القراءة السياسيّة للاقتصاد:
سلطة المال وسلطة السياسة

في أساس الفكرة الليبرالية في الاقتصاد أن العقلانية، أي الأنانية، تعني اتخاذ القرارات بناءً على الاعتبارات الاقتصادية الصرف، حيث يتصرّف الفرد حسب مصلحته الفردية وتتولّى السوق الباقي. في صيغتها الجديدة، تتطوّر الفكرة لتؤكّد ضرورة الفصل الكامل للسياسة عن الاقتصاد والسوق عن الدولة. وقد نتجت عنها منوّعات مختلفة في التطبيق، فتارة السياسة/السلطة/الدولة تخنق الاقتصاد، أي القطاع الخاص، وتُعرقل عمل آليّات السوق والمنافسة الحرّة… وتارة أخرى تسيطر المصالح الخاصّة على الدولة، بما هي «المجال العام». وكلاهما من فكر ما بعد الحرب الباردة. ومن منوّعات «الاستيلاء» أو «السيطرة» (Capture) «سيطرة النخب» السياسيّة (Elite Capture)، أي استيلائها على الاقتصاد ومؤسّساته؛ تصارعها مقولة (State Capture)، أي «الاستيلاء على الدولة»، بما هي المجال العام، من قبل شبكات المصالح الخاصّة، وهي هنا مصالح اقتصادية. 

المفارقة في الدعوة لتلك الأفكار النيوليبرالية هي أن دعاتها والمروّجين لها يمارسون هوساً كاملاً بالسلطة والسلطان كما سنرى فيما يلي.

تنتمي «رأسمالية المحاسيب»، أو «انتفاع الأقربين» (Cronyism/Crony Capitalism)، إلى مقولات الفئة الأولى، وهي تعني تحصيل الربح لا من خلال السوق، وإنّما من خلال الاستعانة بنفوذ ذوي السلطة السياسية، بما يميّز بين رجال أعمال ورجال أعمال بالضدّ من قوانين المنافسة. هكذا ينتفع ذوو الصلة بالسلطة السياسية بأفضليات في عقود الدولة والتزاماتها ومشاريعها الاستثمارية وتقديماتها وبالإعفاءات والتسهيلات الضريبية وغيرها. 

تستخدم عشرات الصفات والنعوت التي تلحق بالرأسمالية، والرأسماليين، لتنزيهها عن سلبيّاتها والتناقضات، على اعتبارها جميعاً ليست هي «الرأسمالية» الصافية بأل التعريفولا يختلف «انتفاع الأقربين» كثيراً عن مقولة الفساد، بل قل هو منوّع من منوّعاتها. وهو يعتبر طبعاً شواذاً في الرأسمالية لأنه يخرق التنافسية في السوق. حتى أن بعض الاقتصاديين ينفي عنه صفة الرأسمالية. وفي حالتيْ الشواذ والنفي، تستخدم عشرات الصفات والنعوت التي تلحق بالرأسمالية، والرأسماليين، لتنزيهها عن سلبيّاتها والتناقضات، على اعتبارها جميعاً ليست هي «الرأسمالية» الصافية بأل التعريف. 

من الدراسات حول هذا الموضوع دراسة للجامعي جاد شعبان ذات عنوان مُعبّر «I’ve got the power»، ما يمكن ترجمته إلى العربية «الإمرة لي» أو «أنا السلطة: مسح الصلات بين القطاع المصرفي اللبناني والطبقة الحاكمة» (2016 و2019). 1

خلاصة أطروحة شعبان أن 18 من أصل 20 مصرفاً من كبار المصارف في لبنان تضمّ مساهمين ومدراء ينتمون إلى «عائلات سياسية»، أو هم على صلة بالنخب السياسية ومقرّبين منها. ويسيطر هؤلاء على 43% من أصول تلك المصارف وتسيطر ثماني «عائلات سياسية» على 32% من الأصول أي على 7,3 مليارات دولار (حسب أرقام العام 2014). ويعمل الباحث على إثبات أن التواطؤ بين السياسيين والمصرفيين «يجد تعبيره في بنية ملكية المصارف». أي أن الإمرة والسلطة تتحوّل إلى ملكية. 

شكّلت الدراسة مرجعاً، في الخارج خصوصاً، عن الفساد والمحسوبية السياسية والعلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية في لبنان، كما في تفسير مسؤولية «الطبقة السياسية» عن الأزمة المالية الراهنة. ها هو موظّفٌ كبير في مؤسّسة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتّحدة في جنيف، يستشهد بالدراسة نفسها في خلال زيارة رسمية للبنان في كانون الأول/ ديسمبر 2022، ويتّهم فيها السياسيين بجرائم ضدّ حقوق الإنسان بسبب سيطرتهم على الاقتصاد من خلال سيطرتهم على 43% من أصول المصارف.

أمّا «الصلة بالسياسيين» فبالغة الدلالة، لأن البحث في من هم هؤلاء السياسيون، يكشف ما يشبه التحقيق البوليسي الذي يتحرّى عن كلّ ما له صلة بالسياسة في عالم المصارف. تشمل اللائحة الاتهامية أيضاً: مرشحيَن على الانتخابات النيابية؛ أبناء أسر حاكمة وسياسيين من دول الخليج؛ شقيق مصرفي لبناني؛ أربعة أقرباء لسياسي سابق؛ إبن رئيس جمهورية سابق؛ موظّف في البنك المركزي، ومقرّباً من حاكم المصرف المركزي، وعضواً في «لجنة الرقابة على المصارف»، وحاكم المصرف المركزي نفسه؛ إبن عم رئيس وزراء؛ زوجة رئيس وزراء؛ إبن رئيس وزراء؛ حفيد نائب سابق؛ والد وزير سابق؛ إبن وزير سابق؛ سفير في أرمينيا، وشقيق سفير.

أمّا «العائلات السياسية» فالنموذج عنها هو «بنك عودة»، الذي يضمّ إبن رئيس حكومة وهو فهد الحريري، ووزير سابق، ومساهمين آخرين ذوي صلات بحكّام خليجيين. الوزير السابق هو ريمون عودة، مؤسِّس «بنك عودة» ورئيس مجلس إدارته السابق، وقد شغل منصب وزاري مرّة واحدة، فلزم تصنيفه سياسياً. الرجل سليل عائلة عُرِفت في صناعة الصابون منذ القرن التاسع عشر أقلّه (حوّل عودة مصنع العائلة إلى «متحف الصابون» في صيدا)، ومصرفه ثاني أقدم المصارف المذكورة في لائحة شعبان. وعلى جريرة عودة والحريري، يجري تسييس عائلة القصّار، أي عدنان القصّار، رئيس مجلس إدارة «فرنسبنك»، وأخيه عادل، وهم أسرة تجارية اشترت «بنك صبّاغ» من مالكيه وهو أقدم مصرف بين مصارف اللائحة (1921). وشغل القصّار طويلاً رئاسة غرفة التجارة والصناعة وغيرها من هيئات رجال الأعمال العربية والدولية. وتولّى المنصب الوزاري مرّتين، فاستحق وعائلته لقب «العائلة السياسية». والأمر نفسه ينطبق على فريد روفايل، ومؤسِّس ورئيس مجلس إدارة «البنك اللبناني الفرنسي» الذي شغل منصباً وزارياً هو أيضاً، وعلى آل صحناوي، الأسرة السورية الأصل، التي برز أفرادها عندما حازوا على رخصة إنشاء معمل إسمنت في عهد كميل شمعون. أما توفيق عسّاف الذي ترسمل في فنزويلا وكان وكيل شركة «بيبسي كولا» في لبنان، قبل أن يؤسِّس «بنك بيروت والبلاد العربية» الذي يرأس إبنه غسان مجلس إدارته. وشغل مروان خير الدين صاحب «بنك الموارد» المنصبَ الوزاري مرّة واحدة وسقط في الانتخابات النيابية الأخيرة ويبقى عضو عائلة سياسية. وعائلة رجل الأعمال رفيق الحريري وورثته، وكانت إلى حين مالكة «بنك المتوسّط»، تشكّل عائلة سياسية خرج منها رئيسَا وزراء.

رجل الأعمال هو كلّ مواطن تشكّل عائدات عمله في أحد فروع الاقتصاد - من أرباح وريوع وفوائد ورواتب - الحصّة الأكبر من دخله. ينطبق هذا المقياس على جميع أفراد العائلات الثماني التي يسمّيها شعبان «عائلات سياسية»تعريف شعبان البوليسي للسياسي هو «أي رجل أعمال شغل منصباً نيابياً أو وزارياً أو له شبهة علاقة بالإدارة العامّة والقضاء. وهو يعتبر ذلك من البديهيّات التي لا تحتاج إلى شرح. لعلّنا نستطيع أن نبحث عن تعريف اقتصادي لرجل الأعمال، بمن فيه المصرفي، ما دام البحث في الاقتصاد والباحث عالم اقتصاد. رجل الأعمال هو كلّ مواطن تشكّل عائدات عمله في أحد فروع الاقتصاد - من أرباح وريوع وفوائد ورواتب - الحصّة الأكبر من دخله. ينطبق هذا المقياس على جميع أفراد العائلات الثماني التي يسمّيها شعبان «عائلات سياسية»، فيما هي في الحقيقة عائلات رجال أعمال، كما ينطبق على سائر أعضاء مجالس إدارة المصارف الذين لهم صلة بالمصارف. 

بناءً على تمييز رجل الأعمال، يمكن تعريف السياسي بما هو مواطن يمارس النشاط السياسي والحزبي والتمثيل النيابي والمشاركة في الحكم. وهو قد يكون رجل أعمال أو يمارس إحدى المهن الحرّة (محامٍ، مهندس، طبيب، مُدرّس، إلخ…) أو موظّف في الدولة، وما شابه. لكن يشكّل عائده من مهنته وراتبه كنائب أو وزير، المصدر الأساسي لدخله. أمّا السياسي الذي ترسمل باستخدام النفوذ السياسي والعسكري في خلال الحرب، وبواسطة الانتفاع من المال العام، أي من الريوع السياسية، فيجدر تصنيفه بما هو رجل أعمال. ونعرف من نماذج هؤلاء الحكّام والسياسيين المتحوّلين أنهم قد غادروا منذ فترة مرحلة «التراكم الأولي لرأس المال» من خلال الريوع السياسية، وتحوّلوا إلى الاستثمار في شتى الفروع الاقتصادية - والأثير عندهم هي الملكيّة العقارية، والوكالات التجارية، والاستثمار في الأسهم وسندات الخزينة في السوق العالمية، والإيداع في المصارف السويسرية أو في الملاذات الضريبية، وغير ذلك. 

أسئلة أوّلية

يُبرهن شعبان أن الإمرة السياسية على المصارف محصورة بملكيّة الأسهم أو احتلال المقاعد في مجالس إدارة المصارف، أو هي الدليل القاطع عليها. والبديهي أن يُثار السؤال: ألا يستطيع السياسيون ممارسة التأثير على المصارف من دون أن يمتلكوا أسهماً أو يحتلّوا مقاعد في مجالس إدارتها؟ بمعنى آخر، هل أن هؤلاء السياسيون الذي انكشف أمرهم هم وحدهم الذي يمارسون نفوذاً ما على المصارف؟ وماذا بشأن المصارف التي لم تحظَ بسياسيين أو بمقرّبين منهم أو ذوي صلة بهم يملكون أسهماً فيها ويحتلّون مقاعد على مجالس إدارتها؟ هل تحرم من الخدمات السياسية؟ ما يعني أن التحقيق البوليسي، الذي ألقى شبهة «الصلة بالسياسة» على العائلات المُسيطِرة على القطاع المصرفي والمساهمين فيه، هو بديل كسول عن أي تحرٍّ جدّي عن كلّ تعقيد العلاقة المُتبادلة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية.  

ما هي آثار «الإمرة لي»؟

إذا سلّمنا بأطروحة شعبان عن سيطرة ذوي الصلات السياسية على قرابة نصف أصول المصارف، بل امتلاكها، عمّا يدلّنا ذلك عن سياسات القطاع المصرفي عموماً، وعن وضع كلّ مصرف منها على حدة؟ وكيف يزيدنا ذلك علماً عن السياسة المالية والاقتصادية في البلد؟ 

الحجج الثلاث التي يقدّمها شعبان على أثر الصلات السياسية على أداء المصارف هي الآتية: المصارف المُسيّسة أكبر من المصارف الأخرى؛ تملك عدداً أكبر من سندات الخزينة؛ وتلجأ إلى دعم الدولة أكثر من غيرها. والحال أن هذه الخصائص تلقى تفسيرها في أن الباحث اختار أكبر المصارف في القطاع. هل تؤثّر السيطرة السياسية على ربحيّة المصارف والمقصود التأثير الإيجابي على حساب سائر المصارف؟ وهل تدلّ تلك الصلة على انكشاف زائد للمصرف المعني في موضوع الدَّيْن العام؟ يعترف الباحث بأن لا أدلة على ذلك الأثر في الحالتين.  

التحقيق البوليسي، الذي ألقى شبهة «الصلة بالسياسة» على العائلات المُسيطِرة على القطاع المصرفي والمساهمين فيه، هو بديل كسول عن أي تحرٍّ جدّي عن كلّ تعقيد العلاقة المُتبادلة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسيةيتحدّث الباحث عن الخدمات التي تقدّمها المصارف للسياسيين عن طريق التوظيف السياسي والقروض السياسية في مقابل مساهمة المصارف بدورها في تمويل الانتخابات، مع أنه يستدرك بأن البيانات ليست متوافرة عن تلك الخدمات المُتبادلة. في حين أن التحفّظ الأكاديمي لا يمنع المرء من الاستدلال على أن المصرفي مروان خير الدين موجود على لائحة تدعمها حركة أمل وحزب الله، ليس موجوداً لكونه إبن عائلة سياسية ولا مواهب سياسية خاصّة به، بل إنه ضُمّ إلى اللائحة ليسهم في تمويلها. وهذا تقليد عريق في السياسة اللبنانية منذ أن كان التمثيل النيابي.

على أن شعبان لا يشير إلى ذلك في حديثه عن التواطؤ بين السياسيين والمصارف القائم منذ الاستقلال و«جمهورية التجّار» (تُنسَب التسمية إلى كارولين غايتس وهي لألبرت حوراني)، وهو تواطؤ يدعم بنية السلطة الموجودة، حيث المصارف تدافع عن النظام الاقتصادي بقيادة قطاع الخدمات، وتناضل بشراسة ضدّ رفع الضرائب على أرباحها والريوع والفوائد. فما الحاجة إلى هذا المقطع من قبيل «رفع العتب» في نقد المصارف، طالما أن الباحث ينسب لها الإمرة في تلك المواقف والمبادرات الذاتية دونما حاجة للاستعانة بالسياسة والسياسيين؟ 

أمّا ما يترتّب من آثار ممارسة «رأسمالية المحاسيب» في الجمهورية الثانية فهو الآتي: 

«إن منظور انتفاع الأقربين لدى المصارف اللبنانية قد تكون له ارتدادات سلبية على نوعية التسليف، ذلك أن البيانات توحي بعلاقة مُتبادلة سلبية قويّة بين سيطرة مالكي الأسهم السياسيين ومعدّل القروض غير الفاعلة (أو المشكوك بها/ باستردادها) قياساً إلى إجمالي الأصول».

لا حاجة للخوض في بحث هذه الخلاصة الاحتمالية، والتي قد تعود إلى مُجرّد الطابع المُغامر للمصرف المعني. والأهم أنها خلاصة تبدو شديدة التواضع قياساً إلى ضخامة السيطرة والتملّك التي تمارسها عائلات رجال أعمال عمّدت «عائلات سياسية».

مهما يكن، تحقّق المطلوب من البحث، وهو إلقاء شبهة «انتفاع الأقربين» و«رأسمالية المحاسيب» على تدخّل السياسيين والدولة في هذا القطاع المصرفي الحيوي والرائد في الاقتصاد اللبناني. ولن نعرف شيئاً عن «المصرفيين الأحرار» ودورهم في تسيير القطاع المالي والسياسة الاقتصادية. وما تحقّق، بكلّ موحياته حول سندات الخزينة والديون الهالكة، قد أسهم في توظيفه في تبرئة المصرفيين عن الأزمة المالية التي انفجرت العام 2019 وتبنّي رواية المصارف عن مسؤولية الدولة عن المديونية، مع كلّ ما يستتبع ذلك من حدود وقيود فرضتها جمعية المصارف على أي تسوية للأزمة بما في ذلك الحدّ الأدني ممّا يطالب به صندوق النقد الدولي. 

 فيما السلطة السياسة علنية ومظهرية بل قل فاجرة، غالباً ما تكون سلطة المال خفية ومراوغة لا تظهر على المسرح كقوّة جماعية إلّا عند التحدّيات الكبرى والأزمات، عندما تعجز السلطة السياسية عن تدبير مصالحهالكن الباحث أعطانا، من غير قصد، أدلّة قاطعة على مدى تمركز الملكيّة والقرار في القطاع المصرفي، حيث تسيطر أكبر ثلاثة مصارف على 45% من إجمالي أصول القطاع. وأكّد الطابع المركزي للرأسمالية اللبنانية، حيث تنتمي تلك العائلات الثماني إلى ثلاثين عائلة من أصحاب شركات الهولدينغ التي تشكّل النواة الصلبة للأوليغارشية المُسيطرة على قمم الاقتصاد في المال والصناعة والتجارة، والخدمات، والأغذية، وتمثيل الوكالات الأجنبية، والعقارات والإلكترونيات والصحافة والسياحة والاصطياف وغيرها. (راجع طرابلسي، «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان»، 2016) 

المال سلطة

ما تغطّي عليه مقولة «رأسمالية المحاسيب» - المهووسة بالسلطة السياسية - أن المال سلطة بذاته. هكذا كان منذ أن كان مالٌ. وقد استفحل المال في العهد النيوليبرالي كما لم يفعل في أي وقت مضى. أمّا الجمع والخلط والتقاطع بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية فبلغ أيضاً أعلى مستواه عندما خلقت سياساتها مسوخاً أمثال «الأوليغارش» في أوروبا الشرقية باتت عاجزة عن السيطرة عليها. 

ولكن هذا لا ينهي البحث في العلاقة بين سلطة المال وسلطة السياسة بل يفتحه على مصراعيه. فيما السلطة السياسة علنية ومظهرية بل قل فاجرة، غالباً ما تكون سلطة المال خفية ومراوغة لا تظهر على المسرح كقوّة جماعية إلّا عند التحدّيات الكبرى والأزمات، عندما تعجز السلطة السياسية عن تدبير مصالحها. إنها جمعيات التجّار وغرف الصناعة والتجارة التي أحبطت المشاريع الإصلاحية لـ«حكومة الشباب» في عهد سليمان فرنجية في العام 1971-1972، عندما هدّدت بالإضراب في حال إقرار مشاريع قوانين دعم الصناعة واستيراد الدولة المباشر لأدوية الضمان الاجتماعي والإصلاح التربوي. كان التهديد كافياً للتراجع عن المشاريع الوزارية واستقالة الوزراء الذين تقدّموا بها. وسلطة المال، ومَن شرّع باسمها، هي التي فرضت وضع الاقتصاد الحرّ والملكيّة الخاصّة والمبادرة الفردية في مقدّمة دستور الجمهورية الثانية، في سابقة نادراً ما وجدت في الدساتير. وهي سلطة المال بعد الحرب التي رسمت كلّ آليّات انتقال لبنان من الليبرالية إلى النيوليبرالية ذات الألوان الميليشياوية-المافيوية. وهي السلطة ذاتها التي أحبطت مشروع الأجر الاجتماعي الذي طرحه الوزير شربل نحّاس ومعه مشروعه لزيادة الأجور. وسلطة المال إياها هي التي تسمح لرئيس جمعية تجّار بيروت نقولا الشمّاس (أبو رخّوصة) أن يزعق في وجه نجيب ميقاتي، صاحب المليار ونيّف، بصفته رئيس الحكومة: «نحن نُطاع ولا نطيع!» في خلال أزمة سلسلة الرتب والرواتب! والانحياز السياسي لسلطة المال هو الذي يحفِّز سمير جعجع، الذي لم نجد له أثراً في امتلاك أسهم في أي مصرف، لأن يعلن «لقد بدأ عهد التأميمات!» تعليقاً على استدعاء المدّعي العام المالي أربعة مدراء مصارف لسؤالهم عن خروج أموال من مصارفهم نحو الخارج! وقد توقّفت مساءلة المصرفيين منذ ذلك الحين. حتّى لا نتحدث عن أفعال الإيمان التي يكرِّرها سامي الجمّيل عن «الاقتصاد الحرّ القوي». ويكفي مراجعة أعمال اللجان النيابية، بقيادة كتل حركة أمل والتيّار الوطني الحرّ والجمهورية القويّة، لتكوين فكرة عن خدمة السياسة لسلطة المال مُجسّدة في جمعية المصارف، من دون أن يُبرِّىء ذلك أي كتلة أخرى وعلى رأسها كتلة الوفاء للمقاومة من التواطؤ والمشاركة.

سلطة المال والسلطة التنفيذية 

من يُرِد البحث في العلاقات بين المصارف والسلطة السياسية، يمكنه البدء بالعلاقات الوثيقة بين رؤساء الجمهوريّات والمصارف منذ أن كان لبنان المُستقل، مع التشديد على أن مركز رئاسة الجمهورية كان محوراً أساسياً تلتف حوله المصالح المُتحكّمة بالاقتصاد. من بنك فرعون - شيحا إلى بنك سيدروس، كان لكلّ رئيس جمهورية ولكلّ عهد مصرفه. يفيد المصرف من سلطة الرئيس وعهده، ويقدّم له في المقابل ما يخدم سلطته السياسية. 

في عهد بشارة الخوري، كان «بنك فرعون - شيحا» هو بنك العهد، يمّول الحملات الانتخابية للحزب الدستوري ويسلف الصحافيين لقاء خدماتهم الإعلامية. يقول عنه الصحافي شكري البخاش صاحب جريدة «الصحافي التائه» أنه كان يُعيّن ثلاثة أرباع النوّاب ويدفع مرتّبات شهرية لأربعة وعشرين منهم.

الانحياز السياسي لسلطة المال هو الذي يحفِّز سمير جعجع، الذي لم نجد له أثراً في امتلاك أسهم في أي مصرف، لأن يعلن «لقد بدأ عهد التأميمات!» تعليقاً على استدعاء المدّعي العام المالي أربعة مدراء مصارف استخدم كميل شمعون «بنك سورية ولبنان» الذي كان لا يزال مصرف الدولة، لتأسيس «بنك التسليف الزراعي والصناعي والتجاري» للشيخ بطرس الخوري، ورعى أبرز البنوك الناشئة - «بنك لبنان والمهجر» و«سوسيتيه جنرال» و«بنك إنترا». وفي عهده، أقرّ قانون سرّية المصارف في العام 1956.

في عهد الرئيس فؤاد شهاب، برز «بنك إنترا»، لصاحبه يوسف بيدس، بما هو بنك العهد، يُسيِّره «المكتب الثاني» (مخابرات الجيش) ويتولّى تمويل الانتخابات وتسليف السياسيين والإعلاميين. عندما وقع المصرف في ضائقة مالية لم تفده لبيدس صلاته السياسية والأمنية. تألّبت عليه المصالح المالية والتجارية الخارجية والمحلّية المربوطة بالخارج، فامتنعت السلطة عن تعويم المصرف. 

في عهد شارل حلو، حلّ «البنك الأهلي» محلّ «بنك إنترا»، يرأس مجلس إدارته أدريان جديّ، المساهم أيضاً في «بنك الاعتماد المالي اللبناني» و«الكونتوار الوطني للتوفير والتوظيف المالي» ووكيل عدد من الشركات الأميركية، بينها الشركة التي كانت تملك الحصة الأكبر في كازينو لبنان. ظلّ يخدم المصرف «المكتب الثاني» صاحب النفوذ المستمرّ فيما سُمّي العهد الشهابي الثاني. وما من شكّ في أن المصرف أفاد بالمقابل في صفقة كازينو لبنان. 

ينفرد الرئيس سليمان فرنجية بين الرؤساء، في أنه كان عضواً مؤسّساً في «بنك الشرق الأدنى» وكان على صلات وثيقة برجال الأعمال الشماليين، وأبرزهم المصرفي والصناعي الشيخ بطرس الخوري وآل أبو عضل، من كبار مستوردي الأدوية. 

أمّا الرئيس الياس سركيس، فكان رجل المصارف الأول وحاكم مصرف لبنان، الذي تولّى إصلاح النظام المصرفي بعد الهزّة الكبرى التي تعرّض لها إثر إفلاس «بنك إنترا» في العام 1966. بعد انتهاء ولايته عُيِّن سركيس رئيساً لمجلس إدارة بنك «ويدج» لصاحبه عصام فارس. 

كان الرئيس أمين الجميّل مُحاطاً بالمصرفيين: أنطون شادر صاحب «كميكال بنك»، سامي مارون صاحب بنك «ليتيكس»، وكان «بنك المشرق» بمثابة بنك العهد الكتائبي بإدارة روجيه تمرز، الذي ولّاه الجميل أيضاً على «شركة إنترا للاستثمار». ومن مصارف تمرز «بنك الكويت والعالم العربي» و«فيرست فينيشيان» «كاپيتال ترست» و«بنك الاعتماد اللبناني».

لم يُعرَف لعهد الرئيس الياس الهراوي مصرفٌ بعينه، على ما نعلم. تركّز اهتمامه على قطاع النفط والمحروقات من خلال شراكته مع خليل غطّاس، وكيل شركة موبيل الأميركية. وتركّز اهتمام إبنه رولان بشركة كهرباء لبنان بالشراكة مع إيلي حبيقة. وفي عهده، انتقل مركز الثقل في السلطة الاقتصادية إلى رئاسة الوزراء التي تسلّمها رفيق الحريري ومن مصارفه «بنك المتوسط».

شهِد عهد الرئيس إميل لحود فضيحة «بنك المدينة» المدوِّية وتنامى دور الشبكة الأمنية السورية - اللبنانية وحاكمية البنك المركزي في إدارة شؤون الاقتصاد والسياسة.

لن يبقى من التشخيص والتشهير إلّا: شيطنة الدولة - ولو كانت دولة الليبرالية المتحوّلة - واتهامها بخنق القطاع الخاص. والوصفة جاهزة في إملاءات البنك الدولي وصندوق النقدفي عهد الرئيس ميشال عون، ولِد «سيدروس بنك، وقد منحه رياض سلامة هندسة مالية لرسملته وتمكين أوضاعه. راجت شائعات عن وجود مساهمين من التيّار الوطني الحرّ ومن أسرة الرئيس عون. لم يُعثر على مثل تلك الأسماء عندما نُشِرت لائحة المساهمين بالمصرف. لكن من سيبذل ما يكفي من الجهد في البحث، ألن يكتشف أسماء واجهة لرجال أعمال لهم صلة بالرئيس وتيّاره أو بسواه من السياسيين؟ مهما يكن، يكمل «سيدروس ينك» اللائحة الطويلة التي بدأت من بنك فرعون - شيحا عن العلاقة (المُتبادلة) بين رؤساء الجمهورية والمصارف. (راجع، طرابلسي، «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان»، 2016)

ما المُقترحات؟

ما الذي يترتّب على ما كشفه جاد شعبان من إجراءات قانونية وعملية للفرز بين السياسيين وملكية أصول المصارف؟ منع السياسيين من الاستثمار في المصارف؟ أو منعهم من احتلال مقاعد في مجالس إدارتها؟ وعكساً، منع المصرفي من أن يمارس مسؤولية سياسية في النيابة والوزارة أو في إحدى الرئاسات الثلاث؟ إذا كان ذلك، فلماذا لا يصرّح عنه جهاراً؟ ولعل الباحث يعرف أن الولايات المتحدة الأميركية لا تحرّم وجود رجال أعمال في الكونغرس ولا تمنع المشرّعين الأميركيين من الاستثمار في الشركات ولا في تداول الأسهم والسندات، حتى لو كانت تلك الشركات تتأثّر بقرارات قد يقترعون عليها. وفي تحقيق لصحيفة «نيويورك تايمز» العام 2020 تداول خُمْس أعضاء الكونغرس أو أفراد من عائلاتهم بأسهمٍ وسندات. أما إحصائيات الكونغرس الأميركي في كانون الثاني/ يناير 2017 فتفيد أن 231 من أعضاء مجلس النوّاب شغلوا مهناً في المصارف والتجارة هو ضعف ونصف ضعف ما كان عليه الحال في المجلس السابق. والأمر نفسه يتعلّق بمجلس الشيوخ حيث بلغ عدد أعضائه العاملين في المصارف والتجارة 43 شيخاً وقد كانوا 24 في المجلس السابق. 

فإذا كان الباحث يقترح الفرز والتحريم بين سلطة المال وسلطة السياسة، بغض النظر عن الممارسة الأميركية، فليجهر بذلك. 

في غياب أي مقترحات مُستخلصة من تشخيص «رأسمالية المحاسيب» وتشريحها، كما في حالات البحث في الفساد، ولو بالدعوة إلى تطبيق «قانون الإثراء غير المشروع» واشتراع قانون «تضارب المصالح»، لن يبقى من التشخيص والتشهير إلّا: شيطنة الدولة - ولو كانت دولة الليبرالية المتحوّلة - واتهامها بخنق القطاع الخاص. والوصفة جاهزة في إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد: وقف الإنفاق الاستثماري؛ وقف التوزيع الاجتماعي؛ وقف دعم المواد الغذائية والمحروقات؛ ترشيق الجهاز الإداري وتقليص الخدمات العامّة؛ والخصخصة التي تعيدنا إلى ... «الصندوق السيادي».

  • 1أعتمد هنا على دراستين عن الموضوع ذاته لجاد شعبان Jad Chaaban, I’ve got the power: mapping connections between Lebanon’s banking sector and the ruling class”, The Economic Research Forum, Cairo 2016. Jad Chaaban, “in Ishac Diwan (ed.) et. Al., Oxford University Press, Oxford, 2023, pp. 330-343.