«المجمع الصناعي العسكري» يقتلنا جميعاً
نحن بحاجة إلى الحديث عمّا تفعله القنابل في الحروب. تُمزِّق القنابل اللحم، وتُهشِّم العظام، وتُقطِّع الأوصالَ. تتسبَّب القنابل في ارتجاج الأدمغة والرِئات والأعضاء الأخرى بعنفٍ لدرجة تجعلها تنزف، وتتمزَّق، وتتوقَّف عن العمل. القنابل تجرح وتقتل وتُدمِّر.
والقنابل أيضاً تجعل الناس أغنياء.
عندما تنفجر قنبلة، يربح شخص ما. وعندما يربح شخص ما، تحصد القنابل المزيد من الضحايا غير المرئيين. كل دولار يُنفَق على قنبلة هو دولار لم يُنفَق لإنقاذ حياة ما من موتٍ كان يمكن تجنّبه، ودولار لم يُنفَق على علاج السرطان، ودولار لم يُنفَق على تعليم الأطفال. ولهذا السبب، منذ فترة طويلة، وصف الرئيس دوايت أيزنهاور، الذي كان جنرالاً بخمس نجوم قبل توليه الرئاسة، الإنفاقَ على القنابل وكل الأمور العسكرية بأنه «سرقة».
إن رقم تريليون ونصف تريليون دولار يُعادل ضعف ما ينفقه الكونغرس سنوياً على كافة الأغراض غير العسكرية مجتمعة
وربما يكون مرتكب هذه السرقة هو القوة التدميرية الأكثر تجاهلاً في العالم. هذه القوة تلوح، من دون أن يلاحظها أحد، وراء العديد من المشاكل الكبرى في الولايات المتحدة والعالم اليوم. وقد حذّر أيزنهاور الأميركيين منها في خطبة وداعه في العام 1961، حين أطلق عليها للمرة الأولى اسم «المجمع الصناعي العسكري».
لنبدأ بحقيقة أنه بفضل قدرة «المجمع الصناعي العسكري» على اختطاف الميزانية الفيدرالية، فإن إجمالي الإنفاق العسكري السنوي أكبر بكثير مما يتصوّر معظم الناس: حوالي 1.500.000.000.000 دولار (1.5 تريليون دولار). وعلى النقيض من المخاوف التي يزرعها فينا «المجمع الصناعي العسكري»، فإن هذا الرقم الكبير وغير المعقول لا يتناسب على الإطلاق مع التهديدات العسكرية القليلة التي تواجه الولايات المتحدة. إن رقم تريليون ونصف تريليون دولار يُعادل ضعف ما ينفقه الكونغرس سنوياً على كافة الأغراض غير العسكرية مجتمعة.
إن وصف هذا النقل الهائل للثروة بأنه «سرقة» ليس مبالغة، لأن الأموال مأخوذة بالفعل من احتياجات مُلحِّة مثل القضاء على الجوع والتشرّد، وتقديم تعليم جامعي مجاني، وتعليم مجاني للأطفال في مرحلة ما قبل الروضة، وتوفير رعاية صحية شاملة، وتأسيس بنية تحتية للطاقة الخضراء لإنقاذ أنفسنا من تغيُّر المناخ. تقريباً كل مشكلة رئيسة تمسّها الموارد الفيدرالية يمكن تحسينها أو حلها بأجزاء صغيرة من الأموال التي يستحوذ عليها «المجمع الصناعي العسكري». فالمال موجود.
يتم الاستيلاء على الجزء الأكبر من أموال دافعي الضرائب من قِبل مجموعة صغيرة نسبياً من مُستغلِّي الحروب، بقيادة أكبر خمس شركات تستفيد من صناعة الحرب وهي: «لوكهيد مارتن» (Lockheed Martin)، و«نورثروب غرومان» (Northrop Grumman)، و«رايثيون» (آر تي إكس) (Raytheon RTX)، و«بوينغ» (Boeing)، و«جنرال دايناميكس» (General Dynamics). ومع استفادة تلك الشركات، زرع «المجمع الصناعي العسكري» دماراً غير مفهوم على مستوى العالم، أبقى الولايات المتحدة حبيسة حروب لا نهاية لها، أدت منذ العام 2001 إلى مقتل ما يُقدَّر بنحو 4.5 مليون شخص، وإصابة عشرات الملايين، وتشريد ما لا يقل عن 38 مليوناً، وفقاً لـ«مشروع تكاليف الحرب» في «جامعة براون».
الولايات المتحدة حبيسة حروب لا نهاية لها، أدت منذ العام 2001 إلى مقتل ما يُقدَّر بنحو 4.5 مليون شخص، وإصابة عشرات الملايين، وتشريد ما لا يقل عن 38 مليوناً
يجب أن تنتهي سيطرة «المجمع الصناعي العسكري» الخفيّة على حياتنا، ما يعني أن علينا تفكيكه. قد يبدو ذلك غير واقعي على الإطلاق، بل وحتى خيالياً. لكنه ليس كذلك. وبالمناسبة، نحن نتحدث عن تفكيك «المجمع الصناعي العسكري»، وليس الجيش نفسه. معظم أفراد الجيش هم في الواقع من بين ضحايا «المجمع الصناعي العسكري».
في حين أن الربح كان لفترة طويلة جزءاً من الحرب، فإن «المجمع الصناعي العسكري» ظاهرة جديدة نسبياً بزغت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بفضل سلسلة من الخيارات التي اتُّخِذَت بمرور الوقت. ومثل عمليات وخيارات أخرى، يمكن عكس الأمور ويمكن «للمجمع الصناعي العسكري» أن يُفكَّك.
والسؤال، بالطبع، كيف؟
ظهور الوحش
لمواجهة ما قد يتطلّبه الأمر لتفكيك «المجمع الصناعي العسكري»، من الضروري أولاً أن نفهم كيف وُلِد وكيف يبدو اليوم. وبالنظر إلى حجمه وتعقيده المذهلين، ابتكرنا، بمساعدة فريق من الزملاء، سلسلة من الرسومات للمساعدة في تصوُّر «المجمع الصناعي العسكري» والضرر الذي يلحقه، والتي نشاركها علناً للمرة الأولى.
كما أوضح أيزنهاور، وُلِد «المجمع الصناعي العسكري» بعد الحرب العالمية الثانية من «التقاء مؤسسة عسكرية هائلة» - البنتاغون والقوات المسلحة ووكالات الاستخبارات وغيرها - «وصناعة أسلحة كبرى». اتحدت هاتان القوتان، العسكرية والصناعية، مع «الكونغرس» لتشكيل «مثلث حديدي» شرير أو ما يعتقد بعض الباحثين أن أيزنهاور أطلق عليه في البداية وبشكل أكثر دقة «المجمع الصناعي العسكري الكونغرسي». حتى يومنا هذا، ظل هؤلاء الثلاثة قلب «المجمع الصناعي العسكري»، محصورين في دائرة دائمة من الفساد المُقنَّن (الذي يتميز أيضاً بالكثير من المخالفات غير القانونية).
يعمل النظام الأساسي على النحو التالي: أولاً، يأخذ «الكونغرس» مبالغ باهظة من المال منا، نحن دافعي الضرائب، كل عام ويعطيها إلى «البنتاغون». ثانياً، يُحوِّل «البنتاغون»، بناءً على توجيهات «الكونغرس»، أجزاء ضخمة من تلك الأموال إلى صانعي الأسلحة وشركات أخرى من خلال عقود مربحة للغاية، ما يمنح المُصنِّعين أرباحاً تبلغ عشرات المليارات من الدولارات. ثالثاً، يستخدم هؤلاء المتعاقدون جزءاً من الأرباح للضغط على «الكونغرس» للحصول على المزيد من عقود «البنتاغون»، والتي يُسعَد «الكونغرس» عموماً بتقديمها، ما يؤدي إلى إدامة دورة لا نهاية لها على ما يبدو.
لكن «المجمع الصناعي العسكري» أكثر تعقيداً وخُبثاً من ذلك. ففيما يُعتبر فعلياً نظام رشوة مُقنّنة، تساعد تبرّعات الحملات الانتخابية بانتظام في تعزيز ميزانيات «البنتاغون» وضمان منح عقود أكثر ربحية، والتي غالباً ما يستفيد منها عدد صغير من المتعاقدين في إحدى المناطق أو الولايات. ويطرح هؤلاء المتعاقدون قضيتهم بمساعدة جيش افتراضي يضم أكثر من 900 عضو من أعضاء جماعات الضغط في واشنطن. والعديد منهم مسؤولون سابقون في «البنتاغون»، أو أعضاء سابقون في «الكونغرس»، أو موظفون سابقون في «الكونغرس»، والذين يُعيّنوا بواسطة «دوّامة متكرّرة» يستغل قدرتهم على الضغط على زملائهم السابقين. ويتبرّع هؤلاء المتعاقدون أيضاً لمراكز الأبحاث والمراكز الجامعية الراغبة في دعم زيادة ميزانية «البنتاغون»، وبرامج الأسلحة، والسياسة الخارجية مُفرِطة العسكرة. والإعلانات طريقة أخرى لطرح برامج الأسلحة على المسؤولين المنتخبين.
كما ينشر صانعو الأسلحة تصنيعهم بين أكبر عدد ممكن من مناطق «الكونغرس»، ما يسمح لأعضاء مجلس الشيوخ والنواب بادعاء الفضل في خلق الوظائف. وفي المقابل، غالباً ما تخلق وظائف «المجمع الصناعي العسكري» دورات من التبعية في المجتمعات ذات الدخل المنخفض التي ليس لديها سوى عدد قليل من المحركات الاقتصادية الأخرى، ما يؤدي فعلياً إلى شراء دعم السكان المحليين.
ومن جانبهم، ينخرط المتعاقدون بانتظام في التلاعب المُقنّن بالأسعار، ما يؤدّي إلى فرض رسوم زائدة على دافعي الضرائب مقابل جميع أنواع الأسلحة والمعدات. وفي حالات أخرى، يؤدي احتيال المتعاقدين إلى سرقة أموال دافعي الضرائب حرفياً. و«البنتاغون» هو الجهة الحكومية الوحيدة التي لم تمر مطلقاً بعملية تدقيق - ما يعني أنه لا يستطيع فعلياً تتبُّع أمواله وأصوله - ومع ذلك فهو لا يزال يتلقّى من «الكونغرس» أمولاً أكثر من الجهات الحكومية الأخرى مجتمعة.
كنظام، يضمن «المجمع الصناعي العسكري» أن إنفاق «البنتاغون» والسياسة العسكرية مدفوعان ببحث المتعاقدين عن أرباح قصوى ورغبات إعادة انتخاب أعضاء «الكونغرس»، وليس بأي تقييم لكيفية الدفاع عن البلاد بأفضل شكل ممكن. ومن غير المستغرب أن يكون الجيش الناتج رثَّاً، خصوصاً في ضوء الأموال التي تُنفَق. يجب على الأميركيين أن يُصَلُّوا حتى لا يضطر هذا الجيش إلى الدفاع فعلياً عن الولايات المتحدة.
ولا تستطيع أي صناعة أخرى - ولا حتى شركات الأدوية الكبرى أو شركات النفط الكبرى - أن تضاهي قوة «المجمع الصناعي العسكري» في تشكيل السياسة الوطنية والسيطرة على الإنفاق. وفي واقع الأمر، أصبح الإنفاق العسكري الآن أكبر (مع مراعاة التضخم) مما كان عليه في ذروة الحروب في فيتنام أو أفغانستان أو العراق أو في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية، على الرغم من غياب تهديد يُبرِّر، ولو من بعيد، مثل هذا الإنفاق. يدرك كثيرون الآن أن المستفيد الرئيس من أكثر من 22 عاماً من الحروب الأميركية التي لا نهاية لها في هذا القرن هو الجزء الصناعي من «المجمع الصناعي العسكري»، الذي حقق مئات المليارات من الدولارات منذ العام 2001. «مَن انتصر في أفغانستان؟ المتعاقدون الخاصون» كان عنواناً رئيساً صائباً لصحيفة «وول ستريت جورنال» في العام 2021.
حروب لا نهاية لها، موت لا نهاية له، دمار لا نهاية له
كان من الممكن استبدال كلمة «أفغانستان» في العنوان المذكور بكوريا أو فيتنام أو العراق، من بين حروب أميركية أخرى تبدو وكأنها لا نهاية لها منذ الحرب العالمية الثانية. إن استفادة «المجمع الصناعي العسكري» من هذه الحروب ليست من قبيل الصدفة. فقد ساعد في دفع البلاد إلى صراعات في بلدان من كوريا وفيتنام وكمبوديا ولاوس إلى السلفادور وغواتيمالا وبنما وغرينادا، وحتى أفغانستان وليبيا والصومال، وغيرها الكثير.
ووصل القتلى والجرحى في مثل هذه الحروب إلى عشرات الملايين. عدد الوفيات المقدرة الناجمة عن حروب ما بعد 11 أيلول/سبتمبر في أفغانستان والعراق وباكستان وسوريا واليمن يشبه إلى حد مخيف عدد الوفيات الناجمة عن الحروب في فيتنام ولاوس وكمبوديا: 4.5 مليون.
الأرقام كبيرة جداً ويمكن أن تصبح مُخدِّرة. يساعدنا الشاعر الأيرلندي بودريغ أو تواما في التركيز على:
«حياة واحدة، حياة واحدة، حياة واحدة، حياة واحدة، حياة واحدة
لأنه في كل مرة تكون هذه هي المرة الأولى التي تؤخذ فيها تلك الحياة».
الضريبة البيئية
يمتدُّ الأذى الذي يلحقه «المجمع الصناعي العسكري» إلى ضرر بيئي لا يمكن إصلاحه في كثير من الأحيان، بما في ذلك تسمّم النظم البيئية، وفقدان التنوع البيولوجي بشكل مُدمِّر، وزيادة البصمة الكربونية للجيش الأميركي، والتي هي أكبر من أي جهة أخرى على وجه الأرض. في الحروب أو في التدريبات اليومية، أجَّج «المجمع الصناعي العسكري» حرفياً ظاهرة الاحتباس الحراري وتغيُّر المناخ من خلال حرق الوقود لتشغيل القواعد العسكرية والمركبات وإنتاج الأسلحة.
إن التكاليف البشرية والبيئية «للمجمع الصناعي العسكري» غير مرئية بشكل خاص خارج القارة التي تقع بها الولايات المتحدة. ففي الأراضي الأميركية وغيرها من «المناطق الرمادية» السياسية، تعتمد الاستثمارات في البنية التحتية والتكنولوجيات العسكرية جزئياً على مواطنة الدرجة الثانية لمجتمعات السكان الأصليين، والتي غالباً ما تعتمد على الجيش في سبل عيشها.
حروبٌ لا نهاية لها داخل الوطن
وكما أجَّج «المجمع الصناعي العسكري» الحروب في الخارج، أجَّج العسكرة في الداخل. لماذا، على سبيل المثال، أصبحت قوات الشرطة المحلية عسكرية الطابع إلى هذا الحد؟ هذا على الأقل جزء من الإجابة: منذ عام 1990، سمح «الكونغرس» «للبنتاغون» بنقل أسلحته ومعداته «الفائضة» (بما في ذلك الدبابات والطائرات المُسيَّرة) إلى وكالات إنفاذ القانون المحلية. تتيح عمليات النقل هذه «للبنتاغون» ومتعاقديه، على النحو الذي يفيدهم، أن يطلبوا من «الكونغرس» عمليات شراء بديلة، مما يزيد من «المجمع الصناعي العسكري».
وسعياً لتحقيق أرباح جديدة من أسواق جديدة، باع المتعاقدون أيضاً بشكل متزايد منتجاتهم العسكرية مباشرة إلى فرق «الأسلحة والتكتيكات الخاصة»، وقوات الشرطة الأخرى، ودوريات الحدود، وأنظمة السجون. وأنفق السياسيون والشركات مليارات الدولارات على عسكرة الحدود والسجون ما ساعد في تغذية صعود «المجمع الصناعي للحدود» و«المجمع الصناعي للسجون»، على التوالي، وكلاهما يجني الكثير من الأرباح. وألحقت العسكرة المحلية الضرر بمجتمعات السود واللاتينيين والسكان الأصليين بأشكال متفاوتة.
تهديدٌ وجودي
سوف يدافع البعض عن «المجمع الصناعي العسكري» بالإصرار على أننا نحتاج إلى وظائفه، والبعض الآخر سوف يدعي أنه يُبقي الأوكرانيين على قيد الحياة ويحمي بقية أوروبا من روسيا فلاديمير بوتين، والبعض الثالث سوف يحذّرنا من الصين. تُعَد كل واحدة من هذه الحجج مثالاً على الدرجة التي تعتمد بها قوة «المجمع الصناعي العسكري» على تصنيع الخوف والتهديدات والأزمات بشكل منهجي، ما يساعد على إثراء تجّار الأسلحة وغيرهم في «المجمع الصناعي العسكري» من خلال دفع المزيد من الإنفاق العسكري وتأجيج المزيد من الحروب (على الرغم من وجود سجل غير منقطع تقريباً من الفشل الكارثي عندما يتعلّق الأمر بكل صراع أميركي تقريباً منذ الحرب العالمية الثانية).
إن الحجة القائلة بضرورة الحفاظ على المستويات الحالية للإنفاق العسكري من أجل «الوظائف» مثيرة للضحك. لا ينبغي لأي جيش أن يكون برنامج توظيف. وفي حين تحتاج البلاد إلى برامج التوظيف، فقد أثبت الإنفاق العسكري أنه لا يخلق فرص العمل ولا يحرّك النمو الاقتصادي سوى بشكل رديء. وتُظهِر الأبحاث أنه يخلق فرص عمل أقل بكثير من الاستثمارات المماثلة في الرعاية الصحية أو التعليم أو البنية التحتية.
لقد ساعدت الأسلحة الأميركية أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، على الرغم من أن الشركات المُصنِّعة للأسلحة لا تتمتّع بأي طبيعة إيثارية على الإطلاق. ولو كانت تهتم حقاً بالأوكرانيين، لتنازلت عن أي أرباح، وتركت المزيد من الأموال للمساعدات الإنسانية لذلك البلد. بدلاً من ذلك، استخدمت تلك الحرب، كما تفعل مع حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على غزّة والتوترات المتزايدة في المحيط الهادئ لتضخيم أرباحها وأسعار أسهمها بشكل كبير.
إذا أخرجت من ذهنك عمليات الترويج للخوف، فإنه يجب أن يكون واضحاً لك أن الجيش الروسي قد أظهر ضعفه وعدم قدرته على احتلال الأراضي القريبة من حدوده بشكل حاسم، ناهيك عن التقدم إلى أوروبا. في الواقع، لا يشكل الجيشان الروسي والصيني أي تهديد عسكري تقليدي للولايات المتحدة. تبلغ الميزانية السنوية للجيش الروسي عُشر الميزانية الأميركية أو أقل من ذلك. وتبلغ ميزانية الصين العسكرية ثلث إلى نصف الميزانية الأميركية. وستكون الفوارق أكبر بكثير إذا دمجتَ الميزانية العسكرية الأميركية مع ميزانية «حلف شمال الأطلسي» وحلفاء الولايات المتحدة الآسيويين.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أعضاء «المجمع الصناعي العسكري» يُشجِّعون على نحو متزايد المواجهات المباشرة مع روسيا والصين، بمساعدة حرب بوتين واستفزازات الصين. وفي منطقة «المحيط الهادئ الهندي» (كما يسمّيها الجيش)، يواصل «المجمع الصناعي العسكري» الاستفادة من بناء «البنتاغون» لقواعد وقوات تحيط بالصين في أستراليا، وغوام، وولايات ميكرونيزيا المتحدة، واليابان، وجزر مارشال، وجزر ماريانا الشمالية، وبالاو، وبابوا غينيا الجديدة، والفلبين.
هذه الخطوات والحشد العسكري المماثل في أوروبا لا يؤديان إلا إلى تشجيع الصين وروسيا على تعزيز جيشيهما. (ولك أن تتخيل كيف قد يستجيب الساسة الأميركيون إذا بَنَت الصين أو روسيا قاعدة عسكرية واحدة في أي مكان بالقرب من حدود هذا البلد). وفي حين أن كل هذا مربح على نحو متزايد بالنسبة إلى «المجمع الصناعي العسكري»، فإنه يزيد من خطر حدوث صراع عسكري يمكن أن يتحوّل إلى حرب نووية تقضي بشكل محتمل على البشرية بين الولايات المتحدة والصين أو روسيا أو كليهما.
ضرورة التفكيك
ينبغي أن تكون ضرورة تفكيك «المجمع الصناعي العسكري» واضحة. فمستقبل البشر والكائنات الأخرى يعتمد على ذلك.
إن الطريقة الأكثر وضوحاً لإضعاف «المجمع الصناعي العسكري» هي تجويعه من شريان حياته، ألا وهو أموال ضرائبنا. وقد لاحظ قليلون أن رئيس «البنتاغون» السابق كريستوفر ميلر، بعد تركه منصبه، دعا إلى خفض ميزانية «البنتاغون» إلى النصف. نعم النصف.
بل إن خفضها بنسبة 30% - كما حدث لفترة وجيزة بعد انتهاء الحرب الباردة في العام 1991 - من شأنه أن يحرّر مئات المليارات من الدولارات سنوياً. تخيّل كيف يمكن لهذه المبالغ أن تبني حياة أكثر سلامة وصحة وأماناً في هذا البلد، بما في ذلك التحوّل الاقتصادي العادل لأي أفراد ومتعاقدين عسكريين يفقدون وظائفهم. وتذكر أن هذه الميزانية العسكرية ستظل أكبر بكثير من ميزانية الصين أو روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية مجتمعة.
بطبيعة الحال، حتى مجرد التفكير في خفض ميزانية «البنتاغون» أمر صعب، لأن «المجمع الصناعي العسكري» استحوذ على كلا الحزبين السياسيين، وضمن فعلياً إنفاقاً عسكرياً متزايد الارتفاع. وهو ما يعيدنا إلى لغز كيفية تفكيك «المجمع الصناعي العسكري» كنظام.
باختصار، نحن نعمل على توفير الإجابات. ومع المجموعة المتنوّعة من الخبراء الذين ساعدوا في إنتاج رسومات هذا المقال، فإننا نستكشف، من بين أفكار أخرى، حملات سحب الاستثمارات والدعاوى القضائية، وحظر مستغلي الحروب، وتنظيم أو تأميم مصانع الأسلحة، وتحويل أجزاء من الجيش إلى قوة غير مسلحة للإغاثة في حالات الكوارث والصحة العامة والبنية التحتية.
على الرغم من أن الكثير منا سوف يستمر في الاعتقاد بأن تفكيك «المجمع الصناعي العسكري» أمر غير واقعي، بالنظر إلى التهديدات التي تواجهنا، فقد حان الوقت للتفكير بجرأة قدر الإمكان حول كيفية دحر قوة «المجمع الصناعي العسكري»، ومقاومة الفكرة المخترعة بأن الحرب أمر لا مفر منه، وبناء العالم الذي نريد رؤيته. وكما قلّلت الحركات الاحتجاجية الماضية من قوة شركات التبغ الكبرى وبارونات السكك الحديدية، وتماماً كما يهاجم البعض الآن شركات الأدوية الكبرى وشركات التكنولوجيا الكبرى و«المجمع الصناعي للسجون»، يجب علينا أن نواجه «المجمع الصناعي العسكري» لبناء عالم يركز على جعل حياة البشر غنية (بكل معنى الكلمة) بدلاً من عالم يركّز على القنابل والأسلحة الأخرى التي تجلب الثروة لقلة مُنتقاة تستفيد من الموت.
نُشِر هذا المقال في TomDispatch في 2 حزيران/يونيو 2024، وتُرجم وأعيد نشره في صفر بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.