معاينة المدن الجديدة

هل تحتاج مصر إلى كلّ هذه المدن الجديدة؟ 

يوجد في مصر نحو 11.7 مليون شقة شاغرة بحسب أحدث المسوحات، ما يعني أنها تكفي لنحو 50 مليون نسمة أي يقارب نحو نصف سكان مصر. فهل تحتاج مصر، في ظل هذا الواقع، إلى كلّ هذه المدن الجديدة؟ 

طرح انقلاب 2013 السياسي في مصر، ووصول عبد الفتاح السيسي إلى سدّة الرئاسة، سؤالاً محورياً عن ماهية السياسة في مصر، إذ بدأت الحكومة المصرية بالإعلان عن الكثير من المشاريع الضخمة مثل توسيع قناة السويس وبناء المدن الجديدة بميزانيات فائقة من دون معرفة جدواها أو من يستطيع السكن فيها. ففي العام 2015، أعلن عن إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة في المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ، وهي عبارة عن مشروع عملاق بميزانية 45 مليار دولار أميركي يمتدّ على مساحة 700 كيلومتر مسطح. وبعد 6 سنوات، أعلن السيسي عن ولادة الجمهورية الجديدة في خلال افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة. لكن ماذا يعني وصف الجمهورية الجديدة بوجود عاصمة جديدة؟ هل هو نموذج اقتصادي جديد؟ أم عقد اجتماعي جديد بين الحكومة ومواطنيها؟ وهل سيتوفر للشعب المصري حياة جديدة مختلفة عن سابقها؟ 

من خلال تحليل لبعض أوجه الإنفاق في التشييد الهندسي لجزء من العاصمة الإدارية الجديدة، أبحث في هذا المقال عن الاقتصاد السياسي في هذا التشييد الضخم؟ وهل يحقّق رأسمالية الدولة أم لا؟ وما الأسباب الكامنة وراء هذه المدن الجديدة؟ 

المدن الجديدة وأجيالها

تم إنشاء هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في العام 1979، ومنذ تأسيسها أقامت 4 أجيال من المدن الجديدة وهي: مدن الجيل الأول لاحتواء هجرة السكان من المدن وتشجيع إقامة عمران جديد في مناطق خالية من السكان والأنشطة الاقتصادية وشملت العاشر من رمضان، 15 مايو، 6 أكتوبر، السادات، برج العرب الجديدة، الصالحية الجديدة، دمياط الجديدة. مدن الجيل الثاني بهدف استيعاب الزيادة السكانية واستكمال الجيل الأول بأنشطة اقتصادية أكبر لتكون مدن متكاملة ومستقلة عن المدن الأساسية وقد شملت بدر، العبور، بنى سويف الجديدة، المنيا الجديدة، النوبارية الجديدة، الشيخ زايد. أما مدن الجيل الثالث، فقد استكملت خطة الجيلين الأول والثاني وضمت الشروق، القاهرة الجديدة، أسيوط الجديدة، طيبة الجديدة، سوهاج الجديدة، أسوان الجديدة، قنا الجديدة، الفيوم الجديدة، أخميم الجديدة. وفي حين لم تختلف أسباب إنشاء مدن الجيل الرابع عن مدن الأجيال الثلاث الأولى، هدفت إلى أن تكون مدناً ذكية صديقة للبيئة تعتمد على مصادر الطاقة المتجددة، وقد بلغ عددها 37 مدينة نفّذت على 3 مراحل، علماً أن 17 تم الإعلان عنها منذ تولي عبد الفتاح السيسي للرئاسة. 

المدن الجديدة التي بنيت في الأجيال الثلاثة هدفت إلى تقليل الكثافة في القاهرة الكبرى، وهو ما ثبت فشله لأن السكان أصبحوا يعملون في المجتمعات الجديدة ويعودون ليسكنوا في محيط القاهرة العمراني القديم

في العام 2011، أدرج كتاب ديفيد سيمسز «فهم القاهرة: المنطق وراء مدينة خارج السيطرة»، تعداداً للمدن الجديدة وتبيّن أنها تُشغل أقل بكثير من التعداد المستهدف عند بنائها، وهو ما يثبت أن ما تم إنفاقه على تلك المدن أكثر بكثير مما تحقّقه من فوائد. وعليه، كان بناء جيل رابع أمراً مستبعداً وغير مطروح، وقد شارك خبراء عمرانيين اعتراضهم الشديد على قرار إقامة العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة وغيرها من المدن الجديدة. ففي آذار/مارس 2015، أوضح الباحث العمراني يحيى شوكت أن لا فائدة من بناء العاصمة الإدارية وأن بنائها في غياب دراسات اقتصادية واجتماعية يعتبر خطأ كبير. وأشار يحيى إلى أن المدن الجديدة التي بنيت في الأجيال الثلاثة هدفت إلى تقليل الكثافة في القاهرة الكبرى، وهو ما ثبت فشله لأن السكان أصبحوا يعملون في المجتمعات الجديدة ويعودون ليسكنوا في محيط القاهرة العمراني القديم، وعليه لم تحل المدن الجديدة الكثافة العمرانية في القاهرة. 

إلى ذلك، يشير أحمد البرديني إلى حيرة الموظّفين والموظّفات المنتقلين للعمل في العاصمة الإدارية الجديدة، وكيف توفر لهم الدولة وحدات سكنية في مدينة بدر، يبلغ سعر الوحدة 450 ألف جنيه، تسدّد على 7 سنوات، لكنه في الوقت نفسه سيكونون في معزل تام اجتماعياً عن عائلتهم ونمط حياة القاهرة الذي يمتاز بشغفه وحيويته ليلاً. وفي مقال لؤي هشام، نرى ظروف العمل المجحفة للعاملين في قطاع التشييد في العاصمة الإدارية الجديدة، وهو وضع قاسي جداً، ولا يتم توفير أية مساكن للعاملين ولو بشكل مؤقت، والمبالغ الهزيلة التي يتقاضونها لا تجعلهم قادرين على توفير أموال للإيجار والمواصلات داخل القاهرة، ولا الايجار خارجها وبالقرب من العاصمة، ويأتي معظم العاملين من أنحاء الدلتا من خارج محيط القاهرة الكبرى، ويضطرون للنوم والإقامة في مكان العمل وهي صحراء جرداء.

الاقتصاد السياسي للمدن الجديدة

تحتوي العاصمة الإدارية الجديدة على 8 أحياء سكنية، وحيين حكوميتين، وحي ترفيهي، وحي استثماري، وحي دبلوماسي، وحي رئاسي، والحي المركزي للأعمال، وغيرها. بعض مصادر تمويل العاصمة واضح لكن مجملها غير معلن إذ تم الإعلان عن أن مستثمرين أجانب يموّلون إنشاء العاصمة. مع ذلك تبقى دراسات الجدوى ومصادر التمويل، والاستثمارات والعائد المادي من إنشائها غير معروفة بعد. توجد بعض الأرقام المتاحة عن نسب شراء الأراضي، وهو ما ادعت الدولة أنه سوف يتم البناء به. ففي العام 2018، تم الإعلان عن أن حوالي أكثر من 85% من نسبة الأراضي تم بيعها بالفعل. لكن لم تدرج شركة العاصمة الإدارية الجديدة في البورصة المصرية حتى اللحظة، وبالتالي لا توجد أي شفافية بشأن الاقتصاد المالي لها.

يوجد سبب آخر للجوء مصر إلى الصين، وهو سياسي بطابعه، إذ لا تضع الصين شروطاً سياسية فيما يتعلّق بالحقوق والحريات السياسية أو إطلاق السجناء من السجون المصرية 

تضمّن الإعلان الأول عن العاصمة أن الإمارات العربية المتحدة ستكون مصدر تمويل أساسي لها، قبل أن تسحب الأخيرة العرض. وقد يعود ذلك إلى إفلاس شركة أرابتك القابضة التي أنشئت برجي خليفة والعرب ومطار دبي ومطار آل مكتوم، إلا أن التفاصيل الحقيقية لانسحاب دبي غير معلنة رسمياً. كما لم يكن من الممكن للحكومة المصرية الاعتماد على قروض البنك وصندوق النقد الدوليين، خصوصاً أن برامج دعمهم لا تحتوي على مشاريع ضخمة ولا تموّل البنية التحتية والإنشاءات، وعليه اتجهت مصر إلى الصين بعد أن أتيحت لها فرصة للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق. ويوجد سبب آخر للجوء مصر إلى الصين، وهو سياسي بطابعه، إذ لا تضع الصين شروطاً سياسية فيما يتعلّق بالحقوق والحريات السياسية أو إطلاق السجناء من السجون المصرية، مثلما تفعل الدول الغربية. عدا أن مصر لن تنتقد الصين في إعلامها، ولن تعلن عن انتهاكات الحكومة الصينية بحق مسلمي الإيغور.  

اتبعت الطريقة نفسها لتمويل أبراج العلمين الجديدة. ففي 8 شباط/فبراير 2021، تم توقيع اتفاقية بين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وشركة سيسيك الصينية للإنشاءات لبناء 5 ناطحات سحاب. كما اتبعت المنهج نفسه لتطوير القطارات الخفيفة والسريعة. يعمل القطار الخفيف، الذي يضمّ المونوريل، والمموّل من الصين، عرضياً من شرق القاهرة إلى غربها ويصل العاصمة الإدارية الجديدة بالأحياء الأخرى وحتى 6 أكتوبر جنوب غرب القاهرة الكبرى، أما القطار السريع فقد تم تمويله بتعاون مع شركة «سيمينز» الألمانية، بقرض بقيمة 2.7 مليار يورو صرف في آب/أغسطس 2021، وآخر بقيمة 5.4 مليار يورو في أيار/مايو 2022. يمتدّ القطار السريع على طول 1795 كيلومتراً ويتقاطع مع المونوريل. يربط خطهم الأول قناة السويس والعين السخنة والبحر الأحمر شرقاً بمرسى مطروح غرباً والإسكندرية شمالاً، بينما يربط الخط الثاني القاهرة شمالاً بأبو سمبل جنوباً بالقرب من حدودنا مع السودان. بينما سيكون الخط الثالث والأخير بمثابة خط لربط المواقع الأثرية بعضها ببعض من الأقصر جنوباً إلى الغردقة شرقاً.

رأسمالية الدولة

لكن هل غيّرت مصر أجندتها الاقتصادية باعتمادها على القروض الصينية؟ وهل أرادت الحكومة المصرية تغيير شكل اقتصادها السياسي؟ وهل كان هناك قرار للاستثمار في رأسمالية الدولة، وإغلاق السوق الحرة، والاستثمار الخاص؟ 

تكتسب رأسمالية الدولة صفاتها هي عندما يصب الدخل والمكاسب في ميزانية الدولة، فتعيد تدويره وصرفه في سياسات اقتصادية تخدم خطة تطوير البلاد، ولكن ذلك ليس ما هو متبع في اقتصاد الجيش في مصر

منذ صلح وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر، أصبحت فكرة مركزية الاقتصاد حول الدولة الواحدة ممكنة، وكذلك فكرة الدولة ذات الحدود المستقلة التي تدير شؤونها حسب مصالحها. في القرون اللاحقة، أخذ الاستعمار مركزه في العالم، وحدّد العلاقات الاقتصادية حسب مصالح التجارة وحركتها. طبقاً لكولانتزيك 2016، في القرن العشرين، اتبعت بعض الدول فكرة رأسمالية الدولة، سواء كانت دول استبدادية أو ديموقراطية.

بدأت رأسمالية الدولة في مصر، بعد استقلالها في العام 1952، وتأميم الكثير من القطاعات الاقتصادية ونزعها من أيدي المستعمرين. وما فعله السيسي منذ العام 2013، هو تطبيق مركزية الدولة في الاقتصاد، بعدما كان الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك يخصخص الكثير من القطاعات الاقتصادية ويفسح المجال للقطاع الخاص للتواجد في الكثير من الأسواق المصرية (صايغ 2021). لكن ما فعله الجيش، بحسب يزيد صايغ، هو خلق شبكات محسوبية بين الرئاسة والجيش، ليصب الدخل ومكاسبه في جعبتهم، وأصبحت حركة الأموال والقروض والمكسب جميعها في تعتيم كامل عن الصالح العام، ولا تدخل في ميزانية الدولة ولا توجد أي شفافية في أوجه الدخل أو الإنفاق. 

تكتسب رأسمالية الدولة صفاتها هي عندما يصب الدخل والمكاسب في ميزانية الدولة، فتعيد تدويره وصرفه في سياسات اقتصادية تخدم خطة تطوير البلاد، ولكن ذلك ليس ما هو متبع في اقتصاد الجيش في مصر. ونرى ذلك في المثال الآتي في بناء العاصمة الإدارية الجديدة. 

مركز المال والأعمال في العاصمة الإدارية الجديدة

لكن هل غيّرت مصر أجندتها الاقتصادية باعتمادها على القروض الصينية؟ وهل أرادت الحكومة المصرية تغيير شكل اقتصادها السياسي؟ وهل كان هناك قرار للاستثمار في رأسمالية الدولة، وإغلاق السوق الحرة، والاستثمار الخاص؟ 

تحولت وزارة الدفاع لمستثمر وسمسار عمراني، يضارب في أراضي الدولة وأبنيتها وقروضها، من دون شفافية واضحة في مستقبل هذه الأموال وكيف سوف تصب في مصلحة الشعب المصري

بتتبع دائرة الإنفاق والقروض في مركز المال والأعمال في العاصمة الإدارية الجديدة، الذي يضم البرج الأيقوني وعدداً من الأبراج الأخرى، وجميعها بتمويل مباشر من الصين، نجد أنه شركة الصين للإنشاءات الهندسية سيسيك (CSCEC) هي المقاول الأساسي للمشروع، وتتكفل بكل تفاصيل البناء من الاساسات وحتى الانتهاء وتسليم المباني بالكامل. أما المالك فهو هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة. 

يقع مركز المال والأعمال في العاصمة على مساحة 170 فداناً، تصل تكلفة البرج الأيقوني إلى 3 مليارات دولار أميركي، بينما لم تعلن عن تكلفة البرجين الآخرين، ولكن يتوقع أن تصل تكلفتهما إلى 2 مليار دولار. وهذا مبلغ تقديري نسبة لمساحة وتمويل البرج الأيقوني. 

تتبع دائرة رأس المال في هذا المشروع التالي: يقوم البنك الصيني بتحويل الأموال لمالك المشروع والمقترض الأساسي وهي هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، التي تقوم إلى جانب شركة إدارة العاصمة الإدارية الجديدة بالدفع للمقاول، وفي هذه الحالة هو الشركة الصينية للإنشاءات، وأيضاً إلى المهندس الاستشاري وهي شركة دار الهندسة نظير أعمالهم وطبقاً لتكاليف البناء. 

سوف يبدأ رد القرض الصيني بعد 10 سنوات من انتهاء الإقراض بجزء من أرباح تشغيل الأبراج. لكن من يملك عائد المشاريع؟ شركة العاصمة الإدارية الجديدة برأس مال 6 مليار جنيه مصري، وتم انشائها في 2016، وهي مملوكة بنسبة 49% إلى هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وهي هيئة حكومية مصرية، 21.6% إلى هيئة الأراضي التابعة لوزارة الدفاع المصرية، و29.4% لهيئة المشروعات القومية التابعة لوزارة الدفاع المصرية. ونظراً لأن ميزانية وزارة الدفاع المصرية هي ميزانية سرية، لن نعلم كيف سوف تصرف الأرباح التي تدخل إلى الجهات المالكة للعاصمة الإدارية، ولن نستطيع استطلاع أي منها في قوائم البورصة لأنها غير مدرجة فيها. 

تدخل هذه الأرباح في خزانة وزارة الدفاع، وتصبح في محل الصندوق الأسود الذي لا نعلم عنه شيئ، ولا يوجد نظام محاسبة أو شفافية. تحولت وزارة الدفاع لمستثمر وسمسار عمراني، يضارب في أراضي الدولة وأبنيتها وقروضها، من دون شفافية واضحة في مستقبل هذه الأموال وكيف سوف تصب في مصلحة الشعب المصري، أو كيف سوف تتحوّل إلى أموال عامة تخدم مصالح مصر. يضارب سماسرة العقارات والعمران في وحدات سكنية بشكل دائم، وقد تتحكم أهوائهم الشخصية ومصالحهم في أسعار السوق أو المغالاة الأسعار من دون جدوى أو غرض غير مصالحهم الشخصية. وعليه تحولت وزارة الدفاع إلى وحدة فردية تهيمن وتسيطر على الدخول والأرباح سواء من الشعب أو المطورين العقاريين أو الدول الأخرى. 

نجد النمط نفسه، في صفقة رأس الحكمة. عقدت الصفقة بين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وصندوق أبوظبي السيادي، وحصلت الهيئة على 24 مليار دولار من الصفقة، في حين يفتقد الشعب المصري إمكانية التمتع بهذه الأرض الخلابة المميزة، ولا يستفيد من الأرباح المجنية منها. ويحدث الشيء نفسه في صحراء مصر والمجتمعات العمرانية الجديدة الناشئة عليه، وصولاً إلى داخل القاهرة. تم على سبيل المثال تحويل 71% من مساحة جزيرة الوراق إلى ملكية لهيئة المجتمعات العمرانية، وبدأ إخلاء الجزيرة في صيف 2017، وصارت اشتباكات دامية بين قوات الأمن والأهالي ما تسبب في موت الشاب سيد طفشان. قرّرت قوات الأمن إخلاء الجزيرة بدعوى أن الأراضي مملوكة للدولة. ومنذ فترة قصيرة تم الإعلان عن مشروع إماراتي للاستثمار على أرض الجزيرة، وهو اتفاق منعقد بين مجموعة صفوت القليوبي وبين شركة إماراتية للاستثمار. فهل تم بيع حصة الأرض من هيئة المجتمعات العمرانية إلى رجل الأعمال المصري؟ لم يتضح هذا الشق بعد. 

الجمهورية الجديدة

بعدما ثار الملايين من الشعب المصري في العام 2011 ضد الديكتاتورية، ونجحوا في إسقاط محمد حسني مبارك وحبيب العادلي وغيرهم، كان حلمهم أن يصلوا إلى عقد اجتماعي أكثر عدلاً وكرامة وحرّية للمواطن المصري، مجتمع يشمله عقد قانوني ينظم علاقة الحكام بالمحكومين، ولا يموت فيه الناس من جراء التعذيب في السجون أو في الأقسام مثل خالد سعيد أو سيد بلال. لكن ما حدث في تموز/يونيو 2013، وانقلاب وزير الدفاع على حكومة محمد مرسي، ثم ادعاء الحكومة أن الجيش لا يريد أن يحكم كان بمثابة صفعة لكل من ثاروا في 2011. 

يسعى النظام المصري إلى إقامة مدن جديدة تمكّنه من إحكام السيطرة عليها عبر اختيار من يستطيع السكن بها أو مجاراة نشاطاتها اقتصادياً واجتماعياً

ادعى نظام السيسي منذ توليه الحكم إقامة مصر جديدة أكثر حداثة وتطوراً. وعليه بدأ الإعلان عن مشاريع عملاقة واحدة تلو الأخرى. وبات الأمر وكأنه يزيل القديم ويبني الجديد. يذكرنا ذلك، عندما تولى إسماعيل باشا حكم مصر في العام 1863 وقرّر بناء باريس الشرق، في إعادة تطوير وجه القاهرة العمراني، حينها أدى الأمر إلى استدانة مصر بشكل كبير. قد يذكر كثيرون أن الخديوي إسماعيل هو ثاني مؤسس لمصر الحديثة بعد محمد علي، لكنهم لا يذكرون أنه جعل مصر مديونة بشكل كبير. وهو ما يحدث الأن، فديون مصر زادت من 76 مليار دولار أميركي في 2017، إلى 168 مليار دولار في 2023. 

لا يسعى النطام المصري لإعادة كتابة كتب التاريخ فحسب لمحو جرائمه، بل يوجد عامل آخر أكثر أهمية يخص الحاضر والمستقبل القريب، وهو أمن وأمان النظام. يسعى النظام المصري إلى إقامة مدن جديدة تمكّنه من إحكام السيطرة عليها عبر اختيار من يستطيع السكن بها أو مجاراة نشاطاتها اقتصادياً واجتماعياً، ومن ثمّ التخلص من مجاميع وقطاعات كاملة من الشعب المصري، لا تقدر أن تعيش في المدن الجديدة ولا تستطيع تحمل تكاليفها الباهظة. 

الجمهورية الجديدة ليست لعامة الشعب، بل للمُختارين منهم، وهم من المقربين من الطبقة الحاكمة والمستفيدين منها بشكل مباشر، وبالتالي لديهم من الأموال والفائض ما يمكّنهم من العيش هناك، أو يعملون ضمن المصالح الحكومية القائمة هناك ولكن احتمالية ثورتهم ضعيفة. 

بنى أحمس وطولون والمعز وعمرو بن العاص مدناً وعواصم جديدة على مر آلاف من السنوات ليقيموا مشروعاً جديداً ويثبتوا مرورهم وتفرد حكمهم. لذلك ما فكر به السيسي وينفذه ليس بالأمر الجديد. الجديد انه بناء في منعزل مخصص للحماية من ملايين من الشعب الذين يقطنون العاصمة القديمة، ولن يستطيعوا المشي والتظاهر في العاصمة الإدارية الجديدة مثلما تظاهروا ليسقطوا حسني مبارك أو المجلس العسكري أو محمد مرسي. العاصمة الجديدة هي مشروع لتلافي حدوث 25 يناير أخرى.