Preview تفكّك العولمة

هل بدأ «تَفَسُّخ العولمة»؟

  • «العولمة» لم تعنِ يوماً قيام دول العالم بالتَّجمُّع طوعاً لتأسيس نظام عالمي يعود بالفائدة على الأطراف كافّة. ثمّة ما يقرب من خمسين دولة في العالم تخضع لشَتَّى أنواع «العقوبات»، بحيث تُمنع قسرياً من الوصول إلى السلع الأساسيّة في السوق العالمية، بما فيها الأدوية المُنقِذة للأرواح.
  • تُمثّل «العقوبات» أحد أعراض قسوة الإمبريالية، بقدر ما أنها «العولمة» التي تنطوي على هيمنة رأس المال المُعولم. بكلماتٍ أخرى، ما يُسمّى بـ«تَفسُّخ العولمة» لا يُشكّل نفياً «للعولمة»، وإنّما مكمّلاً لها.

يتحدّث العديد من الاقتصاديين هذه الأيام عن عملية «تَفسُّخ العولمة» الجارية، فيما يدَّعي البعض الآخر أن نيوليبراليّة الأمس لم تعد قائمة. لا شيء يظلّ على حاله إلى الأبد بلا مراء، أو كما قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس «ليس في استطاعتك النزول إلى النهر نفسه مرّتين». لذلك، لا مفرّ من حدوث تغييرات في النظام النيوليبرالي مع مرور الوقت. بيد أن النقطة الجوهرية تدور حول ما إذا كان الإطار التحليلي المُستخدم لفهم الواقع الاقتصادي للعالم المُعاصر بهدف تغييره قد تقادم، وبالتالي، إن كان هناك من حاجة إلى مراجعةٍ جادّة؟ 

من المهمّ ألاّ ننسى أن «العولمة» لم تعنِ يوماً قيام دول العالم بالتَّجمُّع طوعاً  لتأسيس نظام عالمي يعود بالفائدة على الأطراف كافّة. ثمّة ما يقرب من خمسين دولة في العالم تخضع لشتّى أنواع «العقوبات»، بحيث تُمنع قسرياً من الوصول إلى السلع الأساسيّة في السوق العالمية، بما فيها الأدوية المُنقِذة للأرواح. ولم يكن هذا الرقم أدنى بكثير قبل عقدٍ من الزمن عندما كان العالم بأسره يُجمع على أن «العولمة» تسير على قدمٍ وساق.

عبّرت «العولمة» كذلك عن التدفّق غير المُقيّد نسبياً للسلع والخدمات عبر الحدود، فيما عدا البلدان الخاضعة لعقوبات بطبيعة الحالإِذَنْ، تشير «العولمة» دائماً إلى شيءٍ مختلف تماماً عمّا يُنسب إليها عادةً. إنّها تُشير إلى بداية طورٍ من الرأسمالية بات فيه رأس المال، بما فيه رأس المال المالي، معولماً، عبر انفتاح الاقتصادات أمام حركته غير الملجومة؛ ممّا حدّ من قدرة الدولة الوطنية على التدخل بطرقٍ لا يرضى عنها رأس المال المالي. وقد وجد رأس المال المُعولم سنده الأساسي في الدول الكبرى ودول أخرى بشكل افتراضي. لقد حدّدت المتروبولات الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، الدول التي ستُفرض عليها عقوبات، فيما كانت الدول الأخرى تسير ضمن الحدود المرسومة.

على هذا النحو، عبّرت «العولمة» عن إعادة بسط الهيمنة الإمبريالية الغربية على العالم أجمع - فيما خلا البلدان الاشتراكية - وبما فيه البلدان التي تحرّرت من الاستعمار في منتصف القرن العشرين، وتبنّت، حتّى في غضون تعزيزها للتنمية الرأسمالية، أنماطاً مختلفة من الاستراتيجيات الموجّهة. وهذا ما يعني بعبارةٍ أخرى، تحلّل أي استقلالٍ نسبيّ عن الإمبريالية داخل العالم الثالث غير الاشتراكي. وبوصفها مُكمِّلاً لحركة رأس المال غير المُقيّد، عبّرت «العولمة» كذلك عن التدفّق غير المُقيّد نسبياً للسلع والخدمات عبر الحدود، فيما عدا البلدان الخاضعة لعقوبات بطبيعة الحال.

نشأت مجموعة من القوى الاقتصاديّة الجديدة في خلال تلك المرحلة من «العولمة»، وقد شعرت القوى الإمبريالية الغربية بأنها تشكّل تهديداً لها. تضمّنت تلك المجموعة: روسيا، التي ورثت قاعدة الإنتاج الضخمة التي بناها الاتحاد السوفيتي، والتي ظَنّت القوى الغربيّة أنها خضعت لها، إلى حين أعادتْ تأكيد قوّتها فور مغادرة بوريس يلتسين لمنصبه؛ والصين، التي ترتبط بـ«العولمة» وفقاً لشروطها الخاصّة، لا وفق ما تمليه القوى الغربية، والتي شهدت معدّلات نموّ سريعة، نتيجة جملة من العوامل، من بينها قدرتها على الوصول إلى الأسواق في العالم الرأسمالي المتروبوليتاني.

الآن، أصبحت روسيا في مرمى «العقوبات» بعد الحرب الأوكرانيّة. وتقلّصت تجارة العالم الغربي مع الصين، إلى حدّ ما، بسبب التدابير التي اتخذتها تلك الدول. في حالة الولايات المتّحدة، كانت تلك التدابير مدفوعة بعددٍ من العوامل، بدءاً من حماية الوظائف المحلّيّة، على الرغم من أن جزءاً كبيراً من واردات الولايات المتّحدة الآتية من الصين يُنتج هناك بسبب الاستثمارات الأميركية الأجنبية المباشرة، وصولاً إلى الرغبة القويّة في تقليص الاعتماد المُفرط على الصين. في حالة المتروبولات الأخرى، مثَّل الضغط الأميركي عاملاً إضافياً. لكن من بين هذه العوامل، شكّلت الرغبة في تقليص الاعتماد المُفرط على الصين العامل الأكثر حسماً. 

ما يُسمّى بـ«تفسُّخ العولمة» يشير في الواقع إلى اتجاه جديد لدى القوى الغربيّة للتمييز ضدّ الصين، ورغبتها في عدم الاعتماد المُفرط على الصينبرز قلق الولايات المتّحدة تجاه النموّ السريع للواردات الصينية في عهد جورج بوش الإبن، الذي سعى إلى إقناع الصينيين برفع سعر صرف اليوان مقابل الدولار، واستمرّ القلق في خلال عهد أوباما الذي عاقب الشركات الأميركية التي نقلت عمليّات الإنتاج إلى الخارج. أمّا دونالد ترامب فقد فرض رسوماً جمركية لحماية الإنتاج المحلّي من الواردات الخارجية، وكانت الصين الهدف الرئيسي لهذه التعريفات.

يتكشّف دافع الغرب السياسي لتقليص التجارة مع الصين عبر مثالين. اقترح الاتحاد الأوروبي قاعدة تقضي بعدم استيراد الألواح الشمسية المُفترض استخدامها للحدّ من انبعاثات الكربون في أوروبا من أي دولة تمتلك أكثر من 65% من الحصّة السوقيّة. ترمي هذه القاعدة إلى إقصاء الصين دون سواها، خصوصاً أنها تستحوذ على 85% من السوق نتيجة انخفاض أسعار الألواح الشمسيّة التي تنتجها. بإختصار، أوروبا مستعدّة لدفع أسعار أعلى للحصول على الألواح الشمسية لمجرّد إقصاء الصين، وهو قرار مدفوع باعتبارات جيوسياسية محض.

وعلى نحوٍ مماثل، إنّ الحظر الذي فرضته إدارة بايدن على صادرات أشباه الموصلات إلى الصين، ضدّ رغبة الشركات داخل الولايات المتّحدة ذاتها، والذي يشكّل تهديداً كبيراً للصناعات التقنية العالية في الصين، بما فيها التكنولوجيا العسكرية والذكاء الاصطناعي، كان مدفوعاً حصرياً باعتبارات جيوسياسية، أي بالرغبة المحضة في إبقاء الصين مشلولة اقتصادياً وتكنولوجياً. وبعبارة أخرى، على الرغم من عدم وجود عقوبات واضحة ضدّ الصين في الوقت الحالي، إلّا أن ثمة عقوبات ضمنية ضدّها، إمّا تمهيداً لفرض عقوبات صريحة في المستقبل، أو انطلاقاً من رغبةٍ محضة في شلِّ حركة الصين.

إن ما يُسمّى بـ«تفسُّخ العولمة» يشير في الواقع إلى اتجاه جديد لدى القوى الغربيّة للتمييز ضدّ الصين، ورغبتها في عدم الاعتماد المُفرط على الصين. يتمثّل الجهد الأساسي في تنويع العلاقات التجارية بعيداً من الصين باتجاه بلدان أخرى، حتى ولو تبيّن أن هذا التنويع أعلى تكلفة. لقد نتج الانخفاض الأخير في حجم التجارة الأميركية مع الصين عن هذا التدبير. يبدو أن الصين تضاف إلى قائمة الدول الخاضعة للعقوبات الغربية.

ومن اللافت أنه لم يطرأ أي انخفاض فعلي على المؤشّرات الكلّية، مثل نسبة إجمالي الواردات العالمية من إجمالي الناتج المحلّي، والتي استخدمها بعض الاقتصاديين كمؤشّراتٍ لقياس حجم «العولمة». النتيجة التي خلصوا إليها عبر هذه الأساليب هي التباطؤ في سير «العولمة» وليس ارتدادها.

مع ذلك، وكما ذكرنا آنفاً، لا تشير «العولمة»، كما نفهمها، إلى ظاهرة الدول التي يزيد اعتمادها على بعضها البعض، وإنّما إلى علاقة القوّة. وتُمارس هذه القوّة من خلال «العقوبات» المفروضة على بلدانٍ بعينها، بقدر ما تمارس من خلال جذب بقية البلدان إلى دوامة «العولمة». إن ممارسة هذه القوّة هي السمة المميّزة للإمبريالية.

يتطلّب تحسين الوضع المادي للناس أكثر من مجرد إحداث تغيير في طبيعة الدولة وأن تصبح ضليعة بدعم العمّال والفلاحين، وإنّما يستوجب، فضلاً عن ذلك، فكّ الارتباط بعالم التدفّقات الرأسمالية غير المُقيّدةتُمثّل «العقوبات» أحد أعراض قسوة الإمبريالية، بقدر ما أنها «العولمة» التي تنطوي على هيمنة رأس المال المُعولم. بكلماتٍ أخرى، ما يُسمّى بـ«تَفسُّخ العولمة» لا يُشكّل نفياً «للعولمة»، وإنّما مُكمِّلاً لها. 

يأتي رأس المال المعولم في شكلٍ أساسي من الدول الكبرى، وهو جزء من عملها. وبالتالي، إنّ هيمنة رأس المال المعولم هي في الواقع هيمنة الدول الكبرى التي تُمَارَس على شعوب العالم، ولا سيما على شعوب العالم الثالث. إن «العولمة»، التي قد تحظى بدعم البرجوازية الكبرى في العالم الثالث وحتى الشرائح العليا من الطبقة العاملة والفئات المهنيّة، تستلزم بالضرورة قمع عمّال العالم الثالث والفلّاحين وصغار المُنتجين.

لا يختلف التطبيق العملي للتحرّر من الاستعباد اليوم عمّا كان عليه قبل عقدٍ من الزمن. لا سبيل إلى تحسين أوضاع العمّال من دون تدخّل الدولة؛ ولهذا السبب، يجب أن يكون للدولة مجالاً للتدخّل من دون أن يقيّدها الخوف من هروب رأس المال. لكن طالما أن البلد حبيسٌ داخل دوّامة تدفّقات رأس المال غير المُقيّدة، لا يمكن للدولة أن تجد مجالاً مماثلاً. وبالتالي، تغدو السيطرة على تدفّقات رأس المال ضرورية لأي تدخّل تقدّمي من جانب الدولة.

بعبارة أخرى، يتطلّب تحسين الوضع المادي للناس أكثر من مجرد إحداث تغيير في طبيعة الدولة وأن تصبح ضليعة بدعم العمّال والفلاحين، وإنّما يستوجب، فضلاً عن ذلك، فكّ الارتباط بعالم التدفّقات الرأسمالية غير المُقيّدة. إن دعم العمّال وحده لا يكفي، من الضروري فرض رقابة على تدفّقات رأس المال إذا ما توفّرت الإرادة لانتهاج مجموعة من السياسات المنحازة للناس، على الرغم من أن هذه الرقابة قد تجذب «العقوبات» الإمبريالية. 

يصحّ هذا الأمر اليوم كما قبل عقدٍ من الزمن. فما يسمّى بـ «تفسُّخ العولمة»، الذي يتحدّث عنه بعض الاقتصاديين، لا يرتبط بالحاجة المُطلقة لمجابهة هيمنة رأس المال المعولم التي تقف خلفها كتيبة الدول الكبرى.
 
 نُشِر هذا المقال في Peoples Democracy في حزيران/ يونيو 2023