نقد رأس المال الاحتكاري
حدود مرونة سلاسل التوريد

أسفر تفشي جائحة كوفيد 19 في جميع أنحاء العالم في أوائل العام 2020، عن خلق «أزمة في سلسلة التوريد العالمية الأولى». تُجسّد سلاسل التوريد العالمية الهيكل التكاملي للرأسمالية العالمية المعاصرة، وكلّ خلل يعتريها قد يهدِّد عمل النظام بذاته.

تفاعلاً مع الأزمة، يقترح مجتمع سلاسل الإمداد العالمية، الذي يضمّ الأكاديميين وصانعي السياسات الحريصين على تعزيز الفوائد المزعومة، عدداً من السُبُل لزيادة «مرونة» سلسلة التوريد. أشارت منظّمة التجارة العالمية وبنك التنمية الآسيوي إلى الفكرة على أنها «قدرة هذه السلاسل على توقّع الاضطرابات الشديدة والاستعداد لها، على نحوٍ يضمن زيادة القدرة على استيعاب الصدمات، والتكيّف مع الحقائق الجديدة، وإعادة إنشاء عمليات التشغيل في أقصر وقتٍ ممكن». من المقرّر متابعة تعزيز مرونة سلسلة التوريد العالمية من خلال مجموعة من السياسات التي سوف تنفَّذ من قبل مديري الشركات الرائدة وبدعم من الدول.

وفي حين يُروَّج عن سلاسل التوريد العالمية أنها تخلق أرباحاً إيجابية - للشركات والعمّال في الشمال والجنوب - تشير الدلائل المُتزايدة إلى أنها تمثِّل أشكالاً تنظيمية للرأسمالية تسمح للرأسماليين برفع معدّل استخراج القيمة الفائضة من العمالة، وتعمل على تسهيل انتقالها الجغرافي من الجنوب العالمي صوب الشمال العالمي. وكما هو موضح في مقال سابق في مجلّة Monthly Review، ساهمت سلاسل التوريد العالمية في ديناميات التركيز في الشركات الكبرى، وانتقال الناتج القومي من العمالة إلى رأس المال في معظم أنحاء العالم.

الاضطرابات الصغيرة في عقدة واحدة من سلسلة التوريد تقود إلى اضطرابات كبيرة أكثر فأكثر في أعلى السلسلة أو في أسفلهاإن الرأسمالية، كما لاحظ كارل ماركس، مُتجذِّرة في استغلال رأس المال للعمّال من خلال قدرة الأول على استخراج فائض القيمة من الثاني. وهي تتميّز بديناميات تركيز ومركزة رأس المال، حيث يهيمن، أكثر فأكثر، عدد أقل وأكبر حجماً من الشركات على كلّ قطاع اقتصادي. ترتبط هذه الديناميات جوهرياً بالتطوّر الجغرافي غير المتكافئ للرأسمالية وإعادة إنتاج التوتّرات والصراعات الجيوسياسية. أو كما كتب هاري ماغدوف ذات مرة:

«لطالما تعايشت قوى الطرد والجذب في صميم العملية الرأسمالية، وتناوبتْ فترات السلام والوئام مع فترات الشقاق والعنف. وبوجهٍ عام، تشتمل آلية هذا التناوب على أشكالٍ من الصراع الاقتصادي والعسكري، حيث تصعد السلطة الظافرة الأقوى وتفرض الإذعان على المهزومين. لكن سرعان ما يحكم التطوّر غير المتكافئ، وينفتح عهد جديد من الصراع على الهيمنة».

في الواقع، ثمّة منشور حديث للبنك الدولي يشرح كيف تؤدّي أزمة كوفيد 19 إلى تفاقم الاتجاهات الاحتكارية الداخلية للرأسمالية:

«يمكن أن تتسبّب كوفيد 19 في زيادة أخرى في القوة السوقية للشركات، لأن الشركات الكبيرة هي في الوضع الأمثل لتحمّل الانكماش الاقتصادي ونشر تقنيات جديدة. في مراحل الركود الثلاثة الماضية، ارتفعت أسعار أسهم الشركات الأميركية في الربع الأعلى عبر 10 قطاعات بمتوسّط ​​6%، بينما انخفضت أسعار أسهم الشركات في الربع الأدنى بنسبة 44%. كان الاختلاف نفسه واضحاً منذ بداية تفشّي كوفيد-19».

يُجادل المقال الحالي بأن خطّة المرونة تمثِّل تبريراً أيديولوجياً وتحصيناً لهذه الاتجاهات ذاتها: استغلال العمّال، وتركيز ومركزة رأس المال، والبعد الجيوسياسي المُتزايد للمنافسة الرأسمالية.

بعد هذه المقدّمة، يوضح القسم الأول من هذه المادة المفهوم الناشئ للمرونة على نحو ما تمّت صياغته داخل مجتمع سلسلة التوريد العالمية. ويناقش القسم التالي كيف تلخَّصت الاستجابة الأولى للشركات والدول لأزمة كوفيد-19 في جعل العمال يتحمّلون وطأة الأزمة. ويحدِّد القسم الختامي الديناميكيات الجيوسياسية للمرونة، مع التركيز على تقرير البيت الأبيض لعام 2021، وبناء سلاسل التوريد المرنة، وتنشيط التصنيع الأميركي، وتعزيز النمو على نطاق واسع.

المرونة في سلاسل التوريد العالمية

تمثَّلت استجابة مجتمع سلسلة التوريد لوباء كوفيد-19 في الدعوة إلى تعزيز مرونة سلسلة التوريد، ممّا يستوجب توسيع سلطة الشركة الرائدة على الموردين وسيطرة أكبر لرأس المال على العمل في جميع سلاسل التوريد وعبرها. خطّة المرونة هي استجابة لأوجه القصور في نموذج الإنتاج في الوقت المناسب، حيث تعتمد مخزونات أعداد متزايدة من الشركات على نُظم تسليم سريعة أرخص (ولبعض الوقت) أكثر كفاءة.

اتهم المئات من مورِّدي الملابس البنغلاديشيين H&M و Next وLidl وZara وInditex، بدفع أقل من تكاليف الإنتاج خلال جائحة كوفيدومع ذلك، فإن هذا النموذج يضخّم ما يُسمّى بتأثيرات السوط والتموّج: الاضطرابات الصغيرة في عقدة واحدة من سلسلة التوريد تقود إلى اضطرابات كبيرة أكثر فأكثر في أعلى السلسلة أو في أسفلها. وكما أشار بيتر هاسينكامب، المدير السابق لاستراتيجية سلسلة التوريد لشركة Tesla، «إذا كان بناء سيّارة يتطلّب 2500 قطعة، فإن الأمر هنا لا يتطلّب سوى قطعة واحدة».

استجابة للمخاطر المُتزايدة، تُنصح الشركات بتعزيز مرونة سلسلة التوريد من خلال إدخال منتجات جديدة تُيسِّر استبدال المدخلات الموحدة وإنشاء مخزونات احتياطية؛ الأشكال الجديدة لإدارة السلاسل التي تنطوي على تحليل المخاطر لكلّ من الأماكن والموردين؛ المراقبة من خلال تقييم وقت الاستشفاء الذي يستغرقه الموردون نتيجة الصدمات في السلسلة؛ وإعادة دعم أو ما يقرب من إعادة دعم الإنتاج.

يُفترض أن خرائط سلسلة التوريد عنصر أساسي في استراتيجية مرونة الشركات الرائدة. في مقال نشرته مجلّة Harvard Business Review، يسلّط ويلي سي شيه الضوء على «وجوب تجاوز المستويين الأول والثاني ورسم خرائط لسلسلة التوريد الكاملة، بما في ذلك مرافق التوزيع ومراكز النقل من أجل تحديد قدرة الموردين على تحمّل الصدمات». إن نشر التقنيات الجديدة سوف يكون أمراً ضرورياً، حيث «يتزايد تطلّع الشركات إلى الروبوتات لزيادة الموظّفين الخاضعين للإغلاق، ودعم تدابير الصحة والسلامة، والاستفادة من الامكانيات الجديدة أو إنقاذ عملياتها». يُفترض أن الديناميات الجديدة للاستعانة بمصادر خارجية تمكِّن من تحقيق كفاءة التكلفة «عبر التوسيع الجغرافي لقواعد مورديها، من المرجح أن تخفِّض الشركات متعدّدة الجنسيات تكاليف الإنتاج من خلال تقديم أجور أكثر تنافسية [أي أقل] على المستوى المحلّي وأكثر احتمالاً لخدمة العملاء المحلّيين بشكل أفضل من خلال تكييف المنتجات وفقاً لمطالبهم».

وجد استطلاع أجرته شركة ماكنزي للمديرين التنفيذيين لسلسلة التوريد عبر صناعات مختلفة في تموز/ يوليو 2020، أن 93% يهدفون إلى تعزيز مرونة سلسلة التوريد الخاصة بهم، وأن 90% يهدفون إلى زيادة استخدام التقنيات الرقمية الداخلية للقيام بذلك. من بين المديرين التنفيذيين، اعتقد 70% و55% أن إعادة تأهيل الموظّفين الحاليين وتوظيف عمّال جدد، على التوالي، من شأنه أن يسهِّل هذا المسعى. وجد استطلاع متابعة في منتصف العام 2021 أن نحو 90% من المديرين التنفيذيين يتوقّعون متابعة «درجة معيّنة من الهيكلة الإقليمية» في خلال السنوات الثلاث المقبلة.

تشير السياسات المذكورة أعلاه إلى تصاعد الاتجاهات الأساسية للرأسمالية المتعلّقة بالتركيز والمركزة. وذلك لأن تكاليف تنفيذ عناصر أجندة المرونة، مثل رسم خرائط سلسلة التوريد، غالباً ما تكون باهظة التكلفة. كما يلاحظ شيه، «أخبرنا المسؤولون التنفيذيون في شركة يابانية لتصنيع أشباه الموصلات أن الأمر اقتضى فريقاً مكوَّناً من مئة شخص لأكثر من عام من أجل رسم خريطة لشبكات التوريد الخاصة بالشركة في عمق الطبقات الفرعية في أعقاب الزلزال والتسونامي في العام 2011». ولن تتوفّر الموارد اللازمة لتنفيذ هذه الاستراتيجيات بشكل شامل إلّا لأكبر الشركات الرائدة وأفضلها من ناحية الموارد.

ويُعدُّ تعزيز المراقبة من جانب الشركات الرائدة على الشركات الموردة من المفاهيم الجوهرية لتحديد مواقع سلاسل التوريد. حتى المعلِّقين الرئيسيين في سلسلة التوريد يلاحظون كيف يمكن لمثل هذه الديناميكيات أن تخلق «تطوّراً مُركّباً متناقضاً إلى حدّ ما للمراقبة والتعاون حيث ستكون الشركات أكثر حرصاً فيما يتعلّق بإجراءات وقدرات مورِّديها أثناء التعاون معهم لتعزيز قدراتهم». يُعدُّ تركيز الشركات الرائدة وملكيّتها للمعلومات حول مورّديها جزءاً لا يتجزّأ ممّا يسمّيه Ugo Pagano رأسمالية الاحتكار الفكري، حيث تصبح المعلومات، أكثر فأكثر، جزءاً أساسياً من إدارة سلسلة التوريد وتتداخل مع تخصيص القيمة الفائضة. وتُستخدم الممارسات التي تفرضها الشركات الرائدة على مورديها، مثل مطالبة الأخير بفتح دفاتره، في تعزيز قوة الشركات الرائدة وممارسة مزيد من الرقابة في جميع مراحل سلسلة التوريد، وذلك مثلاً بتحديد الجهة التي تصدِّر للمورّدين المدخلات وبأي أسعار. في قضية حديثة، اتهم المئات من مورِّدي الملابس البنغلاديشيين H&M و Next وLidl وZara وInditex، بدفع أقل من تكاليف الإنتاج خلال جائحة كوفيد.

في الأيام الأولى للوباء في نيسان/ أبريل 2020، دفعت الحكومة الأميركية بتشريع يجبر العمّال على العمل في ظروف عمل غير آمنةقام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في أجندته «أميركا أولاً»، بإنعاش خطاب إعادة الإنتاج، مدّعياً أنه من خلال «إعادة» الإنتاج إلى الولايات المتّحدة من مواقع مثل الصين والمكسيك، فإن سياساته ستعيد الصناعات والوظائف من قبل الحقبة النيوليبرالية الحالية. ومع ذلك، استقطبت أجندته عدداً محدوداً من الشركات العالمية (العائدة) إلى الولايات المتّحدة، ممّا لا يثير الدهشة، نظراً للفروق في الأجور العالمية، حيث لا تزال الأجور في الصين تشكّل جزءاً بسيطاً من الأجور الأميركية. على سبيل المثال، في العام 2017، أشاد ترامب بخطط Foxxcon لاستثمار 10 مليارات دولار في ولاية ويسكونسن، ممّا أدّى إلى خلق 13 ألف وظيفة من ذوي الياقات الزرقاء. وبحلول العام 2021، خفَّضت شركة الإلكترونيات التايوانية العملاقة استثماراتها إلى أقل من مليار دولار، مع أقل من 1,500 من الوظائف الجديدة المتوقّعة (معظمها من ذوي الياقات البيضاء) تلقى باللوم على تكاليف العمالة المرتفعة نسبياً في الولايات المتّحدة. كما أشارت صحيفة فاينانشيال تايمز، فإن «إعادة الإنعاش التي يسبَّبها فيروس كورونا» لا تحدث.

لا يقتصر الأمر على القوة المُعزِّزة للشركات العملاقة التي يتم الترويج لها وتسهيلها من خلال أجندة المرونة، ولكن أيضاً زيادة استغلال العمالة. تدعو أدبيات المرونة السائدة علانية إلى أشكال معيّنة من الاستغلال المُعزِّز للعمل (توصف بأنها «تعزيز إنتاجية العمل») كجزء من استراتيجيتها، مع إخفاء أشكال أخرى.

مرونة سلسلة التوريد عبر الصراع الطبقي من أعلى

تجسّد رد الفعل الأول للعديد من الشركات والدول على جائحة كوفيد-19 وما صاحبها من عمليات إغلاق، في البحث عن طرق لزيادة استغلال العمالة في سلاسل التوريد الرئيسية. وجرى هذا عبر تسليم الإعانات الحكومية إلى الشركات الكبرى أثناء ترؤسها للظروف الخطيرة، وسرقة الأجور، ونشر العمالة غير المجانية والعمل المأجور القسري.

اكتشفت دراسة أجريت على عمّال الملابس في أثيوبيا وهندوراس والهند وميانمار انخفاضاً حاداً في ظروف العمل وتراجعاً في متوسط الأجور بنسبة 11%. وحدثت خسارة في الدخل بسبب «قلّة فرص العمل الإضافي، وعدم دفع أجر العمل الإضافي المناسب، والخصم غير العادل من الأجور، والعمل من دون أجر، والأجور المتأخِّرة، وسرقة تعويضات إنهاء الخدمة للعمّال الذين أنهيت خدمتهم، والأجور غير المدفوعة للعمّال الذين أوقفوا عن العمل مؤقتاً».

في الأيام الأولى للوباء في نيسان/ أبريل 2020، دفعت الحكومة الأميركية بتشريع يجبر العمّال على العمل في ظروف عمل غير آمنة. نشر الرئيس ترامب آنذاك قانون حماية الدفاع لإجبار شركات تصنيع اللحوم على البقاء مفتوحة وسط مخاوف من نقص اللحوم. هذا القانون، الذي تدعمه تايسون - أكبر شركة لمعالجة اللحوم في الولايات المتّحدة - قلّل من مسؤولية الشركات تجاه عمّالها عن استمرار العمل وربما تعريضهم لفيروس كوفيد-19.

ليس فقط عن طريق خفض الأجور وسرقتها والعمل القسري يمكن للشركات أن تعزِّز من مرونتها على طول سلسلة التوريد. يتمثّل جزء لا يتجزّأ من أجندة المرونة في الترويج لتقنيات جديدة، غالباً رقمية، لزيادة استغلال العمالةفي الوقت نفسه تقريباً، ازدهرت صادرات الإلكترونيات الفيتنامية حيث بدا أن البلاد قد نفَّذت بنجاح استراتيجية صفر كوفيد. ومع ذلك، بحلول أيار/ مايو 2020، بدأت حالات كوفيد-19 في الارتفاع، والمثير للقلق بالنسبة للحكومة والمصدِّرين، تمّ تجميع الحالات في المناطق الصناعية. ردّاً على ذلك، طلبت الحكومة من الشركات المُصنِّعة إمّا الإغلاق أو إيجاد طرق للحفاظ على العمليات من خلال عزل العمّال عن السكان الأوسع.

في مقاطعتي باك نينه وباك جيانغ، الواقعة شرق هانوي، صاغت سامسونغ فيتنام سياسة الاحتواء «ثلاثة في الموقع»، حيث كان العمّال يعملون ويأكلون وينامون في المنطقة نفسها. ذكرت لام لو ما كان يعنيه هذا الترتيب بالنسبة للعمّال: «جرى نقل العمّال إلى مباني المصنع. تلاشت الخطوط الفاصلة بين مكان العمل والمنزل. لما يقرب من ثلاثة أسابيع، نام العامل الواحد ومعه بطانية في مستودع مع نحو 100 زميل آخر من الرجال، يتنقّلون هناك، بين مقصف الشركة وخط الإنتاج فيما بدا وكأنه غسق العمل الذي لا نهاية له. تمحورت حياته حول الشاشات».

استجابت بعض الشركات للطلب المُتزايد على معدّات الحماية الشخصية أثناء الجائحة بإجبار العمّال على العمل. كانت كلٌّ من ماليزيا والصين مصدِّرين مهمّين لهذا الإنتاج، وكلاهما ترأس زيادة حالات العمل القسري، كما يقول مكتب شؤون العمل الدولية الأميركي (BILA). تمّ الحصول على نحو ملياري قفازات الفحص الطبي المُستخدمة (معظمها عبر الولايات الأساسية) في خلال الأشهر الستة الأولى من الوباء من ماليزيا. العمل الجبري متوطن في كلّ أنحاء هذا القطاع، لدرجة أن قانون BILA يشمل القفازات المطاطية الماليزية في قائمته الرسمية للسلع التي ينتجها الأطفال أو العمل القسري.  وبحسب المكتب:

«يقع العمل القسري في الغالب بين العمّال المهاجرين من بنغلاديش والهند وميانمار ونيبال الذين يعملون في أكثر من 100 مصنع للقفّازات المطاطية في جميع أنحاء ماليزيا. وتشير التقارير إلى أن هناك ما يقدر بنحو 42,500 عامل مهاجر يعملون في صناعة القفازات المطاطية الماليزية. وكثيراً ما يخضع العمّال لرسوم توظيف مرتفعة لتأمين عمل غالباً ما يبقيهم في حالة من العبودية بسبب الديون، وإجبارهم على العمل لوقت إضافي يتجاوز الوقت الذي يسمح به القانون الماليزي، والعمل في المصانع حيث يمكن لدرجات الحرارة أن تبلغ مستويات خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، يعمل العمّال تحت التهديد بالعقوبات، والتي تشمل حجب الأجور، وتقييد الحركة، وحجب وثائق الهوية الخاصة بهم».

ولكن، ليس فقط عن طريق خفض الأجور وسرقتها والعمل القسري يمكن للشركات أن تعزِّز من مرونتها على طول سلسلة التوريد. يتمثّل جزء لا يتجزّأ من أجندة المرونة في الترويج لتقنيات جديدة، غالباً رقمية، لزيادة استغلال العمالة وبالتالي ربحية الشركات. في الواقع، تستثمر الشركات الرائدة العملاقة بكثافة في الرقمنة والروبوتات والأتمتة لتحقيق هذه الأهداف. في القطاع الفرعي للمستودعات العالمية، على سبيل المثال، من المتوقّع أن يزداد سوق الأتمتة من 15 مليار دولار في العام 2019 إلى 30 مليار دولار بحلول العام 2026، أمّا أمازون فهي في طليعة هذه الابتكارات التي تسعى دائماً إلى إخضاع العمّال للآلات. كما ذكرت سارة أوكونور في الفاينانشيال تايمز:

تشاك هي عربة روبوتية مستقلّة تقود منتقياً بشرياً عبر مستودع من رفّ إلى آخر. تقولRiver Systems، التي تبيع أو تؤجِّر الروبوتات لمشغّلي المستودعات مثل DHL وXPO Logistics وOffice Depot، إن التكنولوجيا تخفِّف الضغط عن العمّال لأنهم لم يعودوا مضطرين لدفع عربة. لكن تشاك تتمتّع بسرعة كذاك. يقول تقرير «الجدوى» لشركة River Systems إن العمّال الذين حدّدوا وتيرتهم الخاصة «يسافرون بنصف السرعة عندما يتبعون تشاك وسرعتهم من دون تشاك تتقلب أيضاً بشكل كبير».

تبنّت الدولة الأميركية أجندة مرونة سلسلة التوريد في محاولاتها لتقييد صعود الصين، من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية والجيوسياسيةإن العواقب التنموية البشرية لإخضاع العمّال بشكل مُتزايد للآلات وخيمة بشكل متوقّع. في مسح شمل 145 عاملاً في مستودع آلي تابع لأمازون في جزيرة ستاتن، عانى 66% منهم من آلام جسدية أثناء العمل (في الكتفين والأيدي والظهر والكاحلين والركبتين) واستمر 42% منهم في الشعور الألم خارج العمل. كما يلاحظ أوكونور، «يُسحق البشر في نظام روبوتي يعمل بوتيرة آلية».

ازدهر العمل عن بعد خلال جائحة كوفيد-19 حيث بدأت أعداد مُتزايدة من العمّال «ذوي الياقات البيضاء» في العمل من المنزل. يخضع هؤلاء العمّال لما يُسمّى بالإدارة الخوارزمية- «التتبع المُستمر لأداء العمّال»، واتخاذ القرار الآلي المُتعلّق بالمهام وتقييمات تعليقات العملاء»- بينما يقومون بمجموعة من المهام غير المدفوعة التي تعتبر ضرورية لوظائفهم.

يراقب Activtrack البرامج المُستخدمة ويخبر المديرين إذا كان الموظّف مشتّتاً ويهدر الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي. يلتقط HubStaff لقطات من أجهزة كمبيوتر الموظّفين كل خمس دقائق. يتتبع Time Doctor و Teramind كلّ  إجراء يتمّ عبر الإنترنت. يُعدِّ Interguard جدولاً زمنياً، دقيقة بدقيقة، يغطّي كل جوانب البيانات، مثل سجل الويب واستخدام عرض النطاق التردّدي، ويرسل إشعاراً إلى المديرين إذا بدت أنشطة العمّال مشبوهة وعندما تصدر عنهم مجموعة من السلوكيات المبلّغ عنها. تسجّل OccupEye متى وفترة ابتعاد شخص ما عن محطّة العمل الخاصة به. يلتقط Sneek باستمرار صوراً للزملاء لإنشاء بطاقة زمنية ويعمِّمها للحفاظ على الحالة المزاجية للفريق. تقوم Afiniti بعمل اقتران بين العملاء والوكلاء وفقاً للبيانات الديموغرافية. يقوم Pesto بمزامنة التقويمات المهنية وقوائم تشغيل الموسيقى لخلق إحساس بالانتماء إلى المجتمع؛ كما أنه يحتوي على ميزة التعرّف إلى الوجه التي يمكن أن تعرض مشاعر العامل الواقعية على الصورة الافتراضية لوجهه.

كما ترافق العمل من المنزل مع زيادة كبيرة في طول يوم العمل. أشارت مجلّة Harvard Business Review إلى أنه في الولايات المتّحدة، «زاد متوسّط يوم العمل بنحو 48.5 دقيقة أثناء الإغلاق في الأسابيع الأولى من الوباء... ونقدِّر أن أفضل المنظّمات شهدت زيادة في الوقت الانتاجي بنسبة 5% أو أكثر».

المرونة كجيوبولوتيك

تبنّت الدولة الأميركية أجندة مرونة سلسلة التوريد في محاولاتها لتقييد صعود الصين، من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية. تستفيد الولايات المتّحدة من الوصول إلى القوى العاملة في الصين- الأكبر في العالم- مع الأجور وتكاليف الإنتاج الاجتماعي التي يقلِّصها نظام Hukou (تسجيل الأُسر). يقسم النظام الطبقة العاملة في الصين طبقاً لموقع ولادة العامل ويحرم العمّال ذوي الأصل الريفي من المزايا الاجتماعية النسبية والحماية التي يتمتّع بها سكّان المدن. كما يشمل قدرة الولايات المحلّية على إجبار العمّال الريفيين على العودة إلى أماكنهم الأصلية. وبهذه الطريقة، يعيد النظام إنتاج طبقة عمالة ضعيفة مهيّئة لأن تستغلها شركات مثل Foxconn.

ما إذا كان الأكاديميون الذين يدافعون عن هذه الأنواع من الاستراتيجيات يشتركون عن قصد في أجندة Sinophobic أم لا، هو سؤال مفتوح. لكن الدولة الأميركية تنشر أجندة المرونة لأهداف جيوسياسية صريحةومع ذلك، فإن اندماج الصين الذي تديره الدولة في الاقتصاد العالمي، أولاً كقاعدة لتجميع الصادرات ولكن بشكل متزايد كمنتج لمنتجات التكنولوجيا الفائقة، أدّى إلى تسريع تشكيل طبقتها الرأسمالية وعزّز الدولة الصينية، واكتسبا معاً القدرة على تحدّي الهيمنة الاقتصادية الأميركية.

بدأ هذا يثير القلق لدى راسمي السياسة الأميركيين الذين ردّوا، على الأقل منذ محور الرئيس باراك أوباما في آسيا، بصياغة استراتيجيات سياسية واقتصادية وعسكرية لتقييد صعود الصين. تمثل استراتيجية الاحتواء هذه محاولة للإبقاء على الصين في وضعٍ شبه هامشي عن طريق إحباط محاولاتها الرامية لأن تغدو جزءاً من قلب الاقتصاد العالمي. على حد تعبير  Minqi Li «على الرغم من أن الصين طوَّرت علاقة استغلالية مع جنوب آسيا وأفريقيا ومصدّري المواد الخام الآخرين، إلّا أنها تواصل نقل قدر من فائض القيمة إلى البلدان الأساسية في النظام العالمي الرأسمالي أكبر ممّا تستقبله من الأطراف».

إن المحافظة على هذا النمط المتصل بتحويل فائض القيمة (بحيث تقدم الطبقة العاملة في الصين خدمات فعّالة للشركات الاقتصادية الأساسية) والحدّ من النفوذ الإقليمي للصين، هو جزء لا يتجزّأ من استراتيجية الاحتواء الأميركية. في خلال حملته الانتخابية، كان الرئيس جو بايدن صريحاً في تحديد التهديدات الصينية المتصوّرة للأعمال التجارية الأميركية، بحجّة أن:

«لا بد للولايات المتّحدة أن تكون صارمة مع الصين. فإذا ما تابعت الصين طريقها، فسوف تستمر في سلب الولايات المتّحدة والشركات الأميركية من تقنيتها وملكيتها الفكرية. كما ستستمر في استخدام الإعانات لمنح الشركات المملوكة للدولة ميزة غير عادلة، تعزِّز السيطرة على تقنيات وصناعات المستقبل. الطريقة الأكثر فاعلية لمواجهة هذا التحدّي تتمثّل في بناء جبهة موحّدة تتكوّن من حلفاء الولايات المتّحدة وشركائها لمواجهة أفعال الصين المشينة».

تم التذرّع بمفهوم مرونة سلسلة التوريد بشكل كبير من قبل الدولة الأميركية في سياق مساعيها لاحتواء الصين. يتمثّل جزء من أجندة المرونة في تسليط الضوء على أهمّية تنويع سلسلة التوريد، لا سيّما بعيداً من الاعتماد المُفرط على الإنتاج الصيني، والذي غالباً ما يشار إليه باسم استراتيجية «زائد واحد».

ما إذا كان الأكاديميون الذين يدافعون عن هذه الأنواع من الاستراتيجيات يشتركون عن قصد في أجندة Sinophobic أم لا، هو سؤال مفتوح. لكن الدولة الأميركية تنشر أجندة المرونة لأهداف جيوسياسية صريحة. في خطاب تناول استجابة الولايات المتحدة لأزمة سلسلة التوريد العالمية، مع الاستمرارية الضمنية للأجندة الاقتصادية للرئيس السابق ترامب «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، قال الرئيس بايدن:

«تحتاج الولايات المتّحدة إلى سلاسل إمداد مرنة ومتنوّعة وآمنة لضمان ازدهارنا الاقتصادي وأمننا القومي. سوف تعمل سلاسل التوريد الأميركية المرنة على تنشيط وإعادة بناء القدرة التصنيعية المحلّية، والحفاظ على الميزة التنافسية لأميركا في البحث والتطوير، وخلق وظائف ذات رواتب مجزية. كما سوف تدعم الشركات الصغيرة، وتعزّز الازدهار، وتساند مكافحة تغيّر المناخ، وتشجّع النمو الاقتصادي في المجتمعات الملوّنة والمناطق التي تعاني من مصاعب اقتصادية».

بعد أربعة أشهر، نشر البيت الأبيض تقريره بعنوان بناء سلاسل الإمداد المرنة، وتنشيط التصنيع الأميركي، وتعزيز النمو واسع النطاق. أعرب التقرير عن قلقه حيال إمكانية تعرّض الاقتصاد الأميركي لصدمات سلسلة التوريد في أربع صناعات رئيسية- المعادن النادرة للاتصالات وقطاعات الإلكترونيات الأساسية، أشباه الموصلات، والمكوِّنات الصيدلانية النشطة، والبطاريات المُحسّنَة للمرافق الكبيرة والمركبات الكهربائية- كما اقترح مجموعة من التدابير لتعزيز مرونة سلسلة التوريد.

عادةً ما يُصاغ العنصر الجيوسياسي لأجندة المرونة في مصطلحات السينوفوبيا (رهاب الصين) أو المصلحة العامّة، أو كليهما.عادةً ما يُصاغ العنصر الجيوسياسي لأجندة المرونة في مصطلحات السينوفوبيا (رهاب الصين) أو المصلحة العامّة، أو كليهما. على سبيل المثال، يجادل راجات بانوار وجوناتان بينكسي وفالنتينا دي مارشي كيف أن تقرير البيت الأبيض المذكور أعلاه يثير مخاوف بشأن «سياسات التنمية الصناعية العدوانية للدول الأخرى، وخصوصاً الصين. يسلِّط تقرير حديث لمنظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية الضوء على هيمنة الصين المُتزايدة على العديد من المواد الأساسية والمدخلات الوسيطة. وبالتالي، فإن «سلاسل التوريد التي تتميّز بانخفاض تنوّع المورِّدين أو المشترين يمكن أن تزيد بالفعل من احتمالية نشوء اضطراب ويمكن أن تزيد من انتشار الصدمات».

تقرير البيت الأبيض أكثر وضوحاً فيما يتعلّق بالمخاوف والأهداف الجيوسياسية للولايات المتّحدة. تم ذكر الصين 458 مرّة، مما يدل على ديناميكية جيوسياسية واضحة في عالم سلاسل التوريد العالمية. على سبيل المثال، «تشير التقديرات إلى أن الصين تسيطر على 55% من العناصر الأرضية النادرة عالمياً في العام 2020، وعلى نحو 85% من الفلزات النادرة. يجب على الولايات المتّحدة تأمين إمدادات موثوقة ومستدامة من المعادن والفلزات الهامة لضمان المرونة عبر احتياجات التصنيع والدفاع في الولايات المتحدة».

باستخدام الأيديولوجية العريقة المُتمثّلة في التمسّك بمبادئ التجارة الحرّة، يشير التقرير أيضاً إلى كيفية «بروز الصين في استخدامها العدواني للإجراءات- وكثير منها خارج الممارسات التجارية العادلة المقبولة عالمياً- لتحفيز الإنتاج المحلّي والاستحواذ على حصّة السوق العالمية في سلاسل التوريد الهامة».

في الواقع، تفسِّر الدولة الأميركية صراحةً مرونة سلسلة التوريد بعبارات جيوسياسية: «لدى الولايات المتّحدة مصلحة وطنية قوية مع حلفاءها وشركائها لتحسين مرونة سلاسل التوريد الحيوية الخاصة بهم في مواجهة التحدّيات - مثل جائحة كوفيد-19، والظواهر الجوية المتطرّفة الناجمة عن تغيّر المناخ، والمنافسة الجيوسياسية مع الصين - التي تؤثّر على كلّ من الولايات المتّحدة وحلفائنا».

من الناحية السياسية والاقتصادية، تهدف استجابة بايدن لأزمة سلسلة التوريد العالمية إلى الإفصاح عن استعداد واشنطن وقدرتها على القيام باستثمارات ضخمة في البحث والتطوير، والبنية التحتية (الموانئ البحرية، والمطارات، والطرق السريعة، والبنية التحتية اللوجستية، بما في ذلك المستودعات ومحطّات النقل)، وعلى نحوٍ مباشرٍ في التصنيع. سوف تُخصص الاستثمارات الفيدرالية لأموال دافعي الضرائب لتجديد أسس سلاسل التوريد العالمية التي يهيمن عليها رأس المال الخاص في الولايات المتّحدة، ممّا يمثّل دعماً عاماً هائلاً آخر للقطاع الخاص. تُشكّل إيماءات الحكومة الأميركية مؤخّراً - من زيارة نانسي بيلوسي لتايوان إلى تأكيد بايدن مؤخّراً على نية اللجوء إلى القوة العسكرية الأميركية للدفاع عن الجزيرة من العدوان المحتمل من بكين - برنامجاً أوسع لاحتواء صعود الصين.

استنتاجات

يروِّج لأجندة مرونة سلسلة التوريد العالمية عن طريق الشركات والأكاديميين وصانعي السياسات والسياسيين على افتراض أنّ سلاسل التوريد العالمية هي الشكل الأكثر فائدة للتنظيم الرأسمالي المعاصر. على النقيض من ذلك، يجادل هذا المقال بأنّ سلاسل التوريد العالمية تمثِّل المرحلة الأخيرة من التوسّع والاستغلال الرأسمالي المُنظَّم، وأنّ أجندة المرونة تهدف إلى توطيد هذه العلاقات.

تمثِّل أجندة مرونة سلسلة التوريد محاولة لإعادة تأكيد هيمنة رأس المال الاحتكاري في الاقتصادات المركزية على الرساميل التابعة والدول الطرفية وشبه الطرفية، وقبل كل شيء، على العملبالنسبة للمدافعين عن أجندة المرونة، فإن تعزيز مراقبة الشركات الرائدة (السيطرة) على المورِّدين يشير إلى طريقة محتملة لإنعاش سلاسل التوريد العالمية، وكذلك نشر التقنيات الرقمية لزيادة الكفاءة الإنتاجية للعمّال. أمّا من منظور رأس المال الاحتكاري، فعلى النقيض من ذلك، تمثِّل هذه المقترحات استراتيجيات لتسريع ديناميات تركيز ومركزة رأس المال داخل ومن خلال تعزيز قوّة الشركة الرائدة ومحاولة رفع معدل استغلال العمالة. بينما ينبّه المدافعون عن مرونة سلسلة التوريد إلى مخاطر الاعتماد الزائد على الصين في الحصول على المدخلات الرئيسية، تعمل الولايات المتّحدة بنشاط على نشر هذا المفهوم بغرض تعزيز أجندتها الخاصّة بالاحتواء الجيوسياسي. في بعض الأحيان، يبدو أن التحليل الأكاديمي وأهداف الولايات المتّحدة تتداخل على نحوٍ يشير إلى أن الأول ليس محايداً كما يُحب أن يظهر.

على حين أن أجندة المرونة تسعى إلى إنعاش سلاسل التوريد العالمية، فإنها في الواقع ترفد السياسات التي تسرع من تركيز ومركزة رأس المال، كما تساهم في زيادة الأبعاد الجيوسياسية للمنافسة الرأسمالية. وبعيداً من المساهمة في اقتصاد سياسي عالمي أكثر استقراراً يوفِّر المنفعة الاقتصادية للجميع، تمثِّل أجندة مرونة سلسلة التوريد محاولة لإعادة تأكيد هيمنة رأس المال الاحتكاري في الاقتصادات المركزية على الرساميل التابعة والدول الطرفية وشبه الطرفية، وقبل كل شيء، على العمل.

نُشِر هذا المقال في Monthly Review في الأول من آذار/مارس 2023.