مقدِّمات إفلاس المصارف في لبنان
هندسة الهرم الاحتيالي
منذ نشوء الجمهورية اللبنانية وحتى العام 2019، لم تحفظ الذاكرة الجماعية إفلاساً مصرفياً واحداً أدّى إلى خسارة المودعين أموالهم، ففي المرّات النادرة التي أفلست فيها مصارف محلية جرى تعويض المودعين من المال العام. إلّا أن هذه الذاكرة حفظت جيّداً غول التضخّم الذي نجم عن انهيار سعر الصرف في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وأطاح بالأجور والتعويضات والمدّخرات المحفوظة بالليرة. لذلك، كان من السهل التلاعب بمخاوف جيل بأكمله، وترسيخ وهم أنّ الازدهار المصرفي هو الضامن للثبات النقدي. عاش المجتمع اللبناني نحو ثلاثة عقود تحت وطأة هذا الوهم إلى أن انهارت أسطورة المصارف اللبنانية في ليلة تشرينية، كما في الأفلام الخيالية، وصُدِم الناس بخسارة جنى أعمارهم بلمحة بصر. يحاول هذا التحقيق أن يوفّر بعض الإجابات التقنية عمّا حدث.
خرج لبنان من حرب مُدمّرة استمرّت 15 عاماً (1975-1990)، فيما مصرفه المركزي يمتلك احتياطياً صافياً بالعملات الأجنبية بقيمة 660 مليون دولار1 وقطاعه المالي غير مُفلِس. لكن مع انهيار نظام الحرب بعد ثلاثة عقود، أصبح نظامه المصرفي (المصارف والمصرف المركزي) مُفلِساً ويراكم خسائر تصل إلى نحو 73 مليار دولار بحلول العام 2021. 2 فيما تهاوت حصّة الفرد من الناتج المحلّي من 8 آلاف إلى 2700 دولار بين العامين 2018 و2020، وعادت إلى مستواها في العام 1994 بعيد انتهاء الحرب. وهذا ما صنّفه البنك الدولي كواحدة من أسوأ ثلاثة أزمات في تاريخ العالم منذ خمسينيّات القرن التاسع عشر. لم يأتِ التأسيس لهذا الانهيار صدفة، ولا بمؤامرة مُحكمة، بل كان النتيجة الطبيعيّة لإدمان الأوليغارشيّة اللبنانية على نظام الرهانات والمضاربات لقاء أرباح سهلة وسريعة.
الطريقة الأسهل لسرقة مصرف هي تملّكه
لكلّ قصّة بداية ما. في الحالة اللبنانية يمكن العودة إلى النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي في محاولة ترصّد جذور تطوّر النظام المصرفي بوضعيته التي انهارت في العام 2019. في تلك الفترة ظهرت مصالح جديدة وحلّت مكان أخرى من النظام السابق الذي انهار في الحرب. إذ بالتوازي مع انعقاد حوارات وطنية في جنيف ولوزان خلال العامين 1983 و1984 لإرساء نظام سياسي جديد يضمّ الميليشيات الصاعدة ويُنهي الاقتتال فيما بينها، كانت تجري تغيّرات في الاقتصاد أيضاً، إذ دخل أثرياء الحرب والمهجر إلى القطاع المصرفي عبر شراء أسهم مصارف قائمة أو تأسيس أخرى جديدة.3 مع نهاية الحرب كان هناك 90 مصرفاً، من ضمنها 11 مصرفاً فقط مستمرّاً من الحقبة السابقة من دون الخضوع لأي تبدّل في ملكيّته.
تُعدُّ استقلالية مصرف لبنان حجر أساس هذا النظام وأول ما حرص رياض سلامة على ترسيخه منذ تعيينه حاكماً للمصرف المركزيتكثّفت عمليّات الاستحواذ أو تأسيس مصارف طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، بالتوازي مع تنامي عمليّات المضاربة على العملة المحلّية. ففي ظل الوضع المُتفلّت وغياب أي رقابة، لم يكن هناك أسهل من المضاربة على العملة لرسملة المصارف ومراكمة الأرباح، والتي أدّت إلى استنزاف احتياطي العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وتبديد قيمة المدّخرات والأجور، إلّا أنّ الموجة الأعنف من المضاربات سُجِّلت في العام 1992، حين انهار سعر الليرة بنسبة 70%، من 880 ليرة في نهاية 1991 إلى 2850 ليرة في أيلول 1992، 4 وفتحت الطريق لبناء نظام اقتصادي خدم مصالح قلّة على حساب المجتمع كلّه، وقد قاده رفيق الحريري تحت الوصاية السورية بالتكافل والتضامن مع زعماء الميليشيات والأحزاب المسيطرة وعدد من أصحاب المصارف وأثرياء الحرب.
تُرجِمت أولى ملامح هذا النظام بخفض الضرائب على أرباح الفوائد والشركات والتحسين العقاري لتحفيز الثروات التي جُنِيت خلال الحرب على الاستثمار والتراكم، وكذلك أُطلِقت سياسات نقديّة تخدم تراكم رأس المال المالي وتعتمد على الفوائد العالية وتثبيت سعر الصرف ودولرة الاقتصاد، وقد قادها رياض سلامة الذي عيّنه الحريري حاكماً لمصرف لبنان في الأول من آب من العام 1993.
استقلاليّة المصرف المركزي: حجر الأساس
تُعدُّ استقلالية مصرف لبنان حجر أساس هذا النظام، وأول ما حرص رياض سلامة على ترسيخه منذ تعيينه حاكماً للمصرف المركزي.
تتيح استقلالية المصارف المركزية فرض سياسات تخدم مصالح رأس المال، وتسمح بتراكمه بمعزل عن السياسات الحكومية وتدخّلاتها التي يفترض أن تراعي المطالب الشعبية لأسباب انتخابية. وفي لبنان، يقول الاقتصادي ووزير المال السابق جورج قرم: "على الرغم من أنّ قانون النقد والتسليف لا يعطي المصرف المركزي استقلالية سياسية مماثلة، بل يحصرها بالاستقلالية المالية والإدارية، ويضعه تحت رقابة السلطة السياسية التي تعيّن حاكمه ونوابه وتُخضِعه لرقابة مفوّض حكومي، إلّا أنّ المصرف المركزي عمل على مراكمة رأس المال لدى قلّة من دون أي مساءلة أو محاسبة ولو لمرّة واحدة طوال فترات ولاياته المتتالية، وفي الوقت نفسه نجح بالتوفيق بين مصالح رأس المال ومصالح السياسيين الانتخابية".
هذه القدرة على التوفيق بين مصالح رأس المال والمصالح السياسيّة الانتخابيّة هي النتيجة لما يوصِّفه الاقتصادي والوزير السابق شربل نحاس بـ"ائتلاف زعماء الطوائف وأصحاب المال"، الذي يُعدُّ ركيزة نظام ما بعد الحرب، وتأسّس على مبدأ تمويل المصارف عجز المالية العامّة - وهي الضريبة الباهظة التي دُفِعت للميليشيات لإنهاء الحرب - في مقابل حصول المصارف على فوائد عالية جراء هذا التمويل.
يشير قرم إلى أن "المصرف المركزي استخدم الأدوات النقديّة لمساعدة المصارف في إعادة تكوين رساميلها والتوسّع من دون أن تدفع فلساً من أموالها الخاصّة. كخطوة أولى، ثُبِّت سعر الليرة، ثمّ رفعت الفائدة على سندات الخزينة بالليرة ووصلت إلى 40% في منتصف التسعينيات، فيما الفائدة على الدولار راوحت بين 5 و6%. سمح ذلك باستدانة الدولارات بفوائد متدنّية، وتوظيفها بالليرة في سندات الخزينة لقاء فوائد أعلى، وبالتالي مراكمة الثروات من فرق الفائدة. نتيجة استمرار سياسة تثبيت سعر الصرف وطبع العملة ورفع الفائدة لعقود، كان يدرك المودعون والمدينون أن سعر الصرف لن يتغيّر، وأن لا فارق بين الليرة والدولار، وأن لا مخاطر على عمليات المضاربة التي يقومون بها. لقد أسهم هذا النظام النقدي في إغناء فئات وإفقار فئاتٍ أخرى. واستمرّ نظام المضاربات بأشكال مختلفة حتى بعد انهياره".
ابتُلي لبنان بالاستدانة بالدولار عبر السماح للمصارف بإعطاء قروض بعملة لا تملك سيادة عليها وبالتالي خلق ما يُعرف بالدولار اللبنانيبالنتيجة، خرجت المصارف من الحرب برساميل قيمتها 141 مليون دولار وموجودات بقيمة 5.9 مليار دولار، وبمرور ثلاثة عقود تضخّمت رساميلها 156 مرّة وأصبحت تساوي 22 ملياراً في العام 2019، أمّا موجوداتها فزادت نحو 37 مرّة وصولاً إلى 222 ملياراً في العام 2019. 5 كذلك زادت أرباحها الصافية أكثر من 28 ضعفاً من نحو 63 مليون إلى 1.8 مليار دولار بين العامين 1993 و2019 وحقّقت أرباحاً تراكميّة صافية تتجاوز 22 مليار دولار.6
الخطايا الأصلية
اتبع مصرف لبنان سياسات واتخذ قرارات، أدّى استمرارها، على الرغم من نتائجها السلبية التي تكشّفت مُبكراً وتعطّلها مرّات عدّة، إلى انهيار النظام المصرفي بكامله، وتعظيم الأضرار الناتجة عنه، وتتمثّل بخسائر ماليّة تتجاوز 73 مليار دولار أي أكثر من 3.5 ضعف حجم الاقتصاد. ويمكن تلخيص هذه السياسات بـ:
1. التحوّل من دولرة الودائع بهدف حمايتها من أي انهيار في سعر الصرف، كما في النصف الثاني من الثمانينيات، إلى دولرة الاقتصاد بالكامل عبر تسهيل الاستدانة بالدولار التي خلقت دولارات لبنانية. اعتمد مصرف لبنان غرفة للمقاصة لديه منذ العام 1994، ويُجمع المصرفيون على أن الهدف منها كان تسهيل الإقراض بالدولار. يقول المحامي رمزي هيكل إنّه "لصرف شيك بالدولار أو تحويل دولارات من حساب إلى آخر أو إيداع دولارات، كانت تُرسل العملية إلى بنك نيويورك للموافقة عليها قبل إنجازها، وهي عملية تتطلّب وقتاً قد يصل إلى شهر أحياناً، والهدف منها الحدّ من تبييض الأموال والسماح للولايات المتّحدة بممارسة رقابتها على عملتها". لاحقاً، في ظل فوضى الحرب وتدفّق الدولارات من تجارة السلاح والمخدّرات، تنامت عمليّات فتح حسابات مصرفيّة بالدولار لتبييضها، ثمّ تكثّفت في نهاية الحرب مع بدء انهيار الليرة لحماية قيمة الودائع المحفوظة بالعملة المحلّية.
على أثرها، يقول العضو السابق في لجنة الرقابة على المصارف جوزف سركيس "أنشأ البنك اللبناني الفرنسي أول مقاصة محلّية في العام 1988 من دون العودة إلى بنوك أميركا، واستمرّت إلى أنّ حوّلها رياض سلامة إلى مصرف لبنان في العام 1994 بضوء أخضر من الأميركيين في مقابل كشفه كلّ المعلومات المطلوبة منه".
شرّعت هذه المقاصة الباب أمام المصارف للإقراض بالدولار وبالتالي خلق الدولارات. يقول المصرفي المتقاعد وأستاذ الاقتصاد فريدي باز إنّ "قوّة المصارف الفعليّة تكمن بقدرتها على خلق النقد عبر الدَّيْن. فعندما يأخذ شخص ديناً من المصرف لشراء عقار، يضع مالك العقار قيمة الصفقة في بنك آخر، ينجم عن ذلك تسجيل القيمة نفسها كدَّيْن على الشخص في البنك الأول، ووديعة لصالح شخص ثان في بنك آخر، بما يجعل قيمتها الدفترية تساوي ضعفي السيولة الفعلية. نتيجة تتابع هذه العمليّات قد يصل مضاعف الدَّين إلى 5 مرّات حجم السيولة الفعلية. من هنا، فإنّ معظم ودائع الدولار الموجودة في المصارف ليست ناتجة عن عمليّات إيداع دولارات جديدة، بل من خلق للدولار بالدين".
هكذا ابتُلي لبنان بالاستدانة بالدولار، والمقصود ليس إصدار سندات يوروبوند لصالح الخزينة فحسب وفق الشائع، بل بشكل أساسي عبر السماح للمصارف بإعطاء قروض بعملة لا تملك سيادة عليها أدّت إلى خلق ما يُعرف بالدولار اللبناني، الذي يجري حالياً التخلّص منه بأكثر الطرق تعسفية كبديل عن تصفية القطاع المصرفي المفلس. وهذا ما يشدّد عليه مدير في أحد اكبر المصارف العاملة في لبنان (رفض ذكر اسمه)، اذ أنّ "قوّة المصارف بخلق النقد تحدّها قدرتها على تحويل هذا النقد إلى سيولة وفق طلب المودعين. تكون المشكلة أقل حدّة في حال كان لديها سيادة على عملة النقد الذي تخلقه، ففي حال توسّعت بخلق النقد يكون الثمن انهيار قيمة العملة، وهذا ما حصل في البلدان الأسيوية خلال التسعينيات. لكن في حال كان النقد الذي تخلقه بغير عملتها، فيجب أن يكون لديها مخزون كافٍ من السيولة تحسّباً لطلب الزبائن وإلّا تعثّرت وأفلست. وهذا ما حصل في لبنان".
كيف خُلِق الدولار الوهمي؟
ارتفعت ودائع المقمين بالعملات الأجنبية من 4.4 مليار إلى 88.9 مليار بين العامين 1992 و2020. لم تأتِ هذه الزيادة من تراكم الفائدة فحسب بل من خلق الدَّيْن. فكيف حصل ذلك بحسب المصرفي المتقاعد فريدي باز؟
يبلغ المعدّل الوسطي السنوي للفائدة خلال هذه الفترة 4.5%، وبالتالي إذا طبّقناه على ودائع المقيمن بالدولار في العام 1992 فإنها تصل في نهاية 2022 إلى 10.3 مليار دولار. ومع إضافة فوائض ميزان المدفوعات، أي الودائع الجديدة التي تدفّقت من الخارج وتبلغ نحو 20.5 مليار دولار، تصبح ودائع الدولار بقيمة 30.8، ما يعني أنّ هناك فارق بقيمة 58.1 مليار دولار وهو ليس إلّا دولارات اللبنانية التي نجمت عن خلق النقد بالدين. في الواقع، ارتفعت قيمة القروض بالعملة الأجنبية من 2 مليار إلى 25 مليار دولار خلال الفترة نفسها، أي بفارق 23 مليار دولار. الذي أنتج مضاعفاً لخلق العملة بنسبة 2.5 (58.1/23)، أي من كلّ دولار جرى إقراضه خُلِق 2.5 دولاراً لبنانياً. بالنسبة إلى باز "تمكّن هذا النظام من العمل على مدار ثلاثة عقود، نظراً لتوافر سيولة كافية بالدولار، والسماح بدفع الدولارات اللبنانية بالدولار".
2. زيادة رسملة المصارف بحجّة مواكبة المعايير العالمية إنّما عبر عمليات دمج واستحواذ نفّذت بمال عام وقروض مُيسّرة. بعد تبدّد رساميل عدد من المصارف نتيجة انهيار الليرة خلال الثمانينيات ومطلع التسعينيات، سعى مصرف لبنان منذ سنوات إعادة الإعمار الأولى إلى زيادة رساميل القطاع المصرفي بتشجيعه على عمليّات الدمج التي أدّت إلى استحواذ عدد محدود من المصارف الكبيرة على المصارف الصغيرة أو المتوسّطة من خلال المال العام. بحسب العضو السابق في لجنة الرقابة على المصارف جوزف سركيس، "أُقِرّ قانون دمج المصارف رقم 192 الصادر في العام 1993 بحجّة تنقيّة أوضاع القطاع المصرفي. لكنّه في الواقع سمح باستحواذ بضعة مصارف على عدد كبير من المصارف الصغيرة بواسطة قروض مُيسّرة أُعطِيت صلاحية منحها إلى حاكم مصرف لبنان، الذي استسهل في توزيعها. بالنتيجة، استُخدم جزء منها لإتمام عمليّات الاستحواذ، وجزء آخر للاكتتاب في سندات الخزينة، ومن ثمّ دفع مستحقّات القرض وتكاليف الدمج من الفوائد التي تجاوزت نسبتها في تلك المرحلة الـ36%".
سمح توسّع عدد محدود من المصارف، نتيجة السياسات التي اتُبعت بعد انتهاء الحرب، باستحواذها على حصّة أكبر من السوق، وبالتالي نسبة أكبر من الودائع ومولِّدات الأرباح (الدَّيْن الحكومي، الإيداعات لدى مصرف لبنان، الهندسات المالية إلخ...). بالتالي، وخلافاً لما ينصّ عليه قانون العفو العام، سرى العفو أيضاً على المصارف التي ضاربت على الليرة خلال الحرب وبعدها، وبدلاً من محاسبتها وتعويض الناس من الأرباح الاستثنائية التي جنتها، جرت مكافأتها بتوسيع حصصها في السوق ومراكمة أرباحها من المال العام.
3. تثبيت سعر الصرف كضمانة لجذب المزيد من الأموال، ورفع الفوائد كوعد بالحصول على أرباح عالية. يتمّ التركيز على تثبيت سعر الصرف بوصفها الخطيئة الأصلية، ولكنّها خطيئة من ضمن مجموعة خطايا ارتُكِبت وأوصلت إلى الانهيار. يقول نائب حاكم مصرف لبنان السابق ناصر السعيدي إنّ "تأمين استقرار سعر الصرف وتثبيته ضمن هوامش ضيّقة كان ضمن الأهداف الأولى التي تبنّتها حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى لاستعادة الثقة بالعملة وحفظ قيمة الاستثمارات". لكن، على الرغم من اعتماد ثبات سعر الصرف كضمانة للاستثمارات وعامل جذب لها، "إلّا أن ذلك لم يمنع من اعتماد سياسة الفوائد العالية على الدَّيْن لجذب المزيد منها"، وفق المصرفي ووزير الاقتصاد السابق منصور بطيش.
إلى ذلك، يشير مدير أحد أكبر المصارف اللبنانية (رفض ذكر اسمه) إلى أن "رفيق الحريري لديه عقلية المقاول، ورياض سلامة عقلية السمسار، بينما يحتاج بناء الدول إلى عقلية سياسية اقتصادية تُكيِّف السياسات والمصالح مع حاجات المقيمين لتأمين الاستقرار المجتمعي. كان الهدف من تثبيت سعر الصرف هو ضمان ربحيّة المستثمرين". ويتابع: "لا شكّ أنّ ثبات سعر الصرف أمّن استقراراً للجميع، لكن الذي استفاد منه هم قلّة ممن يملكون المال أو لديهم إمكانية الحصول على تسليفات بملايين الدولارات. هؤلاء أخذوا قروضاً بالدولار بمعدّل فائدة 5%، ثمّ حوّلوها إلى الليرة ووضعوها كودائع أو اشتروا بها سندات خزينة بفوائد تتجاوز الـ9%. أمّا فارق الربح المُحقّق من الفائدة فقد حوِّل مجدداً إلى الدولار على سعر ثابت". ويضيف إليه بطيش: "بعدها كان يتمّ إخراج رأس المال الأساسي من لبنان، ويُعاد استخدام ما تبقّى من أرباح في شراء العقارات التي تضخّمت أسعارها، أو معاودة الاستثمار في الدَّيْن الذي تضخّم أيضاً".أدّت الفوائد العالية، التي تجاوزت الـ36% على سندات الخزينة خلال التسعينيات إلى تضخّم المديونية. وقد استخدمت كحجّة لاحقاً لتبرير اللجوء إلى الاستدانة بالدولار في العام 1997 باعتبار أنّ الفوائد المترتبة عليها أدنى. مع ذلك، يقول المصرفي ووزير الطاقة السابق موريس الصحناوي إن "خفض كلفة الدين لم يكن وحده السبب في اللجوء إلى الاستدانة بالدولار، بل توظيف الدولارات المُكدّسة لدى المصارف اللبنانية أيضاً". بات الأمر أشبه بدوّامة تدرُّ أرباحاً على فئة محدودة تتحكّم بالقرار، فيما تكبّد باقي المقيمين أعباءً ضخمة.
أولى معالم الإفلاس
لم يدم هذا النظام كثيراً، إذ واجه في العام 1996 أولى أزماته، بعد انهيار مساعي السلام في المنطقة وتراجع أسعار النفط في العالم، وبالتالي انخفاض التدفّقات المالية إلى لبنان سواء من المغتربين أو المستثمرين الخليجيين. في تلك الحقبة، تضخّمت المديونية العامّة وباتت تشكّل 99% من الناتج المحلّي بعد أن كانت تشكّل 60% منه في العام 1992، 7 أمّا على الصعيد النقدي، فيقول الاقتصادي والوزير السابق شربل نحّاس، الذي شارك في وضع خطّة للإصلاح المالي في أواخر التسعينيات، إنّ "خطر انهيار سعر الصرف كان جدّياً وحقيقياً في حينها، واستمر كذلك، خصوصاً أن الاحتياطي الصافي لمصرف لبنان بالعملات الأجنبية كان سلبياً في العام 1997". 8
لم يتمّ التصدّي إلى هذه الأزمات بمحاولة تغيير السياسات المُتبعة، أي خفض الفوائد وتصحيح النظام الضريبي ودعم القطاعات الإنتاجية وحمايتها، بل بالعكس، بقيت مصالح رأس المال التجاري والمالي أعلى بمراتب من مصلحة الناس، وفُرِضت سياسات تقشّفية جائرة. بحجّة خفض النفقات العامّة للحدّ من العجوزات المالية، اتُخِذ قرار بتجميد الأجور في العام 1996، ووقف الاستثمارات في الخدمات العامّة وأبرزها مشاريع الكهرباء، والانتقال إلى الاستدانة بالدولار بدلاً من الليرة بحجّة أن الفائدة المترتبة عليها أقل. لم تأتِ كلّ هذه الإجراءات بالنتائج المرجوة منها، ففي العام 1998 سجّل ميزان المدفوعات، أي صافي الأموال التي تدخل وتخرج من بلد ما، عجزاً بقيمة 488 مليون دولار للمرة الأولى بعد الحرب وفق أرقام مصرف لبنان، وتبعه عجز بقيمة 289 مليون دولار في العام 2000، و1.2 مليار دولار في العام 2001، فيما استمرّ النزف في الاحتياطي الصافي للمصرف المركزي ووصل العجز فيه إلى 3 مليارات دولار في العام 2002 بحسب صندوق النقد الدولي.9 مجدّداً، للتصدّي لهذه النتائج، لم يتمّ اتخاذ أي إجراءات لعكس المسار الانحداري، بل اتخذت قرارات فاقمت الوضع سوءاً.
1. فُرِض على المصارف العاملة في لبنان وضع احتياطي إلزامي لدى المصرف المركزي على الودائع بالعملات الأجنبية، وهو ما اعتبرته المصارف الأجنبية العاملة بمثابة إعلان إفلاس المركزي، على حد قول المصرفي منصور بطيش، فقرّرت غالبيتها الخروج من لبنان. منذ مجيء رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، توقّف المصرف المركزي عن إصدار إحصاءات عن صافي احتياطاته بالعملات الأجنبية، وكان يكتفي بإصدار إحصاءات تدمج بين احتياطاته الخاصّة وتلك التي تودعها المصارف لديه اختيارياً مقابل فوائد، لإخفاء وضعيته الفعليّة. في أيلول 2001 أصدر المصرف المركزي التعميم رقم 86 الذي يفرض على كلّ المصارف العاملة في لبنان أنّ تضع إحتياطياً إلزامياً بنسبة 15% على كلّ موجوداتها بالعملات الأجنبية مهما كانت طبيعتها مقابل الفوائد التي يمنحها لها. كانت تلك المرّة الأولى في تاريخ القطاع المصرفي اللبناني التي يفرض فيها المصرف المركزي وضع احتياطي إلزامي لديه على الودائع بالعملات الأجنبية، إذ لطالما كان الاحتياطي يُفرض حصراً على الودائع المقيمة والمودعة بالعملة اللبنانية.
المصادر:
1990-1992: تقرير للبنك الدولي بعنوان "لبنان: الاستقرار وإعادة الإعمار"، صادر في العام 1993، ويعتمد على أرقام صندوق النقد الدولي.
2002: تقرير للاقتصادي شربل نحاس بعنوان "دراسة أولية عن النتائج المالية لمؤتمر باريس 2"، صادر في العام 2002 باللغة الفرنسية، ويستند إلى تقديرات صندوق النقد الدولي لصافي احتياطي مصرف لبنان.
2010: ورقة للاقتصادي توفيق كسبار بعنوان إلى المودعين في المصارف صادرة في أيلول 2022، ويستند فيها إلى أرقام مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وصندوق النقد الدولي وتقارير KPMG
2015: باللون الأخضر - نسخة غير منشورة من تقرير "تقييم استقرار النظام المالي للبنان" لعام 2017 الذي يعدّه صندوق النقد الدولي. باللون القرميدي - ورقة توفيق كسبار الآنفة الذكر، وورقة أخرى له بعنوان "إلى المودعين في المصارف" صادرة في أيلول 2022.
2017-2020: باللون القرميدي - ورقة توفيق كسبار "إلى المودعين في المصارف. باللون الأحمر - حسابات الباحث الاقتصادي آندي خليل بالاستناد إلى الأرقام المنشورة من قبل مصرف لبنان.
2. إطلاق مسلسل "الإصلاح" بقيادة خارجية، الذي توِّج بعقد مؤتمري باريس 1 و2 في العامين 2001 و2003، بهدف الحصول على دعم مالي خارجي لإطالة أمد الوضعين النقدي والمالي بدلاً من أي سياسة اقتصادية. يعتبر شباط 2001 التاريخ الرسمي لانفجار هذا النموذج، كونه تزامن مع اعتراف بوجود أزمة، استدعت انعقاد مؤتمر "باريس 1"، وحصول الدولة على 500 مليون يورو على شكل مساعدات وقروض ميّسرة تمهيداً لعقد مؤتمر آخر (باريس 2). بين المؤتمرين، كانت النقاشات مع المؤسّسات الدولية "حامية". بحسب شربل نحاس "كان ثبات سعر الصرف محور الاهتمامات الاقتصادية للسلطات اللبنانية، أما في نظر المراقبين الدوليين فقد احتلّ الدَّيْن العام صدارة الاهتمامات"،10 مع ذلك، كان الاختلاف الظاهر في وجهتي النظر "يؤدي إلى نتيجة واحدة: إطالة أمد وضع نقدي ومالي استثنائي (...) محل أي سياسة اقتصادية". بالنتيجة، تمّ التوصّل إلى مساومة، بحيث اكتفت المؤسّسات الدولية بوعود لبنان بإجراء إصلاحات، في مقابل منحه "إفادات نجاح" على شكل بيانات ثناء تمهيداً لانعقاد مؤتمر باريس 2 وإنجاحه.
يقول المصرفي موريس صحناوي، الذي شارك مع حاكم المصرف المركزي رياض سلامة في إعداد الوثيقة التي قدّمت إلى مؤتمر باريس 2 ، إن "الهدف كان خفض الدّين العام نسبة إلى الناتج المحلي بعدما وصل إلى الخطوط الحمراء، فيما انخفض احتياطي مصرف لبنان إلى 500 مليون دولار (-3 مليار دولار بحسب صندوق النقد). لذلك اتفقنا على زيادة النموّ الاقتصادي لرفع الناتج المحلّي لأن لا قدرة لنا على التحكّم بالدّين. ولتعزيز النموّ الاقتصادي كان هناك حاجة لخفض الفوائد، الذي يتطلّب بدوره أن يكون مصرف لبنان لاعباً قوياً في السوق، ويملك احتياطاً كبيراً بالعملات الأجنبية. لذلك اقترحت اللجوء إلى توريق11 مداخيل الاتصالات مقابل الحصول على عملات أجنبية تودع لدى المصرف المركزي لتعزيز احتياطاته وتمكينه من خفض الفائدة إلى 3%، وبالتالي يقبل المانحون والمستثمرون إقراضنا المال في المؤتمر. وتوصلت إلى اتفاق مع كريدي سويس يقضي بحصول مصرف لبنان على 8 مليارات دولار مقابل حصوله على إيرادات الاتصالات".
خطر انهيار سعر الصرف كان جدّياً منذ العام 1997 عندما بات الاحتياطي الصافي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان سلبياً عُقِد المؤتمر على وعد بالتخلّي عن إيرادات الدولة لتعزيز احتياطات المركزي، وحصل لبنان على قروض بقيمة 4.4 مليار يورو: 3.1 مليار كتسهيلات مالية، و1.3 مليار لمشاريع بنى تحتية. بعد حصوله على الأموال، استخدم المصرف المركزي الأموال لتعزيز احتياطاته واستمرّ بالسياسات النقدية نفسها. تمّ الاتفاق مع المصارف على إعادة جدولة جزء من الديون بالعملات الأجنبية وتأجيل أمدّ استحقاقها، وأعيد تقييم الذهب وتسجيل الفارق كأرباح دفترية في ميزانيته على الرغم من أنها أرباح غير مُحقّقة، واستخدام هذه اللعبة المحاسبية لشطب جزء من سندات الخزينة بالليرة التي يحملها وذلك لتجميل الحسابات وتخفيض الدَّيْن العام ولو دفترياً فحسب. في المقابل، لم تخصخص القطاعات العامّة المُدرِّة للإيرادات، إنّما ليس بهدف الحفاظ عليها باعتبارها مورداً مهماً للخزينة قد يُستخدم في مشاريع إنتاجية أو لتقديم خدمات عامة، بل لأن المسؤولين تنبّهوا إلى أن الاتصالات مصدر أرباح ضخمة، حتى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري وصفها أنها "نفط لبنان"، وبالتالي، كانت الاتصالات تبدو لهم كصيد يمكن افتراسها كما غيرها من الموارد العامّة.
3. الاستفادة من الحروب والأزمات والانتخابات لاستقبال تدفّقات نقديّة من دون ربطها بتصحيح اقتصادي ما زاد الأعباء التي يتحمّلها الاقتصاد. يقول المصرفي منصور بطيش: "بعد انعقاد مؤتمر باريس 2 وتسجيل ميزان المدفوعات فائضاً بقيمة 3.4 مليار دولار في العام 2003، أتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 الذي خرج على أثره أكثر من 5 مليارات دولار من المصارف اللبنانية، وكان لبنان على وشك الدخول بأزمة جديدة، ما دفع المصرف المركزي إلى بدء إصدار شهادات إيداع بالدولار (إيداع دولارات لديه) للأفراد والمؤسّسات بفائدة 10% على عشر سنوات، لاستقطاب العملات الأجنبية، محققاً بالتالي فائضاً بميزان المدفوعات بقيمة 747 مليون دولار".
لكن مصائب قوم عند قوم فوائد، وقد لا ينطبق هذا القول على شيء بقدر ما ينطبق على النظام المصرفي اللبناني. خلال العامين 2006 و2010، تحقّق فائض في ميزان المدفوعات بقيمة 19.5 مليار دولار، وعاش القائمون على السياسات النقدية والمالية حالة من الزهو متوهّمين أن بإمكانهم الاستمرار في اللعبة النقدية والمالية. في الواقع، تدفّقت مليارات الودائع إلى لبنان بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان وإنطلاق ورشة إعادة الإعمار. وفي العام 2007، عقِد مؤتمر باريس 3 الذي حصل بموجبه لبنان على 7.5 مليار دولار، وصولاً إلى اندلاع الأزمة المالية العالمية في العام 2008 وهروب مليارات الدولارات إلى القطاع المصرفي اللبناني، وانتخابات العام 2009 التي شهدت تدفّق المال السياسي من الخارج. مع ذلك، يعتبر مدير أحد أكبر المصارف العاملة في لبنان أن "السماح باستقبال هذه الودائع كان الخطيئة الثالثة التي ارتكبت بعد 1) السماح بالاستدانة بالدولار وخلق نقد جديد جرى إيهام الناس بأنه دولار فعلي، و2) تثبيت سعر الصرف مقابل فوائد عالية ضربت الاقتصاد". ويتابع المصرفي نفسه: "لقد ساهمت تلك الودائع الضخمة، وهي مطلوبات على القطاع المصرفي، بزيادة العبء على الاقتصاد اللبناني جرّاء الفوائد العالية التي دفعت عليها، فالمعدّل الوسطي للفوائد المدفوعة على ودائع غير المقيمين يتجاوز 3 مليارات دولار سنوياً، وكان يجري استقطاب دولارات جديدة للتمكّن من دفعها، عدا عن استخدام تلك الودائع في استثمارات غير مدَّرة للدولارات، بما أدّى إلى تبديدها بدلاً من استخدامها للقيام بتصحيح اقتصادي".
بدء الغرق
يكاد لا يخلو مؤتمر لحاكم مصرف لبنان قبل العام 2019 من تأكيد بأن أيّامه لن تشهد على إفلاس مصرف واحد. مع ذلك، بدأت نهاية أسطورة القطاع المصرفي الذي لا يُفلِس في العام 2011، عندما أخذ ميزان المدفوعات يُسجِّل عجوزات مُتتالية، وصولاً إلى استنزاف كلّ الفوائض المُتراكمة منذ نهاية الحرب في العام 2021. 12 وقد سبق ذلك، تراجع متتالي بنموّ صافي الودائع منذ العام 2010 بحسب صندوق النقد الدولي، قبل أن يشهد نمواً سلبياً منذ العام 2017، وبالتالي أصبحت الودائع الخارجة من القطاع المصرفي أكبر من الودائع التي تدخل إليه، ولم تعد الأموال المتوافرة بالعملات الأجنبية قادرة على تغطية كل احتياجات النموذج القائم.
لم يكن إفلاس المصارف اللبنانية واضحاً للجميع قبل العام 2019، نتيجة التلاعب بالحسابات وإخفاء الأرقام وأشكال الدعم والعمليات المالية المختلفة، (المُتعارف على تسميتها هندسات)، التي قادها مصرف لبنان، وأدّت إلى تحويل المال العام والخاصّ وتركيزه بيد قلّة. ولعل أبرز هذه العمليّات هي الهندسة الماليّة الكبرى لعام 2016، التي ادّعى المركزي أنّ أحد أهم أهدافها هو "تمتين القاعدة الرأسمالية للمصارف"، ولكن العديد من الاقتصاديين والمصرفيين يعتبرون أنها بداية إفلاس القطاع المصرفي، كونها أدّت إلى سحب نسبة كبيرة من السيولة الموجودة في المصارف المراسلة في الخارج وإيداعها لدى مصرف لبنان لتعزيز احتياطاته والاستمرار بسياسة تثبيت العملة ودفع الفوائد المترتبة عليه لصالح المصارف وكبار مودعيها، وذلك في محاولة للاستمرار في اللعبة نفسها واستدراج ودائع جديدة إلى النظام المصرفي اللبناني. وهكذا دواليك.
يعتبر عدد من الاقتصاديين والمصرفيين أنّ الهندسة الماليّة الكبرى لعام 2016 كانت بداية إفلاس القطاع المصرفيبحسب تقرير المادة الرابعة الصادر عن صندوق النقد الدولي في العام 2017، بدأ مصرف لبنان عمليات مالية لتعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية في حزيران 2016، بعد أن تراجع احتياطي العملات الأجنبية لديه نتيجة تدني تدفقات العملات الاجنبية بالمقارنة مع حاجاته منها. مرّت العمليات المالية بمراحل عدّة:
- بدأت بمقايضة مصرف لبنان سندات خزينة من محفظته بسندات يوروبوندز صادرة عن وزارة المالية بقيمة ملياري دولار،
- ثمّ قايض مصرف لبنان هذه اليوروبوند وسندات أخرى طويلة الأجل بالعملات الأجنبية (شهادات إيداع) تصل قيمتها معاً إلى نحو 13 مليار دولار، بسيولة بالعملة الأجنبية من المصارف وسندات خزينة وشهادات إيداع بالليرة. قبضت المصارف الفوائد المترتبة على هذه السندات المصدّرة بالليرة كاملة وقبل استحقاق السندات، واقتسمتها بالتساوي بينها وبين مصرف لبنان، الذي فرض عليها استخدامها لتعزيز رساميلها.
- لجذب السيولة الأجنبية، عمدت المصارف بدورها إلى مقايضة سندات اليوروبوند بودائع لكبار المودعين لقاء فوائد عالية، وحوّلت هذه السيولة إلى مصرف لبنان.
بالنتيجة ارتفع معدل نمو الودائع السنوي من 3.5% في أيار 2016 إلى 4.7% في تشرين الثاني 2016، إلّا أن سيولة المصارف انخفضت من ذروة 18 مليار دولار في 2011 إلى 10.4 مليار في أيار وصولاً إلى 8.5 مليار في أب 2016، وباتت أكثر اعتماداً على مصرف لبنان لتأمين السيولة. ونظراً لشحّ السيولة بالعملات الأجنبية ارتفعت الفائدة على الدولار. بدوره ارتفعت موجودات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية من 35 مليار إلى 40.6 مليار دولار خلال الفترة نفسها، إلّا أن المطلوبات المترتبة عليه (الودائع والفوائد عليها) زادت أيضاً، في حين لم يتحقّق سوى فائض بقيمة 555 مليون دولار في ميزان المدفوعات.
لا شكّ أن الدَّيْن العام والفوائد المرتفعة عليه كانت من أهمّ قنوات تحويل الثروة والمداخيل من المجتمع إلى قلّة قليلة، إلّا أن إفلاس الجهاز المصرفي ونضوب سيولة الدولار لا يتحمّل مسؤوليتها الإفراط في الإنفاق العام، بل الجهاز المصرفي نفسه، الذي استمرّ في العمل وتحقيق أرباحه من خلال التدخّلات التي قامت بها وزارة المالية والمصرف المركزي. بحسب الاقتصادي توفيق كسبار لا تنحصر هذه العمليات والمقايضات بين ثالوث المصارف-المصرف المركزي-وزارة المالية بهندسات العام 2016 فحسب، إذ بين العامين 2009 و2019، قامت وزارة المالية بإصدار سندات يوروبوند بقيمة 17.5 مليار دولار، لم تكن بحاجة إليها لتسديد نفقات مترتبة عليها بالدولار، بل لمقايضتها مع مصرف لبنان بسندات خزينة لبنانية، محوّلة بذلك ديونها بالليرة إلى ديون بالدولار وهو عبء يتحمّله دافعي الضرائب. فيما قام المصرف ببيع هذه السندات إلى المصارف والمستثمرين للحصول على سيولة بالدولار ليتمكّن من تسديد نفقاته، ولا سيّما الفوائد المترتبة على الودائع الموجودة لديه لصالح المصارف نفسها. ما يدفع للاعتقاد أن مخطّط بونزي الاحتيالي، الذي يعتمد على جذب ودائع جديدة لدفع الودائع القديمة لم ينشأ منذ هندسات 2016، بل منذ العام 2009، وربّما قبل ذلك. كان يمكن للتحقيق الجنائي ان يوفّر الادلة عن تاريخ هذا المخطط الاحتيالي، ولكنه نُسف ونُسِي.
إخفاء معالم الجريمة
لم تكن تفاصيل العمليّات التي استفاد منها أصحاب المصارف وكبار مودعيهم بمتناول الجميع، باستثناء بعض التقارير والمعلومات المسرّبة إلى الصحف، إذ حاول حاكم المصرف المركزي طمس الأدلّة ومعها حقيقة المخاطر المحدقة بالقطاع المصرفي. أبرز تلك المعالم:
1. نموذج بنك المدينة. يقول المحامي رمزي هيكل إن "إلتزام حاكم المصرف المركزي بدعم المصارف المُتعثّرة لم يسمح للناس بلمس مخاطر العمل المصرفي، فبدلاً من انتظار تصفية أصول هذه المصارف للدفع المودعين، كان المصرف المركزي يضمن كلّ الودائع ويدفعها بانتظار تصفية أصول المصرف بصفقة ما"، وهذه حال بنك المدينة.
2. رسملة الموارد. يقول العضو السابق في لجنة الرقابة على المصارف جوزف سركيس إن "آليّات دعم المصارف من المال العام لم تتوقّف عند حدود منحها مالاً عاماً على شكل قروض مُيسّرة للاستحواذ على مصارف أخرى، بل وصلت إلى منحها قروضاً لإنقاذها من الإفلاس من دون إلزامها بأي معايير لتصحيح مسارها. وهذه حال بنك الموارد الذي حصل في العام 2010 على قرض من مصرف لبنان بقيمة 300 مليار ليرة (200 مليون دولار) لتعزيز وضعيته، في حين لم يحسِّن أداءه، وكان يُفترض تحويله مع 5 مصارف أخرى إلى الهيئة المصرفية العليا منذ سنوات، لكنّه خلافاً لهذه المصارف التي أصبحت ملفاتها أمام الهيئة حالياً، لا يزال الوحيد المُحصّن من أي مساءلة".
3. إخفاء حسابات الربح والخسارة. منذ العام 2002 يتخلّف حاكم مصرف لبنان عن تطبيق المادة 117 من قانون النقد والتسليف التي تنصّ على أن "يقدّم حاكم المصرف لوزير المالية قبل 30 حزيران من كل سنة الميزانية وحساب الأرباح والخسائر عن السنة المنتهية، وتقريراً عن عمليات المصرف خلالها"، باستثناء مرّة يتيمة، عندما نشر في 14/7/2016 (العدد 36 من الجريدة الرسمية) تقريراً ناقصاً عن العام 2015، تحت ضغوط تقارير صحافية. لطالما تحجّح سلامة أن حسابات مصرف لبنان خاضعة للتدقيق من قبل شركتين دوليتين خارجيتين لا علاقة لهما بمصرف لبنان ليخفي حجم عمليّاته مع المصارف، وبالتالي خسائره، وهو ما يتضح من قيمة الأرباح التي يحوّلها إلى الخزينة العامة منذ العام 2009 والثابتة عند 40 مليون دولار سنوياً، علماً أن قيمة أرباحه من سندات الخزينة واليوروبوند فقط تصل إلى 1.5 مليار دولار، ما يعني أنه كان يغطي خسائره ويموّل جزءاً من كلفة هندساته المالية من خلال الموازنة العامّة، خلافاً للمزاعم المتكررة بأن هذه العمليات لا ترتّب أي أعباء على المال العام.
4. التلاعب بأرقام ميزان المدفوعات. بدءاً من تشرين الثاني 2017، أضاف مصرف لبنان سندات اليوروبوند التي يحملها إلى صافي العملات الأجنبية خلافاً للمنهجية المتبعة عالمياً. وذلك بعد أن فشلت الهندسات المالية بعكس الاتجاه السلبي في ميزان المدفوعات، باستثناء عام واحد (2016)، وذلك بهدف تجميل الحسابات والإيحاء بأن الأمور "بخير".
5. ضغوط للتلاعب بتقارير دولية. قد تكون أبرزها فضيحة نشر تقرير "تقييم استقرار النظام المالي للبنان" الصادر عن الصندوق في العام 2017، بعد حذف صفحات منه تذكر أن صافي احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية سلبي بقيمة 4.7 مليار دولار منذ العام 2015.
6. العودة إلى مؤتمرات الدعم الدولية. في نيسان 2018، جرى استنهاض فكرة المؤتمرات الدولية في محاولة لتعويم نظام فاشل عشية انتخابات نيابية موعودة. فعقد مؤتمر "سيدر" بهدف استقطاب نحو 11 مليار دولار ولكنّه فشل في استدراج دولار واحد منها، لتتوالى بعده صدور تقارير تخفّض التصنيف الائتماني للبنان وتعبّر عن تراجع قدرته على إيفاء ديونه، قبل لجوء مصرف لبنان إلى سلسلة من الإجراءات للحدّ من نزيف الدولارات عبر وقف القروض السكنية في مطلع العام 2018، بالتوازي مع فرض قيود غير مُعلنة على سحب الودائع عبر إقناع المودعين بتجميدها مقابل فوائد عالية، عدا عن فرضه إجراءات تمنع كسر الوديعة قبل استحقاقها، وصولاً إلى التوقّف عن الدفع في تشرين الأول 2019، وبدء سلسلة تهرّب المصارف والمصرف المركزي من أي مسؤولية.
- 1صندوق النقد الدولي
- 2الخطّة الحكومية لتوزيع خسائر القطاع المالي.
- 3Elizabeth Picard, “The Political Economy of Civil War in Lebanon”, in War, Institutions, and Social Change in the Middle East, Berkeley, University of California Press, 2000. Link: http://ark.cdlib.org/ark:/13030/ft6c6006x6/
- 4Georges Corm, “OVERCOMING THE DEBT TRAP IN LEBANON: An analysis of debt mechanism and scenarios for the future”, Georges CORM Consulting Office, 2005.
- 5مصرف لبنان وبورصة بيروت.
- 6جمعية مصارف لبنان، ميزانيات المصارف اللبنانية.
- 7الدين العام - وزارة المالية اللبنانية؛ الناتج المحلّي الإجمالي – صندوق النقد الدولي.
- 8في مقابلة قديمة أجريت معه.
- 9Charbel Nahas, “ÉTUDE PRELIMINAIRE DES CONSEQUENCES DE LA CONFERENCE DE PARIS II”, 2002.
- 10شربل نحاس، برنامج اقتصادي اجتماعي من أجل لبنان، المركز اللبناني للدراسات، 2006.
- 11Securitization أي إصدار صكوك تحمل قيمة أصول مُدرِّة للإيرادات لبيعها إلى المستثمرين.
- 12وفق أرقام صافي العملات الأجنبية التي تنشر على موقع المصرف المركزي، ويضاف إليها سندات اليوروبوندز خلافاً للمنهجية العالمية المتبعة. ولكن إذا استثنينا سندات اليوروبوندز يتبيّن أن الفوائض المتراكمة منذ نهاية الحرب استنزفت بالكامل منذ تشرين الأول 2019.