معاينة aid

الإنفاق العسكري يعيد هيكلة المساعدات الإنمائية

شهد العالم في الأشهر الأخيرة تغيرات جذرية في حجم المساعدات الإنمائية الرسمية (ODA)، خصوصاً بعد إعلان الإدارة الأميركية الجديدة تجميد معظم المساعدات الخارجية وإعادة النظر بها بشكل شبه كامل. فقد أعلنت الجهات المانحة العالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا والسويد وسويسرا وهولندا، وغيرها… عن تخفيضات حادة في ميزانياتها المخصصة للمساعدات الخارجية بمقدار يتراوح بين 41 مليار و60 مليار دولار أميركي، وبانخفاض بين 15% و22% بالمقارنة مع العام 2023، الذي قُدّرت قيمة المساعدات الإنمائية الرسمية بنحو 275 مليار دولار أميركي. 

هذه التقديرات أوردها تقرير نشرته «ماكينزي» في أيار/ مايو الماضي تحت عنوان «التحول الجيلي: مستقبل المساعدات الخارجية»، وهو يلقي الضوء على أسباب وتبعات الانخفاض الشديد في المساعدات الإنمائية الرسمية، إذ تتزامن هذه التخفيضات مع التزام دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) بإنفاق 2% على الأقل من ناتجها المحلي الإجمالي على العسكرة والتسلّح.

خطر الارتهان للمساعدات الخارجية

كانت المساعدات الإنمائية الرسمية تسجّل نمواً مطرداً منذ العام 2018، بمعدل زيادة سنوية بلغ 6%، لتصل إلى 0.42% من الدخل القومي الإجمالي للدول المانحة في العام 2023 (لا تزال أقل من هدف الأمم المتحدة البالغ 0.7%). وعلى الرغم من أن هذه المساعدات لا تشكّل سوى 2% من متوسط نفقات الحكومات المتلقية، إلا أنها تشكّل نسبة عالية في مجالات مثل الخدمات الصحية والإغاثة والمشاريع التنموية الصغيرة في الكثير من البلدان. لذلك، لا تمثّل التخفيضات الأخيرة مجرد تراجع كمّي، بل تكشف هشاشة النموذج الذي قام على الاستعاضة عن وظائف الدولة بالارتهان للمساعدات الخارجية لدعم الصحة والتعليم والتدخلات الإنسانية. 

يأتي الانخفاض الأكبر في التمويل الإنمائي والإنساني من دول كانت تُقدّم تقليدياً أكبر حصة من المساعدات، ولا سيما الولايات المتحدّة ودول الناتو، وهي الدول نفسها التي تقود الزيادة في الإنفاق العسكري العالمي، الذي شهد في العام الماضي أكبر زيادة منذ الحرب الباردة، ليبلغ 2.7 تريليون دولار أميركي وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. 

تعمد الدول المانحة إلى تخفيض المساعدات الخارجية لدعم ميزانيات التسلّح، إلا أن تقرير ماكنزي يشير إلى أن المساعدات المتبقية لم تعد مضمونة وهي تتعرّض لعملية إعادة توجيه الأموال بعيداً من أولويات التنمية التقليدية، نحو الكلفة المتصاعدة لدعم اللاجئين وزيادة دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا وإسرائيل.

تمثّل المساعدات الانمائية الرسمية شكلاً من أشكال «القوّة الناعمة» التي تمارسها الدول المانحة، إلا أنها تحوّلت إلى شريان حياة أو طوق نجاة في الكثير من حالات الاستجابة للطوارئ والمساعدات الإنسانية ودعم النازحين واللاجئين وصولاً إلى حلول الصحة والتعليم والمناخ. ولا شك أن الكثير من البرامج والمشاريع في مجالات مختلفة ستتأثّر سلباً بتخفيض المساعدات الخارجية. فالمساعدات الأميركية، وصلت إلى الصفر في بعض الحالات، لا سيما بعد إنهاء عقود الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، وأثّرت سلباً في مجالات حيوية مثل لقاحات الأطفال، وصحة الأم والطفل، وأمراض المناطق الإستوائية المهمَلة. ومن المتوقع، وفقاً لتقرير ماكينزي، أن تنخفض المساعدات الإنمائية الرسمية المخصصة لبرامج الصحة بنسبة 44% في المستقبل القريب، من 39 مليار في العام 2022 إلى 22 مليار دولار أميركي. فيما تشير التقديرات إلى أن 18% من مساعدات التنمية الصحية معرضة لخطر الانقطاع استناداً إلى إعلانات الجهات المانحة الحالية.

تتلقى 32 دولة مساعدات إنمائية رسمية صحية تُعادل أكثر من 25% من إجمالي إنفاقها الصحي، وهناك اعتماد كبير على الولايات المتحدة، التي تموّل أكثر من 35% من برامج مكافحة فيروس نقص المناعة والملاريا وتنظيم الأسرة. ستحتاج الدول الأكثر تضرراً، من بينها مالاوي وهايتي وسيراليون، إلى زيادة الإنفاق الحكومي على الصحة بنسبة تصل إلى 118% لتعويض نقص المساعدات. وبالنسبة إلى الدول التي تعاني بالفعل من فخ الاستدانة، أو على وشك الوقوع فيه، يُمثل تخفيض المساعدات تحدياً كبيراً. والحقيقة البشعة هي أن الدول الأكثر اعتماداً على المساعدات الإنمائية الرسمية هي أيضاً الأقل قدرة على سد فجوة التمويل، مما يفاقم احتمالية حدوث آثار صحية وخيمة.

حيثما تتركز قاعدة المانحين، يزداد احتمال حدوث انقطاع في التمويل. فغالباً ما تُقدّم جهتان مانحتان فقط، هما الولايات المتحدة وباقي دول حلف الناتو، نحو 52% من التمويل المخصص لقطاعات فرعية رئيسة مثل المساعدات الغذائية الطارئة. وبالمثل، تواجه البرامج التي تُقدّم عبر قنوات متعددة الأطراف، مثل اليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية، تهديدات جسيمة، حيث تسهم الولايات المتحدة ودول حلف الناتو بأغلب ميزانياتها.

ليست هذه التحولات الكبيرة في مجال المساعدات الإنمائية الرسمية إلا جزءاً لا يتجزأ من البنية غير العادلة لتوزيع الثروة في النظام العالمي، حيث تُترَك المجتمعات الأضعف فريسة لتقلبات سياسات المانحين. والحل لا يكمن في استجداء المزيد من المساعدات، بل في إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية الدولية، بدءاً بتقليص الإنفاق العسكري. لقد أظهرت  التخفيضات الأخيرة ميلاً انعزالياً متزايداً في الدول المانحة الكبير للتخلص من التزاماتها الدولية. فخفض المساعدات يُقوّض التضامن العالمي في وقتٍ تتطلب فيه التحديات الكبرى العابرة للحدود القومية، كالأوبئة وتغير المناخ وموجات الهجرة، سواء تلك الناتجة عن تغير المناخ أو عن الحروب والصراعات المسلّحة، المزيد من الجهود المشتركة وحشد الموارد بين دول العالم.