ميثاق الأوليغارشية
يمتلك كلّ مجتمع قواعد معيّنة لاتخاذ القرارات الجماعيّة وضوابط لحيازة الملكيّات، وعلى مدار التاريخ سادت علاقة وثيقة بين تلك القواعد والضوابط. فقد بيَّنت لنا الأرستقراطيّة والعبوديّة والإقطاعيّة والعبوديّة التعاقديّة كيف يمكن لمكانة الناس في النظام السياسي أنّ تتأثّر – إنْ لم يكن تتحدّد – بحسب مكانتهم في نظام الملكيّة. بكلّ أسف، تخضع السياسة للمِلكيّة.
إذا بدا لك هذا الظلم ماضياً قد مضى، فتريَّث وفكِّر مرّة أخرى. في الولايات المتّحدة وإنكلترا وبعض دول الكومنولث، ظلت المشاركة السياسيّة مشروطة بملكيّة العقارات (أو القدرة على دفع ضريبة الاقتراع) حتّى القرن العشرين. وعلى الرغم من إقرار حقّ الاقتراع العام، فإنّ الصدمات السياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة في القرن الحادي والعشرين تُثبِت أنّ الحكومات ما زالت خاضعة لرأس المال. فكيف انمسخت الديمقراطيّة الانتخابيّة إلى نظام عدم مساواة جديد، تحظى فيه الملكيّة الخاصّة باليد العليا مرّة أخرى؟See Thomas Piketty, Capital and Ideology, translated from the French by Arthur Goldhammer (Harvard University Press, 2020), pp. 2–4 (defining political, property, and inequality regimes).
لن يشعر أحد بالحيرة تجاه هذه النتيجة بقدر أولئك الذين أيّدوا منذ نحو مائتي عام، أو عارضوا، منح حقّ الاقتراع العام للبالغين في إنكلترا. يساعدنا عدم دقّة مزاعم الفريقين عن الديمقراطيّة في الإجابة على بعض الأسئلة الشائكة في لحظتنا الراهنة: أيُّهما يخدم الصالح العام، التوزيع المتكافئ أم المتفاوت للنفوذ السياسي؟ ما الشروط الدستوريّة اللازمة لتمكين جميع المواطنين، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة؟ وفي حال لم تنجح الديمقراطيّة في فكّ الارتباط بين السلطة السياسيّة والمكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، أيعني هذا أنّ الديمقراطيّة فاشلة أم أنّها غير ناجزة بعد؟
حينما كان الرجل الأبيض غير الحائز على أي ممتلكات محروماً في الماضي من التصويت أو الترشّح للانتخابات، كافح جيمس أوبراين لتصحيح تصوّر خاطئ: "سيخبرك الكَذَبة بأنّك لا تحظى بالتمثيل (السياسي) لعدم حيازتك أي ممتلكات. لكنّني أقول لك، على العكس من ذلك، أنت لا تملك لأنّك لا تحظى بالتمثيل".O’Brien is quoted by Edward Royle in Revolutionary Britannia? Reflections on the Threat of Revolution in Britain, 1789–1848 (Manchester University Press, 2000), p. 93.
بعد انفصاله عن حركات مثل الحركة المساواتيّة الإنكليزيّة وحركة اليعاقبة الفرنسيّة اللتين تدعوان إلى التغيير الاقتصادي الشامل، أعطى أوبراين – والحركة الميثاقيّة التي قادها – الأولويّة للتمثيل السياسي لعوام الناس. فراهنوا على أنّ من شأن الديمقراطيّة الحقيقيّة أن تُفرِز سياسات اقتصاديّة تتفق مع الصالح العام، وأنّه من الممكن تحقيق هذا الأمر من دون الحاجة إلى ثورة عنيفة.
طالب ميثاق الشعب عام 1838 بـ:
- جعل الدوائر الانتخابيّة متساوية.
- منح حقّ الاقتراع العام لجميع الذكور البالغين.
- إجراء الانتخابات النيابيّة سنوياً.
- إلغاء إشتراط الملكيّة في المرشّحين.
- الاقتراع السرّي.
- دفع مرتبات للنواب.Edward Beasley, The Chartist General: Charles James Napier, The Conquest of Sind, and Imperial Liberalism (Taylor & Francis, 2016), p. 131.
مع أنَّ هذه المطالب سوف تستلزم تغييراتٍ دستوريّة بكلّ تأكيد، فقد وصفها وزير الداخليّة اللورد جون رَسل – المعارض للميثاقيين – بأنّها «شِكايات ضدّ تركيبة المجتمع». كان رَسل على حقّ، إذْ ثمّة نظام اجتماعي نافذ. فقد اقتصرت المشاركة السياسيّة والتمثيل السياسي، منذ زمنٍ، لا على أرستقراطيّات العرق والجنس فحسب، بل على دائرة أضيق: أرستقراطيّة الثروة.
كيف ستصوّت هذه الأرستقراطيّات السياسيّة – أي، مجلسٌ مؤلّف بالكامل من الطبقات العليا – على ميثاق الشعب؟ مع وصول العريضة (أي عريضة الميثاق) إلى مجلس العموم، في تموز/يوليو 1839، كان الميثاق قد اجتذب تواقيعَ 1.280.959 من العامّة. لكن التصويت كان كارثياً: 235 ضدّه مقابل 46 معه.
أوضَح رَسل في خطابه أمام مجلس العموم ما تفادته البلاد من خطر في ذلك اليوم. فمجتمعٌ يحصل فيه الرجال على التمثيل وإمكانيّة حيازة الممتلكات سوف "(يدمر) ممتلكات الأثرياء وأسباب ثروتهم... ويُهدّد بهلاك موارد الشعب ورفاهه".
قوبلت مطالب الميثاق بالتجاهل. في الواقع، واصل مجلس النواب البريطاني رفضه منح حقّ الاقتراع العامّ للذكور البالغين لمدة 79 عاماً أخرى. لو قُيّض للميثاقيين العيش حتى ذاك اليوم من عام 1918، ثمّ صمدوا قرناً آخر، لرأوا العجب.
لا أقصد بهذا تحقيق معظم مطالبهم في بريطانيا والولايات المتّحدة، على الرغم من أنَّ ذلك قد حدث بالفعل. ولا أقصد انتشار هذه الوصفة الديمقراطيّة في غالبيّة البلدان حول العالم، على الرغم من أنَّ ذلك قد حدث أيضاً. كلا، فالعجب العجاب لم تظهر إلّا مؤخّراً، حيث أثبتت الدراسات أنّ مَن ضحك أخيراً كان اللورد رَسل ورفاقه المدافعين عن الأرستقراطيّة.
بحسب دراسة جاي شروبسول الصادرة عام 2019، لا يزال أقل من 1% من السكّان الإنكليز يمتلكون أكثر من نصف أراضي البلاد. فما التغيُّرات التي أوجدتها مئة عام من الاقتراع العام؟ تقول بيانات شروبسول إنّ "الشركات، والأوليغارشيّة، وأصحاب البنوك في المدينة» يمتلكون الآن مساحة من الأرض تعادل ما امتلكته «الأرستقراطيّة والنبلاء".Guy Shrubsole, Who Owns England?: How We Lost Our Green and Pleasant Land, and How to Take It Back (HarperCollins UK, 2019). For a review and the chart on land ownership, see Rob Evans, “Half of England is owned by less than 1% of the population,” Guardian, April 17, 2019.
بعيداً عن إنكلترا وملكيّة الأراضي، يكشف تقرير World Inequality Lab لعام 2018 أنّ أعلى 1% من أصحاب الأجور على مستوى العالم استحوذوا على ضُعفي ما استحوذ عليه أدنى 50% من النمو الاقتصادي بين عامي 1980 و2016. كما يشير التقرير إلى حصول عمليّات خصخصة كبرى نُقِلت بموجبها الثروة العامة إلى أيدي القطاع الخاصّ، وترتّب عليها زيادة مديونيّة الدولة والقصور الحكومي. يُثبِت تباين عدم المساواة في الدخل بين الدول الدورَ السببي للخيارات السياسيّة.Facundo Alvaredo, Lucas Chancel, Thomas Piketty, Emmanuel Saez, and Gabriel Zucman, “World Inequality Report 2018: Executive Summary,” World Inequality Lab, pp. 5–7.
إنتهى توماس بيكتي في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" إلى الخلاصة ذاتها حيال عدم المساواة في الثروة. فقد وجد، بعد مناقشته التركُّز الشديد لرأس المال بين 1970 و2010، ابتعاداً مقصوداً عن حالة المساواة التي سادت بعد الحرب. كما يستخلص بيكتي من التباينات بين البلدان نتيجة مؤداها أنّ "الاختلافات المؤسسيّة والسياسيّة تضطلع بدورٍ رئيس"Thomas Piketty, Capital in the Twenty-First Century, translated from the French by Arthur Goldhammer (Harvard University Press, 2014), p. 297.. أمّا في كتابه اللاحق "رأس المال والأيديولوجيا"، يكتشف بيكتي حقيقة قاطعة بدرجة أكبر: "عدم المساواة ليست اقتصاديّة ولا تكنولوجيّة، إنّما أيديولوجيّة وسياسيّة".Piketty, Capital and Ideology, p. 7.
باختصار، إنّ العودة إلى مستويات جنونيّة وجائرة من عدم المساواة ليست قدراً مكتوباً، إنّما نتاج رؤى وخيارات سياسيّة - أو بصورة أصحّ، نتاج أولئك النواب الذين لا يواجهون اشتراط الملكيّة، وتدفع الحكومة مرتباتهم، ويُنتَخبون بالاقتراع العام في انتخابات دوريّة.
كيف لأوبراين ورَسل أنّ يُخطِئا بشأن قوّة التصويت؟ ذلك لأنّهما ركّزا، رغم فهمهما الاقتصاد السياسي، على إمكانيّة تأثير توزيع السلطة السياسيّة في توزيع السطوة الاقتصاديّة. لقد أهملا الاتجاه المعاكس الذي كُتِب عنه الكثير في السابق.
خُذْ مثلاً كتاب آدم سميث "ثروة الأمم" الصادر عام 1776. أشار سميث إلى أنّ "تجارنا وصناعيينا يشتكون كثيراً من الآثار السيّئة للأجور المرتفعة لكنّهم لا ينبسون ببنت شفة حيال الآثار الضارّة لأرباحهم المرتفعة". ووصف أولئك الذين "يستخدمون رؤوس الأموال الكبيرة، ويتعاملون في أي فرع من فروع التجارة أو الصناعة بأنَّهم "جماعة من الأشخاص لا تتطابق مصلحتها مع مصلحة عامّة الناس، ولديها إجمالاً مصلحة في خداع العامّة أو حتّى في ظلمها، وقد خدعتها في مناسبات كثيرة وظلمتها".
بالنظر إلى كون هذه الطبقات تستخدم ثروتها لـ"(تجتذب) لنفسها الحصّة الأكبر من اهتمام العامّة"، وترجو فرض قيود على المنافسة وزيادة في الأرباح على حساب العامّة، فقد أوصى سميث بأنّ أي قوانين تقترحها هذه الجماعة "لا بدّ من دراستها بعناية وطول أناة، لا بأقصى دقّة فحسب، بل بأقصى درجات الريبة والشكّ".
أو خُذْ خوف توماس جيفرسون من التأثير المُفرط لتركُّز رأس المال في تشكيل الحكومة. لقد كتب: "أتمنّى ألّا أرى جميع المكاتب تُنقَل إلى واشنطن، حيث ستُبعَد عن أعين الناس، لتُباع وتُشترى بسرّية تامّة كما يجري في السوق". كما أشار إلى وجود "أرستقراطيّة من شركاتنا الماليّة تجرّأت بالفعل على تحدّي حكومتنا في اختبارٍ للقوة، وعلى محاولة تحدّي قوانين بلادها".
ترافق تحقيق مطالب الميثاقيين مع تركّظ رأس المال وولادة الأرستقراطية من جديدة، فالنخب الاقتصادية لن تتخلّى أبداً عن السلطة بهذه السهولةعلى الرغم من هذه التحذيرات، يبدو أنّ الميثاقيين وخصومهم ما برحوا يعتقدون أنّ الاقتراع العام سوف "يمنح السلطة العليا في الدولة لطبقة ما"، والكلام هنا على لسان اللورد توماس ماكولاي، حليف رَسل في البرلمان، عام 1842 عندما أعيد تقديم ميثاق الشعب (وصُوِّت ضدّه مرّة أخرى). كما تنبأ ماكولاي بأنّه إذا تولّت الطبقة الاجتماعيّة والاقتصاديّة الدنيا سلطة الدولة العليا، فسوف تدمّر مؤسّسة الملكيّة الخاصّة لتكسد التجارة وتهلك الصناعة ويضمحل الائتمان.
على أي حال، تزامن تحقيق مطالب الميثاقيين في جميع أنحاء العالم في نهاية المطاف مع تركُّز رأس المال وولادة الأرستقراطيّة من جديد. وكما أشار سميث وجيفرسون بالضبط، فإنّ النخب الاقتصاديّة لن تتخلّى أبداً عن السلطة العليا بهذه السهولة.
في الفترة بين سقوط جدار برلين وأوائل القرن الحالي، ارتفعت نسبة البلدان المتبنية لنظام الانتخابات الحرّة من قرابة 33% إلى 66%، لكن "مساهمات ماليّة هائلة"، بحسب استطلاع أكاديمي، "تغلغلت في عالم السياسة في معظم القارات".Comparative Political Finance Among the Democracies, edited by Herbert E. Alexander and Rei Shiratori (Westview Press, 1994), p. 4. حتّى أنّ الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة اعترضت، وخلُصت في العام 2003 إلى أنّ "سداد ديون الحملة الانتخابيّة في صورة خدمات سياسيّة يولِّد نوعاً من الفساد نشهده بكثرة حول العالم".Office of Democracy and Governance, US Agency for International Development, Money in Politics Handbook: A Guide to Increasing Transparency in Emerging Democracies (2003), p.7. ومن أصل 118 بلداً ديمقراطياً شملها الاستطلاع، فإنّ 65% منها أبدَت شفافية سياسيّة منخفضة أو شبه معدومة. القصد هنا أنّ الديمقراطيّة لم تدمِّر التجارة والصناعة ورأس المال المالي، إنّما هذا الثلاثي قد طوَّعها.
يخبرنا التحليل الإحصائي لمارتن غِلنز وبنجامين بايج عمّا يحدث حين تصبح الديمقراطيّة سبيلاً إلى الثروة: "لا تحظى مجموعات المصالح الجماهيريّة والمواطنين العاديين سوى بتأثير مستقلّ ضئيل، إنْ توفّر لهما أصلاً"، في حين "تحظى النخب الاقتصاديّة والمجموعات المُمَثّلة لمصالح الأعمال بتأثيرٍ مستقلّ مُعتبَر على سياسة الحكومة الأميركيّة". وأورد الكاتبان أسباباً متنوّعة لعدم المساواة السياسيّة الفاقعة هذه، منها التحيّزات إلى الأثرياء في تمويل الحملة الإنتخابيّة وجماعات الضغط والانتقال بين الوظائف العامّة والخاصّة.
تحدّثت منظّمات عدّة عن قابليّة تعميم هذه النتائج. فمشروع النزاهة الانتخابيّة (EIP) يشير إلى أنّ "الانتخابات ضروريّة للديمقراطيّات الليبراليّة – لكنّها غير كافية لتيسير المحاسبة الحقيقيّة والخيار العام".Electoral Integrity Project, “Electoral Integrity Worldwide,” May 2019, p. 8. في حين خصَّ تقريرا المشروع لعامي 2019 و2016 مرحلة الحملة الانتخابيّة من بين باقي مراحل الإنتخابات باعتبارها المرحلة الأضعف، حيث "يعجز تمويل الحملة عن استيفاء المعايير الدوليّة في ثلثي الانتخابات كافة".Electoral Integrity Project, “Year in Elections Report,” March 6, 2016, p. 5. وبالمثل، كشف تقرير الشفافيّة الدوليّة لعام 2019 عن أزمة دوليّة في "النزاهة السياسيّة"، وذكّر الحكومات حول العالم بـ"وجوب ألّا تُحَدِّد السطوةُ الاقتصاديّة السياسات والموارد العامّة".Transparency International Corruptions Perceptions Index 2019, see p. 4 of the full report.
لقد قيل للمواطنين في كلّ مكان إنّ حقوقكم مكفولة، لكن ميثاق الأوليغارشيّة شطب في واقع الأمر ميثاق الشعب وأفرغه من مضمونه.
تختلف أحكام ميثاق الأوليغارشيّة من دولة إلى أخرى، لكنّها تميل إلى الظهور على هذا النحو:
- تمويل الأحزاب السياسيّة والحملات من تبرّعات خاصة، وغالباً ما تشمل تبرّعات من الشركات وقروضاً من الدائنين من القطاع الخاصّ؛ أو الإعانات العامّة التي تُضرّ بالأحزاب الصغيرة والمنافسين الصغار.
- تمويل الدعاية السياسيّة وجماعات المصالح من الجهات المانحة الخاصّة والشركات وجماعات المصالح.
- غياب الأخلاق والقواعد بشأن تضارب المصالح عند أصحاب المناصب أو هي موجودة ولكنّها غير ملزمة أو غير نافذة.
- غياب القيود والشفافيّة ومدوّنات قواعد السلوك عند جماعات الضغط أو هي موجودة ولكنّها غير ملزمة أو غير نافذة.
- ضعف قوانين مكافحة الفساد والتمويل السياسي أو عدم تنفيذها على النحو اللازم.
- تشويه القضايا السياسيّة، من زاوية اختيارها وصياغتها وأهمّيتها، عبر خصخصة وسائل الإعلام، وتكتّل الشركات، وسرقة البيانات الشخصيّة، وخوارزميّات وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى مرتزقة المعلومات المُضلِّلة: البوتات، والمتصيّدون، والهاكرز، والمُفبركون، ومتخصّصو الأخبار المزيّفة.
صِيغَت معظم هذه الاشتراطات كوصفة إجرائيّة للنيوليبراليّة، فأنجزت تفكيك النقابات العمّالية، وتخفيف القيود التنظيميّة، والتسليع، والخصخصة، والملاذات الضريبيّة، والدعم الحكومي للشركات، والإعفاءات الضريبيّة للشركات والأثرياء، والتقشّف (الاقتطاعات في الإنفاق على التعليم والرعاية الصحّيّة والإسكان وإعانات الفقر والضمان التقاعدي). على هذه الساحة المُنهَكة، واصل ميثاق الأوليغارشيّة عمله بتأثيرٍ كارثي.
وثَّق تقرير فريدوم هاوس لعام 2019، "الديمقراطيّة في تراجع"، العام الثالث عشر على التوالي من التراجع الديمقراطي العالميFreedom House, Freedom in the World 2019, p. 1. . لقد أرسى تفاقم عدم المساواة والفساد وانعدام الاستقرار الأساس لردود أفعال ثقافيّة حول العالم أثارها الشعبويون المتعصّبون والسلطويون. ولنصوغَ انتهاكات القانون وحقوق الإنسان في يومنا هذا بعبارات الفترة الميثاقيّة: من رحم هذه الفوضى، لربّما يُولَد استبدادٌ غاشم، وقد يوفّر بعضُ العُتاة القساة الحماية للحطام البائس لكلّ ذلك الرخاء والمجد. لكن هذا كان السيناريو الأفضل عند ماكولاي لما سيأتي بعد إلغاء الملكيّة الخاصّة.
أوجزت غريتا ثونبرغ التأثير الأخطر لميثاق الأوليغارشيّة في خطابها في العام 2019 أمام الأمم المتّحدة في قمّة المناخ: "الناس يموتون. نظمٌ بيئيّة بأسرها تنهار، ونحن على أعتاب الانقراض الجماعي، وأنتم تتحدّثون عن المال وخرافات النمو الاقتصادي الأبدي".
أو لنصوغَ بعبارات الفترة الميثاقيّة الكارثة المناخيّة الوشيكة والكوارث الطبيعيّة ونقص المحاصيل وحروب الموارد والهجرة الجماعيّة: «سرقةٌ كبرى!... أمّ المصائب... ملايين من البشر... يقاتلون لأجل تحصيل ما يسدّ الرمق... يمزّقون بعضهم البعض إرباً... لتأتي المجاعة والأوبئة فتجعل من الفوضى الرهيبة سكوناً مُرهِباً".لكن هذا كان توقّع ماكولاي لما سيأتي به توزيعٌ متساوي للملكيّة.
لم يتفتق خيال اللورد ماكولاي عن أنّ التوزيع غير العادل للممتلكات – العزيز على قلبه – سيؤدّي، في النهاية، إلى الاستبداد ونهب العالم الطبيعي.
تشرح العلاقة بين ميثاق الأوليغارشيّة والتغيّر المناخي لبّ الموضوع. إذْ بالرغم من أنّ العلم كان واضحاً وضوح الشمس طوال أكثر من 30 عاماً، تفترض ثونبرغ أنّ الحكومات لم تعِ بعدُ الطابع العاجل للكارثة المناخيّة: "إذا فهمتم الموقف وما زلتم تتقاعسون عن العمل، فأنتم أشرار. وهذا ما أرفض تصديقه".
لكن عليها - وعلينا - التصديق. فشركات النفط والغاز أنفقت مئات ملايين الدولارات على جماعات الضغط بغية "التحكّم بالسياسات المناخيّة أو تأجيلها أو تعطيلها".Niall McCarthy, “Oil and Gas Giants Spend Millions Lobbying To Block Climate Change Policies,” Forbes Magazine, March 25, 2019. من جهتها، ربطت منظّمة الشفافيّة الدوليّة بين إزالة الغابات بشكل غير قانوني وعرقلة أموال تغيُّر المناخ وبين أشكالٍ متعدّدة من الفساد.Transparency International, Global Corruption Report: Climate Change (2011), pp. 3–15. في حين أغدقت جماعات المصالح المرتبطة بالوقود الأحفوري التمويل على حركة إنكار تغيُّر المناخ، رغم معرفتها بالحقيقة.Naomi Klein, This Changes Everything: Capitalism vs. the Climate (Simon & Schuster, 2014), pp. 31–63.
بلغ الجشع من الشطط حدَّ إيثار نهاية العالم على تخفيض الربح: هذه ما وصلنا إليه بوصفنا حضارة، بعبارةٍ أخرى لقد انتهينا إلى البربريّة لا الحضارة. وبطريقته المعكوسة، تنبّأ ماكولاي بهذا أيضاً: "حينما تكون الملكيّة مُهدّدة، فما من طقسٍ مهما كان عذباً، وما من تربة مهما كانت خصبة... سيَحُول بين الأمة وبين سقوطها في أوحال البربريّة". ما زال هذا التفكير يقصر رؤيته على بعض الثورات العنيفة والمحاولات الرامية إلى الإشتراكيّة الصرفة والدول الفاشلة. لكن لا شيء من هذا يقود لحظتنا الراهنة.
حيثما تراكمت الملكيّة الخاصّة في أيدي القلّة وأخذت تمارس تأثيراً مُفرطاً في الأنظمة السياسيّة، رسم الجشع مسار الاقتصاد والسياسة وحتّى المناخ. وهذا الجشع ليس عرضياً ولا حتمياً، بل نتيجة نقاط ضعف متفشّية ومُمنهجة في الشكل الديمقراطي. وعلى الرغم من حقّ الاقتراع العام، فقد تسنّى لأرستقراطيّة الثروة أنّ تسيطر على الإنسانيّة.
لقد رسمت المستويات الصارخة من عدم المساواة الاقتصاديّة والسياسيّة والدمار البيئي شكلَ القرن الحادي والعشرين، هذه آثارُ فشلنا في إتمام الديمقراطيّة، فإمّا أن تَفسَخ دول العالم ميثاق الأوليغارشيّة - وتُنتِج ديمقراطيّة حقيقيّة - أو يُرسَل النظام الليبرالي والعالم الطبيعي إلى اللحد.
نُشِر المقال في Public Books في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2020.