معاينة التطبيع في زمن الإبادة

التطبيع الاقتصادي الخليجي: باب للهيمنة الإقليمية 

بعد توقيع الإمارات العربية المتحدة والبحرين على اتفاقية التطبيع مع إسرائيل في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2020، ضجّت وسائل الإعلام الخليجية بتصريحات مسؤولي البلدين بأن «اتفاقيات أبراهام» هي لخدمة القضية الفلسطينية، وتبرّع بعضهم بالادّعاء أن هذا الحدث جاء مشروطاً بوقف الاستيطان في الضفة الغربية. لكن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو أبطله سريعاً بتوقيعه على بناء آلاف الوحدات الاستيطانية، فيما واصل وزير الأمن الداخلي بن غفير في توجيه المستوطنين لارتكاب مزيد من الاعتداءات على الفلسطينيين في المناطق المحتلة في الضفة الغربية والقدس، وحياكة مخططات القتل اليومية لفلسطينيي الـ48. 

منذ العام 2020، وفي خلال السنوات التي تلت التوقيع على «اتفاقات أبراهام» التطبيعية تمكّنت إسرائيل من تحقيق اختراقات كبرى كانت تُطبَخ على نارٍ هادئة في العقود الثلاثة الماضية بما فيها زيارات غير معلن عنها وحضور مؤتمرات ولقاءات وعقد صفقات تحت الطاولة. 

التطبيع مع البحرين: وعود الازدهار المضلّلة

نصّ الإعلان الصادر في واشنطن بين وزير خارجية البحرين ورئيس الوزراء الإسرائيلي لحظة التوقيع على الاتفاق بأن مملكة البحرين و«دولة إسرائيل» واثقتان من أن هذا الاتفاق «سيساعد في الوصول إلى مستقبلٍ يمكن أن تعيش فيه جميع الشعوب والأديان معاً بروح التعاون وتتمتع بالسلام والازدهار، فتركّز الدول على المصالح المشتركة وبناء مستقبل أفضل». وأشار الاتفاق إلى «إبرام اتفاقات بشأن الاستثمار والسياحة والرحلات المباشرة، والأمن والاتصالات والتكنولوجيا والطاقة، والرعاية الصحية والثقافة والبيئة ومجالات أخرى ذات المنفعة المتبادلة، بالإضافة للاتفاق على الفتح المتبادل للسفارات».

العلاقات بين إسرائيل وحكومة البحرين لم تشهد تطوّراً يُذكَر من الناحية الاقتصادية إذا ما قورن بحجم التبادل التجاري الإماراتي مع إسرائيل

وقد سمح ذلك بفتح الباب أمام التبادل التجاري بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل، بعكس الرغبات الشعبية الكبيرة في معظم الدول العربية، ورفضها سياسات التطبيع، بالإضافة إلى المطالبات الجماهيرية بمقاطعة إسرائيل دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً.

يشير الباحث البحريني، رضي الموسوي في ورقة بحثية بعنوان «تبعات اتفاقيات التطبيع الجديدة على القضية الفلسطينية ومجلس التعاون الخليجي»، إلى أن العلاقات بين إسرائيل وحكومة البحرين لم تشهد تطوّراً يُذكَر من الناحية الاقتصادية إذا ما قورن بحجم التبادل التجاري الإماراتي مع إسرائيل. ففي عامي 2021 و2022، بلغ حجم التبادل التجاري بين الإمارات وإسرائيل نحو 2.5 مليار دولار، في وقتٍ لم يتجاوز التبادل بين البحرين وإسرائيل 20 مليون دولار (أي 7.560 مليون دينار بحريني). علماً أنّ إجمالي الميزان التجاري البحريني لعام 2024 كان في حدود 2008 مليون دينار، أي أن نسبة التبادل التجاري بين البحرين وإسرائيل هي في حدود 0.3% فقط، فيما شكّل إجمالي قيمة الواردات السلعية نحو 5872 مليون دينار، وإجمالي قيمة الصادرات نحو 3864 مليون دينار. وفي المجال السياحي، زار الإمارات مليون سائح إسرائيل في مقابل بضعة آلاف إلى البحرين، بينما زار إسرائيل في العام 2022 نحو 1400 سائح من الإمارات في مقابل 400 سائح من البحرين.

التطبيع مع الإمارات: اتفاقات ثنائية وأجندة استراتيجية

بخلاف البحرين، تركّز إسرائيل على دولة الإمارات، نظراً لثرواتها النفطية والنجاحات الملموسة على الصعد الاقتصادية التجارية والعقارية والسياحية في إماراتي أبوظبي ودبي. وقد أشار رضي الموسوي في ورقته سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، صرّح في ندوة بمناسبة مرور 3 سنوات على اتفاقية التطبيع، بأن بلاده «وقّعت 120 مذكرة تفاهم مع الكيان في خلال 3 سنوات»، وأن «هناك 152 رحلة جوية أسبوعية بين البلدين». لكن العتيبة استدرك وتراجع عن تأكيدٍ سابق له بالقول: «اتفاقنا بشأن التطبيع مقابل وقف الضمّ كان ضمن فترة زمنية معيّنة، وقد انتهت، وليس لدينا كمّ النفوذ الذي كان لدينا عند التوقيع. الأمر صعب حالياً، وأعتقد أن المسؤولية الآن ملقاة على عاتق الدول التي ستطبّع مستقبلاً». وأشار إلى أن قيمة التجارة الثنائية بين الإمارات وإسرائيل قد «بلغت 3 مليارات دولار، ومن المتوقّع أن تصل إلى 10 مليارات دولار». ولم يحدّد السفير فترة زمنية للوصول إلى هذا السقف.

والجدير بالذكر بأن الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل الذي وُقّع في واشنطن في 15 أيلول/سبتمبر 2020، نصّ على أن يُبرم الطرفان اتفاقيات ثنائية في المجالات التالية: «الرعاية الصحية، والعلوم والتكنولوجيا والاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي، والسياحة والثقافة والرياضة، والطاقة، والبيئة، والتعليم، والترتيبات البحرية، والاتصالات والبريد، والزراعة والأمن الغذائي، والمياه والتعاون القانوني». ويمكن للطرفين إبرام اتفاقات في المجالات الأخرى ذات الاهتمام المشترك وهي «التمويل والاستثمار، والطيران المدني، والتأشيرات والخدمات القنصلية، والابتكار، والتجارة والعلاقات الاقتصادية». ويتضمّن الاتفاق، بنداً مهمّاً، هو البند السابع تحت عنوان «أجندة إستراتيجية للشرق الأوسط»، وقد نصّ على أن «يقف الطرفان على استعداد للانضمام إلى الولايات المتحدة لتطوير وإطلاق «أجندة استراتيجية للشرق الأوسط» من أجل توسيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاستقرار في المنطقة وغيرها من أشكال التعاون الإقليمي».

 نموّ تجاري مع الكيان خلال الإبادة

كشف «الجهاز المركزي الإسرائيلي للإحصاء» عن بيانات وأرقام تجارة الكيان مع الدول العربية المطبّعة رسمياً وهي: مصر والأردن والمغرب والإمارات والبحرين. وقد أعدّ موقع «عربي بوست» تقريراً تفصيلياً وتحليلاً للبيانات والأرقام المذكورة في تقرير «جهاز الإحصاء»، جاء فيه بعض المعلومات اللافتة منها:

حجم التبادل التجاري بين الدول العربية المُطبّعة وإسرائيل في خلال الأشهر الـ14 الأولى من الحرب على غزة، زاد بنحو نصف مليار دولار (12%) قياساً بالأشهر نفسها من العامين 2022 و2023

أولاً، بلغ حجم التبادل التجاري بين الدول العربية المُطبّعة وإسرائيل نحو 6.14 مليار دولار، في خلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى شباط/فبراير 2025، إذ بلغت قيمة الصادرات العربية إلى إسرائيل نحو 4.57 مليار دولار، فيما بلغت قيمة الواردات من إسرائيل إلى الدول العربية 1.57 مليار دولار.

ويُظهر تحليل البيانات أن حجم التبادل التجاري بين الدول العربية المُطبّعة وإسرائيل في خلال الأشهر الـ14 الأولى من الحرب على غزة، زاد بنحو نصف مليار دولار (12%) قياساً بالأشهر نفسها من العامين 2022 و2023. 

ثانياً، أكثر أصناف المنتجات التي صدّرتها الدول العربية الخمس إلى إسرائيل، هي اللؤلؤ والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة والمجوهرات المقلّدة وبلغت قيمتها 584.8 مليون دولار، معظمها من الإمارات، تليها الآلات والمعدات الكهربائية وبلغت قيمتها 278.5 مليون دولار، وفي المرتبة الثالثة منتجات الإسمنت والجبس والجير بنحو 246.3 مليون دولار. وتضمّنت أبرز أصناف المنتجات أيضاً مواد غذائية وملابس ومواد كيميائية، بالإضافة إلى الأسمدة التي تستخدم في أعمال الزراعة والتي بلغت قيمة الصادرات العربية منها إلى إسرائيل نحو 52.6 مليون دولار.         

ثالثاً، يظهر تحليل البيانات بحسب حجم صادرات الدول الخمس إلى إسرائيل ووارداتها منه من المنتجات ذات المنشأ المحلي، بأن الإمارات العربية المتحدة صدَّرت إلى نحو 1377 صنفاً من المنتجات واستوردت نحو 763 صنفاً من المنتجات، وبلغت قيمة التبادل التجاري 2 مليار دولار. أما مملكة البحرين فقد صدّرت 65 صنفاً من المنتجات، واستوردت 53 صنفاً، وبلغت قيمة التبادل التجاري 13.6 مليون دولار.

مقاربات حول القدرات والجدوى الاقتصادية للتطبيع

يشير الباحث رضي الموسوي إلى مقاربة بين القدرات الإسرائيلية والقدرات البحرينية والإماراتية والسعودية. فقد كانت إسرائيل تأمل في إبرام اتفاقية مع الرياض، قبل «طوفان الأقصى» وكان واضحاً أن قطار التطبيع كان منطلقاً بسرعة كبيرة وتمّت فرملته بعد العدوان البربري للجيش الإسرائيلي في غزة والضفة. 

بلغ الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل نحو 488.5 مليار دولار في نهاية العام 2022 بحسب البنك الدولي، يقابله قرابة 45 مليار دولار للناتج المحلي الإجمالي البحريني، و600 مليار دولار للناتج المحلي الإجمالي الإماراتي وفق تقديرات الدوائر الرسمية في حكومة دبي. لذلك تعطي إسرائيل أهمية كبرى للإمارات، وترى فيها مركزاً يمكن الانطلاق منه إلى التجارة مع بقية دول العالم. ولكن الإمارات ليست الهدف النهائي لإسرائيل، بل كل دول مجلس التعاون الخليجي وخصوصاً السعودية. 

تسعى المؤسسات الإسرائيلية للحصول على موطئ قدم في الاقتصاديات العربية بالاختراق التطبيعي وتجتهد لزيادة صادراتها إلى المنطقة

يشكّل إجمالي الناتج المحلي لإسرائيل نحو 24.4% من الناتج المحلي الإجمالي لمجلس التعاون الخليجي، الذي بلغ في العام 2022 نحو تريليوني دولار، حسب تقديرات البنك الدولي. وهذا يشكل 63.2% من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية. وتسعى المؤسسات الإسرائيلية للحصول على موطئ قدم في الاقتصاديات العربية بالاختراق التطبيعي وتجتهد لزيادة صادراتها إلى المنطقة. ففي الجانب العسكري تسعى وزارة الحرب الإسرائيلية إلى زيادة صادراتها من الصناعات العسكرية إلى دول مجلس التعاون الخليجي مستفيدة من ارتفاع قيمة صادراتها في حزيران/يونيو 2021 بنسبة 15% لتصل إلى 8.3 مليار دولار. وأكد وزير الحرب الإسرائيلي في ذلك الوقت، بيني غانتس أن «إسرائيل لديها أسواق جديدة وفرص كبيرة للتطوير ستسهم في ضخ المليارات في الاقتصاد المحلي، وتتيح فرص عمل جديدة وتسهم في تعزيز أمن إسرائيل»، في إشارة غير مباشرة إلى الأسواق الخليجية التي فتحت بعضها لبضائع الكيان ومعداته العسكرية.

إن الخطورة الإستراتيجية بعيدة المدى، لن تكون في صالح حكومات دول مجلس التعاون إذا ما اعتمدت، ولو نسبياً، على الأمن الإسرائيلي. ويؤكد الموسوي أن إسرائيل قد «استغلّت الفرص المتاحة أمام التيه الخليجي والعربي فتغلغلت أكثر وضاعفت سرعة اندفاعة التطبيع والضغط للتوقيع على الكثير من الاتفاقيات في مختلف المجالات». وهو الأمر الذي أشار إليه المستثمر الصهيوني والمؤسس المشارك لمجلس الأعمال الإماراتي الإسرائيلي، دوريان باراك، بقوله في تصريحات لصحيفة «جيروزاليم بوست» إن «الإمارات منصّة فريدة للوصول إلى العالم بأسره (..) الإسرائيليون يبحثون دائماً عن طرق للقيام بأعمال تجارية في جنوب آسيا وشرق أفريقيا والهند وبنغلاديش (..)، في حين أنها أسواق بها مليارا شخص ولا يمكن العمل معهم من تل أبيب، أما الإمارات فهي المكان الذي يتجمّع فيه الجميع للقيام بأعمال تجارية، وتمّ قبول إسرائيل أخيراً في هذا النادي. هناك الكثير من مستثمري الأسهم المهمّين في الإمارات، وهي مسألة وقت قبل أن نرى المزيد من الشركات الإماراتية تستحوذ على حصص كبيرة في شركاتنا». 

أما فلور ناحوم، نائبة رئيس بلدية القدس المحتلة، فقالت إن العام الأول للتطبيع مع الإمارات كان «ناجحاً جداً» على الرغم من مواجهة الكثير من التحديات، وأبرزها جائحة كورونا. 

عوامل الجذب والاستغلال

تهتمّ إسرائيل بمصالحها الاستراتيجية ومشروعها المتمثّل بأن تكون في مركز القيادة في الوطن العربي، وتنتج مختلف السلع والبضائع بينما يقتصر فعل الدول العربية على الاستهلاك وتغذية المركز الصهيوني بالمال والعمالة الرخيصة باعتبارها أطرافاً في «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، الذي نظَّر له وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، إذ تشكّل دول مجلس التعاون الخليجي مصدر التمويل الأوّل نظراً لما تتمتّع به من ثروات نفطية ومالية هائلة. إن تركيز إسرائيل والولايات المتحدة على دول مجلس التعاون الخليجي، جاءَ بناءً على دراسة ديمغرافية ومالية اقتصادية لمنطقة تُعتبر واحدة من أغنى المناطق في الشرق الأوسط والعالم. 

يقتصر فعل الدول العربية على الاستهلاك وتغذية المركز الصهيوني بالمال والعمالة الرخيصة باعتبارها أطرافاً في «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، الذي نظَّر له وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز

فقد شكّل الاقتصاد الخليجي عامل جذب للمستثمرين والعمالة المهاجرة الوافدة، وهو يحتلّ مرتبة متقدّمة عالمياً، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدوله الست أكثر من 2 تريليون دولار، بلغ في السعودية لوحدها تريليون دولار، تليها الإمارات بنحو 600 مليار دولار، ثم الكويت بناتج 184.56 مليار دولار، فقطر 180 مليار دولار، ثم عمان 114.67 مليار دولار، والبحرين 45 مليار دولار. ويبلغ حجم التجارة البينية بين دول المجلس حوالي 127 مليار دولار في العام 2022، تتصدرها الإمارات بـ53%، ثم السعودية 26%. ربما هذا يفسر التركيز الإسرائيلي على الإمارات. أما على صعيد إنتاج النفط، تنتج دول الخليج العربية نحو 17.2 مليون برميل يومياً، تمثل 22.8% من الإنتاج العالمي، وتبلغ حصة السعودية من الإجمالي الخليجي نحو 57%، وقد بلغ متوسط إنتاجها 9.81 مليون برميل يومياً ويصل سقفها الانتاجي إلى أكثر من 12 مليون برميل يومياً، كما أن إجمالي موجودات الصناديق السيادية في دول مجلس التعاون بلغ 4 تريليون دولار. 

تعدّ هذه المعطيات مغرية جداً بالنسبة إلى إسرائيل من أجل اقتناص مئات مليارات الدولارات بصفقات أسطورية تتركز في التكنولوجيا والتجسس والسلاح والسياحة.

مسار التطبيع العربي من الترويج إلى الهرولة 

لقد سعى الكيان الصهيوني في خلال العقود الثلاثة التي سبقت توقيع «اتفاقيات أبراهام»، إلى ممارسة الاختراقات التطبيعية مع الدول الخليجية، وخصوصاً تلك التي تعاني من خللٍ ديمغرافي وسكّاني لا يشكّل المواطنون فيه إلا نسبةً ضئيلة كما هو الحال مع الإمارات وقطر على سبيل المثال. وبدأت تخرج إلى العلن في العام 1994، عندما قام وفد دبلوماسي إسرائيلي برئاسة وزير البيئة آنذاك، يوسي ساريد، بزيارة البحرين للمشاركة في مؤتمر عن قضايا البيئة، وبعدها بسنتين، أي في العام 1996 افتتحت كلّ من قطر وسلطنة عمان مكاتب تجارية لإسرائيل في عاصمتي البلدين.

زادت هذه الاختراقات وبشكل علني في السنوات اللاحقة عبر إرسال ما يسمّى بالوفود الشعبية أو الخبراء «الأفراد» الذين تم تأسيس مراكز بحث لهم من أجل التطبيع وقياس ردود الفعل، ثم تطوّرت إلى لقاءات رسمية علنية في المؤتمرات الدولية التي عادةً ما تصاحبها لقاءات ثنائية بعيدة عن وسائل الإعلام، ثم تقدّم التطبيع خطوات بالإيعاز إلى بعض المنظمات التي تمّ تشكيلها لهذا الغرض بالقيام بزيارات لفلسطين المحتلة تحت يافطة التسامح والصداقة، وأضيفت لها بعض الفرق الرياضية، وتجنّد البعض لخدمة هذا الهدف ومن بينهم صحافيين ورجال إعلام ورجال دين من مختلف المذاهب... كرّت سبحة التطبيع لتصل إلى منتصف أيلول/سبتمبر 2020 عندما نُظّم في حديقة البيت الأبيض احتفال للتوقيع على ما سمّي بـ«اتفاقات أبراهام» تمّ فيها الإعلان عن اتفاقية بين الكيان وكلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، أعقبها بعد شهر اتفاقية مع السودان ثم اتفاقية اخرى مع المغرب، وقال حينها بنيامين نتنياهو إن التطبيع سيتواصل مع دول عربية أخرى.

 ليس في إستراتيجية إسرائيل إيجاد علاقة تبادل بقدر ما تكون علاقة هيمنة أمنية وعسكرية أولاً واقتصادية وسياسية ثانياً بهدف تأسيس جسور على المدى البعيد لتنفيذ مخططاتها

لقد أسس الاختراق الصهيوني لبلدين خليجيين أرضية خصبة للتوسع نحو بلدان خليجية وعربية أخرى، وهذا ما يسعى له الكيان من أجل تشكيل تحالف إقليمي في مواجهة إيران، وتأسيس الحلم الصهيوني المبني على «الشرق الاوسط الجديد». وقد تقدّمت إسرائيل في ذلك خطوات كبيرة من حيث التطبيع الكامل مع الدول التي وقّعت «اتفاقات أبراهام»، وتمكّنت من إرخاء قبضة دول أخرى في الخليج من خلال السماح للطيران الإسرائيلي باستخدام أجواء هذه الدول، وفتح نوافذ لعلاقات تجارية مواربة إلى حد ما مع بقاء الاتصالات قائمة ما يعزز الخطى نحو التطبيع الكامل وفتح السفارات وإقامة العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية.

إن عين إسرائيل، بعد التطبيع مع أبو ظبي والمنامة، مسلّطة على أسواق المال الخليجية والسعودية على وجه الخصوص. فهي تسعى إلى الدخول بقوة في شراء أسهم الشركات المرسومة لها أدوار ضمن مخططاتها لفرض التطبيع وتوسيعه واستحالة التراجع عنه فيما بعد. كما أن جهودها الآن منصبّة على التطبيع مع أكبر دولة خليجية وأكبر قوة اقتصادية ومالية عربية، أي السعودية، أكبر منتج للنفط وحاضن الحرمين الشريفين، والتي تعتبر المفتاح الرئيس للتطبيع مع باقي الدول العربية والإسلامية. من هنا يمكن فهم التوجه الإسرائيلي نحو دول الخليج العربية، باعتبارها عملية كسر حاجز التطبيع واستغلال الدول الهشة التي يعيش مواطنوها كأقلية في بلدانهم نظراً لحجم العمالة الوافدة التي تشكّل أغلبية السكان في أربع دول خليجية.

تغلغل الكيان الصهيوني في مجلس التعاون الخليجي  

تشير بيانات ومؤشرات التبادل التجاري بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين بوضوح، إلى أن هذه العلاقة الاقتصادية لا تحقق القيمة المضافة النوعية أو حتى النسبية. فالتجارة مع إسرائيل لا تنقذ البحرين من الأزمات المالية والاقتصادية التي تعيشها. وبحسب الإحصاءات الرسمية للبحرين، ارتفعت ديون الحكومة من السندات وأذونات الخزينة، من 14.4 مليار دينار في العام 2021 إلى 15.6 مليار دينار في حزيران/يونيو 2024، وصولاً إلى 22 مليار دينار في ميزانية السنتين 2025/26.

كذلك فإن التطبيع لن يحقق قفزات ملموسة في الإيرادات قياساً إلى الخسائر الجيوسياسية وتراجع التأييد الشعبي المحلي وأيضاً تراجع التعاطف الشعبي العربي والعالمي تجاه حكومات الدول العربية المطبّعة مع عدو تاريخي للأمة العربية. وعلى الصعيد الاقتصادي، ليس في إستراتيجية إسرائيل إيجاد علاقة تبادل بقدر ما تكون علاقة هيمنة أمنية وعسكرية أولاً واقتصادية وسياسية ثانياً بهدف تأسيس جسور على المدى البعيد لتنفيذ مخططاتها. حتى إن نظّرت الحكومات الخليجية المطبّعة بأن المصالح الأمنية والعسكرية هي في صالحها إلا إنها مصالح مرحلية تنتهي بانتهاء نتيجة الصراع الإقليمي لصالح إسرائيل وهي نتيجة لها تداعياتها ضد مصالح كل الحكومات العربية المطبّعة وغير المطبّعة. 

وقد تيقّنت الشعوب الحرّة بأن هذا الكيان المصطنع أصبح عائقاً وثقلاً مرهقاً على الدول الرأسمالية الداعمة له وتدرك الحكومات الإسرائيلية مآلات هذا الأمر، لذلك تعمل لإحكام القبضة على المنطقة العربية ليسهل عليها قيادتها. وقد كَثَّفَ الدكتور مروان عبد العال في ورقة بعنوان «تطبيع القرن؛ من الهيمنة إلى الصهينة» هذه الفكرة بالإشارة إلى أن الترويج للتطبيع باعتباره يحقق التنمية المنشودة، هو كذبة صهيونية. ولا بدّ من تذكّر ما قاله وزير خارجيتها الأسبق أبا إيبان عن أن «إسرائيل ترغب أن تكون علاقتها بالدول العربية كعلاقة الولايات المتحدة بأميركا اللاتينية»، أي أنه بالقدر الذي تتحوّل فيه إسرائيل إلى قوة إمبريالية فإنها تحتاج إلى «أميركا لاتينية خاصة بها». كما أوضح عبدالعال «أن من ينجذب لأطروحة «الإغراء الاقتصادي»، كما جرى في ورشة المنامة عام 2019 عن الاستثمار والازدهار، فليتذكر وعود «كامب ديفيد» للمصريين بالرخاء أو في «أوسلو» بتحويل غزة إلى سنغافورة الشرق. جميع الوعود استخدمت فيها نكهة الدسم لتخفي طعم السم». 

وأشار عبد العال إلى أن حصيلة سياسة «السلام الاقتصادي» كخيار استراتيجي «هو شكل التبعية والهيمنة التي اعتمدت عليها الإمبريالية الأميركية لتشديد قبضتها على الدول العربية وتكريس الكيان الصهيوني كإمبريالية صغرى بتوابع وملحقات من أنظمة حاكمة عربية». ويخلص عبد العال في ورقته إلى أن «التطبيع هو بوليصة تأمين أميركية للكيان الصهيوني» كونها أمام تراجعات اضطرارية جديدة وتحوّلات دولية لغير صالحها وتبدّلات إستراتيجية تطال وظيفة إسرائيل للقيام بوظيفة إمبريالية إقليمية من خلال  إلحاق الأنظمة العربية في مشروعها وليس العكس! من مبدأ تثبيت وجود ودور وزعامة الكيان في المنطقة، وهذا يحتاج تأمين درع أو عمق أمني واستثماري ومالي وعسكري وسياسي وثقافي وتطبيع ديني يكرّس قبولها وثمنه تصفية القضية الفلسطينية ومصادرة هوية وانتماء ومستقبل شعوب المنطقة!».