Preview الملاحة البحرية

اختناقات التجارة على الممرَّات البحرية

تحت عنوان «التجارة العالمية معرّضة للخطر قبل عيد الميلاد بسبب أزمة القناتين»، نقل مقال في فاينانشال تايمز في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي تحذير أصحاب السفن والمورِّدين والمستوردين من أن الجفاف في قناة بنما والهجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر على بعد 11,500 كيلومتراً منها، قد يؤدّي إلى تقييد حركة المرور قبل موسم الأعياد، إذ أن أكثر من نصف حجم الحاويات المشحونة ما بين آسيا وأميركا الشمالية يعبر إمّا عبر قناة بنما أو عبر قناة السويس، وفق بيانات الربع الثالث من هذا العام، التي نشرتها مجموعة التحليل التجاري MDS Transmodal.

الملاحة البحرية

يبدو أن تزامن الحرب الإسرائيلية على غزّة مع أزمة الجفاف في قناة بنما سيكون له أثر جسيم على حركة الشحن البحري وسلاسل التوريد العالمية والتجارة عموماً، بما يتجاوز الضرر المباشر على الاقتصاد الإسرائيلي. فهل تدفع المصالح التجارية إلى توسيع دائرة المطالبة بوقف إطلاق النار، أم أن الضغوط قد تدفع إلى مغامرات حربية غير محسوبة النتائج؟

أهمّية قناة بنما

تعتبر قناة بنما بمثابة حلقة وصل حيوية بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وتمكّن السفن المتنقّلة بين أميركا وآسيا من تجنّب الرحلة الطويلة والخطرة حول رأس هورن في الطرف الجنوبي لأميركا الجنوبية، ويمر عبرها نحو 6% من إجمالي الشحن البحري العالمي، معظمها بين الولايات المتّحدة والصين واليابان، وأهمّها الصادرات الأميركية للغاز الطبيعي المسال إلى آسيا.  

في العام 2022، مرّت أكثر من 14 ألف سفينة تحمل 518 مليون طن من البضائع عبر هذا الممرّ المائي، ما رفد الخزانة البنمية بمبلغ 2.5 مليار دولار.

التغيّرات المناخية وظاهرة النينيو أدّت إلى انخفاض المتساقطات المائية وتقلّص كمّيات المياه التي تحتاجها قناة بنما لعبور السفن منه

ولكن، التغيّرات المناخية وظاهرة النينيو أدّت إلى انخفاض المتساقطات المائية في هذا العام وتقلّص كمّيات المياه التي تحتاجها قناة بنما لعبور السفن منها. ووفق آخر البيانات، لم تعبر سوى 167 سفينة من قناة بنما في خلال الأسبوع الأول من كانون الأول/ديسمبر الجاري، بالمقارنة مع 238 سفينة في الفترة نفسها من العام الماضي، وفقاً لمجموعة تحليل التجارة MarineTraffic.

تمّ افتتاح قناة بنما في العام 1914، ويستغرق العبور منها ما بين 10 إلى 12 ساعة، وهي تستخدم لنقل البضائع من آسيا إلى الساحل الشرقي للولايات المتّحدة الأميركية/منطقة البحر الكاريبي، ومن الساحل الغربي لأميركا الجنوبية والساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية - البحر الكاريبي - أوروبا وبالعكس.

ماذا يحصل في قناة بنما؟ 

يعتمد تشغيل هويس قناة بنما على إمدادات المياه العذبة القادمة بشكل أساسي من بحيرتين اصطناعيتين، وهما جاتون وألاخويلا. والهويس هو عبارة عن منشأة ملاحية تقوم بنقل المراكب والسفن وغيرها من منسوب مياه إلى منسوب مياه آخر فى المجرى المائي. لكن بسبب قلّة الأمطار، نفّذت هيئة قناة بنما في هذا العام العديد من التدابير للحفاظ على المياه وتقييد القناة. سابقاً، هدّدت موجات الجفاف بتعطيل عمليات القناة في  العقد الأخير، إلا أن ما يثير القلق هو أن حالات الجفاف أصبحت تحدث بوتيرة أكبر، ومن المتوقع أن يستمر انخفاض حركة المرور في القناة لأربع شهور أخرى على الأقل، كما نقلت GPF في تشرين الأول/أكتوبر.

أهمية قناة السويس والبحر الأحمر

يُنظر إلى قناة السويس والبحر الأحمر كممرّ بديل عن قناة بنما، ولو أنه أكثر كلفة وأطول وقتاً، إذ تستغرق شحنة الغاز الطبيعي المسال من ساحل الخليج الأميركي 24 يوماً للوصول إلى شمال شرق آسيا عبر قناة بنما، ولكنها تحتاج إلى 36 يوماً عبر قناة السويس، ومع ذلك، تبقى قناة السويس أقل كلفة وأوفر وقتاً من البدائل الاخرى. وهكذا، اتجهت شركات الملاحة إلى قناة السويس لتفادي الاختناقات في قناة بنما، لكن هذا البديل بات رهن وقف إطلاق النار في غزّة.

اتجهت شركات الملاحة إلى قناة السويس لتفادي الاختناقات في قناة بنما، لكن هذا البديل بات رهن وقف إطلاق النار في غزّة

قناة السويس هي صلة الوصل بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وتعتبر أقصر طريق ملّاحي بين الشرق والغرب، وأسرع طريق للمرور من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي بالنسبة إلى التجارة البحرية العالمية، حيث تقلّص في المتوسّط 15 يوماً من رحلة السفن عبر رأس الرجاء الصالح. ويمرّ عبر قناة السويس ما يقرب من 12% من تجارة العالم، والتي تشمل 30% من إجمالي الحاويات العالمية. وبحسب الهيئة العامة للاستعلامات، فإنه في النصف الأول من العام 2022، بلغ عدد السفن العابرة في قناة السويس 11,101 سفينة، وبلغت كمّية البضائع الآتية من شمال القناة إلى جنوبها 282.4 مليون طن، وبلغت كمية البضائع من جنوب القناة إلى شمالها 271.1 مليون طن، وبلغت كمية البترول ومنتجاته العابرة للقناة 124 مليون طن، وبلغت إيرادات قناة السويس السنوية نحو 7 مليارات دولار في العام المالي 2021-2022.

بحسب آكسيوس فإنه بعد هجمات حركة «أنصار الله» الأخيرة على السفن في البحر الأحمر رداً على العدوان الإسرائيلي في غزة، تسلك الآن السفن المتجهة من آسيا طريقاً يدور حول أفريقيا، ما يجعل الرحلة أطول بثلاثة أسابيع وأكثر تكلفة. وفي خلال الأسبوعين الماضيين، بدأت السفن المتجهة إلى موانئ أخرى خارج إسرائيل كذلك باستخدام الطريق الأطول للوصول إلى أوروبا حتى لا يتم استهدافها.

نجحت العمليات التي تبنّتها حركة «أنصار الله» أو نُسبت إليها في ربط أمن الملاحة في البحر الأحمر بوقف العدوان على غزّة. وبالفعل، أعلنت 7 شركات شحن عالمية تسيطر مجتمعة على نحو نصف سوق شحن العالمي، أولها كان شركة زيم الإسرائيلية في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، أنه «في ضوء التهديدات التي تطال العبور الآمن للتجارة العالمية في البحر العربي والبحر الأحمر، ستتخذ إجراءات استباقية مؤقتة لضمان سلامة أطقمها وسفنها وبضائع عملائها من خلال إعادة توجيه بعض سفنها. ونتيجة لهذه التدابير، من المتوقّع أن تكون فترات العبور أطول بالنسبة إلى خدمات زيم ذات الصلة»، وتمتلك زيم 150 سفينة، وأكثر من 3,400 عميل، وتنقل بضائع إلى 90 دولة، ونقلت 549,278 حاوية بحسب تقرير 2022. ومن ثمّ تلتها كلّ من شركتي ميرسك وHapag-Lloyd في 15 كانون الأول/ديسمبر. علماً أن ميرسك، هي ثاني أكبر شركة شحن حاويات في العالم، تنقل 14.8% من التجارة العالمية، وتعمل في 130 دولة، وتشحن ما يقرب من 675 مليار دولار من البضائع سنوياً، وتوظّف نحو 76 ألف شخصاً. فيما تسيطر Hapag-Lloyd على حوالى 7% من أسطول سفن الحاويات العالمي.

وتتوالى الشركات التي تعلن إيقاف شحناتها عبر البحر الأحمر، ففي 16 ديسمبر/كانون الأول، قالت شركة البحر الأبيض المتوسط ​​للشحن (MSC) إن سفنها لن تمر عبر قناة السويس، وتم تغيير مسار بعضها بالفعل عبر رأس الرجاء الصالح. وفي اليوم نفسه، أعلنت شركة CMA CGM عن إيقاف شحناتها، بالإضافة إلى «إفرغرين» التايوانية في 18 كانون/الأول ديسمبر والتي أعلنت أيضاً عن التوقف عن استقبال البضائع الإسرائيلية. وانضمت إلى هذه الشركات، شركة «بريتيش بتروليوم» وهي أول شركة نفط توقف عمليات الشحن الخاصة بها بشكل مباشر عبر البحر الأحمر.

ماذا يعني هذا بالنسبة إلى إسرائيل؟ 

بعد تدهور نشاط ميناء أسدود التجاري وإغلاق ميناء عسقلان للطاقة وزيادة الضغط على ميناء حيفا، في الشهرين الأخيرين نتيجة الصواريخ المنطلقة من غزة، نقلت الصحافة الإسرائيلية منذ أسبوعين أن نشاط ميناء إيلات انخفض بنسبة 80% نتيجة عمليات حركة أنصار«الله» الأخيرة، ويقوم ميناء إيلات بنقل نحو 6% من البضائع التي تصل إلى الكيان الاسرائيلي، علماً بأن الأضرار لا تتوقف على الأخير فالهجمات قد تضرّ كذلك الموانئ الواقعة على البحر المتوسّط التي تستقبل السفن من قناة السويس وإليها.

نقلت الصحافة الإسرائيلية منذ أسبوعين أن نشاط ميناء إيلات انخفض بنسبة 80% نتيجة عمليات حركة أنصار«الله» الأخيرة

وميناء إيلات هو واحد من ثلاث موانئ تجارية إسرائيلية إضافة إلى مينائي طاقة. ويعد منفذ إسرائيل الوحيد إلى البحر الأحمر، حيث يقع في مدينة أم الرشراش على ساحل خليج العقبة، التي احتلتها إسرائيل في 1949 لإيجاد موطىء قدم للدولة الصهيونية على البحر الأحمر.

من جهة أخرى، نتيجة الهجمات الأخيرة، ارتفعت كلفة التأمين على السفن التي يملكها إسرائيليون بنسبة 250% بحسب تايمز الإسرائيلية.

الجميع يتأذّى أو لا أحد 

يبدو أن تجارة إسرائيل البحرية تعاني من ضرر مزدوج، الأول مباشر نتيجة هجمات «أنصار الله» على السفن المرتبطة بها، والثاني غير مباشر نتيجة ما يمكن تسميته بالأثر المضاعف لـ«أزمة القناتين»، أي السويس وبنما، ما يعني أن سياسة الهجوم على السفن الإسرائيلية أصبحت وسيلة أكثر نجاعة في الإضرار بالكيان المحتل.

لكن أزمة القناتين لا تصيب إسرائيل وحدها، بل التجارة العالمية كلّها، حتى ولو اقتصرت العمليات في البحر الأحمر على استهداف السفن ذات الصلة بإسرائيل، إذ أن عرقلة الملاحة البحرية يمكن أن تتحوّل إلى وسيلة ضغط اضافية لجعل مطلب وقف إطلاق النار في غزّة مطلباً عالمياً، إلا أن هذا التلازم بين أزمة قناة بنما وأزمة البحر الأحمر (مضيق باب المندب وقناة السويس) يحمل إمكانين: إمّا إيقاف إطلاق النار في غزّة أو توسع رقعة الصراع في المنطقة.

أشارت الإدارة الأميركية في الأسبوع الماضي إلى أن دول محورية عدّة أبدت اهتمامها بالمشاركة في قوة عمل بحرية بهدف منع المزيد من هجمات «أنصار الله» على السفن التجارية في البحر الأحمر، ومن جهته، في 14 كانون الأول/ ديسمبر حذّر وزير الدفاع الإيراني الولايات المتحدة من أنها ستواجه مشاكل استثنائية إذا أرادت تشكيل قوة دولية لحماية الملاحة في البحر الأحمر.