معاينة التطبيع في زمن الإبادة

من كامب ديفيد إلى حرب الإبادة: تحوّلات التعاون الاقتصادي بين مصر وإسرائيل

أنهت اتفاقية كامب ديفيد التي وُقّعت في أيلول/سبتمبر 1978 حالة الحرب بين مصر وإسرائيل رسمياً، وشكّلت إطاراً لإقامة علاقات بين الطرفين، وأوجدت بيئة استثمرها الجانبان في التطبيع الاقتصادي على مدى أكثر من 4 عقود. 

مع ذلك، ظل التطبيع محل جدل داخلي وخارجي، إذ لم تؤدّ الاتفاقية إلى تطوير بنية اقتصادية منتجة أو تصنيع حقيقي، بل زادت من تبعية مصر إلى التمويل الخارجي، فيما قيّدت المشروطيات السياسية والاقتصادية للمساعدات الأميركية خيارات مصر التنموية. كذلك، أسفرت العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، في إطار اتفاقية الكويز وتبادل الغاز، عن تحقيق مصالح أكبر للطرف الإسرائيلي، بينما أثارت جدلاً في مصر بسبب ضعف المكاسب وتجاهل البعد الإنتاجي الحقيقي. ومع اندلاع حرب الإبادة الجماعية على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، عاد هذا التعاون ليكون محور تساؤلات جديدة بشأن مدى متانته أمام الضغوط الشعبية والظروف الإقليمية المتسارعة. 

اتفاقية كامب ديفيد وإطار العلاقات الاقتصادية

شكّلت اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978 لحظة فارقة في العلاقات المصرية الإسرائيلية، إذ وضعت الأسس المؤسّسية  لعلاقات دبلوماسية وتجارية بين البلدين، وأنهت حالة الحرب بينهما، وأسفرت عن فتح سفارات، لكنها لم تتطرّق صراحة إلى سياسات أو آليات للتعاون الاقتصادي. ومع ذلك، سمحت الوثيقة بإنشاء بيئة أمنية وسياسية مكّنت من إطلاق مشاريع مشتركة، فيما أدّت المساعدات الأميركية السنوية لمصر، التي تبلغ نحو 1.3 مليار دولار على شكل مساعدات عسكرية و400 مليون دولار على شكل مساعدات اقتصادية، دوراً أساسياً في دعم توجّهات التطبيع التدرّجي، وبنت أولى جسور التطبيع الاقتصادي. فقد أطلق الجانبان منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي تنسيقات بشأن قنوات الطاقة والتجارة، مستفيدين من الضغوط الدولية التي دفعت واشنطن لإدراج إسرائيل في محيط اقتصادي إقليمي أشمل، تخضع اتفاقية كامب ديفيد لإشراف أميركي مباشر، ما يجعلها أداة فعالة لإدامة التبعية المصرية، إذ تُقيّد القرار السيادي وتمنع اتخاذ خطوات جذرية كقطع العلاقات أو الانحياز الكامل للمقاومة، حتى في وجه الجرائم الصهيونية المستمرة.

ملامح التعاون الاقتصادي قبل حرب غزة

قبل حرب أكتوبر 2023، تميّز التطبيع الاقتصادي بين مصر وإسرائيل بالتوسّع المحدود والمتدرّج، وإن شهد تراجعاً ملحوظاً في أعقاب ثورة يناير 2011، نتيجة التحوّل الجذري في المزاج الشعبي تجاه إسرائيل، وتصاعدت الأصوات الرافضة لأي شكل من أشكال التطبيع، خصوصاً فيما يتعلق بثروات البلاد، وظهرت مطالبات واسعة بإعادة النظر في كل الاتفاقيات الاقتصادية المجحفة التي وقّعها نظام مبارك

على المستوى التجاري، شهد التبادل البيني نمواً طفيفاً على مدى السنوات السابقة، متأثراً أساساً بالاتفاقيات القطاعية ومشروعات الطاقة المشتركة. ووفقاً لأحدث البيانات الرسمية، بلغ إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى مصر نحو 2.23 مليار دولار في العام 2023 بينما بلغت صادرات مصر إلى إسرائيل حوالي 347 مليون دولار. ويعكس هذا الفارق خللاً فاضحاً في الميزان التجاري لصالح إسرائيل، وهو في الغالب مركزّ حول الطاقة والمواد الأولية. على سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى أن السلع المصرية المصدّرة تتمثل أساساً في منتجات زراعية ومواد خام، بينما تستورد مصر من إسرائيل كيماويات ومنتجات هندسية متقدمة. 

تخضع اتفاقية كامب ديفيد لإشراف أميركي مباشر، ما يجعلها أداة فعالة لإدامة التبعية المصرية، إذ تُقيّد القرار السيادي وتمنع اتخاذ خطوات جذرية كقطع العلاقات أو الانحياز الكامل للمقاومة، حتى في وجه الجرائم الصهيونية المستمرة.

شكّل قطاع الطاقة أهم روافد التطبيع الاقتصادي بين مصر وإسرائيل. وبعد أن ألغيت الاتفاقيات في العام 2011 تحت الضغط الشعبي، لا سيما من القوى الوطنية واليسارية والقومية، التي رأت أن الاتفاق فيه تفريط في ثروات مصر الطبيعية، وانحياز لإسرائيل على حساب الشعب المصري. فقد كانت أسعار تصدير الغاز المصري لإسرائيل زهيدة للغاية مقارنة بالأسعار العالمية وقتها، وكان الغاز يُباع بسعر يتراوح بين 70 سنتاً و1.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية، بينما كانت الأسعار العالمية مراجعة دورية للأسعار، وقد أكد كثير من الخبراء أن الصفقة كبّدت مصر خسائر بمليارات الدولارات، وهو ما اعتُبر إهداراً للمال العام وموارد الدولة. لكن انقلبت المعادلة لاحقاً، ففي العام 2018، تم الإعلان عن اتفاقين لشراء الغاز الطبيعي الإسرائيلي مدتهما عشر سنوات بقيمة إجمالية بلغت 15 مليار دولار. وقد وقّع الطرفان الاتفاقات لنقل نحو 64 مليار متر مكعب من الغاز من حقول تامار وليفياتان. وبالتالي، باتت مصر مستورداً للغاز من إسرائيل وترزح تحت اعتمادية مفرطة عليها لتأمين حاجاتها المحلية من الغاز. فقد تضاعفت واردات مصر من إسرائيل بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وفي هذا الصدد، يشير أستاذ الاقتصاد السياسي كريم الأمدا إلى أن واردات مصر من إسرائيل (معظمها غاز مصدّر) قفزت من نحو 75 مليون دولار في العام 2021 إلى 850 مليون دولار في العام 2022، ثم وصلت إلى 1.15 مليار دولار في العام 2023. 

إلى جانب ذلك، شكّلت المناطق الصناعية المؤهلة (QIZ) أداة رئيسة لزيادة التطبيع الاقتصادي تحت مظلّة كامب ديفيد. ففي كانون الأول/ديسمبر 2004، وقّعت مصر مع إسرائيل والولايات المتحدة بروتوكولاً لإنشاء هذه المناطق في مصر، والتي تسمح الولايات المتحدة بموجبها بإدخال المنتجات المصرية المصنعة داخل هذه المناطق إلى أسواقها من دون رسوم جمركية شرط احتوائها على نسبة من المكوّن الإسرائيلي، وقد بلغت 11.7% بداية وخُفّضت إلى 10.5% في العام 2007. ومنذ ذلك الحين، زادت الصادرات المصرية، خصوصاً في قطاع الغزل والنسيج، إلى السوق الأميركية، قبل أن تعاود الانخفاض بعد ثورة 2011. مع ذلك، شكّلت هذه الاتفاقيات آلية محفِّزة لسيطرة رأس المال الاسرائيلي، ومثال على ذلك، بلغت استثمارات شركة دلتا الجليل في الصناعات النسيجية نحو 450 مليون دولار، ونيتافيم في الزراعة نحو 120 مليون دولار، فيما بلغت استثمارات ديليك في قطاع الطاقة نحو 900 مليون دولار. وقد استفاد رأس المال الإسرائيلي من استغلال العمالة الرخيصة في مصر. ففي العام 2008، قدّر عدد العاملين في الشركات والمصانع التي انضمت للاتفاقية بنحو 324.1 ألف عامل/ة ووصل عددهم المقدر حتي نهاية 2023 إلى ما يقرب من 750 ألف عامل/ة. اتسمت العمالة المصرية المستغلة من رأس المال الإسرائيلي بأجورها المنخفضة وهشاشتها، بالإضافة إلى ارتفاع معدل دورانها، وهو ما انعكس على مدى تردي أوضاع العمال وتأخر أصحاب الشركات والمصانع في صرف الأجور وحرمانهم من الإجازات وساعات العمل الإضافية تحت خطر إخضاعهم للفصل التعسفي بحسب منظمة العمل الدولية.  

آثار حرب غزة 2023 على التعاون الاقتصادي

مع اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، ارتفع منسوب التوتر في العلاقات السياسية بين الطرفين، وشاعت دعوات شعبية في مصر لمراجعة العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، وبرز خلاف حول طريقة تصفية القضية الفلسطينية التي تراوحت بين الإبادة الدموية التي اتبعتها إسرائيل، وبين التصفية الناعمة التي اعتمدها الجانب المصري وتقضي بترحيل أهل غزة إلى منطقة النقب لتصفية المقاومة ثم اعادتهم بعد ذلك إلى القطاع. 

أصبحت كامب ديفيد الغطاء السياسي الذي يُجمّد القرار المصري، ويحول دون إلغاء معاهدات اقتصادية تستنزف موارد البلاد، على الرغم من ما تكشفه الأرقام والوقائع من خسائر وتبعية مفضوحة لصالح رأس المال الإسرائيلي والأميركي

وفي حين، استُنكرت بشدة الأنشطة الاقتصادية المشتركة ووُوصف التطبيع الاقتصادي بـ«العار الوطني»، تجنّبت الدولة المصرية اتخاذ إجراءات تُعلّق الاتفاقيات الأساسية. وترافقت الأزمة مع رقابة أميركية مكثفة للحفاظ على الالتزام بـ«معاهدة السلام»، وظلّ المسؤولون المصريون يؤكدون على الفصل بين البعد الأمني-السياسي من جهة، والمصالح الاقتصادية البعيدة من جهة أخرى.

وعلى الرغم من هذه التوترات، استمر التطبيع الاقتصادي القائم إلى حد ما. فقد واصلت مصر استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل بنحو منتظم، وبلغت وارداتها 4.84 مليار متر مكعب في خلال النصف الأول من العام 2024، في مقابل 4.24 مليار في النصف المناظر من العام 2023. كما استمر عمل المصانع المشتركة ضمن مناطق الـ QIZ دون توقف تام، وإن كان الإيقاع أبطأ مما كان عليه قبل الحرب.

انعكست الحالة الراهنة في الشارع المصري بدعوات قوية لوقف التطبيع الاقتصادي وقد جرى قمع معظمها. إذ حرص النظام المصري على عدم الإضرار بـ«السلام»، وعلى سريان المصالح الاقتصادية. وعلى الرغم من الإبادة، أصبحت كامب ديفيد الغطاء السياسي الذي يُجمّد القرار المصري، ويحول دون إلغاء معاهدات اقتصادية تستنزف موارد البلاد، على الرغم من ما تكشفه الأرقام والوقائع من خسائر وتبعية مفضوحة لصالح رأس المال الإسرائيلي والأميركي.