
أوهام السمن والعسل: الأثر الاقتصادي لـ«معاهدة السلام» الأردنية -الاسرائيلية
لم يبدأ التطبيع في الأردن مع «معاهدة السلام»، ولا هو بدأ، في أي بلد عربي، من لحظة التوقيع على الأوراق والمصافحات الرسمية والمراسيم البروتوكولية. تبدأ مسيرة التطبيع من اللحظة الاستعمارية وتتفاقم مع تفاقم تبعاتها المتعلّقة بنشوء وتطوّر وتدهور الكيانات السياسية ما بعد الاستعمارية في المنطقة العربية، وحاجة مجموعاتها الحاكمة إلى البقاء في محيط إقليمي - دولي محكوم سياسياً بميزان قوى تتأثّر به أكثر بكثير ممّا تؤثّر فيه.
حدود الكيانات ما بعد-الاستعمارية «الوطنية» هي نفسها حدود إسرائيل، والدفاع عن تلك الحدود وحفظ أمنها هما، وبشكل أوتوماتيكي، دفاع عن حدود إسرائيل، مع فارق مهمّ يقضي بأن الدول «الوطنية» وبتثبيتها الحدود السياسية على خطوط التقسيمات الانتدابية، تثبّت حدود إسرائيل وتعترف بها ضمنيّاً، لكنّ الأخيرة (وباعتبارها جزءاً من القوى الاستعمارية التي أنتجت الواقع الجديد) هي الوحيدة التي لا حدود نهائية لها، وتملك، باعتبارها شريكاً في منظومة التدخّل والهيمنة الأورو-أميركية، حقّاً استعمارياً غير مشروط بـ«الدفاع عن النفس»، يتضمّن الإبادة وطرد السكّان والتوسّع واحتلال الأراضي من الكيانات المحيطة بحسب الحاجة والضرورة والقدرة.
جزءٌ من هذا التاريخ الممتدّ، القديم، للتطبيع في الأردن، هو أن مقدّماته بدأت حتى قبل أن يكون ثمّة كيان سياسي صهيوني، فتواصُل الأمير عبدالله بن الحسين مع المنظمة الصهيونية في خلال فترة إمارة شرق الأردن (1921 – 1946) موثّقة في دراسات وبحوث عديدة،1 وكذلك اتصالات الملك حسين السريّة مع مسؤولين صهاينة رفيعي المستوى، ابتداءً من العام 1963.2 وقبلهما كان ثمّة لقاءات جمعت الأمير فيصل بن الحسين وحاييم وايزمن ممثل المنظمة الصهيونية بين عامي 1918 و1919، تمخّض عنها ما سُمّي بـ«اتفاقية لندن» التي فصلت بين الدولة العربية المأمولة حينها في المشرق العربي، وبين فلسطين، وأقرّت بتنفيذ وعد بلفور.3
وللانتقال من فترة الاتصالات السرّية إلى حالة العلاقات المفتوحة بعد عقود من «العداء»، كان لا بدّ من إيراد مبرّرات وإغراءات. في حالة الأردن، بنَت السلطة خطابها على منفعتَين استراتيجيّتَين أساسيّتين ستتحصّلان من السلام، الأولى: تثبيت الحدود ودرء خطر التوسّع الصهيوني ودفن «أحلام الوطن البديل»؛ والثانية: تحقيق الرخاء الاقتصادي.
بالنسبة إلى المنفعة الأولى، كان تثبيت الحدود بمثابة شرعنة كاملة لـ، وإقرار نهائي بـ، المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على كامل حدود فلسطين الانتدابية، فليس في «معاهدة السلام» الأردنية - الاسرائيلية ما يشير إلى فلسطين أو إلى دولة فلسطينية مستقبلية أو إلى احتلال، بل ترد عبارة «المناطق التي صارت تحت سيطرة الحكم العسكري الاسرائيلي في العام 1967» مرّة واحدة، في المادة 3 من المعاهدة الخاصة بالحدود، ومرّتين أخريين في الملحق 1 المتعلّق بترسيمها. ووفقاً لهذا الترتيب قبلت السلطات الحاكمة في الأردن بالأمر الواقع القائم بعد العام 1967 باعتباره اتفاقاً دوليّاً، من دون أن ننسى أن إسرائيل انتزعت الضفّة الغربية من السيطرة الأردنية، محتلّةً بذلك أراضٍ أردنية بعدما أُعلنت وحدة الضفّتين ضمن إطار المملكة الأردنية الهاشمية في العام 1950.
لكن شهيّة إسرائيل لاحتلال الأراضي لم توقفها المعاهدات، فتوسيع المستوطنات الاسرائيلية في الضفّة، وحصر الفلسطينيين داخل معازل ضمن جدار الفصل العنصري، والعمل على تهجيرهم، والقضاء على أي إمكانية لقيام «دولة فلسطينية» (وهي كلّها أمور يعتبرها الأردن الرسمي تهديداً وجودياً) تسارع بشكل هائل بعد توقيع اتفاقيات أوسلو (1993) ووادي عربة (1994)؛ وعلى السويّة نفسها، حصلت إبادة غزّة، والعدوان على لبنان، واحتلال المزيد من الأراضي السورية، بعد توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية (2020)، ما يؤشّر فعليّاً إلى أن «معاهدات السلام» هي وسيلة للمزيد من التمدّد الاستعماري. أيضاً، لم تمنع المعاهدة أطرافاً وازنة في الحكومة الاسرائيلية بأن تعتبر الأردن الوطن البديل للفلسطينيين، أو أن تعتبر أن أراضي الأردن جزء من إسرائيل، أو أن تطالب بنقل الفلسطينيين إلى الأردن.
لكن التوسّع الاستحواذي واستراتيجية الهيمنة لم يتوقّفا للحظة بل استمرّا، بشكل أوسع، بالمعنى الاقتصادي. وفي جزءٍ من تاريخ التطبيع القديم أن الجانب الاقتصادي فيه حاضر وفاعل من 3 زوايا: التبعيّة والهيمنة والقوّة، فالكيانات السياسية العربية ما بعد-الاستعمارية وُلِدت هشّة وفقيرة وضعيفة، وكانت مجموعاتها الحاكمة في حاجة دائمة إلى «الدعم الخارجي» السياسي والعسكري والاقتصادي، فمثلاً: تركّز جزء من اتصالات الأمير عبد الله مع المنظمة الصهيونية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لجذب الأموال والاستثمارات الصهيونية إلى شرق الأردن، وإلى منطقة غور كبد تحديداً، كمحاولة لزيادة الدعم المالي والسياسي لسلطته الجديدة، فيما أعطت بريطانيا المستثمر الصهيوني بنحاس روتنبرغ امتياز إنشاء أول محطة توليد للكهرباء عن طريق الطاقة المائية في المنطقة، عند ملتقى نهري الأردن واليرموك، وشرائه أراضٍ من أجل مشروعه شرقي الأردن، ليساهم ذلك في توفير أفضليّة الكهرباء والطاقة (وما يوفّره ذلك على صعيد التنمية والقوّة) لصالح مجتمع المستوطنين، وتوسيع الاستيطان، والتحكّم بالأراضي والمحيط الحيوي، وهي أمور ما زالت آثارها والإشكاليّات العميقة التي ولّدتها قائمة إلى اليوم.
الاقتصاد كأداة تطبيعية لترسيخ التبعية والهيمنة
استمرّت مركزيّة الاقتصاد كأداة إدماجيّة في فترة «السلام»، فقد أفردت «معاهدة السلام» الأردنية الاسرائيلية في مادتها السابعة مكانةً خاصة للعلاقات الاقتصادية باعتبارها من أعمدة «السلام، الأمن، والعلاقات المتناغمة بين الدول، والشعوب، والأفراد» (مادة 7 فقرة 1)، أي أنها عرّفت العلاقات الاقتصادية لا بذاتها، بل باعتبارها أداة سياسية - أمنية - مجتمعية، يمكن لها أن تربط الأطراف المنخرطة فيها عضويّاً بروابط عميقة يصعب الفكاك منها، معزّزة بذلك وجود وضرورة مجتمع المستعمِرين.
حصلت إبادة غزّة، والعدوان على لبنان، واحتلال المزيد من الأراضي السورية، بعد توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية (2020)، ما يؤشّر فعليّاً إلى أن «معاهدات السلام» هي وسيلة للمزيد من التمدّد الاستعماري
كذلك نصّت الفقرة نفسها على أن يكون التعاون الاقتصادي ليس ثنائياً فقط، بل في إطار تعاون اقتصادي إقليمي أوسع أُعيدَ التأكيد عليه مرّة ثانية في الفقرة 2ج من المادة نفسها. إضافة إلى ذلك، نصّت الفقرة 2أ على إلغاء الحواجز والعوائق التمييزية أمام التجارة بين البلدين، وإنهاء المقاطعة الاقتصادية، وأن يعمل الطرفان لإلغاء المقاطعة الاقتصادية التي تقوم بها أطراف ثالثة؛ كما نصّت الفقرة 2ب على مبدأ حريّة وعدم إعاقة تدفّق البضائع والسلع والخدمات، والدخول في مفاوضات لا تتجاوز الأشهر الستّة لتوقيع اتفاقات فرعية تتعلّق بالتجارة والاستثمار والتعاون الصناعي والمصرفي والعمل والعمّال وإنشاء المناطق الحرّة.
كانت من النتائج المباشرة لهذه «المبادئ العامّة» أن يكون الأردن جسراً للعبور الاقتصادي الاسرائيلي إلى المنطقة العربية، وأداة لكسر المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل، ومسرحاً للقاءات جمعت فعاليات سياسية واقتصادية إسرائيلية بكثير من مسؤولي واقتصاديي دول عربية وإقليمية لم تكن تجمعهم - حينها - أيّة علاقات سياسية وتطبيعية مع إسرائيل بعد، مثلما تمّ من خلال نسخ عدّة استضافها الأردن من مؤتمر دافوس-البحر الميّت الاقتصادي.
أيضاً، ساهمت هذه المقاربة بالتضييق المستمرّ على لجان ومجموعات مقاومة التطبيع، مثل حظر أوّل مؤتمر لمقاومة التطبيع في شهر أيار/مايو 1995،4 وقمع أول اعتصام ضد معرض الصناعات الإسرائيلية في العام 1997 بإطلاق مدافع المياه على المحتجيّن واعتقال بعضهم والاعتداء على بعضٍ آخر من بينهم شخصيات سياسية بارزة، ثم اعتقال لجنة مقاومة التطبيع النقابية في العام 2001، تلاها منع مهرجان المقاطعة في مجمع النقابات المهنية في العام 2002، وغيرها…5 وتوقيع اتفاقية المدن الصناعية المؤهّلة (QIZ) التي سنأتي عليها وعلى آثارها لاحقاً، فيما ساهم تثبيت مبدأ التدفق الحرّ للبضائع باستمرار تزويد إسرائيل بالأغذية والسلع في خلال حربها على قطاع غزّة وحصارها وتجويعها لسكّانه عبر خط إمداد بريّ من موانئ الإمارات عبر السعودية والأردن، التفافاً على آثار العمليات العسكرية التي أعلنها الحوثيّون على السفن المتوجّهة إلى إسرائيل من البحر الأحمر.
كذلك ضمّت المعاهدة بنوداً ذات آثار اقتصادية مباشرة، منها المادة 13 المتعلّقة بالنقل والطرق، التي نصّت على عدم فرض ضرائب تمييزيّة أو قيود على حرية حركة الأفراد والمركبات المتجهين إلى منطقة الطرف الآخر، وهي مادة أدّت دوراً مباشراً في الإبقاء على حدود الأردن وطرقها مفتوحة أمام خط الإمداد البريّ المذكور سابقاً؛ والمادة 19 المتعلّقة بالطاقة، التي تنصّ على التعاون المشترك في مجالات الطاقة المختلفة، خصوصاً الطاقة الشمسية، والربط الكهربائي؛ والمادة 6 الخاصة بالمياه والملحق 2 المتعلّق بها، وسنفرد لهما حيّزاً خاصّاً أدناه.
كيف أصبح الأردن البلد الأفقر مائيّاً في العالم
وضعت «معاهدة السلام» بين الأردن وإسرائيل ترتيباً مائياً عجيباً يضمن تبعيّة الأوّل للثانية، ويحقّق أمن الثانية على حساب الأوّل. وبتوقيعه المعاهدة، قَبِل الأردن التقسيم الاعتباطي الذي قامت به إسرائيل لحوض نهر الأردن لكي تستأثر بنهر الأردن وروافده شمال بحيرة طبريا، وببحيرة طبريا نفسها، وهي منبع الجزء الجنوبي من النهر، مُخرجة بذلك الأردن من أي حصّة له من تلك المياه الضرورية والحيوية. لكن، وعلى المقلب الآخر، وعلى الرغم من أن نهر اليرموك (وهو أحد روافد نهر الأردن الرئيسة) ليس نهراً مشتركاً بينهما، بل هو نهر مشترك بين الأردن وسوريا، ضمنت الاتفاقية حصّة محدّدة لإسرائيل منه (12 مليون متر مكعب في الصيف، و13 مليون متر مكعب في الشتاء)، على أن يحصل الأردن على «باقي التدفّق». أي أن الأردن، وفي ظروف الجفاف والاحتباس الحراري، وبناء سوريا السدود على نهر اليرموك، وسوء إدارة الأردن وتأخّره في إدارة موارد المياه نتيجةً لمراعاة موافقة إسرائيل والولايات المتّحدة، سيحصل على القليل جدّاً من المياه، بل إنه يحصل وفق ترتيبات «معاهدة السلام» على أقلّ ممّا كان يحصل عليه من نهر اليرموك قبلها.
تُمكِّن هذه الترتيبات إسرائيل من تخفيض التزويد المائي واستخدامه للابتزاز السياسي كما حصل في العام 2024 كنتيجة لانتقاد حكومة الأردن لانتهاكات الاحتلال وجرائمه في غزة، أو إيقافه فعلاً وتعطيش الأردنيين، إن هي أرادت واقتضى الأمر، مثلما فعلت وتفعل في غزّة من دون رقيب أو حسيب
أيضاً، انتزعت إسرائيل حقّ ضخّ 20 مليون متر مكعب إضافية من نهر اليرموك، في مقابل منح إسرائيل كمّية مماثلة للأردن تضخّها من بحيرة طبريا/منبع نهر الأردن جوار مستوطنة ديجانيا، أي أن التحكّم في ضخّ المياه المنصوص عليها أعلاه، أو غيرها من المصادر الناتجة عن تحلية المياه (المذكورة في الفقرات I2d وI3 من الملحق الثاني للمعاهدة)، هي بيد المزوّد الإسرائيلي الذي سيتمكّن، من خلال هذه الترتيبات، من الإخلال بالتزويد والتنصّل منه، أو ضخّ المياه الملوّثة، أو التهديد بإيقاف الضخّ. والأخير أمر فعله مسؤولون إسرائيليّون مرّات عدّة وفي مناسبات عدّة، منها ما هدّد به وزير الزراعة الإسرائيلي أوري أريئيل في العام 2018 عندما قرّر الأردن عدم تجديد تأجير أراضيه في منطقتي الغمر والباقورة لـ25 عاماً جديداً بعد انتهاء المدّة الأولى المنصوص عليها في «معاهدة السلام». ومنها ما هدّد به جلعاد شارون، نجل رئيس الحكومة الراحل أريئيل شارون، مرّة في العام 2019 في سياق الموضوع نفسه، وأخرى في العام 2021 في ظلّ ما اعتبره حينها تقارباً بين رئيس الوزراء نفتالي بينيت وبين الأردن. كما تُمكِّن هذه الترتيبات إسرائيل من تخفيض التزويد المائي واستخدامه للابتزاز السياسي كما حصل في العام 2024 كنتيجة لانتقاد حكومة الأردن لانتهاكات الاحتلال وجرائمه في غزة، أو إيقافه فعلاً وتعطيش الأردنيين، إن هي أرادت واقتضى الأمر، مثلما فعلت وتفعل في غزّة من دون رقيب أو حسيب.
ونصّت المعاهدة في الملحق الثاني فقرة I2c على أنّ إسرائيل لها الحقّ في الاستمرار باستخدام مياه نهر الأردن من نقطة التقائه بنهر اليرموك شمالاً وحتى نقطة التقائه بوادي اليابس جنوباً، وأنّ للأردن الحقّ بكمّيات سنويّة مساوية للكمّيات التي تستخدمها إسرائيل، شرط «ألّا تضرّ الاستعمالات الأردنية كمّية المياه التي تستعملها إسرائيل ونوعيتها». بمعنى أن الاستعمال الأردني «المتساوي» للمياه مشروط بعدم انخفاض كميّة أو نوعيّة الاستخدام الإسرائيلي الذي يحظى بالأولويّة على الاستخدام الأردني، وهذا الشرط يتماثل مع ما تمّ النصّ عليه في استخدامات نهر اليرموك الذي يستحق لإسرائيل نسبة محددة وواضحة منه، مبقية للأردن «باقي التدفّق».
أخيراً، أعطت المعاهدة في ملحقها الثاني، مادة IV، حقوقاً مائيّة لإسرائيل في المياه الجوفيّة والتي حفر الاحتلال آباراً لسرقتها داخل الأراضي الأردنيّة في وادي عربة؛ فالملحق ينصّ على حقّ إسرائيل في استخدام الآبار التي حفرتها في الجانب الأردني من الحدود، وحقّها في حفر آبار جديدة بديلة عن تلك التي قد تتوقف عن العمل، على أن يتمّ شبك الآبار الجديدة بشبكة المياه والكهرباء الإسرائيلية. أيضاً، نصّت المادة نفسها على حقّ إسرائيل في زيادة الضخّ من هذه الآبار لما يصل إلى 10 ملايين متر مكعب سنوياً فوق مستوى الضخّ القائم، وأن لا يقوم أي طرف بما من شأنه تخفيض مردود هذه الآبار كمّاً أو نوعاً. وكان الناطق الإعلامي باسم سلطة المياه والري الأردنية قد صرّح بأن إسرائيل تستخرج من تلك المنطقة 4 ملايين و800 ألف متر مكعب من المياه من خلال 9 آبار، مؤكّداً أن «معاهدة السلام» «تمنع أي طرف من الأطراف فعل ما يُسبب تخفيف ضخ تلك المياه».
ينتج عن هذا عمليّاً، تعطيل حفر أيّة آبار أردنيّة للاستخدام المحلّي في وادي عربة للحفاظ على استمراريّة سرقة إسرائيل مياه الأردن الجوفية في تلك المنطقة، وأن يقوم الأردن بحماية تلك السرقة من مواطنيه الذين مُنعوا من استخدام هذه المياه للحفاظ على كميّة ونوعيّة السرقة الإسرائيلية.
ولم تقتصر الكارثة المائية على نصوص بنود المعاهدة وآثارها، بل إن مشروع المياه الرئيس الذي راهنت عليه السلطات في الأردن، والمسمّى بـ«ناقل البحرين»، رُبط باسرائيل على الرغم من وقوعه بالكامل داخل الأراضي الأردنية، وخصّصت غالبية مردوده من المياه المحلّاة لإسرائيل على أن تعطي هذه الأخيرة للأردن بدلاً منها مياهاً إضافية من بحيرة طبريا. ومنذ طرح فكرته في العام 2002، ماطلت إسرائيل في إجراءاته، وعطّلتها، وابتزّت الأردن بها، إلى أن تمّ التخلّي عنه تماماً بعد أكثر من 20 عاماً، إثر تخلّي البنك الدولي (بعد مرور كلّ هذه السنوات) عن تمويله، وانسحاب الأردن منه نظراً «لعدم وجود اهتمام إسرائيلي حقيقي به». وقد بدأ من حينها طرح «الناقل الوطني» كمشروع سياديّ أردني خالص لتحلية المياه، لتبدأ أولى خطوات تنفيذه في العام 2025، بعد قرابة ربع قرن من طرح فكرة المشروع الأول الشبيه مع إسرائيل. كان ثمن هذا التعطيل كبيراً، إن كان لجهة ارتفاع كلفة المشروع، أو لجهة تدهور فقر الأردن المائي عبر تلك السنوات ليصبح البلد الأكثر فقراً بالمياه في العالم.
لكن لم تلقِ السلطات الأردنية بالاً لكلّ هذه التجارب الفاشلة والتهديدات والابتزازات، فذهبت مرّة ثانية لتوقيع اتفاق (بشراكة إماراتية ورعاية أميركية) يقوم بموجبها الأردن بتزويد إسرائيل بالطاقة الشمسية عبر مشروع تموّله الإمارات، في مقابل الحصول من إسرائيل على 200 مليون متر مكعب من المياه المحلّاة ستمثّل 18% من استهلاكه السنوي الحالي للماء، والبالغ 1.1 مليار متر مكعب. يفتح هذا الاتفاق إشكالات كثيرة، منها استخدام إسرائيل أراضي الأردن لتحسين سجلّها في الانبعاثات الكربونية ونسب توليد الكهرباء من الطاقة النظيفة، في مقابل الإبقاء على أراضي النقب مخصصة لأغراض التدريب العسكري وكمحميّات طبيعية. إذاً، يساهم هذا المشروع في تعزيز القدرات العسكرية الاسرائيلية لارتكاب المجازر وجرائم الحرب عبر توفير بديل من «الأراضي الفارغة الشاسعة» لتوليد الكهرباء منها. وفي الوقت نفسه، يساهم في تنظيف صورة الاستعمار الصهيوني البيئية عبر زيادة كمّيات الكهرباء الخضراء المولّدة من مصادر نظيفة ومستدامة. وأخيراً، يضع حصّة وازنة أخرى من ماء الأردن تحت تحكّم إسرائيل لتُضاف إلى الكميّات التي تتحكّم أصلاً بتزويدها من خلال ترتيبات «معاهدة السلام».
جُمّد هذا الاتفاق بعد حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة على غزّة، لكن هذا التجميد غير نهائي، والتراجع عنه مُضمَر في تصريحات وزير الخارجية الأردني الذي أعلن عنه بالقول إن الظروف الحالية «لا تسمح بأي نوع من التفاعل أو النقاش مع الإسرائيليين»، لكن يمكن للظروف أن تتغيّر في المستقبل، كما تغيّرت مراراً في السّابق.
استغلال الموارد والعمّال: المناطق الصناعية المؤهّلة نموذجاً
في العام 1995، ظهرت فكرة المناطق الصناعية المؤهلة للاستفادة من اتفاقية التجارة الحرّة الإسرائيلية الأميركية لتصدير بضائع ذات منشأ مشترك بنسب محدّدة من دول المنطقة، من دون رسوم جمركيّة أو سقوف كميّة إلى الولايات المتّحدة الأميركية، وثبّت الرئيس الأميركي بيل كلينتون الفكرة بالأمر الرئاسي رقم 6955 الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 1996، ووقّعت الاتفاقية الخاصة بهذه المناطق بين الأردن وإسرائيل في تشرين الثاني/نوفمبر 1997. افتتحت أول مدينة صناعية من هذا النوع في الأردن في العام 1998 في إربد شمال الأردن، وتتالى بعدها افتتاح المدن الصناعية الشبيهة، أو «تأهّلت» بعض المدن الصناعية القائمة أو المصانع لتدرج نفسها في هذا البرنامج، ليصل عددها في العام 2006 إلى 13 مدينة ومنطقة.
الآثار الكبيرة لهذه الاتفاقيات على اقتصاد الأردن وضعت أمنه الاستراتيجي طويل المدى في مجال الطاقة في يد مشروع استعماري استيطاني توسعي إبادي، وهذه وحدها كلفة اقتصادية - سياسية - أمنيّة هائلة
وعلى الرغم من أن الصادرات الأردنية من هذه المناطق إلى الولايات المتحدة (بالأرقام المطلقة) قد زادت باطّراد في خلال السنوات التي كان هذا الترتيب فيها ذو أهميّة،6 وجلّ هذه الصادرات هي من قطاع واحد هو المحيكات، إلّا أنّ الأثر الحقيقي كان سلبياً، بل يمكن الذهاب إلى أنّه كان استغلاليّاً. فمن جهة، كان معدّل الرواتب الشهرية المدفوعة للعمّال في السنوات الأولى لبدء عمل هذه المناطق 85 ديناراً (= 120 دولاراً)، وهو أقل من الحد الأدنى للأجور في الأردن، بعد أن تمّ استثناء هذه المناطق منه، ويستمرّ هذا الاستثناء (مع ارتفاع الحد الأدنى للأجور) حتى اليوم. بالإضافة إلى أن ظروف العمل في هذه المناطق بالغة السوء، من حيث ساعات العمل الطويلة وبيئة العمل غير الصحيّة التي لا تراعى فيها معايير السلامة والصحة المهنيّة، وهو الأمر الذي أدّى إلى عزوف الكثير من الأردنيين عن العمل في هذه المناطق، واعتمادها على العمالة المهاجرة، إلى أن وصلت نسبة هذه العمالة إلى 76% من مجموع العاملين فيها. ويعمل العمّال المهاجرون ضمن ظروف أشبه بالاستعباد، تتضمّن إجبارهم على العمل ساعات طويلة وإضافية (13 – 16 ساعة يومياً) من دون أجور، وإسكانهم في أماكن غير ملائمة للعيش، واحتجاز جوازات سفرهم، وتعرّضهم لإساءات لفظية وجسدية وجنسية،7 ما أدّى إلى صدور تقارير وتنظيم احتجاجات ضمن أطر عمّالية عالمية، وإضرابات عمّال داخل المدن الصناعية نفسها، ما يعني نقل آليات استغلال العمّال، وآثار الأزمات الناتجة عنها كالاعتصامات والإضرابات، والكلفة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية المتعلّقة بالتعامل معها، إلى الأردن.
على مستوى آخر، استغلّت هذه المصانع موارد الأردن وبنيته التحتيّة وساهمت في تلويث بيئته، فاستخدمت الكهرباء والمشتقات النفطيّة بأسعار مدعومة، واستهلكت واستخدمت الطرق والأراضي والمنشآت والمعابر الحدودية والخدمات الحكومية والأمنية وموظّفيها، بالإضافة إلى استغلالها الكبير للمياه، فأغلب المصانع المؤهلة كانت مصانع محيكات، وهي صناعة تستهلك كميّات كبيرة من الماء، وتعتبر الصناعة الثانية الأكثر استهلاكاً للمياه، وتطرح مثلها من الماء الملوّث.
أثرٌ آخر لهذه المصانع كان تفضيلها استخدام الموانئ الإسرائيلية على ميناء العقبة لتصدير منتجاتها، ما قلّل الاستفادة المحلّية من العمليات اللوجستية المرتبطة بهذه الصناعة، وربط جدواها الاقتصادية بتلك الموانئ، ووسّع دائرة الاستفادة الاقتصادية الإسرائيلية. كما أُعفيت هذه المصانع من الرسوم والجمارك والضرائب، وأُخضعت مشترياتها لضريبة مبيعات بنسبة صفر، ما يعني أن هذه المصانع تلقّت الدعم الحكومي الأردني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (كما ذكر سابقاً) مقابل عدم مساهمتها في العائد الضريبي والجمركي، وعدم تشغيلها للمواطنين الأردنيين سوى بنسب ضئيلة، واستغلالها مَن قامت بتشغيلهم بدفع رواتب أدنى من الحد الأدنى للأجور وفي بعض الأحيان عدم الدفع لهم على الإطلاق بعد الإغلاق ومغادرة البلاد، بالإضافة إلى مساهمتها في تحريك عجلة الاستيراد والتصدير عبر الموانئ الإسرائيليّة لا الأردنية، ما يعني أن الأثر الحقيقي لهذه المدن كان عبئاً على الاقتصاد الأردني بدلاً من أن يكون إضافة له.
قلّت أهمية هذا الترتيب مع توقيع اتفاقية التجارة الحرّة الأميركية الأردنية في العام 2000، ووصول التخفيض الجمركي من خلالها تدريجيّاً إلى الصفر في العام 2010، إذ لم يعد من الضروري أن تُستخدَم اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة للدخول إلى السوق الأميركي من دون حواجز جمركية، ومنذ ذلك العام صارت غالبية الصادرات تتمّ عبر اتفاقية التجارة الحرة الأميركية الأردنيّة، لكن المفاعيل التي أرستها المناطق الصناعية المؤهلة، والامتيازات والتسهيلات التي حصدتها وأرستها، والاختلالات التي أحدثتها في سوق العمل، خصوصاً ما يتعلّق باستغلال واستعباد العمالة المهاجرة، ظلّت قائمة ومستمرّة إلى اليوم.
اتفاقيات الغاز: حرمان من التنمية لتمويل الاستعمار
تبقى اتفاقيات استيراد الغاز من إسرائيل صاحبة الأثر الأكبر والأفدح على الاقتصاد الأردني لأنها تتضمّن عناصر عدّة غير مسبوقة وعميقة التأثير، أوّلها الحجم الكليّ لهذه الصفقات والتي تصبّ حوالي 10.7 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأردنيين مباشرة في اقتصاد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وآلة حربه الإبادية، وثانيها حرمان الاقتصاد الأردني نفسه من استثمار هذا المبلغ الكبير محلياً في مشاريع تنعكس آثارها على شكل تنمية اقتصادية محليّة وفرص عمل للمواطنين الأردنيين، وثالثها ما تمثله هذه الصفقة من ردعٍ لجهة تنمية مصادر الطاقة المحليّة، خصوصاً الطاقة النظيفة والمستدامة (كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح)، ورابعها، التبعيّة الناتجة عن هذا الاعتماد الكبير على الغاز المستورد من إسرائيل لتوليد الكهرباء في الأردن من جهة، وتشغيل عمودَي الاقتصاد الأردني: شركة البوتاس العربية (ومعها تابعتها: برومين الأردن)، وشركة مناجم الفوسفات الأردنية، وربط المناطق الصناعية الأردنية بخط الإمداد هذا، من جهة أخرى.
منذ العام 2014، وضمن أجواء الإحباط والانقسام السياسي الذي تلى إخماد الانتفاضات العربيّة، وتحوّل بعضها إلى حروب داخليّة طاحنة، تسارع التطبيع بمعناه العضويّ العميق، أي الذي يبغي أن يحقّق ما فشلت فيه المبادرات الطوعية والسياسية والثقافية السطحية، بالغصب والقوّة وعبر تمكين التطبيع من قطاعات أساسية واحتياجات حيوية يصعب الفكاك منها. وهذا لا يقيّد السلطات السياسية مباشرة بالمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني فقط، بل يكبّل أيضاً عامة الناس. ففي شباط/فبراير من العام 2014، تمّ توقيع أوّل اتفاقيّة لاستيراد الغاز من إسرائيل من قبل شركة البوتاس العربيّة، لتتحوّل، بعد حفل توقيع شارك فيه آموس هوكشتاين، العرّاب الأميركي لدمج إسرائيل في المنطقة العربية من خلال الطاقة، إلى الاعتماد بشكل شبه كلّي على إمدادات الغاز من إسرائيل من أجل تشغيل منشآتها، دافعة فوقها 700 مليون دولار لائتلاف شركات أميركيّة إسرائيلية كثمن لهذه التبعيّة.
تلى توقيع الاتفاقية خطوة أخطر وأكبر، هي الانتقال إلى توليد الكهرباء في الأردن بإمدادات غاز من إسرائيل، إذ وقّعت شركة الكهرباء الوطنيّة، منتصف أيلول/سبتمبر من العام نفسه، رسالة نوايا غير ملزمة كمقدمة لاتفاقية تستورد بموجبها هذه الشركة المملوكة بالكامل من الحكومة الأردنية (أي من المال العام)، ولـ 15 عاماً تُحسب من لحظة ابتداء التزويد، غازاً قُدّرت قيمته حينها بـ15 مليار دولار، تلاه التوقيع الفعلي والمُلزم لاستيراد شركة الكهرباء الوطنيّة الغاز من إسرائيل في العام 2016 بصفقة قيمتها 10 مليارات دولار، ليبدأ ضخ الغاز إلى الأردن في العام 2020، واضعاً نسبة خطيرة من كهربائه (70 – 98% بحسب الخبراء) بيد إسرائيل، لتوضَع بذلك الكهرباء إلى جانب المياه في دائرة التهديد الإسرائيلي. أما في العام 2022 فقد بدأ تصدير الغاز إلى مصر عبر الأردن ومن خلال خط الغاز العربي الذي عُكست مضخّاته، وتحوّل، بعد أن كان مشروعاً للتكامل العربي عنوانه ضخّ الغاز من مصر (صاحبة أكبر احتياطيات للغاز في شرق المتوسط) إلى الأردن وسوريا ولبنان، إلى مشروع للاختراق والإلحاق الصهيونيّ يَضُخّ غازاً من الموارد الفلسطينية المنهوبة من قبل الاحتلال ليتمّ تسييله في مصر وتصديره بالبواخر إلى أوروبا. فيما عملت وزارة الطاقة الأردنية على تشجيع ربط المناطق الصناعية الأردنية بشبكة خط الغاز العربي الذي تديره «شركة فجر» الأردنية المصرية، وتسري في أنابيبه إمدادات الغاز المستوردة من إسرائيل، وذلك في محاولة لتصريف كميّات الغاز الكبيرة المتعاقد عليها والتي تتجاوز احتياجات الأردن من جهة، وربط الصناعات الأردنية بإمدادات الغاز الإسرائيلية من جهة ثانية.
كانت آثار هذه الاتفاقيات كبيرة على اقتصاد الأردن، فقد وضعت أمنه الاستراتيجي طويل المدى في مجال الطاقة التي تؤثر مباشرة على القطاعات كافّة وعلى حياة الناس، في يد مشروع استعماري استيطاني توسعي إبادي، وهذه وحدها كلفة اقتصادية - سياسية - أمنيّة هائلة، بالإضافة إلى أنها شكّلت رادعاً لتطوير إمكانيّات الأردن المحلّية في مجال الطاقة بسبب ضخامة الكميّة المتعاقد عليها وتجاوزها احتياجات الأردن بعد حساب مجموع خليط الطاقة المتوفر للأردن من المصادر الأخرى القائمة، إذ تضمّنت الاتفاقيّة بنداً خاصاً (فقرة 7.9) مُصمَّماً لتثبيط وردع تطوير مصادر الغاز المحليّة في الأردن من خلال وضع اشتراطات تعيق تخفيض الكميّات المستوردة من اسرائيل في حال تمّ إنتاج غاز طبيعي في الأردن، الأمر الذي يخفّض من جدوى استخراج الغاز محلّياً، ويثبّط من جهود تطوير مصادر الغاز الأردنية السيادية في مقابل الاعتماد على استيراد الغاز من اسرائيل.
بدلاً من تطوير مصادر الطاقة السيادية المحلّية في الأردن، وتطوير الطاقة الاستيعابية لشبكة الكهرباء، وتطوير إمكانيّات التخزين، وجّه أصحاب القرار مليارات الدولارات المنتزعة من موازنة ترزح تحت دين هائل، إلى إسرائيل بدلاً من استثمارها في الأردن
مثال على ذلك، وفي انتظار بدء ضخ الغاز من إسرائيل بعد أشهر، خفّضت الحكومة استيرادها للغاز من مصر إلى ربع الكمية في شهر حزيران/يونيو 2019، لتوقفها تماماً في الشهر التالي، بعد أن حقّق الأردن قبلها، ومنذ عام 2015، فوائض في توليد الكهرباء لاكتفائه من إمدادات الغاز من ميناء الغاز المسال في العقبة، وتصديره الفائض من هذه الإمدادات إلى مصر، وتحقيقه تطوراً في نسبة مساهمة الطاقة الشمسية في خليط الطاقة. ويستمر توقّف التوريد من مصر حتى اليوم إذ يستخدم خط الغاز العربي اليوم بالعكس، لتوريد الغاز من إسرائيل إلى مصر، خصوصاً أن حقل تامار للغاز وخط عسقلان – العريش (خط أنابيب غاز شرق المتوسط -إي إم جي) المرتبط به توقفا عن العمل مرّات عدّة نتيجة للعدوان على غزّة.
وكانت الحكومة الأردنية قد أعلنت بداية العام 2019 عن توقيف ترخيص مشاريع الطاقة الشمسية التي تتجاوز طاقتها التوليدية 1 ميغاواط (تحت ذريعة عدم وجود قدرات تخزينية واستيعابية وعدم قدرة الشبكة على التعامل مع الطاقة الفائضة المولّدة)، واستمر هذا التوقّف لأربع سنوات، مع أن الأردن يُعتبَر من أفضل البلدان في السطوع الشمسي وعدد الأيام المشمسة وتوفّر المساحات التي يمكن استغلالها لهذا الغرض، والتي تجعل منه مكاناً نموذجياً لتوليد الطاقة الشمسية وتطوير إمكانيّاتها.
أيضاً في العام 2019، وتحت ذريعة الغبن في سعر الكهرباء المتعاقد عليه مع الشركة المعنية، اختصمت حكومة الأردن مشروع توليد الكهرباء من الصخر الزيتي في منطقة العطارات وأخذتها إلى التحكيم الدولي وتمّ تعطيل العمل بالمشروع مع أن الأردن يمتلك ثالث أكبر احتياطي في العالم من الصخر الزيتي، يقدّر بـ100 مليار طن. ويبرز مثالٍ آخر، عندما تباطأت الأردن في تطوير حقول الغاز الموجودة في أراضيه في منطقة الريشة، علماً أن الحكومة أعلنت مؤخراً عن وجود احتياطيات ضخمة فيها.
كلّ هذه التدخّلات المذكورة (وقف استيراد الغاز من مصر؛ وقف ترخيص مشاريع الطاقة الشمسية ذات القدرات الكبيرة؛ وقف العمل بمشروع الصخر الزيتي) تمّت في خلال العام 2019، وهو العام الذي سبق بدء ضخ الغاز المستورد من إسرائيل إلى الأردن في 1 كانون الثاني/يناير 2020، فهل هي مجرّد صدفة؟
والجدير بالذكر أيضاً أنه خلال العام نفسه، 2019، وقبل وصول إمدادات الغاز من إسرائيل، تصاعدت التصريحات الرسميّة المتعلقة بقدرة الأردن على تصدير الكهرباء إلى دول الجوار العربية وأوروبا، وتزايدت محاولات إيجاد سوقٍ لتصريف فائض الطاقة الكهربائية المتحققة في الأردن، إذ كانت البلاد تحقّق حينها فائضاً في الطاقة الكهربائية والقدرة على توليدها، لكن الأمر تفاقم بشكل كبير بعد وصول إمدادات الغاز الاسرائيلية، ما يعني هدراً للإمكانات والقدرات والموارد والأموال، وخسائر بدلاً من المكاسب.
لذا، وبدلاً من تطوير مصادر الطاقة السيادية المحلّية في الأردن، وتطوير الطاقة الاستيعابية لشبكة الكهرباء، وتطوير إمكانيّات التخزين، وجّه أصحاب القرار مليارات الدولارات المنتزعة من موازنة ترزح تحت دين هائل، إلى إسرائيل بدلاً من استثمارها في الأردن، الأمر الذي عطّل التنمية المحليّة ورسّخ التبعيّة ووضع الأردن تحت تهديد وكلفة الابتزاز السياسي-الاقتصادي بقطع الإمداد ودعم الاقتصاد الاستعماري الاستيطاني الصهيوني وحروبه التوسعية الإبادية، وأتاح لإسرائيل أن تستفيد من هذا الغاز لاستخداماتها الذاتية وتحقيق استقلالها في مجال الطاقة. لم تكن الجدوى الاقتصادية لحقول الغاز لتسمح باستثمارها لأجل الاستهلاك المحلي الإسرائيلي فقط، وبهذا جاءت اتفاقات تصدير الغاز إلى الأردن عامي 2014 و2016 (ومن ثم إلى مصر في العام 2018) بمثابة جائزة مكعّبة لإسرائيل: أوّلاً، تمكّنها من تحقيق استقلالها في مجال الطاقة؛ ثانياً، تدعم اقتصادها بمليارات الدولارات؛ ثالثاً، تدمج المنطقة وشعوبها عضويّاً بها من موقع القوّة، ما يمكنّها، بالتالي، من ابتزازها وإخضاعها عبر التهديد بقطع الإمداد، مثلما يمكّنها من إعادة توجيه احتياطيّاتها تحت ظروف الحرب والعدوان، لخدمة الحرب والعدوان، من دون أي اعتبار للمستوردين وأولوياتهم، بل ومن دون تنسيق معهم أصلاً.
بالإضافة إلى كلّ هذا، دخلت إسرائيل إلى الشبكة العضوية للمنطقة، من خلال خط الغاز العربي الممتد من مصر، عبر الأردن، إلى سوريا ولبنان، ومن خلال شبكة الكهرباء عبر الكهرباء المولّدة من ذلك الغاز، وهي شبكة متصلة إقليميّاً في نقاط كثيرة، وتمتدّ بين مصر إلى الأردن، وتربط هذه الأخيرة بالضفة الغربية (أريحا) والعراق (الطريبيل) والسعودية وسوريا ولبنان، وهاتان الأخيرتان صارتا اليوم، إثر التغيّرات الإقليمية الكبرى، الهدف المفضّل أردنياً لتصدير الكهرباء.
مؤشّرات سنوات «السلام»: ارتفاع في الدين العام والبطالة والفقر
ثمة جوانب تطبيعيّة اقتصادية أخرى حدثت وتحدث بمبادرات خاصة، يجب ذكرها على الرغم من محدودية تأثيرها، منها استغلال العمّال الأردنيين للعمل في منتجع إيلات السياحي الإسرائيلي على خليج العقبة، واستيراد وتصدير بعض البضائع (مثل الخضار والفواكه وسخانات المياه)، وتصدير الزيتون وزيت الزيتون الأردني إلى إسرائيل التي تعيد تصديره إلى أوروبا باعتباره إسرائيلياً.
أخيراً، نورد، للدلالة العموميّة لا أكثر، الأرقام الاقتصادية المطلقة المتعلّقة بالدين العام، والبطالة، والفقر، وهي أرقام محدودة المعنى إن أُخذت من دون دراسة آثارها على الواقع، لكنّها على الأقل قد تعطي مؤشّراً عاماً على المسار الذي أخذه الاقتصاد الأردني منذ توقيع «معاهدة السلام» في العام 1994 حتى اليوم، بالمعنى السطحيّ الذي تشتغل وفقه مقاربات الاقتصاد الكليّ ونلمس من خلالها إن تحقّقت، وعود السمن والعسل. فالدين العام ارتفع تصاعديّاً من 5.9 مليار دينار (= 8 مليار دولار) في العام 1994 ليصل إلى 44.8 مليار دينار (= 63.2 مليار دولار) في شباط/فبراير من العام 2025، وهو ما يشكّل ما نسبته 117.4% من الناتج المحلي الإجمالي. أما نسبة البطالة التي ظلّت تتراوح بحدود الـ15% صعوداً وهبوطاً بين الأعوام 1994 – 2016، فبدأت ترتفع منذ العام 2017 لتتجاوز حاجز الـ20% في العام 2020 وتبقى عند 21.4% في العام 2024. أما بالنسبة إلى الفقر، فقد قدّر تقرير «أطلس أهداف التنمية المستدامة للعام 2023» عدد الفقراء في الأردن بأقلّ قليلاً من 4 ملايين شخص (زهاء 35% من السكان)، وهو ارتفاع كبير جداً عن نسبة 14.2% لآخر إحصاء معلن في العام 2012، و13.3% لعام 2008.
في ما ورد أعلاه تفاصيل الأركان الاقتصادية الثلاثة الناتجة حتى الآن عن «معاهدة السلام» الأردنية-الإسرائيلية، والتي أثّرت بشكل جذري وعميق على إعادة تشكيل علاقات الاستغلال والتبعيّة، وأدّت في جوانب أساسيّة منها إلى استيراد الأزمات، وتسهيل الاستغلال، وتعطيل التنمية المحليّة، وإحداث فقر مائيّ، في مقابل تنمية الاقتصاد الإسرائيلي، وتمكينه من اكتساب الأفضلية والقوّة وإمكانية التأثير المباشر والابتزاز عبر تحكّمه بموارد الطاقة والمياه الأساسية للحياة.
الأركان الثلاثة المذكورة مفروضة من أعلى، أي هي ناتجة عن اتفاقات وترتيبات وقّعتها وفرضتها السلطات الأردنية رغماً عن الإرادة الشعبية التي لطالما عبّرت عن رفضها للتطبيع، وعدائها للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصيهوني، وكانت، على الدوام، أكثر حرصاً على بلدها من أصحاب القرار، كما تثبت نتائج تقييم المردود الاقتصادي - السياسي - الاجتماعي التي تأخذ بالاعتبار، بالإضافة إلى الأرقام المطلقة والنسبيّة، الأثر الفعلي على الناس، وانعكاسها على التنمية المحليّة والرفاه الاقتصادي الداخلي، وتأثيرات التبعيّة وكلفها الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، وهي أكلاف لا يتمّ التطرّق إليها مطلقاً من أصحاب القرار. بالإضافة إلى ذلك، ثمّة أكلاف اقتصادية - سياسية خطيرة تتعلّق بتمويل وتمكين المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني من التمدّد والاندماج، وهذه أيضاً لا يتمّ التطرّق إليها مطلقاً.
يدلّ كل ذلك على أن التأثير الأكبر للتطبيع سلطويّ المنشأ، يسعى إلى إلحاق مجتمعات المحيط العربي بإسرائيل وإدماجها فيها بالقوّة ومن موقع الضعف. مثلما يدلّ على أن مبدأ «السلام» مع مشروع استعماري استيطاني توسّعي، يشكّل امتداداً لماضي الاستعمار الأوروبي الأبيض في قارّات العالم، وممثّلاً لأسس القوّة والاستغلال والإخضاع التي يقوم عليها عالمنا اليوم بالمعنيَين السياسي والاقتصادي، هو في حد ذاته مبدأ فاسد، نتيجته الانخراط في الهيمنة والتبعية، وتطبيع الاستعمار، وتأبيد سيطرته، واستدامة حالة الضعف.
- 1
أنظر.ي بخصوص ذلك الكتب التالية: Shlaim, Avi. (1988). Collusion across the Jordan : King Abdullah, the Zionist Movement, and the Partition of Palestine. Columbia University Press؛ وأيضاً: Wilson, Mary C. (1987). King Abdullah, Britain and the Making of Jordan. Cambridge University Press؛ وأيضاً: بشير، سليمان (2001 [1980])، جذور الوصاية الأردنية: دراسة في وثائق الأرشيف الصهيوني. قدمس للنشر والتوزيع.
- 2
أنظر.ي بخصوص ذلك كتاب: Shlaim, Avi. (2007). Lion of Jordan: The Life of King Hussein in War and Peace. Penguin.
- 3
يمكن العودة إلى نص الاتفاقية في: هياجنة، رائد أحمد. (2011). «اتفاقية فيصل – وايزمن 1919، ظروفها وعوامل توقيعها: دراسة تحليلية تاريخية». مجلة اتحاد الجامعات العربية للآداب، المجلد 8 عدد 2ج، ص ص 1099-1100.
- 4
Lucas, Russell E. (2004). “Jordan: The Death of Normalization with Israel.” Middle East Journal 58, no. 1, p. 100.
- 5
يمكن مراجعة الأحداث الكثيرة المتعلقة بقمع الحريّات والمرتبطة بملف التطبيع ومعاهدة السلام مع إسرائيل في سنة واحدة فقط هي 1997، كنموذج على النمط العام المرتبط بقمع الحريّات العامّة في الأردن كنتيجة من نتائج معاهدة السلام، في هذا التقرير: Human Rights Watch (1997). "Clamping Down on Critics: Human Rights Violations in Advance of the Elections", June 1.
- 6
Saif, Ibrahim (2006). The Socio-Economic Implications of the Qualified Industrial Zones in Jordan. Center for Strategic Studies - University of Jordan, pp. 20-23.
- 7
للاطلاع على بعض هذه الانتهاكات يمكن مراجعة: تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان (2020). تحت الحظر 15: تداعيات أزمة كورونا على عمال المناطق الصناعية المؤهلة؛ وأيضاً: تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان (2023). أوضاع العمال المهاجرين في المناطق الصناعية المؤهلة.