
التطبيع بين المغرب وإسرائيل: من المستفيد؟
بعد توقيع الملكية المغربية اتفاقيات أبراهام في كانون الأول/ديسمبر 2020، انتقلت علاقاتها مع إسرائيل من السرية غير المستترة إلى تطبيع علني يتّخذ مع مرور الوقت طابعاً أرعناً ومستفزّاً للمشاعر الشعبية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والمتضامنة مع الشعب الفلسطيني. وقد بلغ التطبيع مداه في زمن الإبادة الإسرائيلية المستمرّة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، في الوقت الذي تُعلن فيه الملكية المغربية «التزامها بالحقوق الفلسطينية».
شمل التطبيع المغربي الإسرائيلي كلّ المجالات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية والأمنية والثقافية والأكاديمية، وجرى الترويج له على أنه «سيجلب ثمار التطوّر الاقتصادي للمغرب»، ولكن تشير جميع المعطيات إلى عكس ذلك، إذ يكرّس التطبيع العلاقة اللامتكافئة في بنية المبادلات التجارية بين المغرب وإسرائيل، التي تعيد بدورها إنتاج التقسيم الدولي للعمل بين إسرائيل (المنتمية إلى الشمال العالمي) والمغرب المنتمي إلى الجنوب العالمي.
التطبيع من عُمر الَمَلكية
لم تبدأ القصة في كانون الأول/ديسمبر 2020، تعود العلاقات بين الملكية المغربية وإسرائيل إلى فجر نيل المغرب «استقلاله السياسي» عن فرنسا الاستعمارية في العام 1956. بدأت اتصالات الراحل الحسن الثاني بإسرائيل قبل تتويجه ملكاً، وازدادت عمقاً منذ ذلك الحين. وكانت الصلة بين الحسن الثاني وإسرائيل من القوة أن سمح للإسرائيليين بالتنصّت على محادثات القمة العربية المنعقدة في الدار البيضاء في العام 1965 وتسجيل محادثاتها.
شكّلت خلفية هذه الاتصالات تهديداً مشتركاً بين الملكية المغربية وإسرائيل مثّله صعود القومية العربية المدعومة من الاتحاد السوفياتي، وكان الرئيس المصري جمال عبد الناصر رمزاً لها، وكانت مصر في عهده قِبلة معارضي الحسن الثاني الجذريين (المهدي بن بركة وحزبه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، وكان للموساد دور مهمّ في اغتيال المهدي بن بركة في تشرين الأول/أكتوبر 1965، وهو أحد أشد معارضي الحسن الثاني آنذاك، ومن أشد المناهضين للتغلغل الإسرائيلي في المغرب وأفريقيا.
كان للموساد دور مهمّ في اغتيال المهدي بن بركة في تشرين الأول/أكتوبر 1965، وهو أحد أشد معارضي الحسن الثاني آنذاك، ومن أشد المناهضين للتغلغل الإسرائيلي في المغرب وأفريقيا
من جهة أخرى، وبغية تسهيل هجرة اليهود المغاربة إلى فلسطين المحتلّة، والتي كانت ممنوعة رسمياً في العام 1959 في عهد «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، سُمِح لليهود بالهجرة بعد اعتلاء الحسن الثاني العرش في العام 1961 بناءً على صفقة دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي، ديفيد بن غوريون، بموجبها مبالغ مالية للمملكة في مقابل الحصول على تصاريح المغادرة إلى إسرائيل. أخرج جهاز الموساد حينها نحو 97 ألف يهودي من المغرب في خلال عملية أطلق عليها اسم «ياشين». وكان لإسرائيل دور كبير في حرب الحسن الثاني ضد مغاوير الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب/البوليساريو، إذ سهّلت حصوله على أسلحة وزودته بمعدّات تجسّس ودرّبت طواقم مغربية على استعمالها.
في 21 حزيران/يونيو 1986، استقبل الحسن الثاني رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، وذلك بعد 4 سنوات على انعقاد القمة العربية في مدينة فاس في العام 1982، والتي نتج عنها ما عُرف بـ«مخطط فاس»، الذي رفضته منظمة التحرير الفلسطينية بمبرر أن المبادرة تعترف ضمنياً بدولة إسرائيل.
وفي تسعينيات القرن العشرين أُنشئ مكتب دبلوماسي إسرائيلي في الرباط، ومكتب اتصال استخباراتي قبل ذلك بكثير، واضطرت الدولة إلى إغلاقه ومعه مكتب الاتصال المغربي في تل أبيب في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2000، على خلفية الانتفاضة الفلسطينية الثانية. استمرّ الوضع حتى توقيع اتفاقيات أبراهام في العام 2020، حين أعيد فتح مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط.
السياق الجديد للتطبيع المغربي الإسرائيلي
بعد توقيع اتفاقيات أبراهام أصدر الديوان الملكي بلاغاً في 22 كانون الأول/ديسمبر 2020، أشاد بـ«استئناف آليات التعاون مع إسرائيل»، واصفاً إياها بـ«تطوّرات كبرى في سبيل تعزيز السلام والاستقرار الإقليمي»، مؤكداً «موقف المملكة المغربية الثابت بشأن القضية الفلسطينية، والقائم على حلّ الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمان؛ وعلى المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي كسبيل وحيد للتوصل إلى تسوية شاملة ونهائية؛ وكذلك التزام جلالة الملك، رئيس لجنة القدس، بالحفاظ على الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة».
للدولة المغربية موقف مزدوج إذاً، فهي من جهة تحرص على التعاون مع إسرائيل في المجالات كافة، وفي الوقت نفسه تشدّد على الاهتمام بحقوق الشعب الفلسطيني. وليس هذا سلوك خاص بالمغرب، إذ تناول تشانغ شنغ هذه الازدواجية في الموقف الصيني بالقول إنه «من منظور الحكومة الصينية فإن علاقتها الدبلوماسية والتجارية بإسرائيل لم تمثّل عائقاً أمام صداقة الصين التقليدية بالسلطة الفلسطينية، ولم تُعق الصين عن الحديث بشكل واضح دعماً لدولة فلسطين في المنتديات الدولية مثل الأمم المتحدة». وهو الملاحَظ نفسه مع دول عربية مثل الإمارات العربية المتحدة التي بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين إسرائيل 250 مليون يورو في حزيران/يونيو 2024، بزيادة متواضعة بنسبة 5% عن حزيران/يونيو 2023، وهي نسبة ضئيلة بالمقارنة مع الزيادة في المبادلات التجارية بين المغرب وإسرائيل.
تنظر المَلكية المغربية إلى التطبيع مع إسرائيل، لا من باب فوائده الاقتصادية حصراً، وهي على كلّ حال قليلة وتصبّ في صالح الشركات المغربية المورّدة، ولكن من باب المكاسب الدبلوماسية. فإقران التطبيع مع إسرائيل مع اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المَلكية المغربية على الصحراء الغربية، ركيزة كبرى في اتفاقيات أبراهام. وفي الوقت نفسه، تندرج هذه الاتفاقيات والتطبيع الناتج عنها في إطار جيوستراتيجي يقوم فيه المغرب بدور بيدق في رقعة شطرنج عالمية تصارع فيها الولايات المتحدة (والاتحاد الأوروبي) الصين وروسيا على الهيمنة في أفريقيا. وعلى غرار ما كانت تقوم به الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين في أميركا اللاتينية، يرى «معهد القدس للاستراتيجية والأمن» أن «التهديدات للأمن القومي والاستقرار الإقليمي، كما هو مشترك في سياق العلاقة الوثيقة بين مجتمعي الاستخبارات ومؤسسات الدفاع في كلا البلدين، كذلك العمل المشترك في أفريقيا، أولاً وقبل أي شيء في شكل مساعدات تنموية كبيرة للبلدان والأنظمة «المتشابهة في التفكير»، يمكن وينبغي أن يصبح أحد ركائز العلاقة الإسرائيلية المغربية. وينبغي أن يصبح ذلك أيضاً... جانباً مهمّاً من مساهمتهما المتبادلة في تحقيق مصالح الولايات المتحدة والغرب».
أثار مسار التطبيع هذا استياء الجزائر، خصوصاً في جانبه الأمني-العسكري، واعتبروا أن زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس للمغرب في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 «تستهدف الجزائر»، وصرّح الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، قائلاً: «نأسف لاتفاق المغرب مع إسرائيل» واعتبره «تهديداً وخزياً وعاراً لم يحدث منذ 1948». ويُفهَم هذا أكثر باستحضار سوابق تاريخية من التعاون الإسرائيلي- المغربي ضد الجزائر، خصوصاً في حرب الرمال في العام 1965، حينها سمح وزير الدفاع المغربي آنذاك، الجنرال محمد أوفقير، بإنشاء مكتب اتصال دائم مع اسرائيل في الرباط للتجسس والتنصت، واستفادت المملكة المغربية من مرشدين في سلاح الجو الإسرائيلي درّبوا طيارين مغاربة على قيادة طائرات ميغ-17، في حين قدّم الموساد ما لديه من معلومات عن الوحدات العسكرية الجزائرية.
إقران التطبيع مع إسرائيل مع اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المَلكية المغربية على الصحراء الغربية، ركيزة كبرى في اتفاقيات أبراهام
الصراع بين مَلكية المغرب وعسكر الجزائر موجود في خلفية التعاون المغربي الإسرائيلي، وهو ما دفع توفيق بوعشرين، وهو صحافي يعتبر نفسه معارضاً وسبق أن حُكم بالسجن 20 سنة في العام 2018، وأُفرج عنه بعفو ملكي في تموز/يوليوز 2024، إلى تبرير ذلك التعاون بإعادة ما سمعه من مصادر رسمية: «لكلّ شيء ثمن. كبار المسؤولين في الدولة قد لا يثقون في (بنيامين) نتنياهو. لكن ما باليد حيلة؛ السياسة هي الاختيار بين السيئ والأسوأ، وليس الاختيار بين الحسن والسيئ»، الأسوأ هنا طبعاً هي الجزائر.
العلاقات الدبلوماسية بعد حرب الإبادة
ستحكم الازدواجية في الموقف الرسمي المغربي مواقف المَلكية المغربية من أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 والإبادة الجماعية التي أعقبتها إذ أصدرت وزارة الخارجية المغربية بلاغاً استعمل لغةً وضعت كلا الطرفين على القدر نفسه من المسؤولية، داعياً إلى «الوقف الفوري لجميع أعمال العنف والعودة إلى التهدئة وتفادي كل أشكال التصعيد التي من شأنها تقويض فرص السلام بالمنطقة».
منذ انطلاق الإبادة الجماعية في غزة، لم تتوقف العلاقات المغربية الإسرائيلية عن التوطّد، على الرغم من عبارات التمسك بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني الصادرة رسمياً عن الدولة المغربية.
وفي الوقت الذي يستدعي فعلاً إظهار ذلك التضامن، أي في عزّ الإبادة الإسرائيلية لسكان غزة، ازدادت أواصر التعاون بين النظام المَلكي المغربي وإسرائيل، وهو ما أبرزه تقرير صادر عن «ميدل إيست آي» يحمل عنوان «الحرب على غزّة قرّبت المغرب من إسرائيل وليس العكس». وقد تحدّث التقرير عن أوجه هذا التقارب، وشمل أخطر المجالات: التعاون العسكري مع الآلية العسكرية الصهيونية التي قتلت عشرات آلاف الفلسطينيين. هذا فضلاً عن فتح المغرب موانئه للسفن الإسرائيلية، كما حصل في حزيران/يونيو 2024، وسمح لسفينة حربية إسرائيلية بالرسو في ميناء طنجة ليتزوّد طاقمها بالوقود والمواد الغذائية بعد رفض إسبانيا فعل ذلك.
التطبيع الاقتصادي: ذروة غير مسبوقة
التطبيع الاقتصادي بين المغرب وإسرائيل قديم، وكان يتمّ عبر أشكال متخفّية. ففي تسعينيات القرن العشرين كانت هناك خطة تدريب لخبراء في مجال توزيع البذور، ومعدات الري، والأسمدة الذائبة، وبدءاً من العام 2008 شكّلت البذور الإسرائيلية 80% من إجمالي البذور المزروعة.
وبلغ التطبيع الاقتصادي بين المغرب وإسرائيل مستويات غير مسبوقة في عز الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني في غزة، ووصل التبادل التجاري بين المغرب وإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة في العام 2024.
أ. صفقات السلاح
بلغت قيمة صفقات السلاح بين المغرب وإسرائيل نحو 2.3 مليار دولار بين عامي 2020 و2024، بمعدل 460 مليون دولار سنوياً. ومن أبرز هذه الصفقات شراء المغرب قمر «أوفيك» لاستخدام في العمليات للتجسّس والمراقبة وقد بلغت قيمة الصفقة نحو مليار دولار أميركي في العام 2024، فضلاً عن شراء المغرب أنظمة الدفاع الصاروخي BARAK بقيمة مليار دولار في عامي 2023 و2024.
ب. الاستثمار الإسرائيلي في المغرب
نشر موقع «عرب بوست» نقلاً عن موقع ceic data أرقاماً عن ارتفاع الاستثمارات الأجنبية الإسرائيلية في المغرب، «من حوالي 0 دولار أميركي في العام 2020 إلى ما يقرب 700 مليون دولار بحلول العام 2024»، مع التأكيد على أن هذا الارتفاع أصبح حادّاً في خلال 2023-2024.
وبحسب موقع «عرب بوست» لم تقتصر هذه الاستثمارات على قطاع بعينه، بل شملت غالبية قطاعات الاقتصاد المغربي:
قطاع الطاقة: في شهر أيلول/سبتمبر 2022، أي بعد نحو سنتين على توقيع اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل، وقّع البلدان اتفاقية ثنائية لتعزيز التعاون في مجال الطاقة، ففي آذار/مارس 2022 استحوذت شركة Marom Energy الإسرائيلية، التابعة لشركة Gandyr، وهي صندوق إسرائيلي يستثمر في الطاقات المتجددة، على 30% من أسهم شركة Gaia Energy المغربية مقابل 22 مليون دولار.
قطاع الزراعة: يعود الاستثمار في هذا القطاع إلى ما قبل اتفاقيات أبراهام (2020)، ففي العام 2017 افتتحت شركة «نيتافيم» Netafim، المتخصصة في الري بالتنقيط، فرعاً لها في المغرب مقابل 2.9 مليون دولار، وللشركة علاقات وطيدة بالمجمّع الصناعي العسكري الإسرائيلي.
وحول هذا الموضوع، نشر موقع «هوامش» تحقيقاً مفصلاً عن نشاط منصة إلكترونية تحمل اسم SupPlant، المستهدف للفلاحين والمزارعين المغاربة بغية تقديم خدمات واستشارات تحسين زراعية مجانية، وكشف الموقع أنّ من يقف وراء المنصة هو زوهار بن نير، شغل في وقت سابق منصب مدير المبيعات في اليابان وكوريا الجنوبية لشركة «نيتافيم» (Netafim)، فضلاً عن أسماء رجال أعمال مغاربة مشاركين مثل أحمد الفاسي الفهري (المدير الأسبق للوكالة المغربية للاستثمار).
وفي لقاء نظمته «مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين» أكد محمد الناجي، الأستاذ في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، أن أكثر من 80% من البذور المتداولة داخل السوق المغربي منشؤها إسرائيل، ويشمل ذلك مختلف أنواع الخضار كالطماطم والبصل والجزر والفلفل والبروكلي وغيرها.
وفي العام 2021، وقعت شركة «مهادرين» الإسرائيلية اتفاقية تعاون زراعي مع المغرب، تسعى من خلالها إلى إنتاج 10 آلاف طن من الأفوكادو سنوياً. استثمرت الشركة الإسرائيلية في 500 هكتار من السهول الغربية للمغرب، المعروفة بخصوبة تربتها ووفرة مياهها السطحية والجوفية، بقيمة مالية تصل إلى حوالي 8 ملايين دولار.
ج. التبادل التجاري
قبل تطبيع العلاقات بين البلدين، بلغ حجم التبادل التجاري السنوي بين إسرائيل والمغرب 35 مليون دولار أميركي. بعد التطبيع، ووفقاً لبيانات معهد أبراهام لاتفاقيات السلام بلغ حجم التبادل التجاري نحو 8.5 مليون دولار في أيار/مايو 2024، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 124% في التجارة مقارنة بشهر أيار/مايو 2023. وبالنسبة إلى الأشهر الخمسة الأولى من عام 2024، بلغت التجارة الثنائية 53.2 مليون دولار، ما يشكل زيادة بنسبة 64% في التجارة عن الأشهر الخمسة الأولى من العام 2023. وحسب موقع atalayar: «على الرغم من استمرار الصراع في غزة، بلغ التبادل التجاري بين المغرب وإسرائيل بلغ مستويات غير مسبوقة في العام 2024. وعلى الرغم من القصف الإسرائيلي المستمر على غزة، والذي أثار إدانة دولية، تعززت العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بشكل كبير، منذ العام 2020».
بنية المبادلات: إعادة إنتاج التبادل اللامتكافئ
يقف الاقتصاد المغربي في موقع ضعيف مقارنة بالاقتصاد الإسرائيلي، إذ يشكّل الناتج المحلي الإجمالي للمغرب، البالغ حوالي 140 مليار دولار أميركي، 30% فقط من حجم الاقتصاد الإسرائيلي. وتنعكس هذه العلاقة اللامتكافئة في بنية المبادلات التجارية بين المغرب وإسرائيل.
بلغ التطبيع الاقتصادي بين المغرب وإسرائيل مستويات غير مسبوقة في عز الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني في غزة، ووصل التبادل التجاري بين المغرب وإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة
حققت المغرب فوائض طفيفة في التبادل التجاري مع إسرائيل قبل العام 2019، لتنعكس المعادلة لصالح إسرائيل بعد التطبيع. أيضاً كانت وتيرة نمو المبادلات تصب لصالح إسرائيل وقد زادت بنحو 25 مرة، في مقابل أقل من مرتين للمغرب. كما يلاحظ أن نمط العلاقة التجارية القائمة بين إسرائيل والمغرب هي نفسها القائمة بين دول الشمال العالمي ودول الجنوب العالمي، إذ تصدّر إسرائيل مواداً ذات قيمة مضافة عالية (ملحقات البث الإذاعي، لوحات التحكم الكهربائية)، بينما يصدّر المغرب مواداً ذات قيمة مضافة منخفضة (المواد الخام والنسيج).
صادرات المغرب إلى إسرائيل في العام 2023: صدّر المغرب 118 مليون دولار إلى إسرائيل. وكانت المنتجات الرئيسة المصدَّرة هي السكّر الخام (43.6 مليون دولار)، والبدلات النسائية غير المحبوكة (16.6 مليون دولار)، والقمصان النسائية غير المحبوكة (5.17 مليون دولار). وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، زادت الصادرات من المغرب إلى إسرائيل بمعدل سنوي قدره 12.9%، حيث ارتفعت من 64.2 مليون دولار في العام 2018 إلى 118 مليون دولار في العام 2023.
صادرات إسرائيل إلى المغرب في العام 2023: صدّرت إسرائيل 115 مليون دولار إلى المغرب. كانت المنتجات الرئيسة التي صدّرتها إسرائيل إلى المغرب هي ملحقات البث الإذاعي (39.6 مليون دولار)، ولوحات التحكّم الكهربائية (9.52 مليون دولار)، والنتريت والنترات (9.15 مليون دولار). وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، زادت الصادرات من إسرائيل إلى المغرب بمعدل سنوي قدره 90.9%، إذ ارتفعت من 4.55 مليون دولار في عام 2018 إلى 115 مليون دولار في عام 2023.
عجز تجاري على حساب المغرب: وبحسب التقرير الصادر عن «معهد أبراهام لاتفاقات أبراهام للسلام» في العام 2022، كان التطوّر في التجارة بين البلدين لصالح إسرائيل «التي زادت صادراتها إلى المغرب من 10.2 مليون دولار إلى 37.9 مليون دولار بين عامي 2020 و2022. كما تطورت الصادرات المغربية إلى إسرائيل أيضاً، ولكن ليس بالوتيرة نفسها، إذ ارتفعت من 11 مليون دولار إلى 17.8 مليون دولار. وفي حين كان الميزان التجاري المغربي فائضاً مع إسرائيل في العام 2019، تحول هذا الفائض إلى عجز منذ إعادة العلاقات بين البلدين في كانون الأول/ديسمبر 2020. وهو العجز الذي ما فتئ يتفاقم منذ ذلك الحين، ليقترب من 20 مليون دولار في نهاية العام 2022». وإذا أخذنا بعين الاعتبار حجم النفقات العسكرية المغربية على واردات سلاحها من إسرائيل يتفاقم عجز المبادلات بشكل مثير، إذ بلغ مجموع نفقات صفقات السلاح التي استوردها المغرب من إسرائيل في الفترة بين 2020- 2025: مليارين و287 مليون دولار.
يقف هذا على النقيض تماماً من الدعاية الضخمة التي واكبت التوقيع على اتفاقات أبراهام في كانون الأول/ديسمبر 2020، والتي قدّمت الوعود الطموحة للتنمية الاقتصادية كحافز رئيس للتطبيع مع إسرائيل.
المكاسب الدبلوماسية أهمّ من الاقتصادية
على الرغم من التأكيد على أهمية العلاقات الاقتصادية، إلا أنها تأتي في المرتبة الثانية بالنسبة لكلا الدولتين. بالنسبة إلى إسرائيل، حسب إحصائيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي لعام 2021، لم تشكّل صادرات إسرائيل نحو المغرب سوى %0.2 من إجمالي صادرات إسرائيل التي بلغت 143 مليار دولار في العام 2021. لكن الأهم لإسرائيل هو تعميق العلاقات مع دولة «عربية» في وقت تقترف فيه الآلة العسكرية الصهيونية أبشع إبادة بشرية في تاريخ الاحتلال الصهيوني. حتى ما تسمّيه المَلكية المغربية التزامها بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وأحد أوجه تقديم المساعدات الإنسانية، جرى عبر تفاهم مع إسرائيل، وهو ما لقي ثناءً من معهد القدس للاستراتيجية والأمن [[The Jerusalem Institute for Strategy and Security/ JISS الذي رأى أن «المغرب، بحكم مكانته في إسرائيل، كان أول لاعب إقليمي ينقل المساعدات عبر الطرق البرية الإسرائيلية التي لم يسبق لها مثيل. وكما أكدت وزارة الخارجية المغربية، فقد تمكنت الرباط من ترتيب إرسال 40 طناً من الإمدادات إلى غزة عبر مطار بن غوريون، مستفيدة من إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل لتسهيل المرور».
أما بالنسبة إلى الملكية المغربية، فالمكاسب الدبلوماسية مرتبطة أساساً بإقران تطبيعها مع إسرائيل بالموقف الأميركي من الصحراء الغربية، إذ اعترف ترامب بسيادة المَلكية على ذلك الإقليم الذي تطالب به «الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب/البوليساريو»، مدعومة من الجزائر. وعكس أنصار الأخيرَين الذين قالوا في العام 2020 إن ذلك الاعتراف مجرد نزوة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولا تعبّر عن حقيقة السياسة الخارجية الأميركية، فإن الجمع بين تطبيع المَلكية المغربية مع إسرائيل والاعتراف بسيادتها على الصحراء الغربية هو في قلب توصيات مؤسسات الرأسمال العالمي. فقبل التوقيع على اتفاقات أبراهام 2020، أشار تقرير صادر عن البنك الدولي في تشرين الأول/أكتوبر 2020 إلى الأمر الذي يؤخر إقامة منطقة تجارة حرة في المنطقة العربية، مؤكداً مسألتين وهما: «يَحُول الصراع بين الضفة الغربية وغزة وإسرائيل، والعلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر… من بين أمور أخرى، دون تشكيل تكتل أكثر وحدة وتماسكاً بين بلدان المنطقة». وهو توجّه ليس بجديد، بل يُعتَبر في صلب استراتيجية الولايات المتحدة تثبيت هيمنتها في المنطقة، الذي سيجري حسب آدم هنية عن «طريق العلاقات العسكرية والسياسية الوثيقة بالخليج وإسرائيل والدول العربية التابعة مثل الأردن ومصر»، واستخدمت الولايات المتحدة لتحقيق ذلك اتفاقيات التجارة الحرة، وحسب هنية كان «كل اتفاق يحتوي على بند بإلزام الطرف الموقِّع بالتطبيع مع إسرائيل مع حظر أي مقاطعة في العلاقات التجارية».
مناهضة شعبية للتطبيع ومعاداة راسخة لإسرائيل
تحاول المَلكية المغربية اللعب على حبلين؛ تدّعي من جهة أنها «إمارة المؤمنين» وهي رئيس «لجنة القدس»، ما يفرض عليها القيام بمبادرات استعراضية مرائية، ومن جهة أخرى هي مندرجة في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة العربية وأفريقيا ما يُظهر نفاقها هذا على الملأ. هذا التناقض دفع الصحافي توفيق بوعشرين إلى البحث عن حل لهذا المأزق، فبعد جرده لما يشكّله التطبيع من خطر على القضية الفلسطينية وإسرائيل من تهديد للديمقراطية في الشرق الأوسط، نصح الشعوب بـالتمسك بأطروحة «خيار الشعوب وضرورات الأنظمة»، شارحاً إياها بالقول «إنها أطروحة تميّز بين ما تفرضه ضرورات الأنظمة الحاكمة من سياسات قد تكون مفروضة عليها لأسباب مختلفة (اقتصادية، عسكرية، دبلوماسية) في صراع دولي معقّد، وبين اختيارات الأمّة التي تُعبّر عن إرادة الشعوب ومواقفها التحررية. وهنا أرى أنه لا بد من اعتماد مقاربة سياسية مركبة إزاء موضوع العلاقة بإسرائيل والصحراء وأميركا واستراتيجية مركبة من الدولة والمجتمع معاً: الدولة تسمح لقوى المجتمع بالحركة والتعبير عن مواقفها تجاه إسرائيل والتطبيع وضد تقتيل أهلنا في غزة، من دون سجون ومحاكمات ولا تشهير أو تخوين، مع مراعاة الظروف في الشرق الأوسط والابتعاد عن التطبيع المستفز... فهذا موضوع سياسي حساس جداً في دولة إمارة المؤمنين... في المقابل على المجتمع وقواه الرافضة لهذا النهج البراغماتي تجنّب إحراج الدولة وإدانتها أو شيطنتها حتى لا نُحدِث المزيد من الشروخ السياسية والاجتماعية والحقوقية».
يلاحظ أن نمط العلاقة التجارية القائمة بين إسرائيل والمغرب هي نفسها القائمة بين دول الشمال العالمي ودول الجنوب العالمي، إذ تصدّر إسرائيل مواداً ذات قيمة مضافة عالية بينما يصدّر المغرب مواداً ذات قيمة مضافة منخفضة
لكن المَلكية المغربية تستفيد من المستوى الذي تقف في حدوده حركة مناهضة التطبيع ومناصرة الشعب الفلسطيني في المغرب، مستوى يجعلها مطمئنة إزاء هذا التناقض بين ادعاء التضامن الرسمي والتعاون السافر مع إسرائيل، ما يسهّل لها تبرير هذا التعاون، عكس ما ذهبت إليه آراء أخرى.
معاداة إسرائيل راسخة في الوجدان الشعبي المغربي، هذا ما أكده استطلاع للرأي أعدّه «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» عن «اتجاهات الرأي العام العربي نحو الحرب الإسرائيلية على غزة»، بين 12 كانون الأول/ديسمبر 2023 و5 كانون الثاني/يناير 2024، حين عارض %78 من المغاربة المستطلعة آراؤهم الاعتراف بالدولة الإسرائيلية.
وفي هذا الإطار، تأسست مبادرتين للتضامن مع فلسطين ومناهضة التطبيع، إحداها «الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع»، تتكوّن من جماعات معارضة يسارية وإسلامية ونقابات، والثانية هي «مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين»، تتكوّن من أحزاب كانت في الحكومة بما فيها حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي وقّع أمينه العام، سعد الدين العثماني، اتفاقية التطبيع في كانون الأول/ديسمبر 2020 عندما كان رئيساً للحكومة.
كما تنظَّم فعاليات احتجاجية كثيرة تشمل كل مناطق البلد (وقفات وتظاهرات ومهرجانات خطابية)، لكن ما يمكن اعتباره بداية تحوُّلٍ نوعي في مناهضة التطبيع، هو الاحتجاج الذي دعت إليه الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع رفضا لرسو السفينة الدانماركية Maersk Detroit القادمة من الولايات المتحدة الأميركية، والمحمّلة بشحنة أسلحة ومعدات عسكرية موجهة لإسرائيل، والتحول النوعي هنا أن المبادرة كانت في البداية من طرف النقابة العمالية «الاتحاد المغربي للشغل».
كما هناك فعاليات تدعو إليها حركة المقاطعة BDS ضد علامات تجارية وشركات تربطها علاقات اقتصادية مع إسرائيل. لكن على الرغم من ذلك يظل رد الفعل الشعبي أقلّ مما كان في العقود السابقة، خصوصاً عندما كانت الاعتداءات الصهيونية تستثير ردود فعل عفوية وتلقائية من الشبيبة التلاميذية والطلابية.