنتها على السياسة والاقتصاد. وهذا يرتبط مباشرة بموضوعنا. لكن قبل التطرّق إليه، لا بد من توضيح عن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة. إحدى السمات الأساسية للفكر اليميني، والتي تشكّل جزءاً من تعريفه، هي الفصل بين الاقتصاد والسياسة. ومن هذا المنطلق، عندما تناقش السياسة، يُغفل الاقتصاد.
لقد تشكّلت مكوّنات ما نسمّيه اليوم الأوليغارشية في لبنان على مراحل. هناك المكوّن العائلي، وهي عائلات تأسّست في ظل الانتداب. وكانت هذه العائلات، التي تولّى بشارة الخوري نقل السلطة الاقتصادية إليها، تتألّف من 12 عائلة رئيسة، وكلّهم من أقاربه. وقد أطُلِق على هذه المجموعة اسم «الكونسورسيوم». مع مرور الزمن، توسّع هذا الكونسورسيوم. وبحلول عهد كميل شمعون، ازداد عدد العائلات المتنفذة ليصل إلى نحو 100 عائلة. وانتقل النفوذ تدرّجياً من الملكية الخاصة التقليدية إلى نظام الشركات المساهمة. وفي وقت لاحق، في خلال حرب 1975، ظهر نوع جديد من الشركات، وهو نظام الهولدينغ أو الشركات القابضة، ما أضاف بُعداً جديداً إلى الهيمنة الاقتصادية لهذه الطبقة. فقدت الشركات القابضة في لبنان مفهوم التخصّص وأصبحت تشمل كل القطاعات، الإلكتروني والعقاري والنقل والاتصالات والتجارة. على سبيل المثال، عندما كانت إحدى شركات رئيس الوزراء تفتقر إلى بنك، قامت بشراء بنك.
وإذا نظرنا إلى أسماء هذه الشركات، سوف نجد أن معظمها يرتبط بأسماء عائلات. وهذا يقودنا إلى نتيجة واضحة: الرأسمالية اللبنانية تعتمد على العائلة كأداتها التشغيلية الرئيسة. فعندما لم تعد الأرض تكفي لإعالة الأسرة في جبل لبنان، ابتكرت العائلة أساليب تكيّف. كانت ترسل ابنتها للعمل في معامل الحرير، وتُخصّص موارد لتعليم الشاب، أو تؤهّله ليصبح رجل دين أو أجيراً زراعياً. أمّا الرجال أو الأبناء الكبار، فكانوا يُرسلون إلى المهجر بحثاً عن فرص جديدة. يقال إن الأسرة اللبنانية تعتمد في معيشتها على ما يُسمى بالريع، لكنه في الواقع ليس ريعاً، بل هو عائدات جزء من إنتاج اللبنانيين في الخارج.
أخيراً، يجب التطرّق إلى دور الميليشيات، أي أثرياء الحرب، وإلى المكوّنات الثلاثة: رجال الأعمال الفرديين، ورجال الأعمال الجماعيين (أي الأحزاب بصفتها كيانات اقتصادية)، وأثرياء الحرب. وهذا المزيج من المكوّنات هو الذي يشكّل حكامنا اليوم. واللافت أن بعض هؤلاء هم في الوقت نفسه رجال أعمال وسياسيون، ما يجعل من الصعب التمييز بين الدورين. على سبيل المثال، إذا كان هناك شخص عمل كرجل أعمال لمدة 40 عاماً ثمّ أصبح رئيساً للوزراء، فكيف يمكن تصنيفه؟ هل هو سياسي يسيطر على الدولة، أم أنه ما زال رجل أعمال؟
ما الذي يجب تغييره؟
هل استخدام الشعارات الشائعة في النقاش العام اللبناني ينعكس سلباً على التحليل ويضرّ بفهم الواقع؟
إذا بدأنا من «التغيير»، أي الشعار والكلمة، فهذا يتطلّب بحثاً، ولكن إذا كان المقصود هو الاتجاه أو الحاجة إلى التغيير في المجتمع، فيجب أن نأخذ في الاعتبار الشرط الأول هو أن التغيير يتطلّب معرفة ما الذي يجب تغييره.
المقولة التي تقول «اكتفينا من الفهم، نريد التغيير»، تفترض ضمناً أننا نمتلك فهماً كافياً. لكن إذا كان ما نملكه الآن ليس سوى مجموعة من الخرافات والمقولات الجزئية، بل وربّما أسوأ من ذلك، فإن هذه الأفكار تمثّل عائقاً أمام أي إمكانات حقيقية للتغيير.
وفي هذا السياق، يمكن وصف التشخيص السائد للسلطة اليوم بأنه تشخيص «سياسوي»، وهو مصطلح أستخدمُه للإشارة إلى فهم السلطة حصرياً ضمن السياسة والسياسيين. ويرتبط هذا التشخيص ارتباطاً وثيقاً بالنيوليبرالية، التي تعتبر الدولة عائقاً أمام تطوّر القطاع الخاص (البِزنس) وأمام تطوّر الحرّيات الفردية. والوجه الآخر لهذا المنحى هو، بالطبع، قراءة الاقتصاد بوصفه سياسياً. أي تقديم قراءة سياسية للاقتصاد.
سوف أعطي مثالين. المثال الأول عن الفكرة السائدة في لبنان بأن السياسيين يسيطرون على القطاع المصرفي. وقد تم تبنّي هذه الفكرة في ورقة بحثية شهيرة اعتُمِدت في المؤسّسات الدولية، وأشير فيها إلى أن المصارف تسيطر عليها عدد من الأسر السياسية. وبناءً على ذلك، يكمن الحلّ في تحرير القطاع المصرفي الخاص من سيطرة السياسيين. والواقع أن هذا الطرح يتضمن تزويراً فادحاً ومتعمداً للوقائع. تستند هذه الفكرة إلى مبدأ أنه إذا تولّى أحد أفراد الأسرة المصرفية منصب وزير في أي وقت، هل تتحوّل هذه الأسرة من أسرة رجال أعمال إلى أسرة سياسية؟ هناك على سبيل المثال عائلة عودة، وهم رجال أعمال من أيام أحمد باشا الجزّار، انتقلوا إلى صيدا وكانوا يملكون فيها معمل صابون. هذه أسرة من الأسر القديمة وأصبحت أسرة سياسية بعد أن صار أحد أعضائها وزير دولة.
هذا نموذج عن التزوير المقصود الذي ينزّه أي مسؤولية للسلطة الاقتصادية بالأزمات الاقتصادية وعلاقتها بطبيعة السلطة. ينزّه كلّ مسؤولية عن الاقتصاد، ويصبح الاقتصاد (القطاع الخاص) في قبضة السياسي أو السياسيين. وبالتالي المطلوب هو تحرير القطاع الخاص من الدولة. وهذا نموذج لبناني اعتمد كثيراً للقول بأن السياسيين مسيطرون على البلد. هم فعلاً مسيطرون لكن بطريقة أخرى.إذا تولّى أحد أفراد الأسرة المصرفية منصب وزير في أي وقت، هل تتحوّل هذه الأسرة من أسرة رجال أعمال إلى أسرة سياسية؟ هذا نموذج عن التزوير المقصود
أما المثال الثاني فهو الاحتكار. بالطبع، هناك دراسات كافية تثبت أن التركيبة الاقتصادية اللبنانية هي تركيبة احتكارية. وقد كانت كذلك ولا تزال. ولا تقتصر هذه الاحتكارات على الوكالات الحصرية فقط، المحمية بالقانون، بل تشمل أيضاً سائر فروع الاقتصاد. على سبيل المثال، لا تتبع الأدوية للوكالات الحصرية، لكنها محتكرة بواسطة 4 أو 5 شركات عائلية، وكذلك المواد الغذائية. وتشير إحدى الدراسات - من النمط الذي يقرأ الاقتصاد بالسياسة - إلى أن هناك احتكاراً اقتصادياً بسبب وجود احتكار سياسي. وهنا يجب التوقف عند مصطلح «الاحتكار السياسي». هناك اتهام موجّه للسياسيين بأنهم يحتكرون السلطة. وبالفعل يحتكر السياسيون في لبنان السلطة كما تفعل أي مجموعة حاكمة تحتكر السلطة، وهم منتخبون. وبعضهم بالطبع يحمل إرث الحرب، وقوة الحرب، وسلطة الحرب. لكن الجواب يُقدّم عادة من زاوية ليبرالية على السؤال عن «كيف توزّع السلطة؟» إذا كان هناك احتكار للاقتصاد، سيكون الجواب أن الاحتكار ليس ضرورياً، بل يجب أن تكون هناك منافسة حرّة على السلطة السياسية. إلا أن هذا ليس الجواب الصحيح. لأن ثمة منافسة أصلاً على السلطة بواسطة الانتخابات النيابية، رضينا عن نتائجها أم لم نرضى.
هناك تصوّر شائع بأن الاقتصاد الحر لا يحتوي على احتكار، لكن في الواقع، الاحتكارات الأميركية موجودة ضمن نظام الاقتصاد الحرّ، حيث تتنافس الشركات الاحتكارية فيما بينها. وعلى الرغم من ذلك، تُفرض أحياناً على هذه الشركات قيوداً اقتصادية. والشركات الأميركية الكبرى، خصوصاً في مجالات مثل الإلكترونيات وغيرها، هي من أكبر الشركات متعدّدة الجنسيات، وهي تعمل ضمن نظام يُسمّى «نظام المنافسة الحرّة» أو «اقتصاد السوق». والواقع، أن آليات السوق هي التي تنتج دائماً احتكاراً. لذلك، فإن التشريع الموجود في مجلس النواب والذي يُسمى «قانون مكافحة الاحتكار»، الذي يهدف إلى تشجيع المنافسة، مطروح عليه السؤال: من أين يأتي الاحتكار إذا لم يكن من المنافسة نفسها؟
إذن، يوضح هذان المثالان القراءة السياسية للاقتصاد التي تساهم في طمس فهم السلطة الاقتصادية، التي تخفي العلاقة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية.
خرافة «ما في دولة»
تقول السردية الشائعة في لبنان إن «الدولة غير موجودة» بسبب غياب الخدمات الأساسية كالكهرباء والتعليم والأمن. ولكن، هل هذا الاستنتاج دقيق؟ وفي المقابل، هناك جهاز يعمل، يجمع الضرائب من غالبية اللبنانيين عبر أنشطة الاستهلاك والجمارك وغيرها، وتحوّل هذه الضرائب كفوائد على الدين العام لصالح فئة صغيرة من كبار المودعين والمصرفيين. فكيف يمكن الادعاء بغياب الدولة في ظل وجود هذا الجهاز؟
هذه إحدى الخرافات النموذجية التي تبدأ من النفور اللبناني من الدولة، ويتمثّل احتجاج اللبناني في القول: «ما في دولة». في البداية، كان هذا مجرّد ردّ فعل شعبي ينعي غياب الدولة وهو لا يريدها في آن معاً، لكنّه تحول مع الوقت إلى مفهوم إيديولوجي كامل وأصبح خرافة مكتملة. فالقول المقابل: «نريد بناء الدولة»، يثير سؤالاً أساسياً: ما هو الموجود الآن؟
عوِّدنا في السنوات الأخيرة على رؤية فُرضت على الناس وتجعلهم يشعرون دائماً بأن هناك شيئاً ناقصاً. على سبيل المثال، تشير تقارير التنمية البشرية دائماً إلى ما نفتقده: لا مجتمع معرفة، لا ديمقراطية... النقصان هو الغالب. ومن هنا، بُنيت فكرة «غياب الدولة» على هذا الأساس. لكن، الموجود فعلياً هو دولة تمارس حدّاً أدنى من وظائفها، بينما تتخلّى عن وظائف أخرى. والسؤال هنا: لماذا تتخلّى هذه الدولة عن تلك الوظائف؟
على سبيل المثال، إذا كانت الدولة متخلّية عن صلاحيّاتها في الأحوال الشخصية لـ 18 مذهب ديني يطبّق شرائعة على «رعاياه»، فهذا يعني أنها تخلّت عن جزء من وظائفها. وهنا، يُفتح المجال لمن يسعى إلى إعادة تنظيم هذا المجال عبر قوانين مدنية تشمل جميع اللبنانيين. والدولة متخلّية عن التمثيل السياسي للطوائف، وقابلة بصيغة معادية للديمقراطية تقوم على تمثيل اللبنانيين بما هم جماعات. أمّا في الاقتصاد، فالدولة التي ينصّ دستورها على الاقتصاد الحرّ، والمبادرة الفردية والملكية الفردية، تتخلّى عن نوع من التدخّل في الاقتصاد يتعلّق بتوزيع الخدمات العامّة، والحدّ الأدنى من التعليم، والنقل والصحّة للقطاع الخاص، بالإضافة إلى دورها في التنمية الاقتصادية والمناطقية، وهي متخلّية فوق ذلك كلّه عن التوزيع الاجتماعي.
وإذا جمعنا كلّ هذا، يظهر لنا أن الكثير من وظائف الدولة غير موجودة لأنها جزء بنيوي من هذه الدولة. ومع ذلك، فإن هذا النقص البنيوي لا ينفي وجود الجهاز الذي يُسمى الدولة اللبنانية. وما يهمنا هنا هو فهم من يحكم هذا الجهاز ومن يسيطر عليه. لهذا السبب، نعود إلى الحديث عن وجود كتلة من المصالح الاقتصادية والسياسية. وفي هذا السياق، السلطة الاقتصادية ليست غامضة، فهي تتكوّن من ثلاثة أطراف رئيسة: المصرفيين والمستوردين والعقاريين.
أمّا كيف تمارس هذه الدولة وظائفها؟ بالإضافة إلى ما ذكرته، هناك نقطة مهمّة تتعلّق بالضرائب. وهذه الدولة، لأنها لا تمارس بشكل فعلي حقوقها الضريبية على اللبنانيين، هي أيضاً دولة منقوصة بهذا المعنى أيضاً. لكن لنعد إلى كيفية ممارسة هذه السيطرة المشتركة للأوليغارشية.
هذه الدولة المنقوصة تمارس وظيفتها كدولة في إعادة الإنتاج الدورية للتراتب الطبقي والطائفي والمناطقي للبنانيين
تقرّر الميزانية السنوية كيفية تقسيم اللبنانيين إلى طبقات اجتماعية. ومن خلالها، يُحدّد ما يُخصّص للتعليم والصحّة، مما يترك الكثير من الاحتياجات منقوصة عند بعض الفئات، بينما هناك فئات أخرى قادرة على تأمينها. كذلك، تقرِّر الميزانية العلاقة بين المركز والأطراف، وبين القطاعات الاقتصادية مع انحياز بيِّن ضدّ القطاعات الإنتاجية، وتحدّد حجم المخصّصات للتنمية، التي تم إلغاؤها عملياً لمصلحة النمو، الذي هو تلقائي ينجم عن آليات السوق. وهذا يعني أن هذه الدولة المنقوصة تمارس وظيفتها كدولة في إعادة الإنتاج الدورية للتراتب الطبقي والطائفي والمناطقي للبنانيين. وهذا بدوره يقودنا إلى ثلاث نقاط أساسية عن كيفية ممارسة السلطة في لبنان:
أولاً، تمارس الأوليغارشية سلطتها بنيوياً: تُعرّف الدولة اللبنانية اقتصادياً وسياسياً بأنها تلتزم بمبدأ الاقتصاد الحرّ والمبادرة الحرّة والملكية الفردية. هذا المبدأ المكرّس في الدستور يكمن في صميم الدولة وليس في النظام. وهو يحمل عدداً من القيود القانونية الملزمة للقضاء. خذ مثلاً القول الشهير لرياض سلامة عند هروب الأموال من المصارف في خلال أزمة العام 2019. لقد قال: هذا إجراء غير أخلاقي ولكنّه ليس منافياً للقانون. وللمقارنة، لا تضع الدولة الأميركية الاقتصاد الحر في تعريفها، وتعرّف الدولة الفرنسية نفسها كجمهورية اجتماعية. في لبنان أنت محكوم بحرّية التجارة، التي تأتي دائماً على حساب حرية الصناعة والزراعة، حيث يمكنك بسهولة تأسيس شركة تجارية في لبنان بزيارة غرفة التجارة والصناعة، بينما يتطلّب إنشاء مصنع مرسوماً حكومياً. يعكس هذا النظام البنيوي التزاماً بتوازنات وتراتبية اقتصادية وبعلاقات اجتماعية معينة.
ثانياً: تمارس الأوليغارشية سلطتها بفعل طبيعة النظام وشبكة المصالح التي تمثلها. قد تتغيّر هذه الشبكة لكنّها تظل مرتبطة بآليات واضحة، ما يلزمك بغلبة قطاعات اقتصادية معيّنة على حساب أخرى، وأنماط محدّدة من التمثيل السياسي. أي الليبرالية الاقتصادية المستعادة والنظام الطائفي.
ثالثاً: تمارس الأوليغارشية سلطتها بما تفرضه ذاتياً القوى الاقتصادية والسياسية المسيطرة من سياسات من خلال مؤسّسات الدولة. تؤدّي القوى المسيطرة اقتصادياً وسياسياً دوراً حاسماً في توجيه الدولة. على سبيل المثال، كيف تمكّن البرلمان اللبناني، منذ العام 2019، من عرقلة أي حلّ للأزمة المالية؟ لقد تمكّن من ذلك، عبر نفوذ القوى الاقتصادية مثل غرفة التجارة وجمعية المصارف، وعبر السلطة السياسية المتشاركة معها التي نسفت كل المحاولات لإيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والمالية.
تعمل هذه النقاط الثلاث معاً لتشكل الإطار الذي يجب فهمه بما هي آليّات الفعل السياسي. ومن يريد أن يواجه هذا النظام عليه أن يبدأ بفهمه جيّداً، وعليه أن يحدِّد مدى قدرته على مواجهة هذه التحدّيات المركّبة.
البرلمان مركز السلطة
كيف يمكن النظر بجدّية إلى دور البرلمان في الأزمة الاقتصادية؟
النظام السياسي اللبناني هو نظام برلماني وليس رئاسي. وهذا النظام تضاعفت طبيعته البرلمانية بعد اتفاق الطائف. وبالتالي، هناك سوء فهم شائع لصلاحيّات رئيس الجمهورية، وما يمكنه فعله ضمن هذا النظام. صحيح أن انتخاب رئيس جديد قد يعيد شيئاً من الانتظام إلى دولة مشلولة منذ سنتين، لكن ذلك لا يغيّر حقيقة أن السلطة التنفيذية مرتبطة بشكل مباشر بمجلس النواب، الذي ينتخب رئيس الوزراء، ويمنح الثقة للوزراء أو يحجبها عنهم، وأيضاً ينتخب رئيس الجمهورية.
في الجمهورية الأولى، كان الوضع معكوساً. كان رئيس الجمهورية يتمتّع بصلاحيّات واسعة، بما في ذلك حقّ حلّ مجلس النواب، وهي صلاحية فقدها المنصب بعد الطائف، وقد حاول الرئيس ميشال سليمان استعادة هذه الصلاحية لكنه لم ينجح. كما كان رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويعيّن لهم رئيساً ويصرفون فرادى أو جماعياً، ولا يحقّ لمجلس الوزراء إصدار القرارات والمراسيم إلا بحضور رئيس الجمهورية. حالياً، رئيس الجمهورية يُنتخب من قبل النواب، ويُعتبر حامي الدستور وراعي الحياة السياسية، بالإضافة إلى كونه القائد العام للقوّات المسلّحة، ولكنّه لا يملك صلاحية حلّ مجلس النواب، فيما يعيّن رئيس الحكومة بعد استشارات نيابية مُلزمة للرئيس، وثمة معضلة كبيرة ناتجة عن شراكته في تشكيل الوزارة طالما أنه يوقّع على مرسوم التشكيل.
أظهرت تجربة الأزمة المُمتدة من العام 2019 حتى الآن أن مركز السلطة الحقيقي يتمثّل في مجلس النواب. فهو الذي يدير اللعبة السياسية والاقتصادية، في وقت يغيب فيه رئيس الجمهورية وفي ظل حكومة تصريف أعمال، ويخدم المصالح المسيطرة عليه أو الشريكة معه.
بعد الحرب حصل تحوّل كبير في طبيعة السلطة في لبنان، حيث أصبح هناك أفراد من رجال الأعمال يدخلون الحياة السياسية، ولم يعد مُحتكراً مما كان يُسمّى «الإقطاع السياسي». بجانب ذلك، توجد الأحزاب التي تعد مكوّناً مهمّاً في النظام السياسي، ولم نعد في عهدة «الزعماء» التي لا يزال الخطاب السائد يتحدّث عنهم. وهو ما يضيف بُعداً جديداً للسلطة. وبالتالي، الحكام في لبنان ليسوا فقط رجال أعمال أو زعماء عائلات، بل أيضاً قادة أحزاب وزعماء ميليشيات سابقين تُهيمن على المشهد السياسي.
ولا تقتصر الأحزاب السياسية في لبنان على تقديم الخدمات، بل تعتمد على الانضباط الحزبي الذي تغذّى غالباً من قتال الكثير من الأعضاء في صفوف الحزب في خلال الحرب الأهلية، ويصل هذا الانضباط حدّ الاستعداد للموت.لدينا مصطلحات مثل «نمط الإنتاج السياسي» القائم على «سرقة الدولة» من السياسيين لتوزيع ما يجنونه من مال على «جماعاتهم». كأنما الحكّام جمعية خيرية توزّع من كيس الدولة على المحتاجين لا تستخدم سلطتها للإثراء
ما أريد قوله إن هذه السلطة هي سلطة أحزاب، وتستطيع أن تمون على أنصارها من خلال الانضباط وأيضاً من خلال الإيديولوجيا، التي تؤدّي دوراً أساسياً في توجيه سلوك الأفراد والجماعات داخل الحزب، سواء كانت وطنية، أو قومية لبنانية، أو حتى جهادية. وتؤدّي هذه الأيديولوجيات الدور الكبير في التعبئة وشدّ العصب. ولا يقتصر الأمر على حكاية المحسوبية فقط، لدينا مصطلحات مثل «نمط الإنتاج السياسي» القائم على «سرقة الدولة» من السياسيين لتوزيع ما يجنونه من مال على «جماعاتهم». وهذا نمط آخر لقراءة الاقتصاد بواسطة السياسة. كأنما الحكّام جمعية خيرية توزّع من كيس الدولة على المحتاجين لا تستخدم سلطتها السياسية للإثراء غير المشروع على حساب المال العام. لكي يستطيع السياسيون سرقة الدولة يجب أن يكونوا رجال أعمال أو شركاء لرجال أعمال. لأن التربّح بواسطة النفوذ السياسي على حساب المال العام، غالباً ما يتخذ شكل العقود والالتزامات لمشاريع وخدمات شتّى.
هذا ما يحدث في ما يُسمّى «سرقة الدولة»، ماذا عن «سرقة المجتمع»؟ أي ماذا عن الاستغلال المُمارس على المجتمع؟ ها نحن نعود إلى السياسوية وقراءة الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية بالسياسة وبواسطة السياسة. وأكثر من ذلك، تغطّي القراءة السياسية للاقتصاد في موضوع الفساد على السيطرة والاستغلال والنهب الذي يمارس في المجتمع وعلى المجتمع: البطالة، الاستغلال في العمل، استخدام اليد العاملة الوافدة على حساب اليد العاملة الوطنية، حجز تطوّر القطاعات الإنتاجية وإخضاعها للتجارة والمال، الاحتكار وغلاء الأسعار، الاستغلال الذي يمارس في السوق وأثره على تدني مستوى معيشة المواطنين، التفاوت بين مدينة وريف ومركز وأطراف، التفاوت في فرص العمل والتعليم والصحة والارتقاء وفي فرص الأمل بالمستقبل…
هذا بعض ممّا يجري التغطية عليه وعلى القوى الاجتماعية التي تمارسه، باسم الفساد والسرقة في الدولة، والنصاب السياسي، والتركيز على «الطبقة السياسية» على حساب «الطبقة الاقتصادية» شريكة «الطبقة السياسية» المتداخلة والمتشابكة معها، والنافذة إلى أبعد حدّ في السياسة بفعل تلك الشراكة وبحكم سلطة المال.
إغفال أجهزة القمع
تُستخدم الزبائنية أيضاً كأداة لتفسير الطائفية، حيث يظهر هذا التداخل في الطريقة التي تُفسر فيها الطائفية كجزء من آليات السلطة والسيطرة. نحن أمام نمط من تزاوج المصالح الاقتصادية بالسلطة السياسية، وهو تزاوج قد يمتد ليشمل أدوات العنف والأمن. السؤال الأساسي هنا: كيف تتداخل هذه البنية مع المسألة الطائفية؟
إذا نظرنا إلى المحسوبية كمفهوم، نجد أن جذورها في لبنان تعود إلى أكثر من 50 عاماً. لقد بدأ الحديث عنها في الخمسينيات في سياق مختلف تماماً. في ذلك الوقت، كانت المحسوبية مرتبطة بعلاقة مباشرة بين الزعيم المحلّي ومجتمعه. على سبيل المثال، كان الزعيم، مثل جوزيف سكاف أو أحمد الأسعد، معروفاً بقدرته على رعاية حاجات الناس، من الاهتمام بالبقرة إلى توظيف الأبناء في مقابل الولاء السياسي. كانت تلك المرحلة تعتمد على عدد محدود من الزعماء يشكلون كتلاً برلمانية صغيرة ما بين 10 و15 زعيماً، ويعملون ضمن نظام برلماني تقليدي. أما اليوم، فنحن أمام مشهد مختلف تماماً. لقد توسّعت المحسوبية لتصبح جزءاً من نظام معقّد متعدّد المستويات. والسؤال الأعمق الذي يبرز هنا هو: كيف يُفرض الحكم على الناس في هذا السياق؟
عند الحديث عن السلطة في لبنان، غالباً ما نركّز على المؤسّسات السياسية والاقتصادية، لكننا نغفل عن أجهزة القمع التي تؤدّي دوراً في فرض السلطة. حتى في لحظات الذروة الاحتجاجية، كما في انتفاضة 17 تشرين، اعتمدت السلطة بشكل محدود على أدوات القمع المباشر. رأينا الجيش، سواء بفعل إرادي أو غير إرادي، يتوسّط بين المتظاهرين، ما جعل الاحتجاجات تتّسم بحد أدنى من العنف والإصابات. وهناك أكثر من ذلك، مثلاً دعا حزب الله عدداً كبيراً من مؤيديه للمغادرة. وهذا يعني أن هناك من حرمك من منطقتين، وهذا جزء من التركيبة الطائفية في البلد. ولكن الهدف من هذا كله هو تقديم فكرة عن أدوات القمع وكيف يمكنها أن تستوعب الحراك حينما تضطر لذلك.
ثانياً. الحديث عن اقتناع الناس، سواء السلبي أو الإيجابي، بأن هناك ما يبرّر وجود هذه السلطة، وبالتأكيد على رأس ذلك تكمن الطائفية. كل شخص يعتقد أن ممثله بالسلطة، كلّما كان أقوى كانت الجماعة التي ينتمي إليها أقوى، وزادت حظوظها في الثروة والسلطة. لأن الطائفية ليست مجرّد شيء جوهري، بمعنى أن الناس لا يسعون إلى تحويل الآخرين إلى مذهبهم الديني. وهذا يقودنا إلى موضوع أكبر وهو أنه لا يمكن فهم الطائفية من داخلها فقط. يجب أن نفهمها من خلال التفاوتات في علاقات الجماعات بالاقتصاد والسلطة السياسية وتوزيع الثروة والتعليم والسلطة العسكرية. وهذا موضوع طويل ليس هنا مجال التوسّع فيه.
لا يكفي الحديث عن أدوات القمع من دون الحديث عن أشخاص يقبلون بهذا النظام طوعاً لأسباب متعدّدة.
لنعد إلى العوامل الفاعلية في سيطرة الأوليغارشية. هناك أيضاً الوطنية اللبنانية التي قد تكون منتشرة في بعض الفئات أكثر من غيرها، حيث يُلاحظ ازدواجية الانتماء الديني والانتماء الوطني بل الخلط بينهما.
وأهم من ذلك، هناك مجتمع الاستهلاك. هذا النظام قائم على أشخاص يقبلون به. والأدلة على ذلك أن الأوقات التي يقفون فيها ضدّ النظام هي الشواذ التي تثبت القاعدة. ما أريد قوله إنه لا يكفي الحديث عن أدوات القمع من دون الحديث عن أشخاص يقبلون بهذا النظام طوعاً لأسباب متعدّدة.
على مستوى الممارسة اليومية، إذا كان رأيك أن هذا النظام يوفر لك الأمان، وبعض فرص الارتقاء الاجتماعي، فهذا النظام كان حتى وقت قريب يضمن لك عدداً من القروض مقابل معاش شهري يعادل 1500 دولار كحد أدنى. بالتأكيد هناك تذمّر وهناك متضرّرون، ولكن ذلك لا يعني أن التضرّر يعكس نقيضه، فهناك فئة واسعة من الناس تقبل النظام بما هو أمر واقع. خصوصاً وأن هذه الفئة عادة ما تكون من الطبقات المتوسّطة والمتوسّطة الدنيا. هناك على سبيل المثال 15 ألف صيدلي و40 ألف مهندس. لم نعد نتحدث عن الناس بشكل عام، لأن أبناء الطبقات المتوسّطة هم من يشكّلون قاعدة النظام. وليس من الضروري أن يقبل الجميع بالنظام، ولكن النظام يمارس القمع من جهة ويحظى بطواعية وحماس أو قبول من جهة أخرى. وتتفاوت نسب القسر والقمع ونسب القبول والطواعية حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.