
على الحافة
لم يعد الانقسام السياسي في الولايات المتحدة مقتصراً على اليسار واليمين، بل بات يمتد على محور آخر: المُغالون في ترامب والمُقلِّلون من شأنه. يرى الفريق الأول في ترامب تجسيداً لانفجار تاريخي مفاجئ، سواء بتغيير بنية النظام الحزبي أو تقويض الديمقراطية، أو تهديم النظام الليبرالي العالمي. أما الفريق الثاني، فيتعامل معه كظاهرة صاخبة تخفي خلفها تحولات أعمق وأطول أمداً، أو كعارض لأزمات أخرى لا يكمن حلّها في شخصه، بل في مواضع أبعد، كثقب أسود يبتلع الانتباه عن جوهر العلل السياسية.
لا يُعبر هذا الانقسام عن خط حزبي أو أيديولوجي مباشر، بل يتخطاه، ما يجعله مثيراً للاهتمام. هناك الكثير من المُغالين الليبراليين المعروفين، وقد انتقل بعضهم مؤخراً إلى كندا، إما خوفاً من النظام الاستبدادي أو احتجاجاً عليه؛ وهناك أيضاً مُغالون محافظون، معظمهم من كتّاب الأعمدة في الصحف ذات الميول اليمينية، الذين لم يحشدوا كثيراً من الأصوات لكنهم تركوا أثراً كبيراً في نبرة ومضمون السياسات المناهضة لترامب. وعلى الرغم من الخلافات، يلتقي الليبراليون والمحافظون من هذا المعسكر في التركيز على شخص الرئيس باعتباره العقدة المركزية وربما الوحيدة في السياسة الوطنية. وقد شارك الطرفان في ما يُعرف بـ«حروب الفاشية»، مستغلين هذا الوصف للضغط على اليسار في الانتخابات وسياقات أخرى.
مع أول ارتباك في أسواق السندات، انقلبت سياسة ترامب: من محاولة إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي إلى مواجهة محدودة مع الصين، ثم ما لبث أن تراجع عن ذلك أيضاً
ومع ذلك، هناك أيضاً نزعة تقليلية مضادة تنبع من الوسط. وقد عبّر عنها جيمس كارفيل، الذي نصح الديمقراطيين في شباط/فبراير بأن «ينقلبوا على ظهورهم ويدّعوا الموت» – وهم بارعون في ذلك كما يبدو – لأن إدارة ترامب سوف تنهار في خلال 30 يوماً. ويبدو أن كتلة مجلس الشيوخ الديمقراطية تضم من يشاطرونه هذا الرأي، إذ يعتبرون أن ترامب يدمّر نفسه بنفسه، ولا يشكل خروجاً حقيقياً عن السياسة المعتادة، بل مجرد مرحلة عابرة. يكفي في رأيهم أن يبقى الديمقراطيون في الظل ريثما يحين موعد الانتصار الكبير في انتخابات منتصف العام 2026.
ينقسم اليسار المتشدد في نظرته إلى ترامب إلى تيارين متناقضين. فريق أول احتفى به بوصفه مدمّراً جريئاً للنظام النيوليبرالي، ورفع من شأنه إلى مرتبة الشخصية التاريخية الكبرى، بل وصفه بودكاست «أوفهيبونغا بونغا» في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بـ«روح العالم التي تهبط على الدرج الذهبي». أما الفريق الثاني، فيضم من يرون في سياسات ترامب، من قمعه للنشاط الطلابي إلى مطاردة المهاجرين بلا أوراق، وصولاً إلى اعتداءاته على الحقوق المدنية، تهديداً طارئاً يتجاوز التحليلات المعتادة ويستدعي تدخلاً فورياً لا يحتمل التأجيل.
يرى كلا المعسكرين اليساريين المُغالين في ترامب فرصة متاحة لليسار. بالنسبة إلى الأول، تمثل التداعيات فرصة لالتقاط بعض شظايا السخط في النظام النيوليبرالي المنهار، ما يفتح احتمالاً لإعادة اصطفاف ما مع تمرّد الطبقة العاملة على الديمقراطيين. أما الثاني، فيعتبر المرحلة مناسبة لتشكيل جبهة شعبية عريضة ضد ترامب باسم نوع من مناهضة الفاشية، تتيح لليسار التأثير إلى جانب الحلفاء الليبراليين. هنا، مع ذلك، أود أن أطرح دفاعاً عن نزعة تقليلية يسارية، نقدية ومشروطة، مع التركيز اختصاراً، على عدد قليل من القضايا الرئيسة في الأشهر الأولى من ولاية ترامب.
هبات ضخمة للشركات والأثرياء ورموز فارغة تُقدّم للطبقة العاملة واقتطاعات قاسية تطال الفقراء، تُموّل بانفجار في الدين العام وتُغلّف بلغة الوطنية. ليس هذا تحوّلاً تاريخياً، بل هو النمط المتوقع لحكم الجمهوريين منذ أكثر من نصف قرن
نبدأ بالرسوم الجمركية. في ما سمّاه البعض «يوم التحرير»، بدا أن ترامب يشرع في تنفيذ عملية تفجير شاملة للنظام الاقتصادي العالمي، على نحو يخشاه كثر من المُغالين ويراه آخرون فرصة. لكن مع أول ارتباك في أسواق السندات، انقلبت سياسة ترامب: من محاولة إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي إلى مواجهة محدودة مع الصين، ثم ما لبث أن تراجع عن ذلك أيضاً. صحيح أن الرسوم العقابية على الصين لا تزال قائمة وقد تليها جولات أخرى، لكن ملامح التغيير البنيوي سرعان ما اختفت. أما في وول ستريت، فقد أطلق تعبير فايننشال تايمز الساخر «صفقة التاكو»، نسبة إلى النظرية القائلة إن «ترامب دائماً يتهرّب»، موجة صعود في الأسواق أعادتها إلى مستويات ما قبل الرسوم.
ثانياً: مشروع وزارة كفاءة الحكومة (DOGE). بعد إعلان إيلون ماسك رسمياً انسحابه منه، بات من الممكن تقييم أثره. بحسب بيانات نيويورك تايمز، طُرد أكثر من 58 ألف موظف فيدرالي، وهناك نحو 149 ألف وظيفة أخرى في طريقها للإلغاء، مع الإشارة إلى أن من قبلوا تعويضات المغادرة الطوعية قد يُحسبون بشكل مختلف. هذا يعني الاستغناء عن قرابة 7% من الجسم المدني الفيدرالي، الذي كان يضم 3 ملايين موظف. والمفارقة أن هذه النسبة – 7% – تُساوي تقريباً نسبة النمو التي سجلتها القوة العاملة الفيدرالية في سنوات ما بعد كوفيد، بين عامي 2019 و2023.
الذي يحدث الآن ليس مجرد عودة إلى نسخة ترامب الأولى. دمّر مشروع وزارة كفاءة الحكومة الوكالة الأميركية للتنمية تدميراً يكاد يكون غير قابل للعلاج القضائي، وأخمد تمويل العلوم الفيدرالية وترك خلفه درباً من الفوضى والشلل والمعاناة في قلب الإدارة المدنية. ومع ذلك، ينبغي أن نصغي جيداً لأصوات المؤيدين العقائديين لتقليص الحكومة، مثل جيسيكا ريدل من معهد مانهاتن، الذين كانوا واضحين منذ البداية في أن ما يحدث ليس إلا عرضاً سياسياً، لا محاولة حقيقية لإعادة تنظيم القوى العاملة الفيدرالية، ناهيك عن تقليص حجم الدولة. كان الإنجاز الأوضح لمشروع وزارة كفاءة الحكومة هو صدمة نفسية جماعية أصابت موظفي الدولة الليبراليين. وإن كان هناك هدف أصلي وراء هذا المشروع، غير إرضاء غرور أحد المانحين الكبار، فهو تمكين ترامب من توجيه ضربات إلى خصوم ضعفاء وإثارة غضب الديمقراطيين، ثم طمأنة قاعدته وتحالفه العقائدي: «لسنا بحاجة إلى تشريع هذه الاقتطاعات، بل لن نتمكن من ذلك، لأننا نُنفّذ مشروع وزارة كفاءة الحكومة بدلاً منها». فحتى لو بدت الأرقام متواضعة، فإن أثرها النفسي لا يُستهان به.
إن هذا الهجوم المباشر على الفقراء والمرضى ليس من صُنع الترامبية، بل هو امتداد لنزعة العداء الشرسة لبرامج الرعاية الاجتماعية التي تحكم جناح اليمين في الحزب الجمهوري منذ عهد نيوت غينغريتش
ثالثاً، الكونغرس. خاضع، صامت، يكاد يكون بائساً. ومع ذلك، فإن ما لم يفعله الكونغرس يحمل دلالة. عند المقارنة بالمئة يوم الأولى من ولايات فرانكلين روزفلت وريغان، وحتى أوباما في العام 2009، يكاد يكون نشاط الكونغرس معدوماً. وعلى الرغم من أن الجمهوريين يملكون ظاهرياً «ثلاثية الحكم» (الرئاسة ومجلس الشيوخ ومجلس النواب)، فإن هجوم ترامب الخاطف حصل تقريباً بالكامل عبر الأوامر التنفيذية يدل على ضعف لا قوة. أما «مشروع القانون الواحد، الكبير والجميل»، الذي تعثّر في عبوره مجلس النواب هذا الأسبوع، فربما يمثّل ذروة، إن لم يكن كامل أجندة ترامب التشريعية في ولايته الأولى. إنه خليط مشوّه لكنه مألوف جداً: هبات ضخمة للشركات والأثرياء ورموز فارغة تُقدّم للطبقة العاملة واقتطاعات قاسية تطال الفقراء، تُموّل بانفجار في الدين العام وتُغلّف بلغة الوطنية. ليس هذا تحوّلاً تاريخياً، بل هو النمط المتوقع لحكم الجمهوريين منذ أكثر من نصف قرن.
العنصر الأكبر في مشروع القانون، وبفارق كبير، هو ببساطة التمديد بقيمة 3.8 تريليون دولار لتخفيضات ترامب الضريبية للعام 2017، وهو بحد ذاته تعليق على افتقار الإدارة لأولويات جديدة ذات أهمية. أما البنود الأخرى، مثل الضريبة المفروضة على وقفيات جامعات النخبة «المتيقظة» في رابطة اللبلاب، فهي رمزية سياسياً أكثر مما هي تحوّلية مادياً. وأكثر ما في مشروع القانون قسوة، وهو تقليص تمويل برنامج «ميديكير» الذي قد يحرم ملايين الأشخاص من التغطية الصحية، قد يُلغى أو يُخفف في مجلس الشيوخ. ومع ذلك، فإن هذا الهجوم المباشر على الفقراء والمرضى ليس من صُنع الترامبية، بل هو امتداد لنزعة العداء الشرسة لبرامج الرعاية الاجتماعية التي تحكم جناح اليمين في الحزب الجمهوري منذ عهد نيوت غينغريتش. وإذا كان ثمّة إعادة اصطفاف أيديولوجي يُشار إليه في العام 2025، فلن يظهر إلا في حال تَمكّن تمرد داخل معسكر «اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً» من التصدي لتقليص «ميديكير».
وفي النهاية، لا بد من التوقف عند الانتخابات الخاصة التي جرت في نيسان/أبريل. فقد تحوّل الحزب الديمقراطي إلى حزب يحقّق المكاسب في جولات التصويت المحدودة: كلما كانت المشاركة أضعف، زادت حظوظه. وكان هناك توقّع بأن تنقلب المعادلة هذه المرة، لا سيما بعد ضخّ إيلون ماسك ملايين الدولارات في ويسكونسن، ما أثار الحديث عن موجة تأييد جماهيرية محتملة لما يقوم به ترامب. وبالفعل، شهد الجمهوريون ارتفاعاً في نسبة التصويت، لكن الديمقراطيين حققوا بدورهم ارتفاعاً مماثلاً، أدّى إلى تقليص هوامش تفوّق ترامب إلى النصف تقريباً حتى في معاقل تقليدية مثل فلوريدا. ولهذا السبب، يبدو أن تشاك شومر والتيار المعتدل في مجلس الشيوخ كانوا على صواب: قواعد اللعبة السياسية لم تتغير كثيراً منذ 2018 و2022. أما أسواق المراهنات فتشير إلى احتمال بنسبة 80% بأن يستعيد الديمقراطيون السيطرة على مجلس النواب في العام 2026.
تذكّرتُ في أثناء تأملي في ظاهرة ترامب، فيلم الطريق المفقود لديفيد لينش (1997). يبدأ الفيلم بموسيقي جاز يعيش في نسخة معقّمة وعصرية جداً من كاليفورنيا. يفتقر إلى صلة عميقة مع زوجته ولا يستطيع الأداء الجنسي. أجواء الفيلم ثقيلة وإيقاعه بطيء جداً. إنه سلسلة خانقة من المشاهد البطيئة التي يعجز فيها البطل عن تجاوز انسداد داخلي. وفي منتصف الفيلم، وضمن السريالية المعهودة لدى لينش، يتحول فجأة إلى شخصية أخرى: ميكانيكي سيارات شاب، يُلقى به في حبكة نويرية تقليدية، تتضمّن مثلث حب. زوجته تعود إلى الحياة كامرأة قاتلة، تحبه بجنون. لا يجد أي صعوبة في إرضائها، لكنه يلاحَق من رجل عصابات متوحش وفوضوي وشرس، يهدده في كل لحظة.
صحيح أن الطابع الوحشي للترامبية نجح في إحياء بعض مراكز الوسط الخاملة في كندا وأستراليا وفتح نوافذ سياسية معينة، لكن اغتنام هذه اللحظة يتطلب منا أولاً الاعتراف بحالة الانحسار العميق التي تعيشها الذات اليسارية
يرى سلافوي جيجيك، في كتابه عن الفيلم، أن التحوّل الذي يشهده البطل هو شكل من أشكال الإزاحة النفسية: إذ يتحوّل القلق الداخلي والشلل الذاتي لموسيقي الجاز إلى شخصية رجل عصابات خارجي شرس، يجسّد كل ما يعجز عنه البطل. وهذا هو الدور الذي يؤديه ترامب اليوم في وعي كثيرين، سواء في الأوساط الليبرالية أو لدى بعض المُغالين في اليسار: فهو رمز للفعل والقوة والحركة والانفعال، بل وحتى نداء للتمرّد ضد الفاشية، أو على الأقل إشارة لانهيار الليبرالية. غير أن هذه القراءة قد تكون مجرد طريقة مريحة لإسقاط مأزق داخلي عميق: الفجوة المعنوية والمزمنة بين اليسار التاريخي والطبقة العاملة التي ادّعى تمثيلها. هذه هي القصة الأعمق التي تحكم السياسة في أميركا والعالم المتقدم منذ السبعينيات، مأساة طويلة ومظلمة لا يحتلّ فيها ترامب مركز البطولة. صحيح أن الطابع الوحشي للترامبية نجح في إحياء بعض مراكز الوسط الخاملة في كندا وأستراليا وفتح نوافذ سياسية معينة، لكن اغتنام هذه اللحظة يتطلب منا أولاً الاعتراف بحالة الانحسار العميق التي تعيشها الذات اليسارية ذاتها.
نُشِر هذا المقال في New Left Review في 23 أيار/مايو 2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.