يد خفيّة
الرأسمالية والاحتكار: الحمائية الشعبوية غبّ الطلب
يجب النظر إلى سياسات دونالد ترامب وإيلون ماسك الحمائية كقاعدة في الأنظمة الرأسمالية. لا تلجأ الرأسمالية إلى العولمة إلا عندما تكون في مركز احتكاري متميّز على مستوى العالم، ودائماً ما تلجأ إلى الحمائية الوطنية عند أبسط تهديد بفقدان هذا المركز ولو جزئياً.
في البداية، تبنّى عمالقة التكنولوجيا خطاب السوق الحرّ والعولمة والتنوّع، وهو ما سمح لهم بالهيمنة على الاقتصاد الرقمي عالمياً. لكنهم تحوّلوا نحو دعم السياسات الحمائية بمجرّد أن أصبح وضعهم التنافسي العالمي مُهدّداً. ففي ورقة بحثية صادرة عن مكتب الولايات المتّحدة الوطني للبحوث الاقتصادية، قام خبراء اقتصاديون من جامعة «نورث وسترن» بقياس تأثير العولمة على أرباح أكبر 500 شركة مالية أميركية في مؤشر «ستاندارد آند بورز 500» (S&P 500) بدءاً من العام 2002، أي بعد عام من انضمام الصين إلى منظّمة التجارة العالمية في 2001 الذي اعتبر بداية عصر العولمة. ووجدت الدراسة أن متوسّط الربحية السنوية للشركات الأميركية بين عامي 2003 و2019 زاد بنسبة 11.5% مقارنة بالفترة الممتدّة بين عامي 1984 و2002. وكان هذا النمو مدفوعاً بشكل رئيس بزيادة ربحية تلك الشركات خارج الولايات المتّحدة بنسبة 47.4%.
يذكرنا هذا بما حدث في عشرينيات القرن التاسع عشر عندما أزالت بريطانيا الحماية عن استيراد الحبوب، بعد أن أصبحت في موقع احتكاري عالمي في تصدير المنسوجات. وكان هدف هذا التحرير هو ضمان تدفّق عمالة رخيصة لصناعة النسيج عبر توفير غذاء مستورد رخيص لهم بعد إخضاع تجارة الحبوب للتنافس. شكّل ذلك مؤشّراً على اليد العليا للبرجوازية الصناعية في تمرير التشريعات، وانتصارها على الأرستقراطية الزراعية الذي أضرّها رفع الحماية عن الحبوب وانخفاض أسعارها جرّاء فتح الأسواق.
دَعَم قادة صناعة المعلومات ترامب لأنه قدّم لهم حماية اقتصادية في وقت أصبحت فيه العولمة تهدّد وضعيّتهم الاحتكارية
وبعد ذلك، راحت بريطانيا تبشّر بالتجارة الحرّة المبنية على الميزة المقارنة الريكاردية، نسبة إلى ديفيد ريكاردو، الذي كان عضواً في البرلمان، وأدّى دوراً محورياً في الحشد لإلغاء الحماية الجمركية عن الحبوب، مُمثلاً مصالح الطبقة البرجوازية في خلال العقود المبكرة من الثورة الصناعية. لكن عندما ضعفت بريطانيا نسبياً في خلال الكساد الكبير في ثلاثينات القرن العشرين، أعادت فرض الحماية على صناعتها من خلال فرض تعريفة جمركية بنسبة 10% على كل الواردات، في محاولة منها لدعم اقتصادها المنهار جرّاء الكساد. وبالمثل، دَعَم قادة صناعة المعلومات ترامب لأنه قدّم لهم حماية اقتصادية في وقت أصبحت فيه العولمة تهدّد وضعيّتهم الاحتكارية التي رسّختها العولمة في البدء من خلال سيطرتهم على سلاسل القيمة وحصولهم على نصيب الأسد منها، أو بمعنى آخر في غياب أي شكل من أشكال التنافس الحقيقي.
ويشير تقرير لأوكسفام عن اللامساواة صدر في العام الماضي، إلى أن الشركات الكبرى استغلّت وضعها الاحتكاري وصدمات العرض الناجمة عن جائحة كوفيد-19 لرفع الأسعار وزيادة الأرباح، خصوصاً في قطاعات الطاقة والغذاء والأدوية. ويضيف التقرير أن شركات النفط والغاز، والعلامات التجارية الفاخرة، والخدمات المالية، والأدوية حقّقت أرباحاً غير مسبوقة في عامي 2022 و2023. ويجادل بعض الاقتصاديون أن الاحتكار المتزايد هو واحد من أسباب تلك الربحية والتضخّم المتزايد في بلدان الشمال.
وفقاً للتقرير تؤدّي الاحتكارات إلى تفاقم التفاوتات الاقتصادية، إذ تعيد توزيع الدخل من العمّال والمستهلكين إلى المديرين التنفيذيين والمساهمين، وتخلق الندرة لزيادة الأسعار ومن ثمّ الأرباح. أيضاً عزّزت الأمولة عمليات الدمج والاستحواذ، ما زاد من هيمنة الشركات الكبرى، وباتت قلة من الشركات تسيطر على الأسواق العالمية في قطاعات مركزية عدة. يجادل التقرير أن «هذه الحقبة الجديدة من الاحتكارات ليست حتمية أو ظاهرة طبيعية، بل هي نتيجة لاختيارات قانونية وسياسات عامة». وتتجاهل هذه الرؤية حقيقة أن الاحتكار ضروري لإحداث تراكم رأسمالي، وأن المسألة ليست سوء اختيار قانوني أو سياساتي فحسب.
الرأسمالية والاحتكار: علاقة جوهرية
لا يوجد نظام رأسمالي خالص. وإذا عرّفنا الرأسمالية كنظام يعظّم الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج، نجد أنه لا يوجد مجتمع يخلو تماماً من أشكال الملكية العامّة. فأي ضرائب تُفرض على الإنتاج، مهما كانت بسيطة، تمثّل حصّة الجماعة - كبرت أم صغرت - في وسائل الإنتاج. وعند توسيع النظرة إلى وسائل الإنتاج من منظور أشمل من منظور الاقتصاد التقليدي الذي يعرّف عوامل الإنتاج في الأرض والعمل ورأس المال، يمكن إدراج الطرق والمدارس وغالبية أشكال البنية التحتية ضمن وسائل الإنتاج، بل حتى الحدائق والمتنزهات العامّة، التي تسهم في إعادة إنتاج قوّة العمل، وتُعد جزءاً من وسائل الإنتاج/إعادة الإنتاج بمفهومها الأعم، وكثيراً ما تكون مملوكة ملكية عامة حتى في أعتى الأنظمة الرأسمالية.
وبالتالي، يمكن اعتبار الرأسمالية نمط ملكية موجود في كلّ مكان ويتفاوت حجمه وقدرته وسلطته، لكن متى يمكن أن نقول أن النظام رأسمالي في مطلقه؟ ما نطلق عليه، بشكل مبسّط، «نظاماً رأسمالياً» هو النظام الذي يعظم مصالح رأس المال الخاص عادة على حساب الملكية العامة لوسائل الإنتاج ونصيب المجتمع من أرباح الإنتاج، فضلاً عن الانحياز السياسي والقانوني لرأسمال في مقابل العمّال والمجتمع. والأهمّ هو توفير مناخ احتكاري لرأس المال، وخصوصاً الكبير منه. وفي ظل هذا النظام، يصبح تعظيم الاحتكار ودعمه ضرورة.
يرى المؤرِّخ الفرنسي فيرناند بروديل أن العلاقة بين الرأسمالية والاحتكار تعود إلى بدايات الحداثة في القرن الخامس عشر. ويعترض على النظرة التقليدية لكل من الليبراليين والماركسيين الذين اعتبروا أن الرأسمالية، لا سيما في القرن التاسع عشر، كانت قائمة على السوق الحرّة والمنافسة. وعلى العكس، جادل بروديل، وأثبت من خلال الأدلة التاريخية، أن الرأسمالية هي في جوهرها مضادة للسوق (contre-marché)، إذ تعظّم من سطوة الاحتكارات. ومن دون الاحتكار، يصبح التراكم الرأسمالي الحادّ مستحيلاً، ومن دونه لا يمكن القول إن النظام يعمل لصالح رأس المال، حتى لو وُجدت مظاهر الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
حكم الاحتكار الفجّ
بعيداً من أي خلافات تتعلّق بالتعريفات الاقتصادية، أصحاب رأس المال الاحتكاري هم بالطبع من يهيمنون على الحكم فيما نطلق عليه الأنظمة الرأسمالية. في الماضي، حصلت هذه الهيمنة في الغالب بشكل غير مباشر من خلال أنشطة اللوبي وتمويل الحملات الانتخابية، لذلك نجد دائماً أن الأنشطة الاحتكارية هي التي تقوم بأكبر قدر من الضغط السياسي للحفاظ على وضعيتها. على سبيل المثال، إن قطاع الأدوية الذي يتميّز بوضعيّات احتكارية ناتجة عن براءات الاختراع هو القطاع الأكثر إنفاقاً على الضغط السياسي، يليه قطاع التأمين، ثم القطاع التكنولوجي.
من دون الاحتكار، يصبح التراكم الرأسمالي الحادّ مستحيلاً، ومن دونه لا يمكن القول إن النظام يعمل لصالح رأس المال
في السنوات الأخيرة مرّرت الإدارات الجمهورية والديمقراطية - التي يُفترض أنها داعمة للعولمة - على حد سواء الكثير من القرارات الحمائية الداعمة للاحتكار. وعلى سبيل المثال، مرّرت إدارة بايدن قراراً بحظر بيع الرقائق اللازمة لتطوير الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن حظر استيراد السيّارات الصينية. وفي ظل إدارة ترامب، سادت حالة من الذعر في الأسواق بعد إعلان شركة صينية عن منصّة جديدة للذكاء الاصطناعي بتكلفة منخفضة جداً، على الرغم من حظر بايدن تصدير الرقائق، فضلاً عن دعم إيلون ماسك النشط لترامب، وهو أكبر المستفيدين من حظر بيع السيّارات الصينية لصالح شركته «تيسلا» (Tesla).
يتطلّب حكم رأس المال من أجل خدمة تراكمه الترويج للممارسات الاحتكارية. وهذا الأمر كان واضحاً منذ نشوء الرأسمالية في شكلها الحديث. على سبيل المثال، احتكرت شركات الهند الشرقية (خصوصاً الهولندية والبريطانية) استيراد النسيج من الهند، ثم تبعتها احتكارات في تصدير المنسوجات إلى الهند بعد الثورة الصناعية. وفي القرن العشرين، ومع تراجع صناعة النسيج البريطانية، التي أصبحت أكثر تنافسية بفضل انتشار التكنولوجيا، بدأت بريطانيا تتخلّى تدريجياً (ولكن بسرعة) عن بعض الأنماط الاحتكارية، وركّزت على أنماط أخرى من الاحتكار الخدمي مع بقية دول الشمال العالمي، مثل الخدمات المالية وصناعات الأدوية الاحتكارية.
كان القرن التاسع عشر بمثابة العصر الذهبي للسوق والمنافسة وفقاً للماركسيين والليبراليين على حدّ سواء. ولكن في الواقع، انتشرت الاحتكارات بشكل كبير في تلك الفترة، مثل احتكارات روكفلر في قطاع النفط وكارنيغي في قطاع الصلب. كانت هذه القطاعات تشهد معدلات تراكم رأسمالي غير مسبوقة في التاريخ حتى تلك اللحظة. وبالطبع، كانت هناك قطاعات أخرى تشهد قدراً أكبر من المنافسة، لكنها لم تحقّق معدلات تراكم وثروة مشابهة.
الاحتكار في مواجهة المنتجين والعمّال
لا يقتصر تأثير الاحتكار على المنتجين فقط، بل يمتدّ ليشمل العمّال أيضاً. وعلى سبيل المثال، نتائج استخدام الذكاء الاصطناعي لن تتمثّل في استبدال العمّال بشكل كامل، بل ستشمل تقليص مهاراتهم (De-skilling) وخلق جيش احتياطي من العمال، وهذا يعزّز من قوة أصحاب رأس المال ومديري الأعمال على حساب العمّال. كما تشير عالمة الاجتماع انتان سواندي، يتم ذلك من خلال فصل العمليات المعقدة عن التنفيذ، حيث يتم تحويل المهام المعقدة إلى مهام مبسطة يمكن أتمتتها أو تنفيذها بسهولة مما يجعل العمالة أكثر استبدالية وأقل تأثيراً.
في بيئة العمل الحديثة، تعتمد الثقافة السائدة على تفكيك العمليّات لتسهيل استبدال العمّال. وهذا ما يعزّزه الذكاء الاصطناعي، الذي يحول المهام إلى عمليات مؤتمتة يمكن لأي شخص تنفيذها من دون الحاجة إلى مهارات متخصّصة. وبذلك، يتمّ خلق فائض من العمالة غير المتخصّصة، ما يزيد من الضغط على الأجور وظروف العمل.
من ناحية أخرى، بينما يؤدّي الذكاء الاصطناعي إلى زيادة الإنتاجية، تظهر التجربة السابقة أن زيادات الإنتاجية لم تُترجم إلى فترات راحة أطول أو تحسين الأجور، بل تمّ تحويلها إلى أرباح إضافية لأصحاب رأس المال. بدلاً من تقليل ساعات العمل، قد يظل البعض يعمل عدد الساعات نفسه ولكن مع الزيادة في الإنتاجية، ما يؤدّي إلى إيجاد آخرون أنفسهم عاطلين عن العمل، فيزيد من الضغط على العمّال والأجور.
تائج استخدام الذكاء الاصطناعي لن تتمثّل في استبدال العمّال بشكل كامل، بل ستشمل تقليص مهاراتهم وخلق جيش احتياطي، وهذا يعزّز من قوة أصحاب رأس المال
في ظل النيوليبرالية واعتمادها على الميزة المقارنة والتقسيم الدولي للعمل، تُعتبر العمالة الرخيصة «ميزة» مقارنة. لكن لتوفير هذه العمالة، لا بد من وجود جيش احتياطي من العمّال، سواء كانوا عاطلين عن العمل أو يعملون في وظائف غير رسمية أو تطوعية. انخفضت معدلات التشغيل العالمية من 52% من السكان في العام 1991 إلى 37% في العام 2023، وجاءت غالبية الانخفاض في البلدان منخفضة الدخل.
تتضح هنا العلاقة الوثيقة بين الرأسمالية والاحتكار، إذ يعمل النظام الاقتصادي على تعزيز مصالح رأس المال الخاص الكبير على حساب العمّال والمستهلكين وحتى الأعمال الخاصة الأصغر.
في ظل هذه الديناميات، تزداد فجوة السلطة والقوة بين أصحاب رأس المال وبقية المجتمع ما يؤدي إلى حكمهم المباشر ضاربين عرض الحائط بكل مبادئ فصل المال عن السلطة السياسية حتى لو كانت اعتبارات شكلية، لكن التخلي عن تلك الاعتبارات الشكلية كاشف عن ثقة تلك الطبقة المتزايدة بنفسها، وهي الثقة التي أدت إلى إطلاق إيلون ماسك علامة النازية في حفل تنصيب ترامب، وهي الثقة التي دفعت أيضاً كل الجماعات الصهيونية - التي عادة ما تكون جاهزة بإطلاق الاتهامات بمعاداة السامية لأي انتقاد ولو بسيط لإسرائيل - لتبرئة ماسك. حتى نتنياهو نفسه انبرى في الدفاع عن ماسك.
في خلال الشهر الماضي، ظهر ماسك بشكل مفاجئ في تجمّع لليمين المتطرّف في ألمانيا حيث شجّع الألمان على «تجاوز» الشعور بالذنب بسبب أفعال الماضي، في إشارة إلى الحقبة النازية. وقال ماسك: «من الجيّد أن تفخروا بالثقافة الألمانية والقيم الألمانية. ولا ينبغي أن تفقدوا ذلك في نوع من التعدّدية الثقافية التي تميع كل شيء».