معاينة trump administration

الرسوم الجمركية الترامبية وقيود رأس المال

في 2 نيسان/أبريل 2025، أعلن الرئيس دونالد ترامب حالة الطوارئ الوطنية استناداً إلى أحكام قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية. يُخوِّل هذا القانون رئيس الولايات المتحدة صلاحية التصرف الأحادي لمواجهة تهديد غير عادي واستثنائي يمسّ الأمن القومي أو السياسة الخارجية أو الاقتصاد، شرط أن يكون مصدر هذا التهديد من خارج الأراضي الأميركية. وقد حدّد الرئيس ترامب هذا التهديد الاستثنائي بـ«العجز التجاري الأميركي الضخم والمستمر»، والبالغ في العام 2024 918.4 مليار دولار في السلع والخدمات. وادّعى أنّ الدول الأخرى «تحتال» في التجارة الدولية، وقد «نهبت الولايات المتحدة نهباً»، في ظل نظام تجاري عالمي أُرسِيَ أساسُه في ظلّ قيادة سياسية وهيمنة اقتصادية أميركية.

استجاب الرئيس ترامب لحالة الطوارئ الوطنية المزعومة هذه بفرض رسوم جمركية أساسية بنسبة 10% على الواردات القادمة من معظم دول العالم. وقد طالت أشدّ الرسوم الجمركية دولاً في آسيا، وعلى رأسها الصين (بنسبة 54%)، تلتها فيتنام (45%)، لاوس (48%)، سريلانكا (44%)، بنغلادش (37%)، كمبوديا (49%)، وتايلاند (36%). أما الاتحاد الأوروبي، فقد فُرضت عليه رسوم موحدة بنسبة 20%. في حين خضعت كلّ من المكسيك وكندا لرسوم جمركية خاصة بلغت 25% على السيارات وقطع الغيار والصلب والألمنيوم، بدعوى عدم التزامها باتفاق التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA)، المعروف سابقاً باتفاق نافتا.

وهدف ترامب الطموح ليس أقل من السعي إلى تقويض النظام الاقتصادي والتجاري العالمي برمّته، ذلك النظام الذي عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب على تحريره بعناية وبصورة منهجية ـ بل وأمركته ـ منذ اتفاقية «الغات» المبرمة بين 23 دولة في العام 1948، وصولاً إلى تأسيس منظمة التجارة العالمية في العام 1995 بأعضائها الـ 166.

هدف ترامب الطموح ليس أقل من السعي إلى تقويض النظام الاقتصادي والتجاري العالمي برمّته

لقد صُمّم النظام الرأسمالي العالمي المصاغ بعد الحرب العالمية الثانية ليخدم، في جوهره، رأس المال الأميركي بالدرجة الأولى، ثم رأس المال في الدول الغربية الرأسمالية الأخرى التي جرى دمج اقتصاداتها تدريجيّاً في هذا النظام، بدءاً من الجولة الأولى لاتفاقية الغات في العام 1948. ولو صحّت مزاعم ترامب بشأن تعرض الولايات المتحدة للاحتيال الاقتصادي، لكان من العسير على منظّر ماركسي للدولة أن يفسّر كيف لدولة رأسمالية ظاهريّاً أن تسيء تمثيل الطبقة الحاكمة فيها إلى هذا الحد، وعلى امتداد عقود طويلة. لا شكّ في أنّ النخب الحاكمة تخطئ الحساب أحياناً ـ فهي ليست بكلّية العلم ـ غير أنّ الماركسيين لطالما أشاروا إلى وجود آليات بنيوية قد تُفعّل لتُقوِّم أداء الدولة وتُلزمها بخط السياسات المقبول لدى القوى المهيمنة من الطبقة الرأسمالية.

تُفعَّل هذه الآليات البنيوية عادةً لضبط الحكومات العمّالية والديمقراطية الاجتماعية وتيارات اليسار الشعبوي، لذا كان من اللافت أن تُستَنهَض تلك الآليات فوراً عقب إعلان ترامب فرض الرسوم الجمركية.

في الواقع، تُفضي نظرية الدولة الماركسية إلى استنتاج مفاده أنّ ترامب هو من أساء تقدير مصالح الطبقة الرأسمالية وحاجاتها. فحين تدخّلت الكتلة المهيمنة من رأس المال المالي العالمي وأبدت موقفها من سياسات ترامب التجارية، اضطرّ إلى إعلان وقف مؤقّت مدّته 90 يوماً لمعظم رسومه الجمركية. وفي يوم الثلاثاء، 22 نيسان/أبريل، بدا أنّ ترامب قد تراجع خطوة أخرى، إذ أعلن أنّ الرسوم الجمركية المفروضة على الصين (آنذاك 145%) «ستنخفض انخفاضاً كبيراً». كما يبدو أنّ التقلّبات المستمرة في الأسواق المالية دفعته إلى التراجع عن تهديده بعزل جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي.

بعبارة أخرى، لقد أدت منظومة القيود الرأسمالية البنيوية وظيفتها مثلما يتوقعها الماركسي.

قيود بنيوية على الدولة الرأسمالية

حدّد منظّرو الدولة الماركسيون 3 آليات تقييد رئيسة تتفعّل كلّما سعت دولة رأسمالية إلى انتهاج سياسات تُعدّ غير مقبولة لدى الفئات المهيمنة من الطبقة الرأسمالية ـ وهي اليوم رأس المال المالي العالمي.

أولاً، تعتمد مالية الدولة على قدرتها على تحصيل الإيرادات من الضرائب على القطاع الخاص، وتُعدّ ضرائب الدخل الفردي، وضرائب الشركات، وضرائب الأجور من أهم مصادر الدخل في الولايات المتحدة. وحين يتباطأ الاقتصاد أو يدخل في حالة ركود، تواجه الدولة صعوبات في توليد الإيرادات الكافية لتمويل مؤسساتها وتلبية حاجات مواطنيها، وذلك نتيجة لانخفاض الأرباح، وجمود الأجور، وارتفاع معدّلات البطالة.

ثانياً، تعتمد جميع الدول الرأسمالية الحديثة على الاقتراض قصير الأمد لسدّ الفجوة بين نفقاتها التشغيلية الجارية وما تجمعه من ضرائب، في حين أصبح التمويل بالعجز طويل الأمد جزءاً ثابتاً من بنية الموازنات العامة. وقد أفضى تراكم الديون السيادية المتزايدة، وهذه تُقاس عادةً بنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، إلى تكوين ما يشبه «سلسلة ذهبية» تربط الدولة برأس المال؛ إذ لا يمكن لأي حكومة معاصرة أن تواصل عملها من دون إصدار سندات خزانة طويلة الأجل وأدوات دين أخرى، تضمنها وتشتريها المصارف الاستثمارية الكبرى والمؤسسات المالية الضخمة.

وسندات الخزانة الأميركية، وغيرها من الأوراق المالية الحكومية، أصولٌ «آمنة» منخفضة المخاطر، يحرص المستثمرون حول العالم على اقتنائها، نظراً للقدرة الضريبية الهائلة للحكومة الأميركية، وتصنيفها الائتماني الممتاز (AAA) الممنوح من وكالة موديز لخدمات المستثمرين. غير أنّه في عصر ما يُعرف بالأمولة وتحرير الأنظمة المصرفية، لم تعد المؤسسات المالية الكبرى تقتصر على شراء هذه السندات أو بيعها أو الاحتفاظ بها، بل باتت تمارس أنشطة معقّدة وعالية المخاطر تديرها صناديق التحوّط. تقترض صناديق التحوّط مبالغ طائلة للاستفادة من فروقات طفيفة بين السعر الحالي لسندات الخزانة والعقود الآجلة المرتبطة بها، لتعتصر نسبة أرباح ضئيلة لكنها كبيرة الحجم. ويعتمد هذا النوع من المناورة على الاستقرار النسبي في أسعار السندات وقيمة الدولار.

إذا بدأت أسعار هذه الأوراق المالية بالانخفاض، فقد تبادر البنوك المُقرِضة إلى تنفيذ ما يُعرف بطلب تغطية الهامش، فتطالب صناديق التحوّط بتقديم سيولة نقدية إضافية لضمان تغطية الخسائر المحتملة في عمليات التداول. وفي أسوأ الأحوال ـ كما حدث في العام 1929 ـ تسفر هذه الطلبات عن موجة بيع، فتتراجع أسعار السندات أكثر، فيتبعها مزيد من طلبات تغطية الهامش، وتبدأ ما يسمّيه المستثمرون «حلقة هلاك» (doom loop)، تُشعِل أزمة مالية وتُبخِّر السيولة من أسواق رأس المال. وهكذا، فإنّ الانخفاض السريع في قيمة سندات الخزانة الأميركية قد يشعل فتيل سلسلة من أزمات العجز عن السداد وأزمات السيولة، تُنذر بتصعيد قد يزعزع أركان النظام المالي العالمي بأسره، كما جرى بالفعل في الأزمة الممتدة بين العامين 2008 و2010.

وعلاوة على ذلك، حين تنخفض قيمة السندات الأميركية وسائر أدوات الخزانة ترتفع أسعار الفائدة، بمعنى أنّ أي زعزعة كبيرة في أسواق الأوراق المالية قد تُهدّد الاستقرار المالي للحكومة الأميركية نفسها. ففي هذه الحالة، قد تجد الحكومة صعوبة متزايدة في إيجاد مشترين لسنداتها؛ وإن وَجدَت، فقد لا يقبلون بها إلا بفوائد أعلى بكثير، ما يؤدي إلى تضخّم مدفوعات الفائدة، وابتلاعها حصة متزايدة من موازنة الحكومة الفيدرالية.

ولتقريب هذه الفكرة النظرية إلى الواقع، يكفي أن ندرك أنّ ارتفاعاً طفيفاً في أسعار الفائدة قد يترتب عليه أكلاف إضافية تُقدَّر بمليارات الدولارات يدفعها دافعو الضرائب الأميركيين على شكل مدفوعات فوائد. في العام 2024، بلغ إجمالي الإنفاق الفيدرالي الأميركي 6.75 تريليون دولار، ذهب منها 892 مليار دولار - أي 13.2% - لسداد الفوائد على الدين الوطني القائم. وقد اقترضت الحكومة الأميركية في العام نفسه قرابة تريليوني دولار، استُخدم معظمها لتغطية العجز السنوي في الموازنة الذي بلغ 1.8 تريليون دولار. وهذا يعني أنّ قرابة 27% من الإنفاق الفيدرالي السنوي يُمَوَل عبر الاستدانة.

قد يتسبب النقص في توافر الائتمان بشلل شبه تام في قدرة الحكومة الأميركية على الوفاء بالتزاماتها، والعجز عن سداد مدفوعات السندات، وتراجع تصنيفها الائتماني، أو قد تُجبَر الحكومة على تقليص إنفاقها الفيدرالي تقليصاً كارثياً

قد يتسبب النقص في توافر الائتمان بشلل شبه تام في قدرة الحكومة الأميركية على الوفاء بالتزاماتها، والعجز عن سداد مدفوعات السندات، وتراجع تصنيفها الائتماني، أو قد تُجبَر الحكومة على تقليص إنفاقها الفيدرالي تقليصاً كارثياً، يُضاهي ما اقترحه إيلون ماسك في مشروعه لوزارة كفاءة الحكومة، ذلك الاقتراح الذي بقي حبراً على ورق ولم يُنفّذ. ومن اللافت في هذا السياق أنّ وكالة موديز كانت قد أصدرت، في وقت مبكر يعود إلى 25 آذار/مارس 2025 - أي قبل أسبوع من إعلان ترامب الرسمي الرسوم الجمركية - تحذيراً من «الأثر الائتماني السلبي المحتمل نتيجة استمرار الرسوم الجمركية المرتفعة».

تبلغ قيمة الدين الوطني الأميركي في الوقت الراهن 35.5 تريليون دولار، ما يضع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي عند نحو 123%. وهذه نسبة كانت، في عقود سابقة، تستدعي التقريع من رؤساء الولايات المتحدة ووزراء خزانتها، حين تسجلها دول نامية، أو حتى حلفاء من أعضاء الناتو أقل ثراءً، كاليونان وإيطاليا. والجدير بالذكر أنّ المستثمرين الأجانب، بمن فيهم الحكومات الأجنبية، يملكون نحو 30% من إجمالي الدين السيادي الأميركي، وهو ما يجعل الحكومة الأميركية تعتمد بشدة على ثقة هؤلاء المستثمرين وحسن ظنهم. وتُعدّ كلّ من اليابان والصين - في الوقت الراهن - أكبر مشتري سندات الخزانة الأميركية وحائزيها.

ثالثاً، لمّا كانت الدولة الرأسمالية تعتمد في مواردها على ثقة أصحاب الأعمال والمستثمرين لتحصيل الضرائب والاقتراض، فإنّها - في الديمقراطيات الليبرالية كالولايات المتحدة - تعتمد أيضاً على ثقة المواطنين في شرعيتها السياسية. فالدولة الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية تستمد شرعيتها، أو دعم الجماهير لنظامها، إلى حدّ بعيد من أدائها الاقتصادي. ذلك أنّ المواطن يرى في الدولة المسؤول الأول عن رخائه أو ضيقه، ويحاسبها على نتائج سياساتها الاقتصادية، ويعزز الساسة هذا الاعتقاد على الرغم من أنّ القرارات الفعلية المتعلقة بالاستثمار وتوفير فرص العمل يتخذها الرأسماليون.

لذلك، فإنّ دعم المواطنين للنظام الحاكم يتراجع عادةً في أوقات التراجع الاقتصادي، وفي الدول الليبرالية الديمقراطية يعني ذلك أنّ الحزب الحاكم مُرجّح أن يُطاح به في الانتخابات المقبلة بسبب ضعف الأداء الاقتصادي. والمفارقة أنّ سهولة تغيير الأحزاب الحاكمة في الديمقراطيات تجعل هذه الدول أكثر تجاوباً مع تراجع ثقة المستثمرين مقارنةً بالدول غير الديمقراطية. ولهذا السبب وصف فلاديمير لينين الدولة الديمقراطية بأنّها «أفضل غلاف ممكن للرأسمالية».

يكمن مفتاح عمل الآليات البنيوية الثلاث - الاعتماد المالي، والاعتماد على الائتمان، والشرعية السياسية - في أنّ الاقتصاد الرأسمالي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لا على الملكية العامة. أي أنّ الدولة، وإنْ كانت تعتمد في إيراداتها على الاقتصاد الخاص، ويُحاسبها المواطنون على أدائه، فإنّ القرار الفعلي في مسائل الاستثمار وتوفير فرص العمل وتحديد الأجور لا يصدر عنها، بل عن الرأسماليين. وهؤلاء لا يُقدِمون على الاستثمار إلا إذا توفّر لهم ضمان كافٍ لرؤوس أموالهم من الناحية المادية والقانونية، وتوفّر ربح معقول من استثماراتهم.

لذا، ينبغي لسياسات الدولة أن توفّر ما يُعرف بـ«بيئة أعمال ملائمة» لتحفيز رأس المال الخاص على الاستثمار، كما يتعيّن عليها أن تحافظ على ثقة المستثمرين على المدى الطويل لضمان استمرارية النمو الاقتصادي. فإنْ بدت السياسات الحكومية مهدِّدة لتلك الثقة، فإنّ الرأسماليين يعزفون عن الاستثمار ضمن تلك المنطقة السياسية، ويميلون إلى نقل رؤوس أموالهم إلى اقتصادات أخرى يثقون، سياسيّاً واقتصاديّاً، بها وبسياساتها.

بهذه الطريقة، يعمل السوق الحرّ كآلية تلقائية لمعاقبة السياسات الحكومية غير المواتية، فتظهر العقوبة في صورة تراجع الاستثمارات وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الإيرادات العامة وتدهور التصنيف الائتماني وارتفاع أسعار الفائدة وتدنّي مستويات المعيشة على المدى الطويل. ولمّا كانت الدول الرأسمالية تميل إلى تمويل عجزها في أثناء فترات الركود، فإنّ انعدام الثقة من جانب مجتمع الأعمال يقيّد قدرة الدولة على اعتماد سياسات ضريبية أو إنفاقية توسعية، بسبب تردد المستثمرين في تمويل الدين العام. والمفارقة أنّ هذه العقوبات لا تحتاج إلى تنسيق مسبق بين الرأسماليين، بل تقع تلقائياً، لمجرد أن يُجمع الأفراد من أصحاب المال على أنّ الاستثمار في بيئة مضطربة وغير مواتية لم يعد خياراً حكيماً أو مربحاً.

ماذا حدث في 2 نيسان/أبريل 2025؟

العنصر المشترك في الآليات البنيوية الثلاث التي تضبط سلوك الدول الرأسمالية وتعاقبها، هو التهديد الضمني بما يُعرف بالإضراب عن الاستثمار من الفئات المهيمنة من الطبقة الرأسمالية. وقد فُعّلت هذه الآليات بالفعل في اللحظات الأولى من إعلان ترامب فرض الرسوم الجمركية، وما لبث أن ظهر أثرها بصورة درامية في خلال أسبوع واحد، حتى اضطرّ ترامب إلى إعلان تجميد مؤقّت لمدة 90 يوماً لمعظم الرسوم الجمركية التي فرضها.

سهولة تغيير الأحزاب الحاكمة في الديمقراطيات تجعل هذه الدول أكثر تجاوباً مع تراجع ثقة المستثمرين مقارنةً بالدول غير الديمقراطية. ولهذا السبب وصف فلاديمير لينين الدولة الديمقراطية بأنّها «أفضل غلاف ممكن للرأسمالية»

أولاً، تبخّر أكثر من 6 تريليونات دولار من قيمة سوق الأسهم الأميركية خلال يومين فقط عقب إعلان الرسوم الجمركية، وبدأت ردّة الفعل السلبية في غضون ثوانٍ من صدور الإعلان. وفي اليوم التالي، امتدّ الأثر إلى الأسواق الآسيوية والأوروبية، فأصابها الاضطراب ذاته. تراجعت ثروات المليارديرات بمليارات الدولارات في خلال ساعات معدودة، فيما شاهد المتقاعدون والعمال مدّخراتهم التقاعدية الهزيلة وهي تتلاشى أمام أعينهم؛ لقد كان المال يتبخّر في الهواء.

تبخّر أكثر من 6 تريليونات دولار من قيمة سوق الأسهم الأميركية خلال يومين فقط عقب إعلان الرسوم الجمركية، وبدأت ردّة الفعل السلبية في غضون ثوانٍ من صدور الإعلان

ثانياً، سارع بنك جي بي مورغان تشيس، أكبر المصارف الأميركية من حيث الأصول، إلى رفع تقديراته لاحتمال وقوع ركود اقتصادي في خلال الأشهر الستة المقبلة إلى 60%، فيما صرّح رئيسه التنفيذي، جيمي ديمون، عبر شبكة فوكس بيزنس، بأنّ الركود هو «النتيجة الأرجح» لسياسات ترامب الجمركية. أما صندوق النقد الدولي، فحذّر من أنّ حرب ترامب التجارية قد تشعل أزمة مالية عالمية شاملة.

انقلب عدد من أصحاب المليارات ومديري صناديق التحوّط الذين كانوا من أشدّ أنصار ترامب علناً، عليه إثر إعلانه الرسوم الجمركية. ويُروى أنّ «الصديق الأول» إيلون ماسك توجّه إلى ترامب بمناشدات شخصية عدة للتراجع عن خطته أو التخفيف منها، ودعا علناً إلى إلغاء الرسوم الجمركية بالكامل واعتماد نسبة 0% على مستوى العالم. أما بيل أكمان، مدير صندوق التحوّط الملياردير والرئيس التنفيذي لشركة بيرشنغ سكوير كابيتال مانجمنت، فقد صرّح بأنّ رسوم ترامب «ستؤدي إلى اضطراب اقتصادي عالمي كبير». بينما أعرب راي داليو، كبير مسؤولي الاستثمار في صندوق التحوّط بريدج ووتر أسوشيتس، في لقاء له عبر برنامج «Meet the Press»، عن مخاوفه لا من ركود اقتصادي فحسب، بل من «شيء أسوأ». ولفت داليو إلى أنّ القيمة النقدية - ولا سيما قيمة الدولار الأميركي – كانت الأصل الوحيد بيدهم، وأنّ أي انخفاض في هذه القيمة يُعدّ خسارة مباشرة لهم.

ثالثاً، سرعت التوقّعات المتزايدة بتباطؤ النمو الاقتصادي في هبوط أسعار النفط، وهو أمر كان متعمَّداً في صلب الأجندة الاقتصادية الشعبوية لترامب. غير أنّ بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس أصدر تقريره الفصلي المعروف بـ«الكتاب البيج»، ونقل فيه موقف قطاع النفط الرافض لأسعار تقلّ عن 60 دولاراً للبرميل، وأنّ سعر 57.61 دولاراً في 8 نيسان/أبريل سيؤدّي إلى إضراب رأسمالي في القطاع، يتجلّى في إطفاء الحفّارات، وتسريح العمّال، وتقليص الاستثمارات المستقبلية في التنقيب والإنتاج. وقد حذّرَ أحد المديرين التنفيذيين في صناعة النفط بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، من أنّ «شعار: احفر، يا عزيزي، احفر، لا ينفع مع نفط يُباع بسعر 50 دولاراً للبرميل. فالحفّارات ستتوقف، والتوظيف في القطاع سينكمش، وإنتاج النفط الأميركي سينخفض كما حدث في أيان كوفيد-19».

رابعاً، أصدر مختبر الموازنة في ييل نموذجاً محدثاً لأداء الاقتصاد الأميركي، وبيّن أنّ الناتج المحلي الحقيقي سيتقلّص بمقدار 0.9% عن المتوقع في العام 2025 بسبب الرسوم الجمركية، وسيسجل انخفاضاً إضافياً يتراوح بين 0.4% و0.6% في السنوات التالية مقارنة بما لو لم تكن هذه الرسوم. وأشار النموذج ذاته إلى أنّ الرسوم ستضخّم الأسعار الأميركية بنسبة 2.3% إضافية، ما يسلب الأسرة المتوسطة قدرة شراء قيمتها 3800 دولار، وأفاد التقرير أنّ الرسوم الجمركية تشكّل ضريبة تنازلية تضع مزيداً من الأعباء على كاهل الطبقة العاملة والفقراء.

أكد نموذج ييل ما كان المواطنون يدركونه بالفعل حسبما يقيسه مؤشر جامعة ميشيغان لشعور المستهلك، إذ سجّل المؤشر 50.8، متدنّياً عن عتبة 60 التي تدلّ عادةً على انزلاق الاقتصاد نحو الركود، بينما قفزت توقعات المستهلكين للتضخم خلال عامٍ مقبل إلى 6.7%، مسجلةً أعلى مستوى منذ العام 1981، آخر سنوات التضخم الركودي.

كشفَ استطلاع أجرته شبكة سي بي إس نيوز، صادر في 13 نيسان/أبريل من العام 2025، تراجعَ نسبة تأييد ترامب بعد إعلان الرسوم الجمركية، إذ انحدرت نسبةُ مؤيّديه من 53% في شباط/فبراير إلى 47% في نيسان/أبريل، ولم يؤيد إدارته للاقتصاد سوى 44%، فيما لم يؤيد فرضَه للرسوم الجمركية سوى 37%. وأسفر ذلك عن تدفُّق هائلٍ من المكالمات الهاتفية من كبار أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، يطالبونه فيها بالتراجع عن رسومه، محذرين من أنّها ستطيح بالحزب الجمهوري في كارثة انتخابية بمعركة منتصف المدة للعام 2026. وبدت شرعيةُ نظامه تتآكلُ بوتيرةٍ متسارعة.

فوضى في سوق السندات

اتفق معظم المراقبين على أنّ القشة التي قصمت ظهر البعير كانت سلوك سوق الأوراق المالية الحكومية الشاذ، إذ بدأت سوق سندات الخزانة البالغة قيمتها 29 تريليون دولار في التصفية فور إعلان ترامب الرسوم الجمركية، ومن المحتمل أنّ هذا التراجع الحاد في السوق دفع ترامب في نهاية المطاف إلى إعلان تعليق الرسوم لمدة 90 يوماً.

بات الدولار الأميركي في ظل اتفاقية بريتون وودز العملة الاحتياطية العالمية. وتحتفظ به المصارف المركزية في شتّى دول العالم، ويفضله غالب المتعاملين في معظم المعاملات الاقتصادية الدولية؛ ومن أساليب تكديس الدولارات شراء سندات الخزانة الأميركية. وعقب إعلان الرسوم الجمركية، ترددت أنباء عدة عن قيام المستثمرين ببيع الدولار الأميركي وسندات الخزانة، وهما عادةً ملاذ آمن في أوقات الاضطراب الاقتصادي وتقلب الأسواق المالية. وكان من المفترض أن ترتفع أسعار تلك الأوراق وينخفض معدل الفائدة، لكن سوق السندات الأميركية بدا أداؤه «شاذّاً»، إذ قفز عائد سندات الثلاثين عاماً من 4.4% إلى 5%.

وبالمثل، سجّل سند الخزانة الأميركية لأجل عشرة أعوام، بحلول 10 نيسان/أبريل، أكبر ارتفاعٍ أسبوعي له منذ أكثر من عقدين، ونشط التداول عليه بما فاق المعتاد بكثير. ويرتبط هذا السند ارتباطاً مباشراً بقروض المنازل العقارية، فتنعكس زيادات عائده مباشرةً بغلاء القروض العقارية على المستهلكين. وقد يتسبب ذلك في تقلّص عمليات شراء المنازل، وهبوط قيمتها، وتباطؤ الإنشاء العقاري، ما يعجل حلقة الهلاك في سوق الإسكان.

كانت نسبة الدولار الأميركي من احتياطيات العملات الأجنبية العالمية أكثر من 70% في العام 2000، قبل أن تتراجع نسبته إلى أقل من 60% بحلول العام 2024

فقد الدولار الأميركي نحو 10% من قيمتهِ منذ يوم تنصيب ترامب، وكان نصف هذا الهبوط قد حدث في خلال الأسبوع التالي لإعلان الرسوم الجمركية. وتراجع الدولار جزءٌ من أجندة ترامب الاقتصادية الشعبوية، إذ استهدف جعل الصادرات الأميركية أرخص في الأسواق الدولية لزيادة الصادرات إلى الدول الأخرى. وبحلول 11 نيسان/أبريل، لامس مؤشر الدولار الأميركي (الذي يقيس قيمته أمام سلة من العملات) أدنى مستوى له في 3 أعوام.

لذا تنبأ بعض المحللين بأنّ حماقات ترامب قد تُسرّع من عمليّة التخلص من الدولار في الأسواق العالمية، بفقدان المستثمرين الدوليين ثقتهم بالدولة الأميركية والرأسمالية الأميركية. على سبيل المثال، حذّر «دويتشه بنك» الألماني من تراجع جاذبية الدولار كعملة احتياطية، ومن أنّ «السوق فقدت الثقة في الأصول الأميركية». كما أصدرت «يو بي إس» السويسرية بياناً جاء فيه أنّ «الولايات المتحدة تبدو كأنّها تنفصل عن العالم… وأنّ عصر التجارة الحرة يُستبدَل الآن بشيء جديد».

زعم بنك غولدمان ساكس أنّ حرب ترامب التجارية «مهّدت لقيام نظامٍ تجاريّ عالميّ جديد»، وهو تماماً ما كانت تنشده إدارته. كانت نسبة الدولار الأميركي من احتياطيات العملات الأجنبية العالمية أكثر من 70% في العام 2000، قبل أن تتراجع نسبته إلى أقل من 60% بحلول العام 2024، وقد شغل اليورو الجزء الأكبر من هذه الفجوة.

ظلت الآليات البنيوية للنظام الرأسمالي تفعل فعلها كما توقع الماركسيون. ومهما جرت تطوراتٌ في خلال التسعين يوماً القادمة حول رسوم ترامب الجمركية، فلن تنكسر عجلة العولمة بسبب الولايات المتحدة، وستظلّ منظمة التجارة العالمية ونظام الاتفاقيات التجارية المتعددة الأطراف تدير الاقتصاد العالمي، سواء أبدت واشنطن مشاركتها أو أعلنت انسحابها. بل بالغ ترامب في تقدير قدرات بلاده على إجبار العالم على إرادتها الاقتصادية، حتى إنّ حصة الناتج المحلي الأميركي من الناتج العالمي تراجعت من 40% في العام 1960 إلى 26% في العام 2023، نتيجة نمو اقتصادات الصين ومعظم دول العالم بوتيرة أسرع على مدار عقود.

قد يشهد المستقبل تواصل انحدار ثقة العالم بالولايات المتحدة كقوة هيمنة اقتصادية وسياسية وعسكرية. ويعزى هذا الانحدار، إنْ حدث، ليس إلى ترامب وحده، بل إلى أن الناخب الأميركي أعاده مرتين إلى رئاسة الدولة بفضل نظام دستوري متقادم يبالغ في تمثيل المناطق الريفية والمتخلّفة صناعياً. يشكّل هذا الخلل البنيوي في الديمقراطية الليبرالية الأميركية تهديداً دائماً بظهور ترامب جديد في الأفق - حلقة هلاك سياسية، إن جاز التعبير.

نُشِر هذا المقال في Jacobin في 23 نيسان/أبريل 2025.