معاينة البحرين

حول الديون الحكومية والضرائب المطلوبة لتخفيضها

بحسب الإحصاءات الرسمية لدولة البحرين، ارتفعت ديون الحكومة من السندات وأذونات الخزينة، من 14.4 مليار دينار في العام 2021 إلى 15.6 مليار دينار في حزيران/يونيو 2024. والواقع أن العجز المالي في الموازنات السنوية للدولة قد ارتفع حتى في السنوات التي ارتفعت فيها أسعار النفط بشكل كبير. ففي العام 2008، على سبيل المثال، كان سعر النفط 97 دولاراً للبرميل، وعلى الرغم من ذلك كان هناك فائض في الميزانية في حدود 617 مليون دينار، ليتحوّل إلى حالة عجز في الأعوام التالية.

الإيرادات والمصاريف والعجز بين عامي 2013 و2023
تطور الدين العام

وإلى جانب هذه العجوزات والديون المتصاعدة، هناك قروض لوزارات الدولة، مجموعها 2.446 مليار دينار. وهي بطبيعة الحال ديون على الحكومة، ولكنها غير مُدرجة في الموازنات، وقد كشف عنها ديوان الرقابة المالية والإدارية في تقاريره السنوية. وتبيّن أن وزارة المالية مدينة للبنك المركزي بنحو 1.920 مليار دينار ولبنك البحرين الوطني بنحو 30 مليون دينار، أما وزارة الإسكان فقد اقترضت من مصرف السلام نحو 123 مليون دينار، فيما اقترض بنك الإسكان من مجموعة بنوك نحو 75 مليون دينار. أيضاً، تشير ميزانيات الشركات الحكومية المنشورة على مواقعها الإلكترونية إلى أن هناك قروضاً وديون عامة إضافية، مثل قروض شركة «الممتلكات» بقيمة 2.3 مليار دينار، وقروض النفط القابضة «نوغا» بقيمة 2.7 مليار دينار. ما يجعل إجمالي الدين العام يرتفع إلى 15.6 مليار دينار لغاية حزيران/يونيو 2024.

بعض الحلول المقترحة لتخفيض العجوزات

نظّم نادي العروبة في البحرين ندوة في كانون الأول/ديسمبر الماضي للاقتصادي والمصرفي، خالد جناحي، توقّع فيها ارتفاع الدين العام البحريني إلى 34 مليار دينار بحلول العام 2030 إذا لم يعالج بشكل صحيح في خلال هذه الفترة.

ووضع جناحي أمام مجلس الوزراء البحريني بعض الحلول المقترحة، منها خصم 2% سنوياً من الثروة النشطة في البحرين لمدة 5 سنوات متتالية - وتشمل هذه الثروة جميع الناس في البحرين الذين كوّنوا تلك الثروة من الخدمات أو الإرث - وذلك لتغطية جزءاً من الدين العام، على أن يتم تعويضهم على فترات، حتى يُعاد التوازن الإيجابي إلى الاقتصاد، وبعد بدء نمو الاقتصاد والتخلّص من الدين العام. وهو ما قد يجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للبحرين لأن تصنيفها الائتماني سيرتفع.

ارتفعت نسبة فوائد الدين العام من إجمالي إيرادات الدولة في العام 2023 إلى نحو 26 %، بالمقارنة مع 21 % في العام 2022

والجدير بالملاحظة أنه اعتباراً من العام 2020، بلغ صافي الثروة العالمية حوالي 510 تريليون دولار، وهو ما يعادل حوالي 6.4 مرة الناتج المحلي الإجمالي العالمي البالغ 80 تريليون دولار في ذلك العام. وفي حين يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للبحرين نحو 17 مليار دينار. ولو افترضنا أن الثروة تساوي مضاعف 6.4 مرة، سيكون مجموع الثروة نحو 109 مليارات دينار. نصفها مساكن لمواطنين عاديين أو ثروات صغيرة نسبياً. لذلك وجب الانتباه عند التفكير في تنفيذ هذا الاقتراح، بحيث يُستبعد من الخصم الثروات الصغيرة للمواطنين غير الأثرياء.

والحل الآخر الذي يقترحه جناحي هو إمكانية زيادة أصول الشركات الحكومية القابضة «إدامة» و«ممتلكات»، من خلال تخصيص 25% من إجمالي البحار والأراضي التي تملكها الدولة، وسوف يرفع ذلك أصول «ممتلكات» ويزيد من قوة الاقتصاد ويخلق إنتاجية اقتصادية ويزيد من قوة البحرين الائتمانية وثقة الاستثمارات الأجنبية.

فوائد الدين العام

أيضاً توقّع الاقتصادي خالد جناحي، بأنه بعد 3 سنوات سيكون بند «فوائد الدين العام» في الميزانية - هو الآن في آخر بنود المصاريف المتكرّرة - البند الأول في مصروفات الميزانية، بدلاً من بند الأجور والرواتب، بمعنى أن كلفة الدين ستكون البند الأول في الميزانية.

فوائد الدين العام في البحرين

يتضح من الأرقام أعلاه بأن فوائد الدين الأصلي على الحكومة ارتفعت في العام 2023 بنسبة 15%، وبلغت 843 مليون دينار مقارنة بنحو 736 مليون دينار في العام 2022. علماً أن هذه المبالغ لا تشمل الفوائد على الاقتراض المباشر بواسطة بعض الوزارات والجهات، وأيضاً لا يشمل فوائد القروض المباشرة لبعض الشركات مثل شركة ألومنيوم «ألبا» وشركة نفط البحرين «بابكو». بمعنى آخر، قد تتجاوز الفوائد المليار دينار. كما ارتفعت نسبة فوائد الدين العام من إجمالي إيرادات الدولة في العام 2023 إلى نحو 26 %، بالمقارنة مع 21 % في العام 2022.

تقرير وكالة فيتش للتصنيف الإئتماني

في تقريرها الصادر في 24 شباط/فبراير الماضي، خفّضت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية للبحرين من «مستقرّة» إلى «سلبية» B+، وأشار التقرير إلى أن سبب هذا التراجع هو ارتفاع الديون وفوائدها الذي أدّى إلى «عجز واسع ومستمرّ»، والمزيد من التأخير في الإصلاحات المخطّط لها. يعكس تصنيف B+ ضعف المالية العامة، والاعتماد المالي العالي على عائدات النفط، وانخفاض مستويات احتياطيات العملات الأجنبية. وكل تلك العوامل تؤثر على التصنيفات.

وتوقّعت وكالة «فيتش» أن ترتفع ديون حكومة البحرين من 130% في العام 2024 إلى 136% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2026. وعلى الرغم من أن الوكالة توقعت أن ترتفع الإيرادات غير النفطية إلى 8.8% في العام 2025 و9.0% في العام 2026، بالمقارنة مع متوسط 8% بين عامي 2022 و2024. وسيكون هذا التحسن في الغالب من خلال الضريبة على الشركات متعددة الجنسيات، التي تم اعتمادها في كانون/الثاني يناير 2025، وستدخل حيز التنفيذ بدءاً من الربع الثالث من العام 2025 ويمكن أن تحقق زيادة في الإيرادات بنحو 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وتوضح «فيتش» بأن هذه النسبة لا تشمل ضريبة دخل الشركات أو زيادة ضريبة القيمة المضافة.

وتقترح وكالة «فيتش» بأنه «في ظل غياب إصلاحات قوية، قد تحتاج البحرين إلى زيادة كبيرة في التمويل الميسر من دول مجلس التعاون الخليجي لتحقيق الاستقرار وخفض الديون». وترى الوكالة بأن شركاء دول مجلس التعاون الخليجي «ملتزمين بتقديم الدعم للبحرين من خلال قنوات مختلفة، تشمل القروض الرخيصة من صناديق الثروة السيادية الإقليمية، ومنح رأس المال، وبرامج التعاون الاستثماري. وقد تكون حزمة تمويل امتيازية أخرى من دول مجلس التعاون الخليجي قادمة، كما حدث في العام 2018 عندما جرى تمويل البحرين بنحو 10 مليارات دولار كقروض من دون فوائد».

والجدير بالذكر أن وكالة «فيتش» تتعامل مع التصنيفات الائتمانية لأفضل السيناريوهات وأسوأها لجميع فئات التصنيف من AAA إلى D. وتعتمد على معايير واضحة عند إجراء تقييم سلبي/تخفيض للتصنيفات المستقبلية للبحرين أهمها: المالية العامة، مثل تحقيق استقرار الدين الحكومي أو عدمه. والمالية الخارجية، مثل علامات ضعف دعم مجلس التعاون الخليجي. وتكشف هذه المعايير تكاليف الفائدة على الديون وبالتالي الضغط على ميزان المدفوعات. في مقابل كل هذه المعايير الاقتصادية، تتبنى وكالة «فيتش» مؤشرات الحوكمة التي يتبنّاها أيضاً البنك الدولي، وتعتبر هذه المؤشّرات غير الاقتصادية لها صلة وثيقة بالتصنيف. ونظراً لأن البحرين لديها رتبة مئوية أقل من 50 لحقوق الإنسان والحريات السياسية، فإن ذلك له تأثير سلبي على الملف الائتماني.

إجراءات تقشفية قاسية لتغطية العجوزات

يجري التحذير منذ سنوات من انفجار أزمة المديونية في البلدان النامية، وتفيد التوقعات أن 60% من البلدان المنخفضة الدخل هي الآن في قلب أزمة المديونية أو في الطريق إليها. وتكافح هذه البلدان لمواصلة الإيفاء بديونها، ولكن على حساب مستوى معيشة سكانها ورفاهيتهم وتطوّرهم. وتؤدّي المؤسّسات المالية الدولية، ولا سيما صندوق النقد والبنك الدوليين، دور «الملاذ الأخير» لهذه البلدان للحصول على المزيد من القروض الخارجية من أجل تسديد القروض السابقة والفوائد المتراكمة عليها، بالإضافة إلى الإنفاق على كل الأمور الأخرى.

توقّعت وكالة «فيتش» أن ترتفع ديون حكومة البحرين من 130% في العام 2024 إلى 136% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2026

لحسن الحظ، لم تلجأ حكومة البحرين- لغاية الآن - إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، المعروف عنه بأن معظم الدول التي استدانت منه، ونفّذت شروطه قد دمّرت اقتصاداتها وتراجع نموها وزادت من مديونياتها الخارجية. وعلى الرغم من ذلك، طبّقت الحكومة الشروط والتوصيات نفسها التي يضعها صندوق النقد الدولي، وهي الشروط التي يسمّيها الكثير من الاقتصاديين بشروط «الرأسمالية المتوحشّة»، إذ تركّز على سياسات تقشّفية مثل تخفيض مستويات التوظيف في القطاع الحكومي، وتخفيض الرواتب والأجور، وتجميد أو نزع حقوق المتقاعدين، وتخفيض الإنفاق العام الحكومي على الخدمات الأساسية، بل وخصخصتها، وزيادة الضرائب والرسوم. وعلى الرغم من عدم الاستدانة من هذا الصندوق، تلجأ الحكومة إلى الاستدانة من مؤسّسات القطاع الخاص الأجنبي عبر بيع السندات وأذونات الخزانة وبفوائد مرتفعة، وهو ما ستكون له نتائج خطيرة.

ووفق «تقرير الديون» لعام 2024، تلقى الدائنون الأجانب من القطاع الخاص منذ العام 2022 نحو 13 مليار دولار من مدفوعات خدمة الدين في البلدان الفقيرة. وتبيّن اليوم فشل الرهانات على الاقتراض من الخارج، سواءً من المؤسسات المالية والنقدية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، أو الأفراد والمؤسسات الخاصة. وباتت البلدان النامية ترزح تحت ديون خارجية هائلة. ويعني ذلك أن الدائنين من القطاع الخاص الأجنبي يواصلون جني ربح الفوائد من الدول النامية بعد إغراقها بديون تعجيزية.

في العام 2023، أصبح الاقتراض في الخارج أكثر تكلفة بكثير بالنسبة إلى جميع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وارتفعت أسعار الفائدة على القروض الجديدة لهذه الدول من الدائنين الرسميين (الدول والمنظمات كصندوق النقد الدولي) بنسبة 2.1% ووصلت إلى 4.09%، أي أنه بلغ الضعفين. بينما ارتفعت النسبة لدى الدائنين من القطاع الخاص بمقدار 1.37% إلى 6%، وهو أعلى مستوى منذ العام 2008، وعلى الرغم من أن أسعار الفائدة العالمية بدأت في الانخفاض منذ ذلك الحين، فإنه من المتوقع أن تظل أعلى من المتوسط ​​الذي كان سائداً في العقد الذي سبق كوفيد-19.

في البحرين، قامت الحكومة بإجراءات فورية مثل فرض ضريبة القيمة المضافة وزيادتها من 5% إلى 10%. علماً أن ضمن مقترحات الحكومة بشأن ميزانية العامين 2025-2026 المعروضة على مجلسي النواب والشورى في دورته الحالية، هناك مقترح بـ«زيادة  إيرادات ضريبة القيمة المضافة»، وهي صيغة مبهمة ولكنها توحي بارتفاع النسبة أو إلغاء الإعفاءات في تطبيق هذه الضريبة على السلع والخدمات المستثناة حالياً . كما تم رفع الدعم الحكومي على بعض الخدمات كالكهرباء والماء للعقارات التي يمتلكها المواطن من غير سكنه، كما تم رفع هذا الدعم على الشركات والمحلات التجارية والمقيمين الأجانب. وزيادة أسعار الوقود على الجميع، وزيادة الرسوم، وتجميد الزيادة السنوية للمتقاعدين. ولكن لم تساهم كل هذه الإجراءات في زيادة الإيرادات وتخفيض المصروفات، وبالتالي تخفيض العجوزات والدين العام. بل أدّت إلى تراجع في مستويات الدخل والمعيشة للفقراء وذوي الدخل المحدود والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة وانخفاض في مستويات ادخارهم، كما كان لها تأثيرات سلبية على فئات من المستثمرين والقطاع العقاري - أنظر.ي مقالي الفقر في البلدان العربية و«أنسنة الاقتصاد» المنشور في موقع «صفر».

ومن جانب آخر، لم تقم الحكومة بتنفيذ وعودها المعلنة مثل «ترشيق الحكومة»، أي تقليص عدد الوزارات والهيئات والمجالس الحكومية، ودمج بعضها، ولم تنفّذ برامج الضبط المالي وتخفيض ملموس في النفقات الحكومية غير الخدماتية، ومنع الهدر المالي والإداري الموجود في الحكومة. والأهم زيادة الإيرادات الضريبية وذلك من خلال فرض ضرائب تحقق القيمة المضافة الفعلية في الميزانية، وتحقق أيضاً مبدأ المساواة والتوزيع العادل للثروة، مثل ضريبة الدخل التصاعدية وضريبة الثروة ورأس المال، وضريبة الأرباح.

الضرائب على الثروات أم الضرائب العامة

تشير دراسات اقتصادية عدّة إلى أن البدء في تطبيق ضرائب تصاعدية على الدخل والثروة والميراث، بدلاً من الضرائب العامة التي تُطبق على الجميع، تخلق قيماً مضافة نوعية في تحسين وزيادة في الموازنات العامة. ولا تضرّ كثيراً أصحاب تلك الثروات. وقد كشفت صحيفة «فايننشال تايمز» بأنه تم نقل أكثر من 100 تريليون دولار من الأصول الموجودة في الولايات المتحدة، وهي عبارة عن عقارات ونبيذ معتق وأعمال فنية، من جيل مواليد 1945 إلى ورثتهم من جيل 1965-1980. فيما سيتم توريث أكثر من 18 تريليون دولار من الثروة العالمية بحلول العام 2030، ليكون هذا أكبر انتقال للأصول بين الأجيال في التاريخ. علماً بأن النسبة الأكبر من الثروة ستبقى محصورة ضمن طبقة الـ10% الأغنى وورثتهم من بعدهم.

سيتم توريث أكثر من 18 تريليون دولار من الثروة العالمية بحلول العام 2030، ليكون هذا أكبر انتقال للأصول بين الأجيال في التاريخ. علماً بأن النسبة الأكبر من الثروة ستبقى محصورة ضمن طبقة الـ10% الأغنى وورثتهم من بعدهم

لن تتأثر مستويات معيشة هؤلاء الورثة الجدد، ولا أرباحهم إذا ما تم تطبيق هذه الضريبة عليهم. وبحسب تقرير «ناهبون لا صانعون» الصادر عن منظّمة «أوكسفام»، نمت ثروة أصحاب المليارات في العام 2024 أسرع بنحو 3 مرات من نموها في العام 2023، وارتفع إجمالي ثروتهم بنحو 2 تريليون دولار. وفي حين ازداد الفقراء فقراً، نمت ثروة كل ملياردير بنحو «مليوني دولار في اليوم الواحد»، وجنى أغنى 10 مليارديرات نحو 100 مليون دولار يومياً في المتوسط. ولذلك، «حتى لو فقد أحد أثرى 10 من أصحاب المليارات 99% من ثروته، سيظل مليارديراً». ويشير التقرير إلى أنه في العام 2024، ظهر نحو 204 مليارديراً جديداً، أي ما يقارب 4 مليارديرات جُدد في الأسبوع الواحد. وبعد أن توقعت منظمة «أوكسفام» ظهور أول تريليونير في غضون عقد من الزمان، تتوقع الآن ظهور 5 من أصحاب التريليونات في خلال عقد من الزمان، في حين أنه عدد الأشخاص الذين يعيشون في مستويات من الفقر لم يتغيّر كثيراً منذ العام 1990. تكشف وكل هذه الأرقام صحة مقولة الروائي العالمي، الحائز على جائزة نوبل للسلام، فيكتور هيغو، حينما قال «فردوس الأثرياء مصنوع من جحيم الفقراء»!

أما على صعيد الوطن العربي، فيشير التقرير نفسه إلى أن ثروات 22 مليارديراً عربياً تقدّر بنحو 71 مليار دولار. وقد تضخّمت هذه الثروات بنحو 6 مليارات دولار في العام 2024، أي ما يعادل 16 مليون دولار يومياً. كما أشارت وكالة «رويترز» في 15 كانون الثاني/يناير 2025، إلى أن شركة «بلاك روك» باتت أكبر مدير للأصول والثروات في العالم، إذ تدير نحو 11.6 تريليون دولار وفق البيانات المتاحة في نهاية العام 2024. وتساوي هذه الثروة الناتج المحلي الإجمالي لأكبر 4 اقتصادات في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا)، وتساوي نحو 75% من الناتج المحلي الإجمالي لجميع اقتصادات منطقة اليورو، ونحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن أمثال هذا النموذج - ولو بشكل متوسط أو مصغّر أو مجهري - منتشرين في جميع الدول العربية، ومنها دول مجلس التعاون الخليجي التي تحتضن مليارديرات كأفراد أو أصحاب مؤسسات تجارية عائلية أو مرتبطة بالمشاريع الريعية النفطية والمناقصات الحكومية والمضاربات العقارية. إن تطبيق مثل هذه الضرائب سيفيد ميزانيات الدولة من دون أن تخسر هذه الطبقة الاجتماعية أرباحها وامتيازاتها، ولعل الحلول التي اقترحها الاقتصادي خالد جناحي المذكورة في بداية هذا المقال تصب في هذا الاتجاه.

البدائل الضريبية المطلوبة في البحرين

لا تكمن البدائل الضريبية المطلوبة بتطبيق ضريبة القيمة المضافة وزيادتها من 5% إلى 10%، مع توقع زيادتها إلى 15%-20% مستقبلاً، بل العمل على تنفيذ البدائل الأكثر جدوى للاقتصاد، والأقل ضرراً على مستوى معيشة غالبية المواطنين، مثل الضريبة التصاعدية على الثروة والدخل وأرباح الشركات. إن صندوق النقد الدولي الذي أصبحت الحكومة حريصة على تنفيذ توصياته، والتي يتهمها بعض الاقتصاديين بأنها توصيات «رأسمالية متوحشّة»، كونها تركز على السياسات والبرامج التقشّفية للإنفاق العام في الخدمات الحكومية الأساسية، وزيادة في الرسوم والضرائب، والمزيد من الخصخصة. وحتى صندوق النقد قام في الآونة الراهنة بتقديم توصيات للدول الأعضاء على ضرورة تطبيق ضريبة الثروة والدخل وأرباح الشركات. وقد صرّح كبار المسؤولين في هذا الصندوق، أن على «الحكومات أن تتخلّى عن معاملة الاقتصادات وكأنها آلات صمّاء». وصرّحت مديرة الصندوق أن «العلوم الاجتماعية والإنسانية تساعدنا في فهم التحديات الاقتصادية»، أي «أنسنة الاقتصاد». وكانت مناسبة هذا التصريح الهام في سياق مناقشة التضخّم إذ أُقحم - وللمرة الأولى في تاريخ هذا الصندوق - مصطلح «كلفة المعيشة» وربط هذه الكلفة بالتضخّم.

ثروات 22 مليارديراً عربياً تقدّر بنحو 71 مليار دولار. وقد تضخّمت هذه الثروات بنحو 6 مليارات دولار في العام 2024، أي ما يعادل 16 مليون دولار يومياً

أما بالنسبة إلى ضريبة القيمة المضافة، يرى الكثير من الاقتصاديين أن معظم الدول فرضت هذه الضريبة بسبب وجود اتفاقيات دولية تمنع فرض الضرائب على السلع والخدمات المستوردة، أو فرض ضرائب على الشركات الأجنبية، مثل اتفاقيات منظمة التجارة العالمية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قادت مثل هذه الاتفاقيات الدولية، أخذت تدوس عليها، وبدأت تفرض ضرائب على المنتجات الصينية في الأسواق الأميركية، وتم حالياً تطبيق ضريبة على الشركات متعددة الجنسيات. والسبب الثاني لتبنّي الدول لضريبة القيمة المضافة هو وجود إعفاءات ضريبية على الاستثمارات الأجنبية بهدف جذبها إلى الأسواق المحلّية. لذلك، فهذه الدول تتّجه نحو تطبيق ضريبة القيمة المضافة. بمعنى آخر، ضريبة القيمة المضافة هي أساساً ضريبة لقطع الطريق على تطبيق أنواع أخرى من الضرائب الخاصة بالسلع والخدمات، كضريبة الإنتاج، والضرائب على السلع الكمالية. ومن المعروف بأن ضريبة القيمة المضافة هي الضريبة الأسهل في تطبيقها قياساً لتعقيدات باقي الضرائب. وحسب بعض الاقتصاديين الذين يرون أن ضريبة القيمة المضافة من المفترض أن يتم تطبيقها كآخر نظام ضريبي، بعد أن تثمر باقي الضرائب ذات القيمة المضافة على الاقتصاد الوطني مثل ضرائب الثروة والدخل والأرباح.

وقد تبيّن بأن المواطن والمقيم من ذوي الدخل المحدود هو الأكثر استهلاكاً للسلع والخدمات عن أصحاب الثروات الكبيرة، لذلك فهذه الشريحة الاجتماعية هي الأكثر تضرراً من ضريبة القيمة المضافة. ومن الأضرار الجانبية لتطبيق ضريبة القيمة المضافة هي التوسيع والزيادة في قطاع «الاقتصاد غير المنظّم»، حيث يتجه بعض أصحاب المشاريع التجارية والخدماتية تهرباً من الضرائب والرسوم المفروضة على القطاعات التجارية المسجلة التي تخضع للتحكم والرقابة المالية. وهذا القطاع غير المنظم من الصعوبة تطبيق ضريبة القيمة المضافة عليه. وكلّما توسعت القطاعات غير المنظّمة، كلّما زاد «الهدر» الاقتصادي، وعدم دقة حسابات الناتج الإجمالي المحلي، لأن عائدات هذا القطاع غير المنظم لا تدخل في حساب الناتج المحلي، إسوة بالمشاريع والمؤسسات المسجلة رسمياً ضمن القطاع الاقتصادي المنظم.

أصدر الاقتصادي توماس بيكيتي كتابه القيم «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، وحلّل فيه مسألة تركز الثروة والدخل على مر القرون، وأوجه عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية في الكثير من البلدان الرأسمالية المتقدّمة. وأشار بيكيتي إلى أن الاعتماد على تطبيق ضريبة رأس المال والثروة كفيلة في الحصول على إيرادات ضريبية كبيرة من دون الإضرار بالطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل.

تبيّن بأن المواطن والمقيم من ذوي الدخل المحدود هو الأكثر استهلاكاً للسلع والخدمات عن أصحاب الثروات الكبيرة، لذلك فهذه الشريحة الاجتماعية هي الأكثر تضرراً من ضريبة القيمة المضافة

أخيراً، هناك متطلبات ضرورية لنجاح سياسة الضرائب:

أولاً، ضرورة استكمال الهياكل السياسية والقانونية والقضائية إلى جانب الهياكل الاقتصادية، مثل وجود سلطة تشريعية ورقابية ومحاسبية وشفافية كاملة الصلاحيات وفعّالة ومستقلة. هناك مبدأ ثابت معتمد منذ أن وضعه الاقتصادي الرأسمالي الأول آدم سميث، كشرط أساسي لأي تطبيق ضريبي وهو أن «لا ضرائب من دون تمثيل»، وأن عائدات الضرائب «يجب» أن يعرف الشعب وممثليه أين تذهب؟. فدافع الضريبة يطالب دوماً أن تذهب عائدات الضريبة إلى المشاريع التي تخدم ويستفيد منها، هو وأسرته ومنطقة سكنه، وترفيهه وصحته وتحسين مستوى حياته ومعيشته.

ثانياً، تقوم فلسفة نظام الضرائب على مبادئ ثابتة أهمها وجوب توفر العدالة والمساواة، ومساهمة الجميع من دون استثناء أو تمييز في تحمل النفقات بحسب قدرتهم. ويقتضي مبدأ العدالة إعفاء أصحاب الدخول المنخفضة من أداء الضريبة، وهذا منصوص عليه بوضوح في دستور البحرين. بجانب أن هناك الكثير من المفكّرين الاقتصاديين الذين حلّلوا بعمق أضرار الضرائب على الفقراء وذوي الدخل المحدود والمنخفض، لذلك يطالبون بسياسة ضريبية لا تؤثر على المستوى المعيشي للفقراء، كتنويع عوائد ومصادر الضرائب، بدلاً من الاعتماد على ضريبة مفردة وغير مباشرة مثل ضريبة القيمة المضافة.

الخلاصة

من الأهمية أن لا تؤثر أي إجراءات تقشفية أو زيادات في الأعباء الاقتصادية على الاستقرار الاجتماعي والمعيشي والسياسي، بل هناك ضرورة لتغيير جذري في بوصلة الاقتصاد وتنويع المصادر صوب القطاعات الإنتاجية، وإصلاح سوق العمل بهدف تخفيض في نسبة العاطلين والعمالة المهاجرة الأجنبية، وزيادة في الأجور والرواتب. وتفعيل جاد في مسائل الحوكمة والفساد المالي والإداري والمحاسبة.

وسوف تساهم كل هذه الإجراءات المطلوبة في تحسين مستويات المعيشة، وزيادة الإنتاجية والإيرادات التي ستؤثر إيجابياً في تخفيض الدين العام، وعدم صعود فوائد الديون في بند المصروفات المتكرّرة من الموازنة إلى المرتبة الأولى في هذا البند حيث قد تصبح بداية خطيرة لمستقبل التنمية الإنسانية المستدامة في البحرين.