
كيف مهّدت أبعاد «السلام» الاقتصادية والتطبيع الطريق إلى إبادة غزة؟
يبدو من العبث أن نناقش موضوع «التطبيع الاقتصادي» في وقت تمضي فيه إسرائيل قدماً في تنفيذ إبادة جماعية بحقّ أهل غزّة، خلّفت حتى الآن ما لا يقلّ عن 54 ألف قتيل، ودمّرت معظم البنية التحتية في القطاع.
يدعو الحراك الفلسطيني اليوم المجتمع الدولي إلى التحرّك العاجل لوقف الإبادة الجارية، وذلك عبر مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، لا عبر التطبيع مع كيان يمضي في ارتكاب الجرائم.
لا يتعلّق الموقف العربي الرافض للتطبيع، وما يرافقه من مطالب عربية واسعة تجاه إسرائيل، بخلافات مالية عابرة أو مظالم هيّنة، بل هو مرتبط بأسئلة سياسية وأخلاقية من أرفع المستويات: أسئلة الاستعمار والاحتلال والتطهير العرقي. وتزداد هذه المطالب ثقلاً وإلحاحاً في ظل حكومة إسرائيلية حالية تعلن بلا مواربة نيّتها إقامة «إسرائيل الكبرى»، بكلّ ما يعنيه هذا المشروع من آثار جغرافية على العالم العربي برمّته.
منذ منتصف السبعينيات، استقرّ النظام الإقليمي العربي على أنّه لا إمكانية للتطبيع مع إسرائيل إلا بعد إبرام معاهدة سلام شاملة. فالتطبيع لا يمسّ الفلسطينيين وحدهم، بل يطال سوريا ولبنان أيضاً، وهما بلدان ما زالت أجزاء من أرضهما تحت الاحتلال الإسرائيلي، دع عنك دولاً عربية أخرى تحتضن أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين. وكان هذا الموقف العربي شبه الجماعي يُنظَر إليه في الأساس بوصفه تنازلاً كبيراً من جانب العرب، لا سيّما مقارنة بالمواقف الأكثر جذرية التي طرحتها تيّارات اليسار والمجموعات الإسلامية، والتي دعت صراحة إلى تحرير كامل فلسطين والأراضي العربية المحتلة.
لكن مع توقيع اتفاقيّات أبراهام في العام 2020، تحطَّم ما تبقّى من الموقف العربي الجماعي. تعكس هذه الاتفاقيات نجاحاً كبيراً لإسرائيل والولايات المتحدة في استقطاب نُخب عربية معيّنة ودمجها في الأجندة الإسرائيلية-الغربية الأوسع، وتُظهِر توجّهاً أوسع لفصل مسألة حلّ القضية الفلسطينية-العربية عن إقامة علاقات ثنائية مع إسرائيل.
وعلى الرغم مما تشكّله هذه التطوّرات من نكسة كبيرة للقضية الفلسطينية، لا بدّ من التذكير بأن أيّاً من هذه الاتفاقيات لم يبرم بأدنى حدّ من المشاركة الديمقراطية، أو حتى التظاهر بها. لطالما أقامت الكثير من الدول والنخب العربية علاقات سرّية مع إسرائيل، وكانت المجاهرة بها وتطبيعها علناً مسألة مرتبطة بظاهرة «المعسكرات» في المنطقة. لقد تعرّضت هذه الممالك الإقطاعية لضغوط دفعتها إلى الإفصاح عن علاقاتها مع إسرائيل، من أجل بلورة محور موالٍ لإسرائيل والولايات المتّحدة ومعاد لإيران، تراه هذه الدول - والأهمّ من ذلك الغرب - ضرورياً في هذه المرحلة.
الطريق الوعر إلى «التطبيع»
بصرف النظر عن كلّ هذه المسائل، يظلّ من الضروري أن نبحث التداعيات الاقتصادية للتجربة الفلسطينية مع «التطبيع»، لندرك على نحو أفضل مدى الخلل والضلال في هذه النقاشات.
يجدر التذكير بأن مسار أوسلو، من المنظور الفلسطيني، وُضع ابتداءً كتدبيرٍ مؤقّت يمتدّ 5 سنوات يمهّد لمفاوضات الوضع النهائي، على أن يُبرَم بعدها اتفاقٌ أشمل. تلك المفاوضات لم تُستكمَل قطّ، وانتهينا إلى 25 عاماً من ترتيبات «مؤقّتة» تتولّى إدارة الشؤون كافّة، ومنها التفاهمات الاقتصادية المسماة «بروتوكول باريس الاقتصادي» للعام 1994.
لا يتعلّق الموقف العربي الرافض للتطبيع، وما يرافقه من مطالب عربية واسعة تجاه إسرائيل، بخلافات مالية عابرة أو مظالم هيّنة، بل هو مرتبط بأسئلة سياسية وأخلاقية من أرفع المستويات: أسئلة الاستعمار والاحتلال والتطهير العرقي
أقرّ «بروتوكول باريس» اتحاداً جمركياً يجمع إسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية، واتُّخذ إطاراً يحكم النشاط الاقتصادي بين الطرفين. ومع أنّه ما زال نافذاً إلى يومنا هذا، شأنه شأن اتفاق أوسلو، ظلّت بنود كثيرة منه بلا تنفيذ أو أوقفتها إسرائيل. وفوق ذلك، حُرم الفلسطيني الاحتكام إلى آلية تحكيم مستقلّة، فبات أسير التفسيرات والإرادات الإسرائيلية والأميركية.
لا بدّ من إبراز هذه المسائل، فهي تكشف تعقيد الحكم على المآلات المروّعة لمسار أوسلو في مجمله. عند استرجاع مجريات الأمور يتّضح لنا أنّ تلك الاتفاقات شابتها العيوب في الفكرة والتطبيق معاً، فأنتجت بؤساً سياسياً واقتصادياً يعيشه الفلسطيني اليوم.
ما يقلّ التفاتُ الناس إليه أن أبعاد «السلام» الاقتصادية صيغت لتُمهِّد، رأساً، للمآل السياسي؛ أي أنّ «السلام الاقتصادي» وُضع ليُقيم قاعدة «السلام السياسي»، فيما صاغت إسرائيل والجهات المانحة الغربية تدخّلاتهما في هذا المضمار لتطويع النتيجة السياسية للمسار برمّته.
السلام الاقتصادي كطُعم
في هذا السياق، بشّر مسار أوسلو بمشروعات اقتصاديّة ضخمة يُفتَرض أن تبعث الحيويّة في اقتصادَي فلسطين وإسرائيل، وتُنشئ مساحات تتقاطع فيها المصالح المشتركة خدمة لـ«سلام» إقليمي و«ازدهار اقتصادي».
كان من المزمع أن تتضمّن هذه المشروعات إنشاء بنك استثماريّ إقليمي، ومدّ شبكات لتحلية المياه والكهرباء، وبناء ميناء ضخم في غزّة، وإقامة مناطق تجارة حرّة تجتمع فيها الرساميل الدولية والعربية والإسرائيلية، منتفعةً من وفرة اليد العاملة زهيدة الكلفة. وورد في أحد ملاحق اتفاق أوسلو وصف هذه المشروعات بـ«خطّة مارشال» إقليمية؛ قصدها تثبيت العملية السياسية على أساس اقتصادي، بحيث ينساب العائد إلى الجميع «فيرتفع المدّ فترتفع المراكب» ويُسهّل تفكيك العقد السياسية الشائكة. جاءت هذه الرؤية وصياغتها منسجمةً انسجاماً كاملاً مع الفكر النيوليبرالي لهذا العصر، وقد صُوّرت على أنّها نظيرٌ إقليمي لترتيب «نافتا» بين الولايات المتّحدة وكندا والمكسيك.
هذه الخطط لم تكد تبارح الورق، إن طُبِّقت أصلاً. بعضُ عناصرها كان ليدرّ مكاسب على الفلسطينيّين لو مضت قدماً، غير أن الشيطان يكمن في التفاصيل وفي هوية المنتفعين الفعليين. بيد أن بقاء يد إسرائيل طليقة لتعطيل تنفيذ خطط اتفاق أوسلو يبرهن أن الاعتبارات السياسية والفكرية لا تنفصل عن الحسابات الاقتصادية قط.
تعرّضت هذه الممالك الإقطاعية لضغوط دفعتها إلى الإفصاح عن علاقاتها مع إسرائيل، من أجل بلورة محور موالٍ لإسرائيل والولايات المتّحدة ومعاد لإيران، تراه هذه الدول - والأهمّ من ذلك الغرب - ضرورياً في هذه المرحلة
ومع انعدام سيادة سياسية فلسطينية معترفٍ بها، بقيت يدُ إسرائيل مطلقة؛ تعرقل ما تشاء من ترتيبات اقتصادية أو تُعيد تأويلها لتخدم أجندتها السياسية والعقائدية والاقتصادية والاستراتيجية.
وهذا بالضبط ما حدث.
أكان في صالح إسرائيل أن تتيح للفلسطينيين منافسة صناعاتها، وأن تتحوّل أراضي السلطة مسرحاً لرأس مال وطني فلسطيني؟ أكان يعنيها قيام ميناء فلسطيني يقوم مقام مينائي حيفا وأشدود الخاضعين لهيمنتها؟ أو أن ينافس مزارعو فلسطين في تصدير المحاصيل، أو يزاحموها في قطاع الخدمات؟ أكان يروق لها أن يستخرج الفلسطيني غازه قبالة شاطئ غزّة، أو يشيّد بنيةً تحتيةً مستقلّة تُمكّنه من استثمار موارده البشرية والمادية وشبكاته وما له من صلات لغوية وثقافية وتاريخية وسياسية بالعالمَيْن العربي والإسلامي، على حسابها؟
الجواب لا. حرمت إسرائيل الفلسطيني الانتفاع بأرضه في «المنطقة ج» من الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فتكبّد خسائر سنوية تقارب 3.4 مليارات دولار، وفق دراسةٍ أعدّها «البنك الدولي» في العام 2014.
وفوق ذلك، لم تكن مناطقُ سيطرةِ السلطةِ الفلسطينيّة متّصلة، ولا تكاد تتمتّع بالاستقلال، فضلاً عن السيادة، وقد مضى على خضوعها للاحتلال الإسرائيلي 26 عاماً ساعة وُقِّع اتفاق أوسلو. ونتيجة لذلك غدت كلفة اليد العاملة الفلسطينية أعلى من كلفة اليد العاملة في أسواق اقليميّة كالمصرية أو الأردنية، الأمر الذي يُبيّن كيف اصطدمت أحلامُ الفلسطينيّين في تشغيل العمّال وإنشاء «مناطق تجارة حرّة» بمصالح عربيّة مماثلة.
وإذا أضفنا أنّ كلّ الواردات والصادرات لا بدّ أن تمرّ عبر إسرائيل، اتّضح لنا سريعاً عيوب «التطبيع» الاقتصادي في نظريته وتطبيقه.
كرّس اتفاق أوسلو، ومعه «بروتوكول باريس»، «شريحة» إسرائيلية في صلب كلّ ترتيب، وأتاح بالتالي آلية فلترة سياسية وماليّة تَكبت الفلسطيني اقتصادياً وتُعلي من المصلحة الإسرائيلية.
يُظهِر هذا كلّه أن أوهام السلام الاقتصادي التي روّجت لها «عملية السلام» تكتنفها العيوب من النواحي السياسية والاقتصادية والنظرية، وأن هذه العيوب تداخلت تداخُل النسيج الواحد. وفوق ذلك، مثّل هذا السلام «طُعماً» فعّالاً استمال جمهوراً فلسطينياً وعربياً وعالمياً على اختلاف أطيافه، مع أن مصير تلك الخطط الطموحة ظلّ بلا متابعة جادّة ولا كشفٍ كاملٍ لما جرى فيها.
التطبيع الاقتصادي نعمة على إسرائيل
ماذا خدم التطبيع الاقتصادي؟
استثمرت إسرائيل، بوصفها الطرف الأقوى، مسارَ أوسلو و«بروتوكول باريس» لخدمة مشروعها الصهيوني الأوسع: وصل المناطق المحتلة في العام 1948 بالمحتلّة في العام 1967، وتلبية مصالح الفئات الرأسمالية المحظيّة فيها، سواء كانت صناعية أو زراعية أو خدمية. لا تتطابق هذه الفئات في مصالحها، غير أنها تجتمع على غايةٍ واحدة: «التَعَولم». قبل «أوسلو» حالت المقاطعة الأساسية والثانوية دون ولوج تلك الفئات إلى أسواق كالصين والهند وكوريا وسواها، فيما قادت الحمائية الرسمية في حقبة «ما قبل السلام» إلى تشبّع سوقها الداخلية وحرمانها الوصول إلى الأسواق العالمية والمنافسة. ولا ننسى أن الأراضي المحتلّة غدت المكبّ الرئيس لتصريف السلع الإسرائيلية المحمية.
وهكذا، أتاح مسار أوسلو عولمة رأس المال والبضائع والخدمات الإسرائيلية، عاد بازدهار اقتصادي لا ريب فيه، ولا سيّما في صادرات السلاح والزراعة والتقنية المتقدّمة؛ أمّا الاقتصاد الفلسطيني في المقابل فبقي أسير المصالح الإسرائيلية وتقهقر بلا جدال.
ما بين عامي 1992 و2024، قفز حجم الاقتصاد الإسرائيلي من 79 مليار دولار إلى 517 ملياراً، أمّا أرقام «الأراضي الفلسطينية» - باستثناء القدس - فلا تسجّل سوى زيادة هزيلة: من 4.6 مليارات في 1993 إلى 13.7 ملياراً في 2024.
توضِح هذه الأرقام تفاوتاً فادحاً في المآلات الاقتصادية بين الجانبين، بيد أنّها تعجز عن الإحاطة بنوعية النمو المحدود الذي «نعم به» الفلسطينيون.
كان رأس المال الفلسطيني واعياً تمام الوعي بهيمنة إسرائيل على المعابر والحدود، كما كان مدركاً لنَهَم منظّمة التحرير ونزعتها الافتراسية، فتكيّف طوعاً مع هذا الترتيب المركّب من «اللوائح التنظيمية» المتنازِعة
أتاح ترتيبا «أوسلو» و«باريس» مسارات محدودة للتنمية أفادت شرائح معيّنة من المجتمع الفلسطيني، غير أن جُلَّ هذا النمو جاء من تحويلات مالية مصدرها المعونات الدولية. وتُفيد تقديرات بتدفّق أكثر من 50 مليار دولار إلى الأراضي المحتلّة منذ توقيع «أوسلو»، فصارت بين أعلى البلدان حصّة للفرد من المساعدات. كانت تلك المعونات مشروطة سياسيّاً وتتولى تخصيصَها الجهاتُ المانحة الدولية، لا آليّات السوق. كما أفادت التقديرات بأن 78% من المعونة الإنسانية انتهت في الخزانة الإسرائيلية.
اقتصاد وطني؟
إذا أمعنا النظر في هذه المعونات والترتيب المؤسسي الذي وُجّهت إليه، يتبيّن لنا أن جلّ الأموال خصّص لإقامة السلطة الفلسطينية، أعني إقامة كيان سياسي ومدني و«أمني» قيل للمجتمع الدولي إنه «دولةٌ قَيْد التشكّل»، بينما هو في الواقع جهاز مموّل عالمياً، تُحرّكه فتح، يعين إسرائيل على إدارة «قضيتها الفلسطينية».
في المقابل، استفادت إسرائيل من ترتيبات «أوسلو» ومن خلفها أسطورة «الدولة قيد التشكّل»، إذ أتاحت «أوسلو» شكلاً من الاستقلال الفلسطيني تستطيع إسرائيل إدارته من عَلٍ؛ عسكرياً وسياسياً ومؤسّساتياً وأمنياً. فأزمةُ الانتفاضة الأولى في العام 1987 جعلت من المستحيل مواصلة إدارة الاحتلال للشؤون المدنية والاجتماعية الفلسطينية، فجاء «أوسلو» ليمكّن تل أبيب من إعادة هندسة احتلالها للأراضي المحتلّة بأموال وخبراتٍ غربية، مع إبقاء قبضتها محكمة على الأرض والإنسان. أرسى «بروتوكول باريس» الأساس الاقتصادي لهذا الترتيب، وقصده إبقاءُ الاقتصاد الفلسطيني ممنوعاً من التنمية وتابعاً، موصولاً عمودياً بالجهات المانحة وإسرائيل، لا منظّماً أفقياً على قواعد تقرير المصير والوحدة والاستدامة.
أفضى الترتيب الاقتصادي المفروض في مناطق السلطة إلى نشوء نمطٍ من رأس المال المسيَّس، تحدّد ملامحَه إسرائيل ومنظّمة التحرير. وقد دانت السيطرة في هذه المناطق لنخب فلسطينية مرتبطة بالسلطة، مأذون لها بالتحرّك بموافقة إسرائيلية، فتصرّفت فيها تصرّفها في مزارع خاصّة، ضمن بنية عامّة تعتمد على إسرائيل في النفاذ إلى الأسواق والحصول على التراخيص. وبهذا، نجحت إسرائيل في استزراع كيانات اقتصادية فلسطينية لا تنافس مصالحها الاستراتيجية، وفي الوقت نفسه استزرعت طبقة اقتصادية فلسطينية مرتبطة بترتيب مشوّه بلا سيادة.
لقد سعت إسرائيل والجهات المانحة الدولية إلى استزراع نخب اقتصادية فلسطينية يكون بوسعها، في نهاية المطاف، الحلول محلّ النخب السياسية في منظّمة التحرير.
كان رأس المال الفلسطيني واعياً تمام الوعي بهيمنة إسرائيل على المعابر والحدود، كما كان مدركاً لنَهَم منظّمة التحرير ونزعتها الافتراسية، فتكيّف طوعاً مع هذا الترتيب المركّب من «اللوائح التنظيمية» المتنازِعة. ولضمان البقاء، إما استفاد من الامتيازات والأرباح التي خوّلته إيّاها «المنافذ» السياسية التي احتلّها، أو راهن على قطاعات ريعية غير منتجة، كالعقارات والغذاء والكحول والسجائر والأدوات الكهربائية، ليحفظ أرباحه سواء ساد السلم أو اندلعت الحرب.
وهكذا، لم يكن رأس المال جباناً فحسب، بل كان منتفعاً أيضاً من علاقات التبعيّة ذاتها التي عمّقت الخضوع الفلسطينيّ ومنعته من التنمية.
أفضى «السلام» إلى فصلٍ مؤسّسي وسياسي بين «الطرفين»، أسفر بدوره عن نشوء نظام فصل عنصري في كامل الرقعة الجغرافية، في حين ظلّت الأنظار الدولية تتوهّم أنّ ما يجري ليس سوى «سلام متعثّر»
وحين نقف على كيفيّة إسقاط هذا الترتيب بأسره على الخريطة الجغرافية ونظام الحواجز، يتّضح لنا كيف سعت منظومة التبعيّة والأسر إلى استنبات حالة من الانكفاء والاستكانة، لا سيّما في الضفّة الغربية.
أُرغِم العامل الفلسطيني في تلك المناطق على الاختيار بين العمل في المستوطنات الإسرائيلية أو في وزارات السلطة الفلسطينية أو ضمن القطاع الخاص المحلّي الخاضع لتشكيلاتٍ رأسمالية تدور في فلك السلطة وتلقى رعايتها. أمّا في غزّة، فقد أُسقِط خيَارا المستوطنات والسلطة منذ العام 2006، وصار الاقتصاد معتمداً اعتماداً شبه كلّي على السوق «السوداء».
كلّ ما سبق يكشف عن اقتصادٍ فلسطيني مشوّه، ممزَّق الأوصال، لا يكاد يتجاوز كونه زاوية صغيرة في ركن قصيّ من اقتصاد إسرائيل العالمي الآخذ في التوسّع، خاضعٍ لقمع عسكري إسرائيلي شديد، ينتفع منه شركاء فلسطينيون صغار عند مفاصل بعينها من هذا الترتيب، تحت شعار «رأس المال الوطني» و«المصلحة الوطنية».
من الفصل الاقتصادي إلى الفصل العنصري والإبادة
تُبيّن حالة «التطبيع» في فلسطين كيف مهّدت الأوهامُ الاقتصاديّة الطريق أمام التوسعية الإسرائيلية، وعمّقت التبعية الفلسطينية وحالة منع التنمية، وقوّضت وحدة العمل السياسي والاقتصادي ومزّقتها.
بل إنّ هذه الأوهام نفسها أرست الأساس السياسي والمالي والمؤسسي للنظام العنصري الذي نشأ في عموم فلسطين التاريخية.
لقد أتاح ترتيب أوسلو - باريس «فصلاً» اسمياً بين المجالين السياسي والاقتصادي الإسرائيلي والفلسطيني، وحال دون التلاقي السياسي والاقتصادي الحتمي الجاري بين إسرائيل ما قبل 1967 والمناطق المحتلّة.
والحقّ أن الفلسطينيين والإسرائيليين ظلّوا، ولا يزالون، متداخلين جغرافيّاً «ما بين النهر والبحر»، بل ازداد تداخلهم مع اتّساع رقعة الاستيطان الإسرائيلي منذ العام 1993، إذ تضاعف عدد المستوطنين ثلاث مرّات.
ومع ذلك، فقد أفضى «السلام» إلى فصلٍ مؤسّسي وسياسي بين «الطرفين»، أسفر بدوره عن نشوء نظام فصل عنصري في كامل الرقعة الجغرافية، في حين ظلّت الأنظار الدولية تتوهّم أنّ ما يجري ليس سوى «سلام متعثّر».
والحق أن نظام الفصل العنصري الذي هيّأت له اتفاقيات أوسلو - باريس بات شرطاً لازماً للإبادة التي نشهدها اليوم في غزّة.
فمن دون «الفصل»، ما كانت لتتهيّأ الظروف التي مهّدت للإبادة الجماعية، إذ لولاها لظل التداخل قائماً، والاعتماد المتبادل حاضراً في سياقٍ لا يعرف الترسيمات الداخلية، وتخضع فيه المنظومة برمّتها لهيمنة رأس المال الإسرائيليّ؛ وهو ما كان سيحول، على الأرجح، دون تبلوُر البنية السياسيّة والاقتصادية التي أتاحت الإبادة. فأول جدار حول غزّة لم يُبنَ قبل «السلام»، بل بعده ونتيجة له، في العام 1994. فإسرائيل كانت قد أزالت أسوارها بعد احتلالات 1967.
صحيح أن الحالة الفلسطينية لا تصلح أن تُستنسخ بحذافيرها في السياقات العربية الأخرى المحتملة لمسارات التطبيع مع إسرائيل، غير أنّها تظل درساً بليغاً لقادة العرب وشعوبهم على السواء. فالتعلّق المُفرِط بأوهام المكاسب الاقتصاديّة من السلام، لا يصلح أن يكون بديلاً عقلانيّاً عن الاتزان السياسي والاقتصادي، ولا عن «العمل التفصيلي الدؤوب» المطلوب لبناء اقتصاد وطني يخدم أكثريّة الشعب، فضلاً عن أن يكون ديمقراطياً، يُؤسَّس عليه سلام حقيقي.