Preview رفض تسديد الديون

الحاجة المُلحَّة لرفض تسديد الديون

بحسب صندوق النقد والبنك الدولي، فإنه بحلول نهاية العام 2022، كان ما يقرب من  60% من البلدان النامية المنخفضة الدخل تعاني من أزمة مديونية أو على وشك الدخول في أزمة مُماثلة. تضاعف تعليق سداد الديون في السنوات الأخيرة، ومنذ العام 2020، تعثَّرت 9 بلدان عن السداد وهي: الأرجنتين، والإكوادور، ولبنان، وسورينام، وزامبيا، وبليز، وسريلانكا، وروسيا وغانا. والعديد من البلدان الأخرى على وشكِ التخلّف عن السداد، مثل السلفادور، والبيرو، وتونس، ومصر، وكينيا، وأثيوبيا، وملاوي، وباكستان وتركيا. لقد وقَّعَ صندوق النقد الدولي على اتفاقيات قروض مع نحو 100 حكومة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية.

لقد حان وقت إلغاء الديون ورفض تسديدها. يتعيَّن على الدول، التي تمرّ بأزمات مناخية وصحّية مُتعدِّدة الأبعاد، وما تثيره من عواقب اقتصادية واجتماعية مأساوية، أن تتمسّك باتفاقية فيينا لعام 1983 و«التغير الجذري للظروف» من أجل التوقّف عن السداد لدائنيها نجدة لشعوبها. ففي نهاية المطاف، لا مفرّ من تغليب حقوق الإنسان على حقوق الدائنين.

اتفاقية 1983، أساسٌ لنظام اقتصادي دولي جديد

يصبّ مبدأ نقل التزامات الديون عند تغيّر الأنظمة أو الحكومات في صميم النزاعات حول الديون السيادية. ويبيِّن التاريخ بوضوحٍ تامّ أنّ هذا المبدأ أبعد ما يكون عن التجريد، وأنّه لا يوجد توارثٌ تلقائي لالتزامات الديون في حالة تغيّر الأنظمة أو الحكومات. والواقع أنّ الحكومات - بسماتها السياسية المختلفة - رفضت في العديد من المناسبات ردّ الديون. وحتّى في حالات عدم تغيّر الحكومة أو النظام، يمكن للدولة أن تفرض خَفْض الديون على دائنيها.

ثمتَّلت إحدى غايات هذه المعركة بتسليح الدول المُستقلّة حديثاً بأدواتٍ قانونية لإضفاء الشرعية على الإجراءات المُنفردة، ولا سيما رفض ردّ الديون، من خلال القانون الدوليفي 7 نيسان/أبريل 2023، تحتفل اتفاقية فيينا لخلافة الدول في ممتلكات الدولة ومحفوظاتها وديونها بالذكرى الأربعين لتأسيسها. اعتُمِدت الاتفاقية في العام 1983 في خلال مؤتمر الأمم المتّحدة لخلافة الدول في ممتلكات الدولة ومحفوظاتها وديونها الذي نظِّم بدعوة من الجمعية العامة للأمم المتّحدة. من جهة، عارضت الاتفاقية حركات الاستقلال وإنهاء الاستعمار التي أَبَتْ الإلتزام بديون الأنظمة السابقة، ومن جهة أخرى عارضت أيضاً الدفاع عن النظام الكولونيالي وما بعد الكولونيالي المُهيمن والمدعوم من الدول الدائنة الكبرى. دافع الدائنون عن نهجٍ مُحافظ مشيرين إلى أن خلافة الأنظمة يقضي بانتقال حقوق الدولة السلف والتزاماتها إلى الدولة الخلف بشكل كامل وتلقائي.

في المقابل، بَرَز اتجاهٌ آخر بالاستناد إلى فكرة عدم التزام الدولة الخلف بديون الدولة السلف، على اعتبار أنّ «التزامات المُستعمرة السابقة (بما فيها الديون) تسقط عند استقلال الدولة الجديدة» («مبدأ الصفحة البيضاء»). ويُعدُّ محمد بجاوي من أبرز المدافعين عن هذا الاتجاه، وهو قاضٍ سابق في محكمة العدل الدولية في لاهاي (1982-2001)، وعضو سابق في لجنة الأمم المتّحدة للقانون الدولي (1965-1982) والمُقرّر الخاص المعني بمسألة «خلافة الدول وعلاقتها بقضايا عدّة باستثناء المعاهدات» (1968-1974، 1976-1981). تزعَّم محمد بجاوي النضال داخل لجنة القانون الدولي في سبيل تحرّر البلدان التي استقلَّت عن الاستعمار من الوصاية الاقتصادية للقوى الغربية. ثمتَّلت إحدى غايات هذه المعركة بتسليح الدول المُستقلّة حديثاً بأدواتٍ قانونية لإضفاء الشرعية على الإجراءات المُنفردة، ولا سيما رفض ردّ الديون، من خلال القانون الدولي.

تبنَّت 54 دولة اتفاقية فيينا التي تعكس هذا الاتجاه في العام 1983. لكن أخفق محمد بجاوي وحركة عدم الانحياز في الحصول على دعم الدول الدائنة، إذ لم تصادق عليها سوى سبع دول ووقَّعَت عليها سبع دول أخرى، ولهذا السبب لم تدخل حيّز التنفيذ حتّى اليوم. لكن بوصفها إعلاناً مبدئياً رسمياً من دون قوّة مُلزمة، أصبحت اتفاقية العام 1983 مرجعاً في القانون الدولي، وينطوي محتواها على شرعية قرار مُتّخذ في الجمعية العامة للأمم المتّحدة.

التاريخ الطويل لرفض ردّ الديون

مع ذلك، تُسلِّط اتفاقية فيينا الضوء على تعاقب العديد من القرارات الأحادية الجانب لرفض ردّ الديون في خلال القرنين التاسع عشر والعشرين (ومن ضمنها البلدان نفسها التي صوَّتت ضدّ هذه الاتفاقية!): البرتغال في العام 1837، المكسيك في العامين 1861 و1867، الولايات المتّحدة في العام 1865، وكذلك في سبعيّنيات القرن التاسع عشر، وفي العام 1898، كوستاريكا بعد تغيير النظام في العام 1919. أيضاً امتنعت الحكومة السوفياتيّة في شباط/فبراير 1918 عن ردّ جميع الديون التي تعاقد عليها النظام القيصري والحكومة المؤقّتة التي خلفته من شباط/فبراير إلى تشرين الأول/أكتوبر 1917. وفي الفترة الممتدّة بين العامين 1933 و1934، عمدت الولايات المتّحدة، برئاسة فرانكلين روزفلت، إلى إلغاء إمكانيّة تعويض الدائنين بالذهب في كافةِ عقود الديون القائمة. ولم تنقطع سلسلة رفض تسديد الديون في خلال القرن العشرين، حيث امتنعت الصين الثورية عن ردّ الديون في الفترة بين العامين 1949 و1952، وإندونيسيا في العام 1956 (رفضت ردّ ديون هولندا التي استعمرت الأرخبيل حتّى العام 1949)، ورفضت غينيا كوناكري سداد الديون الاستعمارية الفرنسية في العام 1958، وامتنعت كوبا عن ردّ الديون في الفترة بين العامين 1959 و1960، ورفض رئيس الوزراء الكونغولي لومومبا سداد الديون الاستعمارية البلجيكية في العام 1960، وكذلك فعلت الجزائر مع الديون الاستعمارية في العام 1962، وإيران في العام 1979 مع الديون التي تعاقد عليها الشاه لشراء الأسلحة.

في الفترة الممتدّة بين العامين 1933 و1934، عمدت الولايات المتّحدة، برئاسة فرانكلين روزفلت، إلى إلغاء إمكانيّة تعويض الدائنين بالذهب في كافةِ عقود الديون القائمةومؤخّراً، ومن بين الجمهوريات الخمس عشرة التي نالت استقلالها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، تحدّت دول البلطيق الثلاث مبدأ توارث الديون، وتنصّلت دولتان من كلّ مسؤولية عن ديون الاتحاد السوفياتي السابق (أذربيجان وأوزبكستان)، في حين امتنعت الدول الأخرى عن سداد نصيبها من الدين عندما حَلّ أجل السداد.

في العام 1993، حصلت إريتريا على استقلالها من إثيوبيا بعد حرب التحرير. ورفضت الجمهورية الجديدة تحمّل أي جزء من ديون إثيوبيا، وهو قرار تمّ تأكيده في وقتٍ لاحق. وفي العام 1994، ألغت حكومة نيلسون مانديلا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري الديون التي طالبت بها جنوب أفريقيا من ناميبيا.

الحالتان الأكثر رمزية في بداية القرن الحادي والعشرين هما تيمور الشرقية التي أصبحت دولة جديدة من دون ديون بعيد استقلالها في أيار/مايو 2002، وجنوب السودان التي انفصلت عن جمهورية السودان في 9 تموز/يوليو 2011 عقب استفتاء على تقرير المصير. وفي أيلول/سبتمبر 2012، وقَّع البلدان اتفاقاً احتفظت السودان بموجبه بجميع الأصول والديون الخارجية.

وفي أوروبا، شكّكت قوى الاستقلال أيضاً في مبدأ توارث التزامات الدَّيْن. حيث سبقت الاستفتاءين على الاستقلال اللذين أُجرِيا في اسكتلندا (2014) وكاتالونيا (2017) مناقشات حول مسألة الديون. وقالت المملكة المتّحدة إنّها تتوقّع من الدولة الاسكتلندية المُستقلّة أن تتحمّل نصيباً عادلاً من الدَّيْن، في حين حاججت الحكومة الاسكتلندية بأن على بلدها بلوغ استقلالها بـ«صفحةٍ بيضاء». وفي إسبانيا، اقترح النائب السابق لرئيس كتالونيا، أوريول جونكيراس، في العام 2014، أن تتحمّل كتالونيا جزءاً من الدَّيْن الوطني الإسباني، إذا كانت إسبانيا مُستعدّة للتفاوض بشأن نقل أصولها إلى كتالونيا.

حول أولوية حقوق الإنسان والتعويضات

حتى إذا لم يكن انتقال الدَّيْن تلقائياً، فإن التصديق على اتفاقية العام 1983 لا يزال مسألة هامّة بالنسبة للمستعمرات السابقة، لا سيّما وأنها تشمل مواد تفتح الباب أمام الحصول على تعويضاتٍ من البلدان الاستعمارية. ويمكن أن تتخذ هذه التعويضات شكل إلغاء الديون، أو تأميم من دون تعويض على النحو الذي تصوَّره محمد بجاوي.

يجوز للدولة، بموجب القانون الدولي، أن تقوم منفردة بتعديل التزامات ديونها في سبيل إعانة شعبها بالاستناد إلى مبدأ «تغيّر الظروف»وحتّى في حالة عدم تغيّر الحكومة أو النظام، يمكن للدولة أن تلزم دائنيها بتخفيض الديون. وهذا ما يؤكّده قانون صادر عن محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي في 23 أيار/مايو 2019، ويَنُصّ على أنه يجوز للدولة، بموجب القانون الدولي، أن تقوم منفردة بتعديل التزامات ديونها في سبيل إعانة شعبها بالاستناد إلى مبدأ «تغيّر الظروف». وعلى هذا، فإن القانون الذي أقرّته اليونان في العام 2012، والذي قضى باستبدال سندات الدَّيْن المستحقّة عليها بسنداتٍ جديدة مع تخفيض يتجاوز 50% من قيمتها، لم يكن يُمثِّل انتهاكاً لالتزاماتها تجاه دائنيها.

يتعيَّن على الدول، التي تواجه اليوم أزمة اقتصادية عالمية وتبعات أزمتين مناخية وصحّية، أن تستعين بمبدأ «التغيّر الجذري في الظروف» لرفض السداد لدائنيها في سبيل إعانة شعوبها. ففي نهاية المطاف، لا مفرّ من تغليب حقوق الإنسان على حقوق الدائنين.

 نُشِر المقال في CADTM في نيسان/أبريل 2023