الضغط لمصلحة الصهيونية على جانبيْ الأطلسي

  • مقدّمة كتاب إيلان بابيه «الضغط لمصلحة الصهيونية على جانبيْ الأطلسي» (Lobbying For Zionism of the Both sides of The Atlantic)، الصادر حديثاً عن One World، وقد حصل موقع «صفر» على إذن المؤلّف لترجمتها إلى اللغة العربية ونشرها. 

في العام 2015، نظّم بعض من طلابي في مرحلة الدراسات العليا وزملائي الشباب مؤتمراً بعنوان: الاستعمار الاستيطاني في فلسطين في جامعة إكستر. لم يُعلن عن المؤتمر على نطاق واسع. دُعِيَ المتحدّثون بشكل شخصي لتقديم أوراقهم. واكتُفي بوضع إعلان صغير عن المؤتمر على موقع الجامعة.

في غضون وقت قصير، ضغط اللوبي الداعم لإسرائيل على الجامعة لإلغاء المؤتمر على اعتبار أنه معادٍ للسامية، واتهموا جامعة إكستر بالتواطؤ. قاد هذه الانتقادات مجلس نوّاب اليهود البريطانيين، الجسم الرئيس للمجتمع الأنغلو-يهودي.1  بدأ المجلس ومجموعات أخرى، سوف نتناولها لاحقاً في هذا الكتاب، نقاشات مطوّلة مع الجامعة، انتهت بـ«تسوية» تسمح لاثنين من اللوبي الإسرائيلي أن يكونوا جزءاً من المؤتمر. لم يحضر الضيفان غير المرغوب بهما لتقديم أي عمل بحثي عن الاستعمار الاستيطاني - وهي ظاهرة عالمية معترف بها وحقل دراسي يتقصّى عن أصل وإرث الحركات الإستيطانية التي أنشأت الولايات المتحدة وكندا ودولاً عديدة في أميركا اللاتينية، وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. كان كلّ المدعوين الآخرين، إمّا باحثين معروفين في هذا الحقل، أو طلّاب دراسات عليا يعملون على الموضوع.

كتبت صحيفة «جويش كرونيكل» (Jewish Chronicle) عن المؤتمر المقبل، معربة عن قلقها، ليس بشأن استخدام مصطلح «الاستعمار» بالاقتران مع إسرائيل فحسب، ولكن أيضاً بشأن الإشارة إلى «أرض إسرائيل» على أنها «فلسطين». كيان اعتبرت الصحيفة أن لا وجود له. وذكرت بشكل مستغرب أنه حتى المجموعات المؤيدة للفلسطينيين في الحرم الجامعي كانت سعيدة بالتنازلات التي قدّمتها الجامعة. وهذا ادعاء فشلت في إثباته.

لن نجد دول كثيرة في الأساس، غير إسرائيل، تحاول بإلحاح إقناع العالم ومواطنيها بشرعية وجودها

في ذلك الوقت، كنت مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية، الذي ساعد في تنظيم المؤتمر وقَبِل بالتسوية التي توصّلت إليها الجامعة مع اللوبي. وبإدراكي الآن، أعتقد أنني كنت مخطئاً. اعتقدت أن المؤتمر مهم لدرجة تسمح بتقبّل وجود اثنين من اللوبي. فضلاً عن ذلك، أردت الحفاظ على علاقات جيّدة مع إدارة جامعة إكستر التي دعمت برنامج الدراسات الفلسطينية منذ إطلاقه في العام 2009 (وأصبح اليوم مساراً مُُعترفاً به في الدراسات العليا في الجامعة وفي الكثير من المعاهد الأكاديمية الأخرى في العالم). قبل وقت قصير من نشوء هذا الجدل، استسلمت جامعة ساوثهامبتون لضغوط مماثلة وألغت مؤتمراً عن الدولة الواحدة كحلّ مُمكن لقضية فلسطين. ظهرت الأوراق البحثية التي عرِضت في مؤتمرنا في عدد خاص من «إنترفانشنز» (Interventions)، المجلّة الرائدة في دراسات ما بعد الاستعمار، وهو ما عوّض إلى حدّ ما الطعم المرّ الذي تذوقنّاه بعد هزيمتنا المؤقّتة تحت ضغط اللوبي الإسرائيلي.2

بصرف النظر عن دراما الاستعدادات الأمنية غير الضرورية لشرطة مكافحة الشغب في إكستر تحسباً لأي اضطرابات مُحتملة بعد سنوات عديدة من الهدوء في المدينة، انتهى المؤتمر بهدوء ومن دون مشاكل. لم تكن هذه المرة الأولى التي تخيِّب فيها جامعة إكستر أمل الشرطة المحلّية. قبل عام واحد، ظنّت رابطة الدفاع الإنكليزية خطأً أن معهد الدراسات العربية والإسلامية هو مسجد، وأرادت تنظيم التظاهرات احتجاجاً، لكن العدد القليل من النشطاء اليمينيين كانوا سكارى وكسالى لصعود التلّ الشاهق من محطّة سانت ديفيد إلى الحرم الجامعي.

لم يكن لدى مندوبي اللوبي أي نيّة للمشاركة في معركة الأفكار: يجب أن نتذكّر أنهما لم يملكا أي فكرة أصلاً عما سوف يتضمّنه المؤتمر (كانت هذه الأيام الأولى في دراسات الاستعمار الاستيطاني). كانا هناك لمراقبتنا. لم يريدا الفوز في النقاش - بدا أكثر أنهما أرادا قمعه. شكّلت هذه الإجراءات جزءاً من حملة أوسع للوبي الإسرائيلي على جانبيْ الأطلسي لقمع النقاش عن فلسطين، ووقف توسّع مجال الدراسات الفلسطينية ومنعها من تشكيل النقاشات العامّة. في السنوات الأخيرة، قدّمت الدراسة الأكاديمية لفلسطين أساساً علمياً قوياً للحجج الرئيسة التي تدعم شرعية الأمة الفلسطينية. لكن نجح اللوبي في بعض الأحيان: فَقَد المحاضرون وظائفهم بسبب تأييدهم لفلسطين في أبحاثهم أو في النشاط السياسي، وطلبت المؤسّسات إلغاء صفوف دراسية ومناهج وورش عمل أو مؤتمرات اعتبرتها «مناهضة لإسرائيل». وسوف نرى كيف يحدث الأمر لاحقاً في معرض الكتاب.

على الرغم من جميع أخطائهم، يبقى الأكاديميون صنّاع الكلمات، وفي حالات نادرة ينجحون في التعليم، مع أن النظام الأكاديمي الغربي تخلّى عن هذا الجانب من المهنة منذ زمن طويل تقوده عقيدة «أنشر أو اضمحل». إن الكلمات، مجرّد الكلمات، التي يظهر بعضها في المجلّات الأكاديمية ويكتبها عدد من المؤلفين أكبر من عدد قرّائها، تُقابل بكل قوّة من اللوبيات المؤيّدة لإسرائيل في بريطانيا والولايات المتّحدة، كما لو أنها تشكّل تهديداً وجودياً لإسرائيل. وكما ّسوف نرى، يوجد فريق وزاري خاص في إسرائيل، يتعامل مع صنّاع الكلمات الخطيرين في الأبراج الأكاديمية العاجية. يعتبرها الإسرائيليون «معركة نزع شرعية إسرائيل».

لماذا لا تزال النخب الإسرائيلية تعتقد أن شرعيّتها موضع نقاش في بريطانيا والولايات المتحدة، على الرغم من صفقات الأسلحة، والمساعدات الاقتصادية، والدعم الدبلوماسي غير المشروط؟

كان من الممكن لإسرائيل واللوبي التابع لها تجاهل المؤتمر في إكستر. لا يملك هذا التجمّع القوة لتغيير الواقع في إسرائيل وفلسطين، ويعجز عن المساهمة في تخفيف محنة الفلسطينيين. لكن يصرّ اللوبي الاسرائيلي على التواجد في الساحات البلدية والمدارس والكنائس والكنيس والمراكز المجتمعية والكلّيات على جانبيْ الأطلسي. في العام 2024، لم تسمح إسرائيل بأن يفلت من رادارها أي مظهر من مظاهر التضامن مع الفلسطينيين في بريطانيا والولايات المتّحدة، ولو كان شخص واحد فقط يشارك فيها، وبذلت قصارى جهدها للضغط من أجل إقالة كل شخص يدين انتهاكاتها الأخلاقية، وحظر كل منظّمة تدعو إلى مقاطعتها وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. ووسمت هذه النشاطات بمعاداة السامية أو ما يعادل إنكار الهولوكوست. وهذا في جوهره هو عمل مجموعة ضغط عدوانية بدأت في الدفاع السياسي عن إسرائيل في منتصف القرن التاسع عشر، ولا تزال مستمرة حتى اليوم. لن نجد دول كثيرة في الأساس، غير إسرائيل، تحاول بإلحاح إقناع العالم ومواطنيها بشرعية وجودها.

كوني يهودياً إسرائيلياً، فأنا أعرف عن كثب التأثير السام لجهد دعائي مماثل والجمود الذي يرافقه. بعد فترة تكوينية ترسّخ في خلالها أسس المؤسّسات، سواء كانت دولة أو مجموعة ضغط، يأتي وقت تؤتي فيه عملية غسل الأدمغة ثمارها: يمكنهم الاعتماد على مواطنيهم أو أعضائهم للبقاء مُخلصين للأيديولوجيا المؤسِّسة من دون الحاجة إلى الإكراه. سوف تتوقّف عن السؤال عن الضرر الذي يُرتَكب باسمك، وسوف تكفْ عن التفكير فيما إذا كان ما يحدث أخلاقياً ومبرّراً أو حتى قانونياً.

يعود هذا الكتاب إلى المرحلة التكوينية، قبل أن يصبح جمود جنود اللوبي المخلصين ورقابتهم الذاتية ضماناً لاستمراريته. ويأخذنا هذا إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما كانت الصهيونية رؤية استخاتولوجية مسيحية إنجيلية، ومحاولة حقيقية لإنقاذ يهود أوروبا من معاداة السامية. في نهاية ذلك القرن، أصبحت الصهيونية مشروعاً آخر، لقد تحوّلت إلى استعمار استيطاني في فلسطين، يستهدف سكّانها الأصليين وبعتبرهم غرباء وعائقاً أساسياً لإنشاء دولة حديثة، ولسخرية القدر، «ديمقراطية» يهودية أوروبية في قلب العالم العربي.

زوَّد الهولوكوست الصهاينة بأسباب جديدة للإصرار على إقامة وطن في فلسطين. إن الترحيل والإبادة في أوروبا النازية والفاشية دفعا اليهود إلى الهرب، ولكن لم يكن لديهم مكان يلجأون إليه. سعى قليل من الدول الغربية إلى تقديم ملاذ لهم. أغلقت الدول الأوروبية المُحرّرة من الاحتلال النازي والولايات المتحدة أبوابها، وفرضت كوتا صارمة استبعدت الغالبية العظمى من اللاجئين اليهود الذين كانوا يطرقون أبوابهم. أصبح الضغط من أجل فلسطين كملاذ آمن أكثر منطقية. ولكن، لم تتحرّك الحركة الصهيونية بدوافع إنسانية بحتة، كانت تأمل أن يساعدها اليهود الفارّون من أوروبا في تحقيق تفوّق ديموغرافي في فلسطين، ما يجعلهم قادرين على المطالبة بأكبر مساحة مُمكنة من أرض فلسطين مع وجود أقل عدد مُمكن من الفلسطينيين الأصليين.

احتاج القادة الصهيونيين قبل كلّ شيء إلى إقناع أنفسهم بأن الطريقة التي تطوّرت بها الصهيونية في فلسطين التاريخية تشكّل وضعاً أخلاقياً فريداً غير قابل للمقارنة مع مشاريع استعمارية أخرى

في القرن العشرين، كان الدافع الرئيس لعمل اللوبي ضمان الدعم والشرعية لاستعمار فلسطين طوال فترة الانتداب البريطاني (1918-1948). تطلّب الأمر دفاعاً وضغطاً هائلين على المسؤولين من جميع التوجّهات السياسية. في السنة الأولى لقيام دولة إسرائيل، وبينما كانت الأمم المتّحدة الجديدة تواجه التهجير الجماعي للفلسطينيين، اتخذ هذا الضغط أهمّية خاصّة. لقد أصبح التطهير العرقي لفلسطين شرطاً مُسبقاً لإنشاء دولة يهودية. كان على إسرائيل إقناع المجتمع الدولي بقبول ذلك.

لكن في القرن الواحد والعشرين، أصبح هذا المنطق معضلة: لماذا لا تزال إسرائيل تضغط لإثبات شرعيتها بعد أكثر من 75 عاماً على تأسيسها، لا سيما بالنظر إلى قوّتها السياسية والاقتصادية؟ إسرائيل اليوم هي دولة تكنولوجية متطوّرة، وتمتلك أقوى جيش في الشرق الأوسط، وتتمتّع بدعم غير مشروط من الغرب. وفي الممارسة، تعترف بها الكثير من الحكومات العربية، سواء بطريقة رسمية أو غير رسمية، ولا يمكننا حتى القول بأن الحركات الوطنية الفلسطينية تشكّل أي تهديد وجودي عسكري أو سياسي لها. ومع ذلك، مذ ظهرت إسرائيل للمرّة الأولى على الخريطة، لا تكف عن الازدياد تلك الموارد المخصّصة لكسب تأييد القوى العالمية وإسكات المعارضين.

هذه هي المعضلة التي أريد فكفكتها في هذا الكتاب: لماذا تستثمر إسرائيل مبالغ هائلة في لوبيين رئيسين، مسيحي ويهودي، على جانبيْ الأطلسي؟ لماذا لا تزال هذه الدولة اليهودية تتوق إلى اكتساب اعتراف بشرعيّتها في الغرب؟ بعبارة أخرى، لماذا لا تزال النخب الإسرائيلية تعتقد أن شرعيّتها موضع نقاش في بريطانيا والولايات المتحدة، على الرغم من صفقات الأسلحة، والمساعدات الاقتصادية، والدعم الدبلوماسي غير المشروط؟

سوف أقدِّم الافتراض واحداً، وثلاث فرضيات، وملاحظة بديهية، وسوف اختبرها جميعها في هذا الكتاب. الافتراض الذي أقدّمة هو أن مفتاح هذه المعضلة يكمن في النظر إلى ما هو مخبّأ في الوعي البشري. كان أولئك الذين قادوا الحركة الصهيونية، ولاحقاً إسرائيل، على دراية تامّة بالظلم المتوارث لهذا المشروع، أو في الأقل بالأبعاد اللاأخلاقية لما قد يبدو حلاً نبيلاً لمشكلة معاداة السامية في أوروبا. وإذا بدا لك هذا الافتراض بعيد المنال لقدمه، فلا جدال بأن صانعي السياسات الرئيسين في إسرائيل يدركون اليوم أن كثيراً من الناس في العالم يرون الصهيونية كمشروع قمعي واستعماري. وباعتباري مؤرِّخاً، أعلم أنه لا يوجد وثيقة دامغة تكشف عن هذه الدوافع في باطن اللاوعي - ولن أحاول إنتاج واحدة. لكنني آمل أن يُظهر تحليل تاريخي مفصّل للوبي، منذ نشأته وحتى اليوم، صحة هذا الافتراض. ما يمكنني إثباته هو الفرضية الأولى: يمثّل الضغط لمصلحة إسرائيل هوساً صهيونياً لإثبات الفرادة الأخلاقية أو حتى التفوّق. والواقع أن هذا الهوس لطالما كان مُعقّداً وملتبساً، لأن قادة الصهيونيين، ومن ثم الدولة الإسرائيلية، احتاجوا قبل كلّ شيء إلى إقناع أنفسهم بأن الطريقة التي تطوّرت بها الصهيونية في فلسطين التاريخية تشكّل وضعاً أخلاقياً فريداً غير قابل للمقارنة مع مشاريع استعمارية أخرى، وبأنها في الواقع مسعى نبيلاً. احتاجوا إلى تصديق الأمر، على الرغم من إدراك البعض للأسس المشكوك بها لهذا المشروع.

الفرضية الثانية هي تخلّي الحركة الصهيونية منذ وقت مبكر عن الحجج الأخلاقية، وعن التواصل مع المجتمعات عموماً بسبب ارتيابها الذاتي، واستثمار جميع جهودها في النخب. تطلّبت هذه المغامرة المال والعلاقات والدعم الفعّال. وعندما أتقنتها دولة إسرائيل ونشرتها، حقّقت قوى الضغط نجاحاً لا مثيل له مقارنة بمجموعات الضغط الأخرى في بريطانيا والولايات المتّحدة.

إنّ إدراك إسرائيل عدم شرعيّتها، وبالتبعية الضرورة المترتبة عنها للحصول على دعم مستمرّ، إنّما هو نتيجة فشل الصهيونية في استكمال مشروع الاستعمار الاستيطاني

أمّا فرضيتي الثالثة فتكمن بأن النفوذ السياسي المتراكم نتيجة تعبئة النخب، أنشأ مجموعات ضغط قويّة جداً على جانبيْ الأطلسي، مثّلت مؤسّسات قائمة بذاتها ولها مصالحها الخاصة. وفي بعض المناسبات، عملت مجموعات الضغط بشكل أساسي للحفاظ على قوّتها الخاصة، وليس بالضرورة لمصلحة القضية الإسرائيلية.

ثمّة عوامل أخرى ساعدت إسرائيل واستغلّت جهود الضغط لمصلحتها. تشمل هذه العوامل المجمّعات العسكرية الصناعية في دول مختلفة وبعض الشركات المتعدّدة الجنسيات التي شاركت على مرّ السنين في الضغط لمصلحة إسرائيل. تُعدّ إسرائيل مُصدِّراً كبيراً للأسلحة والأوراق المالية في العالم. وتعمل وفقاً لمبدأ «خُذْ بيَدي، آخُذ بيَدك». لا يغطّي هذا الكتاب هذا النوع من التجارة القذرة. في المستقبل، قد يكون هذا هو الأسلوب الرئيس الذي سوف تستخدمه إسرائيل لتقوية شرعيّتها الدولية. ومع ذلك، من الناحية التاريخية، ومن منظور إسرائيل، لم تكن مجموعات الضغط المهمّة موجودة بين المجمّعات الصناعية الأجنبية أو عمالقة المال. تُعتبر مجموعات الضغط المسيحية واليهودية لمصلحة إسرائيل، في الأقل حتى الآن، الأهم بالنسبة إلى إسرائيل. واللافت أن هذه الأخيرة لا تزال تسعى وراء مساعدتها لاكتساب الشرعية في هذا القرن أيضاً.

دفعتني هذه المعضلة لتأليف هذا الكتاب. عندما ظهرت إسرائيل على الخريطة في العام 1948، كان سعيها المحموم لاستمالة القوى الموجودة مفهوماً. لكن من المفاجئ الآن أن إسرائيل لا تزال تعتبر نفسها مهدّدة بما يسمّيه قادتها «نزع الشرعية الدولية»، على الرغم من تحوّلها إلى قوة عسكرية واقتصادية عظمى.

وأصل الآن إلى الملاحظة البديهية: إنّ إدراك إسرائيل عدم شرعيّتها، وبالتبعية الضرورة المترتبة عنها للحصول على دعم مستمرّ، إنّما هو نتيجة فشل الصهيونية في استكمال مشروع الاستعمار الاستيطاني الذي بدأ في العام 1882، عند وصول المستوطنين الأوائل إلى فلسطين. وعلى العكس من حركات الاستعمار الاستيطاني الأخرى، كما في شمال أميركا وأستراليا حيث ظهرت فاعلية الممارسات اللاإنسانية، لم تتمكّن الحركة الصهيونية من طرد السكّان الأصليين من أرض فلسطين التاريخية. في أماكن مثل الولايات المتحدة، شكّك السكّان الأصليون الناجون بشرعية أولئك الذين استولوا على أراضيهم وارتكبوا جرائم الإبادة بحقّهم، لكن التخلّص منهم جسدياً كان حاسماً لدرجة لم يُضطر المستعمِر لمواجهة أي تحدّيات جديّة بشأن شرعيّته في المحافل الدولية. 

يدّعي بعض أصدقائي، الذين ما زالوا مُتعاطفين مع الصهيونية، أنّه وفقاً للمعايير الأخلاقية للصهيونية لم تُرتَكب أي إبادة جماعية في خلال استعمار فلسطين. يعتقدون ذلك على الرغم من أنّ الناس في إسرائيل يعرفون كمّ المجازر التي ارتُكبت بحقّ الفلسطينيين منذ العام 1948 وحتّى الآن. لكن الحقيقة هي أشدّ قتامة: لم تشكّل الهواجس الأخلاقية أو الافتقار إلى الإرادة عائقاً أساسياً أمام عملية التطهير العرقي. لكنها فشلت بسبب صمود المقاومة الفلسطينية.

الفلسطينيون ليسوا مجرّد ضحايا لِإسرائيل، إنهم أيضاً فاعلون أساسيون في تقرير مصيرهم. إنّ بقاء الفلسطينيين وإصرارهم على حقوقهم يحتّم على الصهاينة إنكار الماضي ومحوه من أجل التغلّب على المشاكل الأخلاقية والمعنوية المرتبطة بتأسيس دولة إسرائيل. وعلى الرغم من كل الصعاب، ومواجهة تحالفات دينية واقتصادية وعسكرية وإستراتيجية غربية جبّارة في مختلف المراحل التاريخية، سمحت بمصادرة أملاكهم وتجاهل حقوقهم، لا يزال الفلسطينيون موجودين هناك، صامدين، ويحاربون ويتحدّون الأسس الأخلاقية للدولة التي تأسّست على حسابهم وعلى أنقاض وطنهم. لقد استغرق الأمر وقتاً حتّى بدأت المطالب الفلسطينية بالتأثير في الرأي العام العالمي. وها قد أصبح الآن جزءاً لا غنى عنه في النضال من أجل التحرير، كما سوف نرى في الكتاب، فقد دفع بمجموعات الضغط نحو أساليب أكثر عنفاً لقمع الحوار العالمي بشأن فلسطين. 

من أجل اختبار هذه الفرضيات وحلّ المعضلة التي طرحتها، سوف أبحث عن كثب في أصول تأسيس مجموعات الضغط في بريطانيا والولايات المتّحدة، الفاعلين الأساسيين في معظم تاريخ إسرائيل، وسوف أتتبّع تطوّر هذه المجموعات حتّى يومنا هذا.

لم تشكّل الهواجس الأخلاقية أو الافتقار إلى الإرادة عائقاً أساسياً أمام عملية التطهير العرقي، لكنها فشلت بسبب صمود المقاومة الفلسطينية

قد أُتّهم بالانحياز. وأنا أقبل هذا الاتّهام برحابة صدر. كما أدرك جيّداً الطلب من الكثير من المؤرّخين المهنيين الطموحين عدم تناول تاريخ جدلي في بداية مسيرتهم المهنية يقوّض صدقية أعمالهم العلمية. قد يكون هذا التحذير حكيماً بالنسبة إلى المؤرّخين الوافدين حديثاً إلى المجتمع الأكاديمي كباحثين زملاء. لكنهم، مع مرور الوقت، سوف يكتشفون بأنفسهم قوّة الكلمات التي كتبها برتراند راسل في سيرته الذاتية: 

في بعض الأحيان، اتّهمني المراجعون بأنني لا أكتب التاريخ الحقيقي، وإنّما رواية مُنحازة عن الأحداث التي اخترتُ عشوائياً الكتابة عنها. لكن في رأيي، لا يمكن لرجلٍ غير مُنحاز أن يكتب تاريخاً مثيراً للاهتمام. إذا افترضنا طبعاً وجود هذا الرجل.3

يا ليت لو أنّ الوقائع تتكلّم عن نفسها. لكن، الوقائع تُطمس باستمرار عبر مشروع ضخم من التلفيق والتلاعب والمحو. علينا تقديم سياقٍ وحكمٍ أخلاقي والتزامٍ لِجعل الوقائع تتحدّث عن حقيقة اضطهاد الفلسطينيين ونضالهم الشجاع من أجل الحرية والتحرّر. هذا أقلّ ما يمكننا فعله في محاربة واحدة من أطول حالات الظلم في العالم. 

قد يلاحظ القرّاء في هذا الكتاب ميلاً إلى التركيز على أماكن ومبانٍ مُحدّدة. لقد كانت الصهيونية سابقة عصرها في تركيزها الحازم على إرضاء داعميها المُحتملين. إنها رائدة جميع أشكال الضغط في العصر الحديث. اختيرت أماكن فخمة لاستقطاب النخب المحلّية عبر تقديم الدعم المالي للسياسيين، أو أشكال أخرى من الدعم المفيد لأي داعم مُحتمل. أرغب بمشاركتكم عظمة هذه الأماكن حتّى تروا بأنفسكم كيف غرست الصهيونية جذوراً لها في بريطانيا والولايات المتّحدة. أمّا الآن، فلنعد إلى طبيعة مجموعات الضغط. 

ما هو اللوبي؟ مجموعات الضغط، كما نعرفها، تقدّم الدعم إمّا لتغيير السياسات الحكومية أو لتبديل الرأي العام. في البداية، كانت مجموعات الضغط على جانبيْ الأطلسي عبارة عن مقرّات قائمة. في بريطانيا، كانت أروقة مجلس النوّاب المقرّ الذي يختلط فيه النوّاب واللوردات مع أشخاص داعمين لقضايا مختلفة. واكتسبت تلك الممارسات سمعتها السيّئة بدءاً من القرن السابع عشر. 

على الجانب الآخر من الأطلسي، كان السياسيون المحتملون واعين تماماً للتقليد البريطاني في الضغط. يُعيّن أحد أعضاء مجموعات الضغط بمجرّد تأسيس الكونغرس لضمان تعويضات أفضل لقدامى المحاربين في حرب فيرجينيا. في العام 1830، امتلأت الردهة المؤدّية إلى باحة الكونغرس بأشخاص يحاولون التأثير على ممثّليهم. وبعبارة أخرى، أصبحت مجموعات الضغط شائعة قبل وقت طويل من وصف الرئيس يوليسيس غرانت الناس الذين ينتظرونه في بهو فندق ويلارد بأعضاء مجموعات الضغط.

لا يعكس التعريف العام مجال مجموعات الضغط الداعمة لإسرائيل وطموحها، التي تبقى فريدة من نوعها. اقترح بعض الباحثين توسيعاً مفهوم مجموعات الضغط. عند الإشارة إلى مجموعات الضغط المعاصرة الداعمة لإسرائيل في الولايات المتّحدة، يقترح غرانت ف. سميث استخدام مصطلح «المنظّمات المرتبطة بإسرائيل»، وهي شبكة واسعة لا تدافع بالضرورة عن المصالح الإسرائيلية حصراً ودائماً، لكن يمكن تجنيدها بسهولة لتأدية مهمة مماثلة، أسوة بلوبيات التدخين والسلاح في الولايات المتّحدة.4  وهكذا، يمكن شمول كل الجهات التي تشكّل مجموعة ضغط لمصلحة إسرائيل في الولايات المتّحدة. وينطبق هذا التعريف جيداً على مجموعات الضغط في بريطانيا أيضاً، ومن ضمنها الهيئات التي تضغط لمصلحة إسرائيل حصراً، وتلك التي تعتبر دعم إسرائيل بنداً من جملة بنود على جدول أعمالها، وتضمّ أيضاً المشاريع الدعم الطويلة الأمد، ومشاريع أخرى لم تصمد طويلاً نتيجة نقص التمويل أو المشكلات التنظيمية.

اقترح باحثون آخرون التمييز بين مجموعات الضغط الرسمية وغير الرسمية، وهو ما يمكن اعتباره تصنيفاً مفيداً. في بدايات نشوء مجموعات الضغط في منتصف القرن التاسع عشر برزت منظّمات قوية داعمة صراحة للصهيونية إلى جانب تشكيلات مؤقّتة غب الطلب. وأدّت كلتاهما دوراً فعّالاً في الترويج للصهيونية، ولاحقاً للسردية الإسرائيلية، بوصفها الحقيقة التاريخية الحصرية والمعاصرة عن الواقع في فلسطين التاريخية.

في تأريخه الدقيق لِمجموعات الضغط الداعمة لإسرائيل في الولايات المتّحدة، اعتبر والتر إل. هيكسون أن الضغط هو «نقل للجهود المنظّمة والمموّلة من أجل ممارسة تأثير سياسي دعماً لقضية تنطوي على مصلحة ذاتية»، وهو تعريف بالطرق أكثر منه بالجوهر، ومع ذلك يبقى تعريفاً مفيداً. يؤكّد هيكسون أنّ الأموال تُجمَع لِحشد المعلومات والدعم، ويستخدمان بدورهما لمواجهة أي مجموعة أو أفراد يشاركون وجهة نظر معارضة لمجموعة الضغط. يحذّرنا هيكسون من النظر إلى مجموعة الضغط ككيان واحد متجانس، وإنّما مجموعات بأفكار وأفراد ومنظّمات مُتعدّدة الأوجه تطمح لـ«نشر البروباغندا الإسرائيلية»، والأهمّ تشويه سمعة أي شخص يدين إسرائيل أو الصهيونية أو ينتقدهما.5  وهذه طريقة أخرى لتحديد المنتمين إلى مجموعات الضغط بشكل رسمي أو غير رسمي. 

إنّ بقاء الفلسطينيين وإصرارهم على حقوقهم يحتّم على الصهاينة إنكار الماضي ومحوه من أجل التغلّب على المشاكل الأخلاقية والمعنوية المرتبطة بتأسيس دولة إسرائيل

تشكّل مجموعات الضغط جزءاً لا يتجزّأ من الحياة العامة الأميركية. يشير الجميع إلى لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) كمرادف لمجموعات الضغط الداعمة لإسرائيل. ولكن، كما أظهر هيكسون وسميث، فإنّ عمل مجموعات الضغط هو أكثر حذاقة بكثير. 

يُكمل ميرشايمر ووالت محاولات أخرى لتعريف مجموعات الضغط، ويقترحان أنها ائتلاف فضفاض بين مجموعات تسعى إلى التأثير على السياسة الأميركية،6  وبالتبعية يمكن قول الأمر نفسه عن مجموعات الضغط في بريطانيا. كما سوف نرى، تكون هذه الائتلافات في بعض الأحيان فضفاضة، ولكنها في أحيانٍ أخرى أكثر تماسكاً وتصبح أكثر قوة وتأثير. عند نشر كتابهما في العام 2007، صوِّرت آيباك كأقوى مجموعة ضغط في الولايات المتّحدة. وسّع هيكسون لاحقاً نطاق مجموعات الضغط لتضم، بالإضافة إلى المجموعات التي تعاملت معهم إيباك، أفراداً عملت معهم عن قرب.

تُظهر هذه التقديرات البحثية الصعوبات في رسم بنية مجموعات ضغط راسخة ومتعددة الكفاءات كمجموعات الضغط الإسرائيلية. لذلك، علينا استخدام التعريف الموجود والأكثر ليبرالية لِمجموعات الضغط لِدمج كل فرد أو مجموعة تكرّس وقتاً لدعم إسرائيل أو مصالحها بتحريض من الحكومة الإسرائيلية. خلقت هذه المجموعات عن قصد التباساً لا يزال قائماً حتّى يومنا هذا، بين أصوات ومصالح الجاليات اليهودية في بريطانيا والولايات المتّحدة وتلك الداعمة للصهيونية ولإسرائيل. فهل يمكن لمنظّمات، مثل مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية الكبرى في الولايات المتحدة ومجلس نواب اليهود البريطانيين في بريطانيا، أن تمثّل الجالية اليهودية في بلدانها فضلاً عن السفارات الإسرائيلية؟ لا أدّعي أنني أملك الإجابة. ما أعرفه هو أنّ دمج هاتين الوظيفتين أثمر واقعاً خطيراً حيث تختلط معاداة السامية باستمرار مع معاداة الصهيونية، ويصبح الاهتمام بالجاليات اليهودية ملوّثاً بمعاداة قوية للفلسطينيين تصل في بعض الأحيان حدّ الكراهية الصريحة للإسلام. لم يحقّق هذا الواقع الحالي، باعتقادي، أي مكاسب سواء للجاليات اليهودية هنا أو اليهود في إسرائيل. 

إن تعريف مجموعات الضغط ليس ثابتاً. تغيّر جماعات الضغط أشكالها وتشكيلاتها وتوجّهاتها وأساليبها وأحجامها مع الزمن. لذا يعتبر الرصد المتأني لأصل هذه المجموعات منذ تاريخ تشكيلها وحتّى يومنا هذا هو الوسيلة لتسليط الضوء على خصوصيات مجموعات الضغط الداعمة لإسرائيل بدلاً من دراستها بشكلٍ عام. بدأ الأمر بتضافر قوى الإسخاتولوجيا المسيحية مع فورة قومية أوروبية حديثة، ونتجت عنهما معاداة سامية علمانية وترياق يهودي على شكل قومية يهودية علمانية. ظهرت هاتان الأيديولوجيتان التوأمان أوّلاً على المسرح الأوروبي ومن دون أي رابط مع فلسطين. في ذلك الوقت، كانت فلسطين تحت الحكم العثماني، ولم يكن شعبها يعلم حتّى بأن المسيحيين واليهود يفكّرون بطردهم من أرضهم والاستيلاء عليها. لذلك، علينا أن نبدأ قصتنا من حين أدرك رجال الدين الإنجيليون والعلمانيون على جانبَيْ الأطلسي أن مشيئة الله قضت بجمع يهود العالم ونقلهم إلى دولة خاصة بهم في فلسطين التاريخية.

  • 1‘Board Concerned over Exeter University Conference on Israeli “Colonialism”’, Jewish Chronicle, 11 August 2015
  • 2Interventions: Journal of Postcolonial Studies, special issue, ‘Settler Colonialism in Palestine’, 21/4 (2019)
  • 3Bertrand Russell, The Autobiography of Bertrand Russell, London and New York: Taylor & Francis, 2014, p. 465
  • 4Grant F. Smith, Big Israel: How Israel’s Lobby Moves America, Washington: Institute for Research: Middle Eastern Policy, 2016, p. 2
  • 5Walter L. Hixson, Architects of Repression: How Israel and Its Lobby Put Racism, Violence and Injustice at the Center of US Middle East Policy, Washington: Institute for Research: Middle Eastern Policy, p. 4
  • 6John J. Mearsheimer and Stephen M. Walt, The Israel Lobby and US Foreign Policy, London: Penguin, 2008, p. xiii