إصلاح صندوق النقد الدولي
الهرميّة النقديّة الدوليّة والخطوات نحو التغيير
في آذار/مارس 2023، وسّع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ميزانيّته العموميّة بنحو 300 مليار دولار. وبُعيْد إفلاس سيليكون فالي، قدّم بنك الاحتياطي الفيدرالي قروضاً طارئة للمؤسّسات المالية التي تعاني من ضائقة ماليّة بموجب تسهيلات مصرفية جديدة تقبل بسندات الخزانة الأميركية وفق قيمتها الاسمية (أعلى من القيمة السوقية) كضمان مقابل الدولار. وأكّد البنك المركزي الأميركي على التعويض بالكامل عن الودائع غير المؤمّن عليها في بنك سيليكون فالي، والتي تتجاوز 250 ألف دولار. ومع امتداد الأزمات المصرفيّة إلى منطقة شمال الأطلسي، أعاد الاحتياطي الفيدرالي تنشيط خطوط مقايضة الدولار الدوليّة. وفي الوقت نفسه، في أوروبا، قدّم البنك الوطني السويسري دعماً بالسيولة لمجموعة يو بي إس، التي وافقت على الاستحواذ على بنك كريدي سويس. وصاغت السلطات السويسرية تعديلات جديدة ضمن قانون مكَّنها من هيكلة أحكام الدمج وشروطه.
تتناقض هذه المرونة في منح السيولة وتقليص القيود القانونيّة مع الصرامة والانضباط اللذين يتمّ فرضهما عادةً في برامج قروض صندوق النقد الدولي. وبينما يقُدِّم التمويل العاجل للمؤسّسات في شمال الأطلسي، تواجه الاقتصادات المُنخفضة والمتوسّطة الدخل عوائق كبيرة؛ ارتفع متوسّط الفترة الفاصلة بين إبرام اتفاقيّة على مستوى الموظّفين مع صندوق النقد وموافقة المجلس التنفيذي للصندوق على برنامج قروض من 55 يوماً إلى 187 يوماً. إلى ذلك، عادةً ما يكون سعر الفائدة على تسهيلات المقايضة الماليّة قصيرة الأجل للاحتياطي الفيدرالي أعلى بنحو 25 نقطة أساس من المعدّل المعياري للمقايضة بين ليلةٍ وأخرى، بينما تتراوح الرسوم الإضافيّة على قروض صندوق النقد الدولي من خلال تسهيل الصندوق المُمدّد للبلدان المتوسّطة الدخل، بين 200 إلى 300 نقطة أساس أعلى من سعر الفائدة على حقوق السحب الخاصة الذي يُحدّده السوق. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، صُمِّمت هذه الرسوم الإضافية «لتقويض الاستخدام الكبير والمطوّل لموارد صندوق النقد الدولي». علماً أن هذه الغرامات تُشكل نصف الدخل السنوي لصندوق النقد، والذي يبلغ نحو 1.76 مليار دولار تقريباً، وأصبحت أكبر مصدر مُنفرد للإيرادات لمُقرض الملاذ الأخير المُتعدّد الأطراف.
إذا فشلت البلدان في تنفيذ «الإصلاحات الهيكلية» المنصوص عليها في مراجعة برنامج صندوق النقد الدولي فقد يتوقّف الإقراض. إلّا إنّ سياسة الإقراض الجديدة في «حالات انعدام اليقين العالية بشكل استثنائي»، والتي استندت إليها حزمة الإقراض الأخيرة البالغة 15.6 مليار دولار لأوكرانيا، تمثِّل استثناءً على القاعدة العامّة للصندوق التي تعارض إقراض البلدان غير القادرة أو المشكوك بقدرتها على سداد ديونها. مع ذلك، لا يبدو أنّ السياسة الجديدة سوف تبعد تركيز صندوق النقد - عند الإقراض - عن الضبط المالي، أو بعبارات أبسط، عن التقشّف. في الوقت الحالي، يبدو أن قرض صندوق النقد الدولي لأوكرانيا، التي تنتمي إلى الشريحة الدنيا من الدول المتوسّطة الدخل، يتوافق مع شروطه الصارمة للبلدان المُقترضة.
في اعتراف صريح، وإن كان غير مقصود، يوضح تقرير حديث لصندوق النقد الدولي أن «أزمات الديون النظامية» هي أولاً وقبل كلّ شيء الأزمات التي تهدّد ملاءة «الدائنين الخاصين الكبار والمترابطين». وفي هذا الإطار، تصبح الدول المُتعثّرة ذات الدخل المنخفض غير مهمّةإلى ذلك، تتوافق عمليّات الإنقاذ الأخيرة للبنوك الأميركية والسويسرية مع توجيهات ماريو دراغي «لفعل كلّ ما يتطلّبه الأمر». تهدف عمليّات الإنقاذ إلى حماية البنوك من السقوط، كونها تضمّ ضمن عملائها الأساسيين النخب المالية، نظراً لما يمثّله ذلك من «خطر نظامي». مع العلم أنّ سيليكون فالي لم يكن من المؤسّسات المالية المهمّة من الناحية «النظامية» مثل كريدي سويس. وفي اعتراف صريح، وإن كان غير مقصود، يوضح تقرير حديث لصندوق النقد الدولي أن «أزمات الديون النظامية» هي أولاً وقبل كلّ شيء الأزمات التي تهدّد ملاءة «الدائنين الخاصين الكبار والمترابطين». وفي هذا الإطار، تصبح الدول المُتعثّرة ذات الدخل المنخفض غير مهمّة.
تكشف الصورة الحالية للديون السياديّة وبرامج الإقراض التابعة لصندوق النقد الدولي عن تفاوتات في نظام بريتون وودز. وما لم تُنفّذ إصلاحات جذريّة، سوف تهدِّد هذه التفاوتات مستقبل الصندوق باعتباره المُقرض المفضّل للبلدان المأزومة.
أوجه الأزمة
قد يُفهم الاضطراب في بنوك شمال الأطلسي على أنّه أحد تداعيات اضطراب الاقتصاد العالمي في خلال العام الماضي. بعد تضخّم أسعار الطاقة الذي أجّجه الصراع في أوكرانيا، رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها في التاريخ الحديث. وتسبّب المسار التصاعدي في قيمة الدولار، الذي تجاوز أعلى مستوياته في عقدين، بخسائر كبيرة للمؤسّسات التي تحمل ديوناً مقوّمة بالدولار في جميع أنحاء العالم. إنّ الوجه الآخر لارتفاع قيمة الدولار هو انخفاض قيمة العملات المحلّية، وبالفعل شهد نحو 90 اقتصاداً نامياً انخفاضاً في عملته المحلّية بسبب ارتفاع قيمة الدولار في خلال العام الماضي. في الاقتصادات المُنخفضة الدخل، يؤدّي انخفاض قيمة العملة إلى هروب رأس المال المالي. وفي مواجهة التهديد المُحتمل لهروب رأس المال والارتفاع الكبير في معدّل التضخّم، اضطرت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم إلى رفع أسعار الفائدة. وعلى الرغم من جهود السلطات النقدية لمنع هروب المزيد من الرساميل، سُجِّلت انسحابات غير مسبوقة من صناديق سندات الأسواق الناشئة في العام 2022.
تحدث صدمة السيولة في سياق أعباء الديون المُتزايدة. يبلغ الدَّيْن العام الخارجي في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل نحو 9 تريليون دولار، علماً أن ثلث هذا المبلغ تدين به الاقتصادات النامية، وثلاثة أرباعه صادر عن 11 دولة، بما فيها الصين. إلى ذلك، زادت ديون الدول المُنخفضة والمتوسّطة الدخل المحمولة من مقيمين أجانب بأكثر من الضعف في خلال العقد الماضي. وبالنظر إلى أن البلدان المدينة تعتمد على القروض قصيرة الأجل المقوّمة بالعملات الأجنبية، والصادرة عن دائنين من القطاع الخاص، فإنها مُعرّضة لصدمات أسعار الفائدة وتكاليف خدمة الدَّيْن.
أدّى ارتفاع قيمة الدولار إلى زيادة قيمة القروض الدولاريّة عند احتسابها بالعملة المحلّية، بينما أدّى ارتفاع أسعار الفائدة إلى انخفاض قيمة السندات المحمولة وارتفاع تكاليف خدمة الديون، ممّا أجبر مديرو البنوك المركزية إلى إعادة موازنة حيازاتهم الدولاريّة. في بعض الدول النامية، لجأت البنوك المركزية إلى بيع جزء من مخزوناتها بالدولار من أجل تقوية عملاتها. وبالنتيجة، انخفض احتياطي النقد الأجنبي في الاقتصادات النامية مُجتمعة بنحو 379 مليار دولار.
إنّ الوجه الآخر لارتفاع قيمة الدولار هو انخفاض قيمة العملات المحلّية، وبالفعل شهد نحو 90 اقتصاداً نامياً انخفاضاً في عملته المحلّية بسبب ارتفاع قيمة الدولار في خلال العام الماضي. في الاقتصادات المُنخفضة الدخل، يؤدّي انخفاض قيمة العملة إلى هروب رأس المال الماليانتقد اقتصاديو صندوق النقد مؤخّراً البنوك المركزية التي تكدِّس احتياطيّات العملات الأجنبية من أجل تجنّب ارتفاع أسعار الفائدة، خصوصاً أن استخدام هذه الاحتياطيّات لشراء العملة المحلّية وتقويتها يوفّر للبنوك المركزية أداة لتخفيف الضغوط التضخّمية. وبالنظر إلى التفاوتات في النظام النقدي الدولي، يمكّن هذا النهج البلدان التي تحتلّ مرتبة متدنّية في الهرمية النقدية الدولية من التعامل مع الصدمات الماليّة. في خلال فترة ارتفاع قيمة الدولار في العامين 2021 و2022، شهدت البلدان التي لديها مخزون أكبر من الاحتياطيات - خصوصاً في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال إفريقيا - انخفاضات أقل في قيمة عملتها مقابل الدولار.
سياسات الإقراض الحالية لصندوق النقد الدولي
بالنسبة للعديد من البلدان النامية، لا تكمن المشكلة في المديونية المُفرطة في حدّ ذاتها. فعلى الرغم من أنّ كثيرين اقترضوا بكثافة عندما رفعت أسعار الفائدة المُنخفضة من جاذبية سنداتهم ذات العوائد المرتفعة، تبقى الفكرة القائلة بأن معظم الحكومات تميل إلى التخلّف عن السداد هي فكرة خاطئة. تسدّد معظم الحكومات قروضها الخارجية، وغالباً من خلال فرض التقشّف على مواطنيها. لم تعد معدّلات الدَّيْن من الناتج المحلّي الإجمالي في اقتصادات الأسواق الناشئة إلى مستويات العام 1994، قبل مبادرة البلدان الفقيرة المُثقلة بالديون إلى إعادة هيكلة ديونها السيادية المُتراكمة منذ الثمانينيات.
في الواقع، يُعدُّ نقص السيولة المشكلة الأساسية التي تواجهها معظم الحكومات اليوم. وهم في هذا لا يختلفون عن كريدي سويس. إن أسعار الفائدة المُرتفعة بشكل مُفرط تجعل من الصعب الوصول إلى تمويلٍ جديد وإعادة تمويل القروض الحالية. تمّ عزل أكثر من ربع اقتصادات الأسواق الناشئة فعلياً عن أسواق السندات الدولية، وتتجاوز أسعار الفائدة في هذه الاقتصادات معدّل الفائدة على سندات الخزانة الأميركية بنحو 9 نقاط مئوية. يأتي ذلك على الرغم من تضاعف عبء الديون في أفريقيا وارتفاع تكاليف خدمة الديون فيها نحو أربع مرّات، وانتشار أزمات ميزان المدفوعات في «الاقتصادات النامية» أي البلدان المنخفضة الدخل ذات أسواق السندات الضعيفة وقدرة الاقتراض المحدودة.
هذه الظروف مجتمعة تدفع البلدان للحصول على تمويلٍ من صندوق النقد. تدعو المادة الأولى من اتفاقية الصندوق إلى استخدام الموارد العامّة عند اختلال التوازن في ميزان المدفوعات. وللحصول على برنامج قرضٍ جديد من الصندوق، يجب أن تخضع الاقتصادات المدينة أولاً لتحليل استدامة ديونها. يُقيّم خبراء الصندوق نموّ الناتج المحلي الإجمالي المتوقّع للبلد ويحسبون النسبة المئوية للديون السيادية التي يمكن شطبها (على سبيل المثال، «هيركات» بنسبة 20% على القروض الحالية و/أو مدفوعات الفائدة) من أجل العودة إلى مسار «استدامة الديون». بعد ذلك، يقيّم الصندوق فجوة التمويل في البلاد؛ أي صافي المدفوعات التي تدين بها للدائنين. تحتاج البلدان عادةً إلى تمويل قصير الأجل لبضع سنوات بعد التخلّف عن السداد. وبرامج قروض صندوق النقد مُصمّمة لسد جزء من هذه الفجوة قصيرة الأجل.
في الوقت نفسه، يشجّع صندوق النقد البلدان للحصول على تمويلٍ من الدائنين الآخرين، ومن ضمنهم البنك الدولي وبنوك التنمية المتعدّدة الأطراف الأخرى، وكذلك من دول مثل الصين أو السعودية. يجب على الدول بعد ذلك أن تتفاوض مع كلّ من الدول المُقرضة وحملة السندات من القطاع الخاصّ حول النسبة التي سوف تعيدها من ديونهم القائمة والنسبة التي سوف تشطب. تستند معايير هذه المفاوضات إلى تقييمات خبراء صندوق النقد حول نسبة الشطب التي ستخضع لها الديون السيادية القائمة لتعود إلى مسار الاستدامة. عادة، يتعيّن على الحكومة المُنخرطة في عملية إعادة هيكلة الديون أن تُخفض الإنفاق العام من أجل الحصول على قرض من الصندوق.
تبقى الفكرة القائلة بأن معظم الحكومات تميل إلى التخلّف عن السداد هي فكرة خاطئة. تسدّد معظم الحكومات قروضها الخارجية، وغالباً من خلال فرض التقشّف على مواطنيهاعلى الرغم من الدعوات المُتجدّدة لوضع آليّة متعدّدة الأطراف لحلّ مشكلة الديون السيادية، عارض مجلس إدارة الصندوق إعادة الهيكلة الموحّدة للديون، بحجّة ظاهرية مفادها الطبيعة المُتمايزة لقدرة البلدان على تحمّل ديونها. أدّى التمييز بين البلدان التي لديها قدرة على الوصول إلى الأسواق والاقتصادات مُنخفضة الدخل في تحليلات استدامة الديون التي تسبق إعادة هيكلة الديون إلى لا مساواة في المعاملة. وتكشف إعادة الهيكلة الأخيرة لديون سريلانكا وزامبيا عن هذا النمط. ركّز برنامج سريلانكا على إعادة الهيكلة المالية غير المصحوبة بإعادة هيكلة الديون، فيما قيِّدت محاولات زامبيا للحصول على ضمانات من دائنيها الخارجيين، على الرغم من اعتمادها على تمويل بشروط مُيسّرة من بنوك التنمية مُتعددة الأطراف.
وفقاً لمسؤول سابق في صندوق النقد، تُعدُّ أهداف الموازنة الجديدة التي وضعها الصندوق أكثر صعوبة من الأهداف السابقة. بالعودة إلى العام 2013، وجد كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد، أوليفر بلانشارد، أنّ تقييمات الصندوق للمضاعفات المالية كانت منخفضة للغاية، ممّا يشير إلى أن الإجراءات التقشّفية التي فرضها صندوق النقد أضرّت بالنموّ الاقتصادي أكثر ممّا هو محسوب. وفي تقريره الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي، وجد الصندوق أن الضبط المالي لا يقلّل نسبة الدَّيْن من الناتج المحلي الإجمالي. أو باختصار، لا يعزّز التقشّف القدرة على استدامة الديون أو النمو.ع
لى الرغم من أن صندوق النقد يقدّم حالياً قروضاً بمستوى غير مسبوق، إلا أن حجم الأموال المُتاحة للإقراض لا يزال أقل بكثير من موارده النقدية الكبيرة التي تصل إلى تريليونات الدولارات. إنّ تحقيق الاستدامة البيئية العالمية يتطلّب استثمارات سنويّة بقيمة 4 تريليون دولار. وإذا لم يسعَ صندوق النقد إلى تحقيق الاستقرار المالي في البلدان المأزومة، وتمكينها من معالجة عقبات التمويل الأكبر المُرتبطة بتحوّل الطاقة، فإنه يخاطر بتقويض مركزه في الهرمية المالية الدولية.
على الرغم من ادعاءات قيادته، لم يعد صندوق النقد في قلب شبكة الأمان المالي العالمية. بلغت احتياطيات النقد الأجنبي نحو 14 تريليون دولار في العام 2021، وهي تفوق بكثير أشكال الحماية المالية الأخرى. تمتلك الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية أكثر من 7 تريليونات دولار، وهو ما يشكّل ثلاثة أخماس احتياطيات النقد الأجنبي في العالم. وفي حين أن خطوط المقايضة الثنائية، والترتيبات المالية الإقليمية، وتمويل صندوق النقد ارتفعت عشرة أضعاف في العقد الماضي، فإن قيمتها الإجمالية لا تزيد عن 4 تريليونات دولار. في خلال الفترة نفسها، تجاوز الدائنون الثنائيون، مثل الصين، صندوق النقد الدولي من حيث القدرة على الإقراض. وقد يؤدّي ظهور دائنين متعدّدي الأطراف، مثل بنك التنمية الجديد الذي أنشأته دول البريكس، إلى تقليل الطلب على برامج قروض صندوق النقد المثقلة بالشروط.
إصلاح حقوق السحب الخاصّة
بالنظر إلى هذه التطوّرات، هناك حاجة مُلحّة لإجراء إصلاحات جوهرية في نظام إقراض ما بعد بريتون وودز. يُعدُّ التوسّع في استخدام الأصول الاحتياطيّة لصندوق النقد الدولي، أي حقوق السحب الخاصة، من الإصلاحات الرئيسيّة. وعلى الرغم من أن حقوق السحب الخاصة ليست عملات فعلية، إلّا أنه يمكن اعتبارها بمثابة مطالبات على العملات. وبالتالي، إنّ استخدامها من خارج البنوك المركزية على النفقات المالية يتطلّب التعامل معها على أنها مطالبات مُحتملة بالعملة الصعبة مثل الدولار واليورو. عادة، يمكن استبدال حقوق السحب الخاصّة بالدولار أو اليورو في مرافق صندوق النقد الدولي. ومن خلال الإصدار المُنتظم لحقوق السحب الخاصّة، كما هو مقرّر أصلاً بموجب اتفاقية بريتون وودز لعام 1944، يمكن أن تصبح مصدراً مهمّاً لتمويل الانتقال نحو الطاقة النظيفة.
في العام 2021، أصدر صندوق النقد الدولي نحو 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصّة الجديدة، وهو الإصدار الأكبر على الإطلاق في تاريخه. مع ذلك، وجِّه 1% منها فقط نحو الدول المنخفضة الدخل. تُحدّد توزيعات الإصدار وفق حصّة كلّ بلد في صندوق النقد، ممّا يؤدي في حالات عديدة إلى اختلالات كبيرة مقارنة بأحجام السكّان. يمكن أن تؤدّي حقوق السحب الخاصة أغراضاً مختلفة بوصفها أحد أشكال السيولة لدى المصارف المركزية، وقد تعمل كاحتياطيات دولية ممّا يخفّض تكاليف التمويل السيادي ويساعد في استقرار العملات، أو استخدامها كأحد أشكال حقوق الملكيّة لتسهيل زيادة الإقراض من قبل بنوك التنمية متعدّدة الأطراف. وإذا أعيد توجيهها إلى مرفق الخسائر والأضرار المُقترح، يمكن أن تقدّم السيولة اللازمة للبلدان التي تواجه كوارث.
في تقريره الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي، وجد الصندوق أن الضبط المالي لا يقلّل نسبة الدَّيْن من الناتج المحلي الإجمالي. أو باختصار، لا يعزّز التقشّف القدرة على استدامة الديون أو النمولا ينبغي إعاقة التوسّع في نظام حقوق السحب الخاصّة، الذي يتسم بالتمييز وعدم الشفافية، من خلال التفسيرات المُحافظة للأصول الاحتياطية. وفي حين أن تعديل مواد اتفاقية صندوق النقد سيكون ضرورياً لتوسيع استخدام حقوق السحب الخاصّة بما يتجاوز المعاملات بين البنوك المركزية وحاملي هذه الحقوق، من المُمكن توسيع نطاق هذه الأداة من دون قيود وحتّى من دون إحداث أي تغييرات. وفقاً لقوانين اتفاقية بريتون وودز، يمكن إصدار حقوق السحب الخاصة بانتظام، بمعزل عن الإصدارات الخاصّة استجابة للصدمات العالمية. وبالنظر إلى تصنيفها المحاسبي الحالي كأصول احتياطية دولية مع التزامات مقابلة، فإن إعادة توجيه حقوق السحب الخاصة غير المُستخدمة من البلدان المرتفعة الدخل إلى البلدان المُحتاجة هي ثاني أفضل الحلول بالمقارنة مع إصدار حقوق سحب خاصة عادية. أيضاً، من الأفضل فصل إصدار حقوق السحب الخاصة عن نظام الحصص غير العادلة لصندوق النقد الدولي. عدا أن إعادة توجيه حقوق السحب الخاصة من الدول الغنية إلى البلدان النامية، من خلال هندسات مالية على شكل سندات حقوق سحب خاصّة، هي من البدائل الواعدة.
بالفعل، تعهّدت الحكومات المانحة بإيداع حصصها من حقوق السحب الخاصة في الصندوق الاستئماني للصمود والاستدامة التابع لصندوق النقد، فضلاً عن مرفق النمو والحدّ من الفقر الذي يقرض المال من دون فوائد. مع ذلك، تجدر الملاحظة إلى أن التسهيلات الممنوحة من خلال هذه المرافق هي عبارة عن قروض وليست منح. وبالتالي، لا يزال يتعيّن تمويلها بالكامل عدا أن قدرتها الحالية أقل بكثير ممّا تتطلّبه الاقتصادات النامية، فيما لا يسمح إلّا للبلدان التي لديها برنامج قروض مع صندوق النقد أن تقترض من الصندوق الاستئماني للصمود والاستدامة. وبالنظر إلى العدد الكبير من البلدان التي تواجه ديوناً وصدمات مناخية، فلا داعي لمثل هذه المشروطيات. تعهّدت اليابان وفرنسا والصين (من بين دول أخرى) بإيداع حقوق السحب الخاصّة في هذين المِرفقين، ولكن لا يمكن إعادة توجيه أكثر من 200 مليار دولار فقط من حقوق السحب الخاصة المملوكة لأوروبا، و150 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة التي تحتفظ بها الولايات المتّحدة.
صاغت بنوك التنمية متعدّدة الأطراف، ومن ضمنها بنك التنمية الأفريقي، خططاً لاستخدام حقوق السحب الخاصة المُعاد توجيهها من أجل تمويل إجراءات التخفيف من تغيّر المناخ والتكيّف معه. تتضمّن مبادرة بريدجتاون المُقترحة مجموعة مُشابهة، وتكتسب مخطّطات الاستفادة من حقوق السحب الخاصّة زخماً في أدوات الدَّيْن المختلطة من أجل اجتذاب تمويل إضافي من القطاعين العام والخاص. يبقى أن نرى ما إذا كانت ترتيبات التمويل المختلط التي تسعى إلى ترجمة «المليارات إلى تريليونات» سوف توفّر تمويلاً بفترات استحقاق طويلة للغاية (أكثر من خمسين عاماً) وبشروطٍ ميسّرة. سوف تكون هذه العوامل أساسية بالنسبة لقدرة البلدان المنخفضة الدخل والبلدان الهشّة المتوسّطة الدخل على الوصول إلى الاقتراض الجديد، والأهمّ إدارته. من المهمّ عدم الضغط على السلطات النقدية ذات القدرات المالية المحدودة لدعم الاستثمارات الخاصّة الخضراء الجديدة. بدلاً من ذلك، يمكن لصندوق النقد وبنوك التنمية متعدّدة الأطراف تولي هذا الدور. ومع ذلك، لا يمكن أن يحدث هذا إلّا إذا عُزِّزت قدرة الإقراض لدى بنوك التنمية متعدّدة الأطراف، الذي يتطلّب مراجعة أطر كفاية رأس المال بالتوازي مع زيادة رساميلها. وفيما يبدو أن هناك إجماع متزايد على الحاجة إلى مثل هذه التدابير، إلّا أن الجهود المبذولة لتعزيز رأس المال تبدو متوقّفة حالياً. في خلال اجتماعات الربيع، أعلن البنك الدولي عن زيادة قروضه بنحو 5 مليارات دولار سنوياً على مدى العقد المقبل. مع ذلك، لا ترتقي هذه الجهود المتواضعة إلى تعهّدات الدول الغنية بإعادة توجيه 100 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة إلى الاقتصادات مُنخفضة الدخل لاستخدامها في إجراءات التكيّف مع المناخ والتصدّي لأزمات ميزان المدفوعات.
تحديث مؤسّسات بريتون وودز
من أجل أن يتمكّن صندوق النقد الدولي من اتخاذ المزيد من الإجراءات الحاسمة فإنه يحتاج إلى توسيع ميزانيته العمومية. على عكس البنك الدولي، لا يملك صندوق النقد تصنيفاً ائتمانياً ليقلق بشأنه وضعيّته. ومع ذلك، فقد استنفد موارده في حين لم تتمّ زيادة اشتراكات رأس المال أي الحصص فيه. لا تعمل الحصص كقاعدة رأسمالية لصندوق النقد الدولي فحسب، بل تحدّد أيضاً ثقل تصويت الدول الأعضاء، ومُخصّصات كلّ منها من حقوق السحب الخاصة، والحدّ الأقصى للتمويل الذي يمكن أن تحصل عليه، والأهمّ من ذلك تكاليف الاقتراض المُترتبة عليها. من حيث حصص التصويت، تحظى الهند والصين بتمثيل أقل بالمقارنة مع عدد السكّان فيهما والناتج المحلي الإجمالي لكلّ منهما.
إلى ذلك، تجري حالياً المراجعة السادسة عشرة للحصص وستنتهي في منتصف كانون الأوّل/ديسمبر المقبل، ومن غير المؤكّد حتّى الآن ما إذا كان سوف يتمّ توسيع الحصص. لم تسفر المراجعة السابقة في العام 2019 عن أي زيادة في الحصص بسبب افتقار هذا الإجراء لأي دعم في حينها، أمّا الآن فإنّ المدافعين عن إصلاح صندوق النقد يضغطون من أجل إعادة التوازن من خلال هذه المراجعة. في الواقع، تعتمد بعض القرارات الإصلاحية الرئيسية، بما فيها زيادة الحصص، على دعم الولايات المتّحدة، التي تمتلك 16.5% من حصص التصويت في صندوق النقد، فيما تتطلّب أي تغييرات في الحصص أو في بنود الاتفاقية موافقة 85% من الأعضاء. ما يعني أن الولايات المتّحدة تمارس بنيوياً حقّ الفيتو على القرارات الرئيسية داخل الصندوق.
صُمِّمت الرسوم الإضافية في صندوق النقد «لتقويض الاستخدام الكبير والمطوّل لموارده»، علماً أن هذه الغرامات تُشكل نصف الدخل السنوي لصندوق النقد، والذي يبلغ نحو 1.76 مليار دولار تقريباً، وأصبحت أكبر مصدر مُنفرد لإيراداته.
حدثت تغييرات كثيرة منذ الصياغة الأولية لاتفاقية صندوق النقد الدولي في العام 1944. وخضعت بنودها لسبعة تعديلات، آخرها في العام 2010. وبالنظر إلى التحوّلات في النظام المالي العالمي، فمن الطبيعي إخضاع المواد، بوصفها وثائق حيّة، للمراجعة. يجب إلغاء حقّ الفيتو، الذي يعتقد صنّاع السياسة الأميركيون أنه استخدم كسلاح من الدائنين الثنائيين، مثل الصين، أثناء مفاوضات الديون. أيضاً، يمكن استبدال مجلس إدارة الصندوق بنظام قائم على التصويت يشمل جميع الدول الأعضاء. لا تزال مؤسّسة القرن الواحد العشرين الماليّة تتمسّك بـ«اتفاق ضمني» عفا عليه الزمن، ينصّ على تعيين رؤساء البنك الدولي وصندوق النقد من قبل أوروبا والولايات المتّحدة.
إن تركيز صندوق النقد الدولي المُفرد على الضبط الهيكلي في البلدان التي تواجه أزمات في ميزان المدفوعات يتعارض مع مُعتقدات أحد الآباء المؤسّسين الرئيسيين لمؤسّسات بريتون وودز وهو جون ماينارد كينز. بالنسبة لكينز، على البلدان التي تسجّل فوائض في ميزان المدفوعات، مثل الولايات المتّحدة في ذلك الوقت، أن تتحمّل أيضاً مسؤولية معالجة الاختلالات في النظام المالي الدولي. دعت خطّة كينز الأصلية، التي اقتطعت من المادة الأخيرة لاتفاقية صندوق النقد الدولي، إلى فرض ضوابط على رأس المال في كلّ من البلدان التي يغادرها رأس المال والبلدان التي يتدفّق إليها - في أيامنا هذه، تتدفّق الأصول بالدولار واليورو في الغالب إلى الجنّات الضريبية. في العام 2022، أيّد صندوق النقد الدولي فرض ضوابط استباقية على التدفّقات المالية الوافدة. مع ذلك، لا يزال بإمكان هذه الرساميل التدفّق خارج الاقتصادات النامية عندما تشتدّ الأزمات المالية العالمية. إلى ذلك، وعلى الرغم من أن الإصلاح الضريبي ضروري في الاقتصادات النامية، فإن المسؤولية تقع أيضاً على الاقتصادات المُتقدّمة. لقد ساهمت الشركات الأميركية في ما يقرب من نصف الـ 250 مليار دولار المفقودة من عائدات ضرائب الشركات على مستوى العالم، وهو مبلغ يعادل تقريباً قروض صندوق النقد الدولي الجديدة منذ العام 2020 والتي تبلغ نحو 300 مليار دولار.
نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 13 أيار/مايو 2023.