العالم واليسار

  • وضعت العولمة الرأسمالية النيوليبرالية حدّاً لليسار في القرن العشرين. إلّا أنها بتجاوزاتها وغطرستها ومفعولها الاقتصادي التدميري خلقت يساراً جديداً للقرن الحادي والعشرين. وشكّلت وسيلة لصعود الصين وعدد من الدول غير الغربية، التي تتحدّى الهيمنة الأميركية على العالم، وترسي الأساس لأفولها.
  • هذا المقال هو محاولة لفهم سياق اليسار في القرن الحادي والعشرين واستجاباته المُبتكرة للتحدّيات الرئيسية للظروف الحالية: كارثة المناخ التي تلوح في الأفق، والعالم الجديد من الجيوبوليتيك الإمبريالية، والتفاوتات الاقتصادية العميقة بين البشرية، وآفاق الطبقة العاملة في القرن الحادي والعشرين، أفكار اليسار.

للتعرف إلى الوضع الحالي لليسار على المستوى العالمي، ربما كان من المفيد البدء بمقارنة القرن الحالي بالقرن المنصرم. تتحوّل العصور متبعة تقويمها الخاص، وليس التقويم الغريغوري. ولكن الأخير يوفّر لمن يعتمدون عليه وسيلة سهلة الاستخدام تساعد في تحديد الانهيارات والانتقالات التاريخية.

تشكّل القرن العشرين وتطوّر بواسطة نوعين من الديالكتيك العام: الرأسمالية الصناعية والاستعمار الرأسمالي. ويشير مصطلح ديالكتيك هنا إلى أن تطوّر النظام قد تضمّن توطيد القسم المُستغَلّ، الذي يشير إلى الطبقات العاملة والشعوب المستعمَرة. 

لا ينشط الديالكتيك بالتطور والاختراع والنمو. إنه التغير الناجم عن تناقضات الدينامية الهيكلية التي تشتمل على الصراعات والعواقب غير المتعمدة، التي تنشأ عن ممارسات المتحكمين نظامياً، والذي يتكبّد في الغالب تكلفة فادحة تتضمن الحروب المدمرة والإبادة الجماعية. تتلخص النقطة الجوهرية للديالكتيك الاجتماعي الهيكلي في أن التناقضات والصراعات والتكاليف البشرية للمعاناة تجري في اتجاه تنموي، فقد أسفرت في خلال القرن العشرين عن تقدم إنساني تاريخي في مستويات المعيشة، ومتوسط العمر المتوقع، والديمقراطية، والحرية، والتحرر الجنساني الجندري، وإنهاء الاستعمار.

على الرغم من تحقق العديد من الإنجازات، كحقوق العمل، ودول الرفاه، وتحرير المرأة، والديمقراطية، لم يقدم يسار القرن الماضي  أي رؤية مستقبلية أو حتى إلهام أو أمل ضئيللكن هذه الجدلية توقفت بحلول نهاية القرن العشرين. تقدمت الطبقة العاملة في المجتمعات الصناعية، لكن رأس المال المالي كان هو الرابح بزوال التصنيع. انتهى الديالكتيك المناهض للاستعمار بالتحرر المحدود للمستعمَر كما اتضح فيما بعد. على الرغم من تحقق العديد من الإنجازات، كحقوق العمل، ودول الرفاه، وتحرير المرأة، والديمقراطية، لم يقدم يسار القرن الماضي أي رؤية مستقبلية أو حتى إلهام أو أمل ضئيل. لقد أدى العصر النيوليبرالي دوراً مفصلياً واضحاً بين القرنين، وهذا ليس بالمعنى الزمني فحسب. وضعت العولمة الرأسمالية النيوليبرالية حداً لليسار في القرن العشرين. إلا أنها، وعبر تجاوزاتها وغطرستها ومفعولها الاقتصادي التدميري، خلقت يساراً جديداً للقرن الحادي والعشرين. وفضلاً عن ذلك، شكّلت وسيلة لصعود الصين وعدد من الدول غير الغربية، التي تتحدى الهيمنة الأميركية على العالم، وترسي الأساس لأفولها.

فعوضاً عن التحول إلى المجتمع ما بعد الصناعي الذي حلم به دانيال بيل - حيث يحقق "الرأسمال البشري" "نمواً هائلاً" في "النطاق الذي لا يتوخى  الربحية خارج نطاق الأعمال والحكومة"، أنتجت النيوليبرالية نمطاً من الرأسمالية أكثر وحشية وبدائية، يتحرق إلى رسملة التعليم والرعاية الصحية والخدمات العامة. 

لا ينطوي القرن الحادي والعشرون على جدلية اجتماعية. فالأشكال الجديدة للرأسمالية المالية والرقمية لا تطور ولا تحفز خصومها، بل ربما تخلق غضباً مبرراً بين مستخدميها وحتى محاولات ناجحة لتشكيل النقابات؛ إلا أن الاتجاه الاجتماعي لاستخدام الطبقة العاملة يتمثل في تشديد الخناق على الرقابة. سوف يقود التصنيع من خلال الاستعانة بمصادر خارجية إلى تنشيط الطبقة العاملة الصناعية تدريجياً في العالم الثالث، ولكن ليس بحجم الطبقة العاملة نفسه في أوروبا، ولا حتى في الولايات المتحدة واليابان. وبالفعل، ففي آسيا وأميركا اللاتينية تميل النسب الوطنية من العمالة الصناعية والحرفية إلى الانخفاض، بينما تتجمد عند مستوى منخفض في أفريقيا. لقد ولّت المجتمعات الصناعية التي شكلتها ودفعت بها الجدلية الطبقية للرأسمالية الصناعية إلى الأبد مع القرن الماضي. كما أن ديالكتيك الاستعمار قد أخذ مجراه الطبيعي.

بدلاً من الجدلية الوحشية للرأسمالية الصناعية، وإنما المفعمة بالأمل في جوهرها، يبدو القرن الحادي والعشرين مثقلاً بإرثه المولد للكوارث. إن آثار تغير المناخ أضحت كارثية بالمعنى الملموس، من أميركا الشمالية إلى أستراليا، ومن أوروبا الوسطى إلى الصين وباكستان والسودان وأميركا اللاتينية: درجات حرارة قياسية، وجفاف غير مسبوق، وحرائق مريعة للغابات، وعواصف، وفيضانات وانهيارات أرضية. سجلت قاعدة بيانات الأحداث الطارئة 432 حدثاً كارثياً في العام 2021، وهو أعلى من المتوسط ​​السنوي البالغ 357 حدثاً للفترة 2000-2020، مما أثر على أكثر من 100 مليون شخص. وضعت الحرب الباردة أوزارها، لكن سرعان ما اتضح أن آخر محاربي الحرب الباردة منحوا الأجيال التالية هدية مسمومة. قررت "الدولة العميقة" الأميركية التي خضعت بالأساس لإشراف المستشار الأمني ​​لكارتر، زبيغنيو بريجنسكي، تسليح وتمويل الإسلاميين الرجعيين ضد "الشيوعية الملحدة" في أفغانستان، واقتفت إدارة ريغان خطاها. فسر الإسلاميون انهيار الاتحاد السوفياتي على أنه انتصار على إحدى القوتين العظميين غير المسلمتين وتأهبوا لإسقاط الأخرى. أدت هذه الانتكاسة بعد ذلك إلى إطلاق العنان لـ "حرب بوش الابن على الإرهاب"، وإطلاق الصدمة والرعب المدمرين على مجموعة من البلدان من ليبيا إلى اليمن والصومال إلى العراق، في حين قام عملاء وكالة المخابرات المركزية باختطاف المشتبه بهم وشحنهم إلى غرف التعذيب التي وفرتها الديمقراطيات الجديدة في بولندا وليتوانيا ورومانيا.

لقد رافقت الجيوبوليتيك الإمبريالية الوحشية، وغير المقيدة بقواعد السلوك غير الرسمية للحرب الباردة، القرن الحادي والعشرين منذ البداية. إلا أن تناقضات الجيوبوليتيك الإمبريالية لا تشكل جدلية منهجية يعمل في خلالها التطور على تقوية المضطهَدين والمضطهِدين. بل على العكس، فقد ظلت إراقة الدماء في "الشرق الأوسط" بمثابة عرضاً جانبياً للتدفقات المحيطية للعولمة النيوليبرالية. 

لقد ولّت المجتمعات الصناعية التي شكلتها ودفعت بها الجدلية الطبقية للرأسمالية الصناعية إلى الأبد مع القرن الماضي. كما أن ديالكتيك الاستعمار قد أخذ مجراه الطبيعيتقود الرأسمالية الرقمية والمالية ديناميكيات القرن الحادي والعشرين عبر ثورة تكنولوجية، تزلزل كافة جوانب الحياة اليومية، من إدمان الإنترنت إلى السيارات الكهربائية ذاتية القيادة. إن الاندفاع السريع لشركات التكنولوجيا الفائقة وحجم هيمنتها على الأسواق العالمية ليس لهما سابق في التاريخ العالمي: يدير نظام تشغيل مايكروسوفت 75% من أجهزة الكمبيوتر في العالم؛ واستحوذ موقع Facebook وشركته الفرعية Instagram على 82% من حركة اتصالات الوسائط الاجتماعية في العالم؛ واستحوذت Google على 92% من سوق محركات البحث العالمية، ويعمل نظام التشغيل Android التابع لها على تشغيل أكثر من 80% من الهواتف الذكية في العالم.

وشهد المجال المالي عمليات مماثلة، حيث تتحكم حفنة من شركات "إدارة الأصول" في الرأسمال الهائل الذي راكمته مؤسسات مثل صناديق التقاعد وفاحشي الثراء. وباستثناء أميركا والصين، لا توجد دولة تتفوق من حيث إجمالي الناتج المحلي على الثروة التي تديرها شركة بلاك روك التي تحوم أصولها حول 10 تريليونات دولار. تسيطر أكبر عشر شركات لإدارة الأصول مجتمعين على 44 تريليون دولار، وهو مجموع الناتج المحلي الإجمالي السنوي للولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا. من بين أكبر عشرين شركة، هناك خمسة عشر شركة أميركية. إن مالكي ومدراء هذه الشركات الرقمية والمالية، على الرغم من فطنتهم الاستثمارية وثيابهم غير الرسمية المختارة عن عمد، هم من بين أكثر الطبقات الرأسمالية جشعاً وأشدها وحشية منذ عصر البارونات اللصوص ومزارع العبيد. وإذ يجمعون على حرمان العمال من أبسط الحقوق النقابية، كما يتبين من الأحابيل المعقدة للتهرب الضريبي، فإنهم يحلبون الإعانات العامة حيثما أمكن ذلك. بلغ معدل الربح الإجمالي، بعد تكاليف المكونات والتصنيع، لجهاز iPhone أو Samsung Galaxy أكثر من 60% في 2010. هذا هو العنصر الثالث في الإرث المولد للكوارث في القرن الحادي والعشرين: التفاوت الجامح. إن الرأسمالية الهمجية الجديدة لم تعد بالفائدة على غالبية السكان في البلدان المركزية، ولم تعزز حتى الدخل القومي الإجمالي، الذي بلغ متوسط ​​نموه السنوي 1.8% للفترة 2000-2019.

ومع ذلك، فقد أنتج القرن الحادي والعشرون عدداً كبيراً من اليساريين الجدد الذين كانوا مبدعين وجذريين على نحو يثير الإعجاب، انطلاقاً من تمردهم وليس من هزائم أسلافهم. 

هذا المقال هو محاولة لفهم سياق اليسار في القرن الحادي والعشرين واستجاباته المبتكرة على التحديات الرئيسية للظروف الحالية: كارثة المناخ التي تلوح في الأفق، والعالم الجديد من الجيوبوليتيك الإمبريالية والتفاوتات الاقتصادية العميقة بين البشرية المترابطة بشكل متزايد. ما هي آفاق الطبقة العاملة في القرن الحادي والعشرين، وما هي أفكار اليسار؟ 

منذ ما يقرب من ربع قرن، استنتج بيري أندرسون، الذي تناول هذه الأسئلة في افتتاحية متميزة أن نقطة البداية الضرورية لليسار الواقعي هي "التسجيل الصريح للهزيمة التاريخية". إلا أنه لم يعتبر هذا الأمر نهائياً بأي حال من الأحوال، على الرغم من أنه عدّ النيوليبرالية "الأيديولوجية الأنجح في التاريخ"، والتي بمقتضاها يكون في وسع "أقصر فترة ركود بين الحروب" أن تعمل على "زعزعة معايير الإجماع الحالي". آنذاك وجدت مقال أندرسون نموذجاً للنزاهة والمقاومة، وما زلت. ولكن، مع ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً من الإدراك الإضافي، فإني أعتقد أن إرث القرن العشرين يجب أن يُصاغ بشكل مختلف إلى حد ما، حتى نتمكن من صقل فهمنا لما جرى في العقود الأخيرة وما قد يتكشف في خلال بقية القرن الأكثر التهاباً على الأرض منذ 12000 سنة. 

فيما يلي، سوف أرسم في إيجاز المحددات الرئيسية لليسار في القرن العشرين و"مِفْصل" النيوليبرالية، قبل الانتقال إلى دراسة السياقات المختلفة التي تجذر فيها يسار القرن الحادي والعشرين، ومقارنة أشكاله وممارساته، وتحليل تأثيره وتقييم التحديات المقبلة، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وكذلك في "الشمال العالمي". "اليسار" هنا سوف يُفهم بالمعنى العالمي الواسع، ويشير العالم إلى الكوكب.

القرن الديالكتيكي

تبدّى عالم القرن العشرين في خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، وهو العقد الذي شهد الانطلاقة الصناعية لما بعد الحرب الأميركية والرايخ الألماني الموحّد، وكذلك مؤتمر برلين المتعلق باستعمار أفريقيا. من الآن فصاعداً، سوف تهيمن أوروبا وأميركا الشمالية، أكثر فأكثر، على النظام الاجتماعي للرأسمالية الصناعية، وعلى أفريقيا وآسيا عن طريق الاستعمار الرأسمالي (من دون أميركا اللاتينية، التي لا تزال تخضع لدولٍ استيطانية ما قبل صناعية). اختلف الاستعمار الرأسمالي عن الأشكال السابقة للاستعمار من ناحيتين. أولاً، كانت المستعمرات المغزوّة ثمينة أو "مرموقة"؛ أي أنها ليست مجرد روافد أو مزارع عبيد. ثانياً، مثل سكان المستعمرات شعوباً أصلية اضطرت للخضوع؛ فلم يكن بالإمكان أن تغدو مستعمرات للمستوطنين. كلتا الجدليتين على ارتباط بطبيعة الحال. لقد سبقت الجيوبوليتيك الإمبراطورية العالمية القرن العشرين. وفي الواقع، يمكن للمرء أن يجادل بأن "الحرب العالمية" الأولى كانت حرب السبعة أعوام (1754)، التي اندلعت من أجل الهيمنة الإمبريالية بين تحالفات بقيادة بريطانيا وفرنسا في ساحات القتال من كندا إلى البنغال. لكن الصراعات الصناعية في العشرينيات والأربعينيات من القرن الماضي تضمنت مستوى غير مسبوق من التعبئة الاجتماعية والاقتصادية، مما تسبب في مذابح بشرية منقطعة النظير. كان هذا يعني أيضاً أن نتائج الحربين العالميتين في القرن العشرين كانت لها تبعات وخيمة، مما جعلهما من أهم محددات القرن.

كان ديالكتيك الرأسمالية الصناعية والاستعمار الرأسمالي متشابهين بشكل ملحوظ. كلاهما خلق طبقة اجتماعية جديدة كانت ضرورية لعمل النظام، ولكنها في نفس الوقت شكلت قوة إخضاع ذات إمكانات عقلانية عدائية بطبيعتهاكان ديالكتيك الرأسمالية الصناعية والاستعمار الرأسمالي متشابهين بشكل ملحوظ. كلاهما خلق طبقة اجتماعية جديدة كانت ضرورية لعمل النظام، ولكنها في الوقت نفسه شكّلت قوة إخضاع ذات إمكانات عقلانية عدائية بطبيعتها: عمال المصانع من ناحية، والمثقفين المستعمرين من ناحية أخرى أو "جيوش الكتبة" ثنائية اللغة التي وصفها بنديكت أندرسون بأنها ضرورية لإدارة المستعمرة. قامت المصانع والكليات الاستعمارية بتجميع الأشخاص من القرى أو المقاطعات أو القبائل المختلفة، وخلقت خبرة وهوية مشتركة زائفة في مواجهة قوى رأس المال أو الإمبراطورية. شمل التعليم الاستعماري التعرف إلى مؤسسات المستعمر- الدولة القومية، والاستقلال الوطني، والأحزاب السياسية، والتمثيل الشعبي، والديمقراطية - أي كل ما حُرمت منه المستعمرة.  تضمن التطور المنهجي نمو الطبقة العاملة الصناعية والمثقفين المستعمَرين، من حيث التماسك والثقة بالنفس والعدد.

كانت هذه الميول بطيئة في تكونها. في البدء، لم يستفد من نشوء الرأسمالية الصناعية إلا الرأسماليين والبرجوازية الريعية. كانت أجور العمال محدودة أو منقوصة، في حين كان استغلال عمل الأطفال مروعاً، على غرار الرقّ في المزارع الصناعية. ومع ذلك، شكّل النمو الاقتصادي غير المسبوق أحد جوانب جدليتها في ظل نظام أصبح خاضعاً للرأسمال الأميركي. مع العلم أن الثورة الصناعية استغرقت أكثر من قرن لإبراز بعض جوانب دينامياتها الإنتاجية بجماهير شمال الكرة الأرضية، وخمسين عاماً أخرى للوصول إلى الجنوب العالمي؛  بين عامي 1998 و2013 فقط، انخفض "الفقر المدقع''، كما حدده البنك الدولي، إلى النصف تقريباً، كما انخفض بنحو مليار، بشكل رئيسي وليس بشكل حصري في الصين. لكن مع الرأسمالية الصناعية، تقدمت الطبقة العاملة وحركتها في الحجم والقوة والنفوذ السياسي. تم تطبيع حقوق النقابات التجارية والمفاوضة الجماعية في العالم الرأسمالي المتقدم بعد العام 1945: اكتسب ممثلو العمال صوتاً في الحكومة، وتوسعت الحقوق في الضمان الاجتماعي والإسكان والصحة والسلامة في أماكن العمل. شكّل الربع الثالث من القرن العشرين، وهو ذروة الرأسمالية الصناعية، ذروة نفوذ الطبقة العاملة في دول الرفاه الصناعية. بلغت معدلات النقابات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ذروتها في السبعينيات، وكذلك الوزن الاجتماعي والسياسي للطبقة العاملة.

شهد القرن العشرين أيضاً تقدماً كبيراً للمرأة، بمجرد أن قوضت الرأسمالية المبلترة سلطة الآباء الغاصبة. من فريدريك إنجلز إلى أوجست بيبل - الذي كان كتابه "المرأة والاشتراكية" الأكثر مبيعاً وفي المرتبة الثانية بعد البيان الشيوعي - كانت الحركة العمالية الماركسية ملتزمة بتحرير المرأة، حتى لو لم تلتزم دائماً بها في الممارسة. كان التحرر من النظام الأبوي أولوية تشريعية للثورتين الروسية والصينية؛ خطوة جريئة في المجتمعات الفلاحية التي يغلب عليها الطابع التقليدي. أصبح لدى الابنة المتعلمة لأسرة من الطبقة العاملة الآن بدائل أفضل من الخدمة المنزلية أو العمل الصناعي. أو بتعبير أدق، لم تكن "تمتلك" تلك البدائل، لكنها كانت تستطيع رؤيتها والقتال من أجلها. لكن في مجال السياسة، استمر إرث التبعية المحافظة للمرأة لفترة أطول. واصلت غالبية النساء، بتوجيه من الكهنة والملالي وكذلك الآباء والأزواج، التصويت لصالح اليمين السياسي حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين؛ لم تصبح "الفجوة بين الجنسين" قاعدة في شمال الكرة الأرضية إلا في تسعينيات القرن الماضي، حيث تميل النساء إلى أن ينتمين إلى يسار الوسط أكثر من الرجال.

بالمقارنة مع نصف الألفية من الفتوحات والسيطرة الاستعمارية الأوروبية، كانت عمليات القرن العشرين للتحرر الوطني وإنهاء الاستعمار سريعة، ومكثفة في حوالي سبعين عاماً، إذا أغفلنا سلائف هايتي والفلبين. إلا أنها كانت معركة شرسة ودموية ضد العنصرية والقمع المؤسسي، خاضتها الحركات الجماهيرية الشعبية التي حشدها المثقفون القوميون. على الرغم من وجود عدد قليل من حالات التداول السلمي للسلطة، إلا أن جميع الدول الإمبريالية من دون استثناء لجأت إلى الحرب أو الاغتيالات المخططة للدفاع عن هيمنتها جزئياً على أقل تقدير. كان التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا إنجازاً تاريخياً، حيث لعب يسار جنوب الكرة الأرضية دوراً مركزياً، بدعم كبير من نظيره الشمالي. كان التضامن مع الحركات المناهضة للاستعمار والمناهضة للإمبريالية مبدأً مركزياً لليسار في القرن العشرين، من مجهودات الكومنترن في العام 1920، ومؤتمر شعوب الشرق في باكو، وممثليه الأساسيين في الصين في خلال عشرينيات القرن الماضي إلى الاحتجاجات المناهضة للحرب على فيتنام والحركات المناهضة للفصل العنصري والمؤيدة للفلسطينيين.

إذن، على أحد المستويات، كان هذا قرناً من الإنجازات اليسارية، حيث أثمرت البذور السياسية لثورات القرن الثامن عشر - الفرنسية والهاييتية على وجه الخصوص-  نجحت المحاولات الجريئة للثورة المناهضة للرأسمالية في روسيا والصين على الرغم من كل الصعاب، حيث خلقت مجتمعات جديدة قوية على أنقاض أنظمة السلالات المتدهورة. نجح إنهاء الاستعمار في جميع أنحاء العالم؛ ومن أحلام الثوار الذين نشطوا في الخفاء في النصف الأول من القرن العشرين، نشأت كتيبة من الدول القومية الكبيرة المستقلة. أصبح الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الآن انحرافاً ثانوياً، وليس مثالاً لشكل إمبريالي أوروبي رئيسي. طبعاً هذه الانجازات لم تحقق الأحلام. انتهى جدل الطبقة الصناعية الموصوف في رأس المال كدول رفاه، داخل حدود الرأسمالية. كما أن الثورات الكبرى لم تنقل شعوبها إلى الاشتراكية أو الشيوعية بالمعنى الماركسي. الحاجة إلى البقاء على قيد الحياة من خلال التنمية، والنتائج البشعة للحروب الأهلية المضادة للثورة، عملتا على تجاوز المشروع الاشتراكي. ولم تصبح دول ما بعد الاستعمار منارات للحرية الشعبية والعدالة والمساواة.

ومع ذلك، فإن الاقتناع، الصحيح أساساً من الناحية التجريبية، بالطابع الديالكتيكي للاستغلال الرأسمالي والاستعماري، زوّد اليسار في القرن العشرين، سواء الإصلاحي والثوري، بمنظور طويل الأمد وثقة جماعية قوية بالنفس يمكن أن تصمد في أحلك الأوقات. أن تكون على اليسار يعني أن ترى أفق الاشتراكية كأفق مستقبلي واقعي. لعبت ثورات القرن العشرين، من روسيا إلى كوبا، دوراً في هذا الصدد. إن تقييم نتائجها يتجاوز نطاق هذا المقال، ومع ذلك يتعين التطرق إلى آثارها على اليسار في القرن العشرين. وفي الإمكان تلخيصها تحت ثلاثة عناوين: الإلهام والانقسام والأمل. ألهمت الثورة البلشفية عمال أوروبا والأميركيتين للنضال من أجل الاشتراكية، جنباً إلى جنب مع المثقفين والقادة الشعبيين في جميع أنحاء آسيا - من القوقاز إلى الصين وجزر الهند الشرقية الهولندية آنذاك. وبالمثل، ألهمت الثورة الصينية الفلاحين والحركات الثورية العمالية عبر جنوب وجنوب شرق آسيا، في حين عززت الماوية أخيراً الحركات الطلابية والتعبئة من فرنسا وإيطاليا إلى شمال شرق الهند ونيبال. ساعدت التجربة الكوبية على إشعال فتيل معاداة الإمبريالية في نصف الكرة الغربي، وتحويل معظم أميركا اللاتينية إلى دول مغاوير.

الحاجة إلى البقاء على قيد الحياة من خلال التنمية، والنتائج البشعة للحروب الأهلية المضادة للثورة، عملتا على تجاوز المشروع الاشتراكي. ولم تصبح دول ما بعد الاستعمار منارات للحرية الشعبية والعدالة والمساواةلكن منذ البداية، زرعت هذه الثورات أيضاً الانقسام في صفوف اليسار. أحدثت الثورة الروسية صدعاً - إلى جانب ذلك الذي أحدثته الحرب الإمبريالية في العام 1914 - بين القضية الشيوعية للديكتاتورية البروليتارية والتقليد الإصلاحي الاشتراكي الديموقراطي. رسخت هذه الانقسامات العناصر القمعية والسياسة الواقعية الأجنبية لدول ما بعد الثورة وأطلنطية الحرب الباردة للديمقراطية الاجتماعية الغربية. لكن الأهم من ذلك هو أن ثورات القرن العشرين ظلت إلى حد ما منارة للأمل.  لقد أثبتت أن المجتمعات غير الرأسمالية يمكن أن توجد، مع مزيد من الحرية والمساواة، لم تكن هذه الآمال محض أوهام، كما سيبدو ظهور زعيم مثل Dubček في العام 1968.

رأى مناضلو العام 68 العالم من خلال عدسة الثورة - وفهموا انتكاستها على أنها فشل في القيام بثورة، كان يستدعي حزباً ثورياً. وقد ورثوا هذا النموذج من التقليد اللينيني، بتفسيراته المتباينة: الماوية، التروتسكية، فضلاً عن عدة أنواع من الشيوعيين الأوروبيين، وحتى بعض المحاولات الوليدة في حرب العصابات المدينية - الألوية الحمراء الإيطالية وفصيل الجيش الأحمر الألماني - وكلها انتهت بالفشل. في الواقع، لم تندلع حركة التمرد لعام 68 والأعوام التي سبقتها وتلتها من الديالكتيك العام الذي شكل القرن العشرين. لقد كانت قبل كل شيء ثورة أجيال ثقافية، قادتها أول الفئات التي ترعرعت بعيداً من ظلال الفقر والندرة، تطالب وتخلق ثقافة جديدة للحرية، تحددها موسيقى الروك والتحرر الجنسي. ومع ذلك، فقد تفجرت هذه الثقافة سياسياً من خلال تزامنها وتقاطعها مع الديالكتيك الهيكلي لقوة الطبقة العاملة وتمردها- تضمنت أحداث أيار/ مايو الفرنسية في العام 1968 إضراباً عاماً واحتلال أماكن العمل على مستوى البلاد - مع صعود الحركة النسائية، ونشوب الحرب الاستعمارية الأميركية في فيتنام وحروب التحرير الوطني في أفريقيا.

على الرغم من أنه لم يكن هناك وضع ثوري أوروبي حقيقي في خلال هذه الفترة، إلا أن الثورة كانت في الأفق، حيث القوات الأميركية التي اهتزت تحت هجوم تيت، واندلعت الثورة الثقافية الصينية، واندلعت حروب العصابات في أميركا اللاتينية، وأكد فيدل كاسترو أن واجب كل ثوري يتمثل في أن يصنع ثورة. في أواخر ايار/ مايو، اعتقد ديغول أنه من الضروري زيارة جنرالاته وتقييم ولائهم. ظل هذا الجو سائداً على مدى السنوات التالية، مصحوباً بحركة إضرابات ضخمة ضربت إيطاليا في العام 1969 وثورات أطاحت بالنظم الفاشية في البرتغال واليونان في العام 1974. بعد أن هدأ غبار العام 1968، بدا من الواضح أن وضعاً ثقافياً واجتماعياً جديداً - يقوم على النسوية ومناهضة الاستبداد - يتشكل. لكن من الناحية السياسية، وصلت الحركة إلى طريق مسدود. من بعض النواحي، كانت وقائع العام 1968 مشابهة لما حدث في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: كلتاهما كانتا انتفاضتين بقيادة الشباب ضد الاستبداد، واشتملتا على تجارب في الديمقراطية التعاونية واحتلال الشوارع والساحات. لكن الاضطرابات التي حدثت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تبددت في ظل التقشف والخصخصة والبطالة المتزايدة - وكلها أمور كانت غائبة إلى حد كبير في العام 1968 - كما كان للانتفاضتين مسارات تنموية مختلفة اختلافاً كبيراً.  في حين خلق الغاضبين حركات وأحزاب سياسية جديدة -سيريزا، بوديموس، حملات بيرني ساندرز وجيريمي كوربين، والتي وصلت جميعها إلى حدودها في السنوات التالية - لم ينتج جيل 1968 سوى القليل جداً على مستوى السياسات الجديدة، وكان عقيماً بعكس الجيل التالي.

إذا كانت الرأسمالية الصناعية قد وصلت إلى ذروتها في المركز الغربي في السبعينيات، لم يكن بمقدور أحد أن يرى أفق تجاوزها في أي مكان.  ومع ذلك، فإن ذروة التطور هذه أسفرت عن بعض المقترحات الراديكالية والملموسة للتحول الاشتراكي من التيار الرئيسي للحركة العمالية. انبثقت أجرأ هذه المخططات من السويد وفرنسا، بينما انتشرت أفكار ديمقراطية المؤسسة والمشاركة في التخطيط وإضفاء الطابع الإنساني على العمل على نطاق أوسع. كتب أولوف بالم، رئيس وزراء السويد آنذاك، "يجب أن تكون مهمة الديمقراطية الاجتماعية حشد الناس حول بديل للرأسمالية الخاصة ورأسمالية الدولة البيروقراطية"، مشيرا إلى "الاشتراكية الديمقراطية" كإجابة. في العام 1976، تبنى مؤتمر لو، الاتحاد النقابي السويدي القوي، اقتراحاً بشأن أموال "أصحاب الأجور"، يستند على تطوير جذري قام به الاقتصادي النقابي رودولف مايدنر. للسيطرة على أسهم الشركات الخاصة عبر الصناديق التي تسيطر عليها النقابات، لتصبح النقابات تدريجياً المالكة لغالبية الصناعات السويدية الأساسية.  فوجئت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بما في ذلك بالم، واستاءت من الاقتراح. في العام 1978، وافق الحزب على نسخة مخففة، مع شرط يمنع تغيير غالبية الملكية. برزت محاولة رئيسية ثانية لتجاوز الرأسمالية في فرنسا مع اتحاد اليسار، الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، في ظل ما يسمى بالبرنامج المشترك. قام بذلك السياسي المخادع في الجمهورية الرابعة، فرانسوا ميتران، من دون أي أوراق اعتماد اشتراكية، وقد تعهد بتأميم تسع مجموعات صناعية رئيسية، إلى جانب قطاعي الائتمان والتأمين. أدت الخطوات الأولى في هذا الاتجاه إلى تمرد الأسواق وانقلبت السياسة في غضون عامين بعد مقاومة عنيفة أبدتها البرجوازية ووسائل إعلامها. والنتيجة لم تكن قتالاً بل تراجعاً تدريجياً للتيار اليساري السائد والشيوعيين الأوروبيين وكذلك الاشتراكيين الديمقراطيين. وخاض عمال المناجم البريطانيون معركة ولكنهم هُزموا.

ظهرت ديناميكية مماثلة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، حيث تمخضت التنمية الاجتماعية في الأخير عن تيار من الشيوعية الإصلاحية الديمقراطية. كان ميخائيل غورباتشوف الشخصية الرائدة فيه، كما برزت اتجاهات مماثلة إلى المقدمة في المجر وبولندا وسلوفينيا، على حين أنها كانت كامنة في أجزاء أخرى من أوروبا الشرقية. كانت هذه الحركات قصيرة العمر، على الرغم من حقيقة أن تعزيز ابتعاث الرأسمالية لم يكن قوياً على الإطلاق. لقد تم تحفيزها واحباطها بسبب مأزق التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الكتلة السوفياتية، بعد أن توقف اللحاق الملحمي بالركب بعد الحرب العالمية الثانية. يكمن تفسير ذلك خارج إطار هذا المسح الموجز. ولكن من الواضح أنها كانت مرتبطة بالقوى الإنتاجية الرقمية ما بعد الصناعية البازغة، والتي كانت جديدة بالنسبة للاشتراكية الصناعية، سواء في الغرب أو في الشرق. علاوة على ذلك، أعيق التكيف السوفياتي نتيجة التكاليف الباهظة للاستغراق في منافسة القوة العظمى العسكرية، والتي نَمَتْ إلى ثلث إجمالي الإنفاق الحكومي. العودة إلى الاشتراكية السوفياتية لا تحمل أي وعد. بحثًا عن مسار جديد، دعت قيادة "دينغ" ميلتون فريدمان وأمثاله إلى الصين، وأرسلت بعثة استطلاعية إلى تشيلي بينوشيه. في غضون ذلك، وضع يلتسين الاقتصاد الروسي تحت وصاية الاقتصاديين النيوليبراليين الغربيين، ووكالة المخابرات المركزية و Saatchi & Saatchi لإعادة انتخابه في العام 1996. أعادت الهيمنة الغربية على روسيا، في خلال التسعينيات، المستويات النسبية من عدم المساواة الاقتصادية والدخل القومي إلى زمن القيصرية.

هل كانت هذه، على غرار ما ذهب إليه أندرسون، هزيمة اليسار؟ أود أن أتجاسر، بعد انقضاء اللحظة، على وصف نهاية القرن العشرين، على نحو أكثر دقة، بأنها حالة من الاستنفاد والتأزم: تأزم الاقتصادات على النمط السوفياتي واستنفاد الحركة العمالية الغربية، في ذروة التطور الرأسمالي الصناعي، أو بجمعهما معاً. استنفاد حقبة صناعية من الإصلاح والثورة. انتهى القرن بالنيوليبرالية، لتحل محل دولة الرفاه الوطنية الكينزية كأيديولوجية اجتماعية واقتصادية مهيمنة. أصبحت هذه الرأسمالية العدوانية التي تركز على الربح حصرياً والمالية في المقام الأول النموذج الجديد، وانقلبت العملية البطيئة للمساواة الاقتصادية (الوطنية) منذ العام 1945 بشكل مفاجئ. كانت هذه عودة هائلة لليبرالية اليمينية المتشددة إلى السلطة، بعد أن فقدت مصداقيتها تماماً بسبب تخاذلها إزاء البطالة الجماعية والفقر في فترة كساد الثلاثينيات. بدت الكينزية كأنها تقف عاجزة أمام الأزمة الجديدة في الثمانينيات، في حين بدت الليبرالية الجديدة وكأنها هي التي تقدم الحل.  يتعين تقييم اليسار الجديد للقرن الحادي والعشرين على هذه الخلفية، كمحاولة للإبقاء على الاشتراكية حية في ظل الهيمنة العالمية للنيوليبرالية.

الفاصل النيوليبرالي

بالنظر إلى دورها المحوري في التاريخ الحديث، لا بد من رسم موجز لسياق نشأة النيوليبرالية وانتشارها العالمي.  أولاً، عانت العمالة الصناعية في الولايات المتحدة من الانخفاض، بدءًا من أواخر الستينيات. كان لهذا أساسا تكنولوجيا، حفزته عودة المنافسين الأقوياء لأميركا، ألمانيا واليابان، إلى السوق العالمية، جنباً إلى جنب مع المستعمرات اليابانية الصناعية السابقة، كوريا الجنوبية وتايوان. وبذلك تقلصت أرباح رأس المال الصناعي الشمالي تحت تأثير المنافسة الاقتصادية العالمية المتزايدة وتقدم القوى العاملة. بالإضافة إلى ذلك، فإن انهيار نظام العملات بين الدول في فترة ما بعد الحرب، والمرتبط بتكاليف حرب فيتنام، قد فتح المجال أمام العمليات المالية غير المنضبطة، في حين رفعت الدول العربية البترولية الجديدة سعر النفط للاحتجاج على معاونة الولايات المتحدة  لإسرائيل خلال حرب رمضان 1973. في هذا السياق، لم تعد بوصلة دول الرفاه القومية الكينزية قادرة على الاشارة نحو شمال حقيقي. في حين أن منحنى فيليبس، الذي يفترض أنه يشير إلى المبادلة بين البطالة والتضخم، توقف عن العمل.

ثورات القرن العشرين ظلت إلى حد ما منارة للأمل.  لقد أثبتت أن المجتمعات غير الرأسمالية يمكن أن توجد، مع مزيد من الحرية والمساواة، لم تكن هذه الآمال محض أوهامبالنسبة لرأس المال، كانت هناك ثلاثة أنفاق مضيئة للخروج من انكماش أرباح الشمال. الأول كان قمع الدولة: العمل على تشجيع ودعم خرق النقابات. سلكت هذا السبيل حكومتا ريغان وتاتشر، حيث تولت الأولى الرقابة على الحركة الجوية العامة بينما شنت الأخيرة حربا على عمال المناجم. ومن الوسائل الأخرى: العولمة، المستندة إلى التكنولوجيا الرقمية الجديدة التي سهلت الاستعانة بمصادر خارجية للتصنيع في البلدان ذات الأجور المنخفضة.  في الولايات المتحدة، ارتفعت السلع المصنعة المستوردة من 14% من الإنتاج المحلي في عام 1969 إلى 45% في عام 1986. ثالثاً، وفرت التكنولوجيا الرقمية كذلك طرقاً جديدة للمضاربة المالية الإلكترونية: في الولايات المتحدة، تفوق قطاع (التمويل والتأمين والعقارات) على التصنيع كحصة من الناتج المحلي الإجمالي حوالي عام 1990 وأصبح المصدر الرئيسي للربح في البلاد بعد بضع سنوات.

على الجبهة الأيديولوجية ، اكتسبت النيوليبرالية زخماً باعتبارها رداً يمينياً موسعاً على التغيرات الثقافية في الستينيات. في أغسطس 1971، ألقى لويس باول - محامي معهد التبغ، الذي سيتم تعيينه بعد ذلك بقليل في المحكمة العليا الأميركية - خطاباً أمام غرفة التجارة داعياً الشركات الكبرى إلى تبني موقف قتالي في الحرب الثقافية. لم ينظر باول إلى "متطرفي اليسار" على أنهم "المصدر الرئيسي للقلق"، وإنما "جوقة النقد" لنموذج المشروع الحر الأميركي، الذي قال إنها تشكلت من "عناصر محترمة تماما في المجتمع:  الحرم الجامعي، كرسي الوعظ، الإعلام، المجلات الفكرية والأدبية، الآداب والعلوم، والسياسيون. واعتبر ان الأكثر خطورة كان خطاب رالف نادر المعادي للشركات وانتقاد "الحوافز الضريبية" للشركات.  ومع ذلك، لم يعد العمل المنظم يمثل مشكلة كبيرة. كما رأينا، بلغ انتشار النيوليبرالية - التي روج لها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي - ذروته باحتضان الاقتصاديين الليبراليين والتكنوقراط والسياسيين للبينوشيتيسم• في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي والصين.

باعتراف الجميع، كشفت النيوليبرالية عن مرونة كبيرة، ولكن الآن، وبعد عهد امتد لأربعة عقود، وهو عهد أطول من الكينزية، ولكنه يمثل فترة وجيزة في تاريخ الرأسمالية الطويل، تشارف على نهايتها. كانت هناك ثلاثة أحداث حاسمة.  الأول كان الانهيار المالي في قلب الرأسمالية العالمية في عام 2008. لم تكن النيوليبرالية قد انتهت بعد - في الواقع، يمكن لمراقب حاد مثل كولن كراوتش أن يكتب عن حالة "اللا-موت الغريبة" - لكن شرعيتها قد أصيبت في مقتل، وتوالت سياسات التقشف  للتعويض عن عمليات الإنقاذ السخية التي قادها المصرفيين والتي زادت من الفساد؛  شكل الغاضبون في العديد من البلدان حركات احتجاجية جماهيرية؛  أصبح تزايد عدم المساواة مصدر قلق رسمي في دافوس؛  وعادت "الاشتراكية الديمقراطية" إلى مفردات اللغة الإنجليزية.  وخلص رئيس صندوق النقد الدولي آنذاك إلى أن الانهيار "دمر الأسس الفكرية في الخمسة وعشرين عاما الماضية".

ثانياً، وعلى المدى الطويل، ربما بصورة جوهرية، بعد عام 2010، اكتشفت النخبة السياسية الأميركية، بدعم من جزء كبير من المؤسسة الاقتصادية، أن الصين كانت تربح في لعبة العولمة الرأسمالية. كان رأس المال الأميركي يزدهر، إلا أن الدولة القومية الأميركية لم تكن كذلك.  أدرك السياسيون أن السيادة العالمية - ومقاعدهم الانتخابية - لا تعتمد على حفنة من الشركات الكبرى فحسب، ولكن على مرونة الدولة وشعبها، بل وحتى على طبقتها العاملة كذلك. في هذا السياق، ومع استمرار اتساع الفجوة بين فاحشي الثراء وبقية السكان، عادت قضايا التوزيع إلى رأس جدول الأعمال. بدءًا من ترامب، ثم بايدن، بدأت الحكومة الأميركية في التحول نحو سياسة جيوسياسية حمائية. ثالثاً، كشفت جائحة كوفيد -19 والكوارث المناخية المستمرة عن عدم كفاية الأسواق للتعامل مع القضايا الملحة في القرن الجديد. العبارة المعروفة لرجل الدولة النيوليبرالي - "الحكومة ليست الحل لمشاكلنا، الحكومة هي المشكلة" - تبدو الآن غريبة بالنسبة للعديد من الأذان. وفي الوقت نفسه، عمل عالم الجيوبوليتيك  الإمبريالية الجديد على تقويض المبادئ الرئيسية للنيوليبرالية مثل مبدأ "العولمة تتفوق على القومية". لقد قوضت السياسة التجارية والاقتصادية "أمريكا أولاً" التي انتهجتها إدارتي ترامب وبايدن هذه المعايير بشكل مباشر.

عادت الدولة إلى مركز الاقتصادات الرأسمالية مع كفالة إنقاذ عام 2008، بل وأكثر من ذلك أثناء الوباء. في عام 2020، تجاوز الدين الحكومي العام في الاقتصادات المتقدمة مستواه خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وصل إلى أكثر من 120% من الناتج المحلي الإجمالي. كان الإنفاق الإضافي والإيرادات الضائعة للولايات المتحدة من بين أعلى المعدلات في العالم، وكان أعلى بكثير من 10% من الناتج المحلي الإجمالي. كانت الليبرالية الجديدة شكلاً محددًا من أشكال الرأسمالية المتوحشة، تتمحور حول طموح السيادة السوقية على العالم بأسره. لكن في حين أن انتصار الجيوبوليتيك الإمبراطورية على عولمة السوق أصبح جلياً الآن، فإن المرحلة الجديدة من التراكم الرأسمالي، التي لا تقل وحشية عن سابقتها، لم تعتمد بعد.  من الناحية الوصفية، في هذا المنعطف، هي رأسمالية مالية التكنولوجيا الرقمية، تتجه إلى التراكم ضمن المعايير الجيوسياسية التي تحددها الدولة

يسار القرن الجديد

لم تتكشف هذه السلسلة من الأحداث كجدلية منهجية - أي كعملية داخلية، مستمدة من المنطق التنموي للنظام الاجتماعي. تحولت الرأسمالية الصناعية إلى شكل من أشكال الرأسمالية المالية الرقمية التي لا تنتج أو تطور خصومها. على سبيل المثال، فإن الجزء الأكبر من المتظاهرين ضد الليبرالية الجديدة ليسوا أجزاء رئيسية من الاقتصاد النيوليبرالي، بل هم أشخاص خارجه تعرضت حياتهم للغزو والتضرر بسبب الليبرالية الجديدة. وبالمثل، لم يكن صعود الصين تطورًا منهجيًا، بل دخول لاعب تبين أنه أكثر مهارة من البطل. إن تناقضات الجيوبوليتيك الإمبراطورية لا تشكل جدلية  في استطاعتها تعزيز المستغلين والمضطهدين.

كانت وقائع عام 68 مشابهة لما حدث في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: كلتاهما كانتا انتفاضتين بقيادة الشباب ضد الاستبداد، واشتملتا على تجارب في الديمقراطية التعاونية واحتلال الشوارع والساحاتبدلاً من ذلك، كما رأينا، فإن القرن الحادي والعشرين مثقل بإرث مولد للكوارث - تغير المناخ، وعدم المساواة، والحرب - بينما تستمر ديناميكيات الرأسمالية الخلاّقة والمدمرة.

ولا غرابة في إن هذه الديناميكية الرأسمالية تترك الجماهير في فقر مدقع وتثري بشكل أساسي الأغنياء، مع مواساة الطبقة الوسطى الهشة. ومع ذلك، فإن أي تحليل يركز على الأزمات المميتة للرأسمالية فحسب، متجاهلاً العوامل المعطِّلة المحتملة، فإنه ينظر إلى العالم من علية أيديولوجية بلا نوافذ. أصبحت النقابات أكثر نشاطا في كثير من بلدان الجنوب، وإن كان ذلك عادة دون إنشاء منظمات كبيرة أو راسخة؛ حتى في الشمال يظهرون علامات جديدة على التشدد. على عكس يأس اليسار في أواخر القرن العشرين، أظهر خليفته في أوائل القرن الحادي والعشرين ديناميكية وإبداعًا جديدًا، حتى لو كانت قوته لا تزال محدودة.

متجاهلين الحقبة القديمة القاتمة لأمهاتهم وآبائهم، ارتفع اليسار الجديد من حوالي مطلع الألفية بالسياسة الراديكالية إلى مستوى جديد. لقد قاد ردود الفعل على النظام العالمي للرأسمالية النيوليبرالية ، ودورته الجديدة من الحروب الإمبريالية. وزرع بذور الاشتراكية، وخاصة في أمريكا اللاتينية.  تعلم الكثير من وحول حليف جديد خالٍ من قصر النظر الحداثي وغرور اليسار القديم: السكان الأصليين، الذين عادوا إلى الظهور كقوة وازنة في تنظيم المجتمعات المحلية والمبادرات الإيكولوجية غير الرأسمالية، في أمريكا اللاتينية بشكل أساسي ولكن أيضا في الهند. تحايل اليسار الجديد على معضلة اشتراكية الطبقة العاملة التي تواجه الرأسمالية المالية من خلال مناشدة «الشعب» والديمقراطية الراديكالية. وساهم في عودة الانتفاضات الحضرية في جميع أنحاء العالم، بدءا من أواخر التسعينات ؛ في الواقع، سجل العقدين الأولين من القرن الجديد رقما قياسيا تاريخيا للانتفاضات الاجتماعية في حقبة ما بعد 1900، مع وجود مراكز في العالم العربي وأمريكا اللاتينية والدول التي خلفت الاتحاد السوفيتي.

ترك القرن الحادي والعشرون تحديثًا وتنشيطًا للتقاليد الراديكالية بأكملها من خلال فهمه البصير للبيئة والتزامه بتجنب كارثة المناخ. استمرت التحقيقات النظرية للخروج من الرأسمالية، بعد نهاية الجدلية الماركسية الكلاسيكية. خرج اليسار الجديد من ظلال الصخور العظيمة للقرن العشرين، إلى حقبة تاريخية مختلفة. يمكننا تحديد ملامحها الجديدة بإيجاز كما ظهرت لأول مرة من خلال العولمة البديلة والاحتجاجات المناخية الجديدة وعودة الاشتراكية في الأمريكتين.

ألتر-جلوبو. لقد كانت الدوامة الرأسمالية الأسرع للعولمة النيوليبرالية - التي وصلت إلى أقصى سرعة في العقد الممتد من أواخر التسعينيات إلى 2008 - هي التي ساعدت في خلق يسار عالمي جديد. وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1999، أصبح المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في سياتل هدفا لمظاهرة متشددة ضد الهجوم العالمي لرأس المال. شكل afl-cio (الاتحاد الأميركيي للعمل ومؤتمر المنظمات الصناعية وهو أكبر اتحاد للنقابات في الولايات المتحدة_المترجم) جزء من المعارضة، قاد مسيرة سلمية غير متمردة.  لكن مجموعة أصغر من الراديكاليين - الطلاب والفوضويين ومواطني العالم النامي - تمكنت من وقف حفل الافتتاح ، واندلعت معارك عنيفة مع قوة شرطة المدينة العنيفة والمجهزة بشكل أفضل. في يونيو 2001، عندما اجتمعت قمة مجموعة الثماني في جنوة - مجموعة الدول السبع زائد روسيا، والتي تم الاعتراف بها مؤخراً كتعزية للتوسع الشرقي لحلف شمال الأطلسي - استقبلها أيضا 200 الف متظاهر ساخط، نكلت بهم الأجهزة الأمنية. في فبراير 2003، اندلعت واحدة من أكبر الاحتجاجات في تاريخ العالم ضد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق. بالطبع، كان عبثا: استمرت العولمة الرأسمالية لعقد آخر. قُصف العراق وتم غزوه وتدميره، دون أن يتحول أمريكا صغيرة على نهر دجلة. ومع ذلك، كشفت هذه المظاهرات الجماهيرية أن شكلاً آخر من أشكال العولمة - يختلف تماما عن الاستعانة بمصادر خارجية للشركات والمضاربة المالية - كان ممكنًا: التضامن العالمي وحركات السلام الدولية. ستكون هناك حاجة ماسة إلى هذا الشكل في القرن المقبل.

قام دعاة العولمة البديلة أيضا بتدخل إبداعي في السياسة اليسارية: المنتدى الاجتماعي العالمي، المفترض كبديل للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، ويهدف إلى إتاحة مكان لاجتماع تعددي يضم كافة التيارات اليسارية غير العنيفة التي "تعارض" الليبرالية الجديدة والسيطرة على العالم من قبل رأس المال وأي شكل من أشكال الإمبريالية، ملتزمون ببناء مجتمع كوكبي يتمحور حول الإنسان. المؤسسان هما ناشطان برازيليان من خارج اليسار التقليدي:  تشيكو ويتاكر، السكرتير التنفيذي للجنة العدل والسلام بالكنيسة الكاثوليكية البرازيلية، وأوديد غرايو، رجل الصناعة الذي يقود معهد إيثوس للأعمال والمسؤولية الاجتماعية، والذي استلهم بدوره من محرر صحيفة لوموند ديبلوماتيك. عُقد المنتدى الاجتماعي العالمي الأول في بورتو أليغري في عام 2001، بدعم من حكومة حزب العمال المحلية، ومنذ ذلك الحين اجتمع في أماكن متنوعة مثل مومباي ونيروبي وكراكاس وتونس ومونتريال ومكسيكو سيتي، بينما كان مصدر إلهام لمنتديات إقليمية أخرى  في أوروبا.  وقد استقطب أكثر من 150 الف مشاركاً، ضمن نطاق اجتماعي وثقافي فريد، من المثقفين اليساريين إلى النقابيين، وحركات السكان الأصليين من عدة قارات، وحركة الفلاحين Via Campesina  ومنظمات سكان الأحياء الفقيرة، والنسويات، ونشطاء حقوق الإنسان، والمدافعين عن البيئة. وما إلى ذلك وهلم جرا. لا يزال المنتدى الاجتماعي العالمي يعقد سنوياً، على الرغم من انخفاض عدد المشاركين.  منذ البداية، كانت هناك توترات بين رؤيتين متميزتين للمنتدى: كمكان اجتماع حيث يمكن للمشاركين تبادل الأفكار والخبرات، أو كحركة قادرة على تقديم مطالب ودعوات ملموسة للعمل. أقر كلا الجانبين في هذا النقاش بالحاجة إلى حركة عالمية واسعة، لكن مؤسسيها حريصون على عدم المخاطرة بوحدة وتنوع المنتدى من خلال تبني مواقف سياسية.  بطريقة أو بأخرى ، سوف يحتاج WSF إلى نوع من التجديد إذا كان يريد استعادة حيويته الأصلية.

احتجاجات المناخ.  بدأت المخاوف البيئية في النمو مع بلوغ العصر الصناعي ذروته في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين دق أجراس الإنذار باري كومونر، وريتشيل كارسون وتقرير حدود النمو، الذي وُضعته مدرسة سلون للإدارة في ميتز ونشره نادي روما. بدأت الأحزاب الخضراء في الظهور في أوروبا الغربية ونيوزيلندا وتسمانيا، وكان العديد منها في الأصل ينتمي إلى اليسار؛  ولكن نظرًا لقاعدتهم الخاصة من الطبقة الوسطى، كان هناك دائمًا ميل للتحرك نحو الوسط السياسي (ومن هنا جاءت ائتلافات الخضر الألمانية مع كل من الديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين الاشتراكيين). في مواجهة التحديات الهائلة لأزمة المناخ، أصبحت معظم السياسات الخضراء نمطا من السياسة يختلف عن المعتاد. ظهر تغير المناخ كموضوع في المنظمات العلمية الدولية في الثمانينيات، قبل أن يصبح قضية واضحة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 1990. أصبح هذا القلق النخبوي سابقًا مصدر قلق جماهيري في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع ظهور تيار يساري قوي على الأقل منذ ظهور شبكة العدالة العالمية في عام 2007، والتي ربطت أزمات المناخ بالرأسمالية.  في غضون ذلك، أصبح القلق بشأن تغير المناخ من الأمور السائدة ورفضه سمة مميزة لليمين المتطرف. إنها حركة تدخل في صميم العديد من التيارات، على الرغم من أنها ليست بريئة تماما من السم الطائفي الذي ابتلي به اليسار في القرن العشرين.

على الجبهة الأيديولوجية ، اكتسبت النيوليبرالية زخماً باعتبارها رداً يمينياً موسعاً على التغيرات الثقافية في الستينياتأنتجت حركة المناخ الحركة الاجتماعية الأسرع نموًا في التاريخ، "أيام الجمعة من أجل المستقبل"، التي أسستها جريتا ثونبرج، وهي تلميذة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، تركت المدرسة في 20 أغسطس 2018 وجلست خارج مبنى البرلمان السويدي مع لافتة  وبعض المنشورات وهاتفها الذكي، حيث أبلغت العالم عبر Instagram و Twitter بما كانت تفعله. في عام 2019، أصبحت الناشطة الاجتماعية الأكثر شهرة، حيث قبلت الدعوات لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة والبرلمان البريطاني والجمعية الوطنية الفرنسية ودافوس، بينما كانت مصدر إلهام لحركة عالمية متوسعة.  قد يبدو الهدف المعلن لـ "أيام الجمعة من أجل المستقبل" متواضعاً، وليس يساريًا على وجه الدقة: "ترمي للضغط الأخلاقي على صانعي السياسات، لجعلهم يستمعون إلى العلماء، ثم اتخاذ إجراءات قوية للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري". ومع ذلك، إلى جانب "الحفاظ على ارتفاع درجة الحرارة العالمية دون 1.5 درجة مئوية" و"الاستماع إلى أفضل علم موحد"، تتضمن قائمة مطالبها "ضمان العدالة المناخية والمساواة"، على الرغم من أن هذا لم يُمنح محتوى ملموس بعد.  تتمتع ثونبرج بإحساس جيد بكل من التاريخ العالمي والعلاقات الطبقية المعاصرة: "لن نسمح للدول الصناعية بالتخلي عن مسؤوليتها عن معاناة الأطفال في أجزاء أخرى من العالم" ؛  نحن على وشك التضحية بحضارتنا من أجل فرصة عدد قليل جداً من الناس لكسب مبالغ هائلة من المال…  إنها معاناة السواد الأعظم الذين يدفعون ثمن رفاهية القلة".

لقد كان حشد شباب العالم من قبل أيام الجمعة من أجل المستقبل أمراً استثنائياً.  وفقا لتقاريرها الخاصة، فقد جمعت 17 مليون مُضرِب في 8600 موقع، على الرغم من أن الرقم الحقيقي يُفترض أنه أصغر إلى حد ما، حيث شارك الكثيرون أكثر من مرة.  كانت أكبر الحركات في ألمانيا (3،772،071 مشاركاً) وإيطاليا (1،687،554) وفرنسا (1،450،105) وكندا (1،137،803).  كما تم تسجيل أكثر من 100،000 مشارك في أستراليا والنمسا ونيوزيلندا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة.  تتركز الأرقام بشكل كبير في أوروبا الغربية وهيمنة بريطانيا البيضاء السابقة ، لكن 30،476 شاركوا في بولندا، و 26،515 في تشيلي، و 13،017 في الهند، و 8،060 في جنوب إفريقيا.  كان هناك أيضا 90 مشاركاً في بوركينا فاسو، 5 في بوروندي، 1،946 في كينيا، 15،000 في بيرو، 156 في تايلاند، 1،000 في الصين، 2،000 في إيران، 2 في المملكة العربية السعودية، وواحد في فيتنام.  لكن بعد إعلان عام 2019، قاطع الوباء ديناميكية "أيام الجمعة من أجل المستقبل". ويبقى أن نرى مدى إمكانية استعادته.

اشتراكيات العالم الجديد: في غضون عقد من الانهيار الداخلي للاتحاد السوفيتي، ظهرت براعم اشتراكية جديدة في أمريكا اللاتينية، وسط موجات من الاحتجاج الشعبي ضد الرأسمالية القائمة بالفعل.  انتخب هوغو شافيز عام 1998، وانتخب لولا عام 2002. وفي عام 2005، فاز إيفو موراليس بأغلبية ساحقة في الانتخابات البوليفية، حيث خاض الانتخابات على أساس برنامج اشتراكي صريح. بعد فترة وجيزة، أعادت فنزويلا انتخاب شافيز ضد معارضة موحدة بنسبة مدوية بلغت 63% من الأصوات، بينما حصل رافائيل كوريا، المدافع الصريح عن "اشتراكية القرن الحادي والعشرين"، على تفويض رئاسي مهم في الإكوادور. كان سياق هذه الإنجازات عبارة عن أزمة اقتصادية مطولة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، نتجت عن انخفاض أسعار السلع التصديرية وارتفاع الفائدة على الديون الخارجية، بفضل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وعلى رأسها إجراءات التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي والتي عصف بالطبقات الشعبية. كان النظام السياسي في هذه البلدان قد انهار بالكامل بعد أن اختارت الأحزاب المؤسسة تمثيل صندوق النقد الدولي بدلاً من مواطنيها. انهارت الأحزاب المهيمنة في فنزويلا، وفقد حزب يسار الوسط Acción Democrática مصداقيته تماماً بعد أن سمح رئيسه الأخير للجيش بقتل المتظاهرين في كاراكاس في عام 1989. وفي الوقت نفسه، عانت الأرجنتين من انهيار اقتصادي دراماتيكي دفع الرئيس الحالي إلى الفرار بطائرة هليكوبتر، ولكن انبعث  التقليد البيروني الدائم والمتعدد الأوجه، وأعاد تنشيطه شخص من داخل التقليد، حاكم باتاغونيا نيستور كيرشنر. كانت إنجازات هذه الحكومات الاشتراكية متواضعة ولكنها ليست ضئيلة. استخدمت عائدات تصدير السلع الأساسية المتزايدة للإنفاق على البنية التحتية والبرامج الاجتماعية والحد من الفقر، على نطاق واسع حسب المعايير الإقليمية. كانت بوليفيا هي الأكثر نجاحًا، حيث نفذت تدابير غير عادية لإعادة توزيع الثروة مع الحفاظ إلى حد كبير على النمو الاقتصادي أعلى من 4% منذ انتخاب موراليس في عام 2006 حتى الوباء.

goran-thourbon

منذ وفاة شافيز في عام 2013 والانهيار الهائل للاقتصاد البترولي الفنزويلي، حيث انخفض سعر النفط من 120 دولارا في منتصف عام 2014 إلى 30 دولارا في نهاية عام 2015، مع تشديد العقوبات الأميركية على التجارة، تم استخدام الرئيس السابق باعتباره  شخصية تشبه الفزاعة لتخويف الناخبين المترددين في أميركا اللاتينية وخارجها. مع ذلك، كانت كارثة فنزويلا الاقتصادية ظاهرة ما بعد شافيزية. عندما تم انتخابه لأول مرة في عام 1998، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في فنزويلا يمثل 72% من الناتج المحلي الإجمالي للفرد في المكسيك. بحلول عام 2013 ، كانت 116%.  على الرغم من كل عيوبه النرجسية وميوله الاستبدادية، كان شافيز سياسياً شعبياً ورجل دولة مبدعاً: شخصية "أكبر من الحياة" (كما يشير التعبير الغامض) لليسار في أوائل القرن الحادي والعشرين. بصفته أحد المعجبين ببوليفار، كان من الأميركيين اللاتينيين المتحمسين الذين ربما اشتهروا بـ"البديل البوليفاري" لمنطقة التجارة الحرة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، في حين قدم تحالفه البتروكاريبي النفط المدعوم لبلدان الكاريبي.  تمكن مشروعه celac، للمجتمع الحكومي الدولي لدول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، الذي أُطلق في عام 2010، من الجمع بين مجموعة ثلاثية رائعة من قادة أمريكا اللاتينية: الجناح اليميني سيباستيان بينيرا وشافيز نفسه، ومن يستعد لخلافتهم ، راؤول كاسترو.

لم تكن "اشتراكية القرن الحادي والعشرين" في أميركا اللاتينية بداية نهاية الرأسمالية. لكنها ساهمت بأفكار وممارسات نضالية جديدة، بما في ذلك مشاريع شافيز الديمقراطية المحلية، حيث تمكنت المجتمعات من انتخاب مجالسها الخاصة، والتي ظلت مسؤولة بالكامل أمام السكان المحليين. قاموا بدورهم بتشكيل مجتمعات عملت على تطوير الإنتاج والخدمات التعاونية، وخلق سلع وقيم استعمالية مشتركة.  للحصول على اعتراف الحكومة والوصول إلى الأموال العامة المخصصة بشكل خاص، يجب على الكوميونات الالتزام ببناء الاشتراكية.  في عام 2013، أدرج تعداد رسمي 1400 كوميونة من هذا النوع، على الرغم من أن الغالبية كانت لا تزال "قيد الإنشاء". فُرض المشروع المجتمعي من أعلى، بطريقة مشكوك فيها قانوناً - بناءً على مسودة تعديل دستوري كانت قد خسرتْ بفارق ضئيل في استفتاء سابق. لم يكن المشروع مرتبطاً عضوياً بالطفرة التلقائية لتنظيم المجتمع المحلي خلال الفترة الرئاسية الأولى لشافيز. لكن بعد تجريده من سماته الحزبية والبراغماتية، كان المشروع مساهمة مبتكرة في الاشتراكية.  كانت الكوميونات جزءًا من برنامج أكبر لإنشاء دولة ودولة اشتراكية موازية. في عهد شافيز، عُهد بالسياسات التعليمية والاجتماعية والصحية التوسعية إلى "بعثات" خارج البيروقراطية، يعمل بها إلى حد كبير الكوبيون - وتعتبر أكثر التزاماّ من المهنيين المتميزين في الدولة الريعية. بعد الانقلاب الفاشل ضد تشافيز عام 2002، جرى تطهير الجيش والقوى القمعية الأخرى بنجاح، ما مكنها من الصمود في وجه المحاولات المحمومة للبرجوازية الفنزويلية ورعاتها الأميركيين للتحريض على انقلاب عسكري جديد.

الجزء الأكبر من المتظاهرين ضد الليبرالية الجديدة ليسوا أجزاء رئيسية من الاقتصاد النيوليبرالي، بل هم أشخاص خارجه تعرضت حياتهم للغزو والتضررفضل أوراليس وجماعته "الاشتراكية المجتمعية" على "اشتراكية القرن الحادي والعشرين". في بوليفيا، يزخر "المجتمع" بالمعنى الثقافي الملموس. كان الاشتراكيون البوليفيون يعملون على السؤال الذي استوعب سنوات ماركس الأخيرة: هل هناك أي شيء ذي قيمة للاشتراكية في مجتمعات وثقافات ما قبل الرأسمالية؟ جوابهم نعم.  إن "اشتراكيتهم المجتمعية" متجذرة في Andean ayllu أيلو الأنديز الأصلي. كما أشار نائب رئيس بوليفيا الحالي ديفيد تشوكيهوانكا، "لقد حكمنا أنفسنا في مجتمعاتنا على الدوام. وهذا هو السبب في أننا نحافظ على عاداتنا، ونؤدي موسيقانا، ونتحدث لغة الأيمارا الخاصة بنا. هذا هو السبب في أننا ندرج في الاشتراكية شيئاً ما قاومته منذ 500 عام - العنصر المجتمعي. ويستطرد لربط هذا بالأشكال الحديثة من التنظيم الاجتماعي: " في بوليفيا يجب أن يكون هناك حوالي عشرة آلاف مجتمع، وفي كل مجتمع  هناك نقابة  فلاحي campesino.

قام اليسار الإنديزي في أوائل القرن الحادي والعشرين بتطعيم التفسيرات والتطورات للمفاهيم الهندية القديمة على الشجرة الحديثة للاشتراكية، كجزء من النقد الحضاري للرأسمالية وبديل لها. تم دمج مفاهيم الأيمارا عن سوما كامانا، والتي تُرجمت تقريباً إلى الإسبانية على أنها bien vivir أو "العيش بشكل جيد"، في الدساتير الجديدة وخطط التنمية في بوليفيا والإكوادور. كانت مفاهيمهم الأساسية هي احترام الطبيعة وPachamama، أي أمنا الأرض، بالإضافة إلى الملكية الجماعية للموارد الطبيعية، والمعاملة بالمثل والتضامن الاجتماعي.  في أحد التفسيرات البوليفية المؤثرة، تناقض bien vivir مع عقيدة vivir mejor، "العيش الأفضل"، المرتبطة بالأنانية والفردية والربح.  بشكل نموذجي حديث، استجابت هذه الإضافات الجديدة للخطاب الاشتراكي لنهضة ثقافية هندية قوية في مناطق الأنديز، وبشكل أكثر عمومية لعودة ظهور السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم. لقد تنبأت بذلك حركة زاباتيستا في جنوب المكسيك، حيث تم إطلاق الدفاع عن أميركا الأصلية بالتزامن مع صفقة نافتا التي فرضتها الولايات المتحدة.  ولكن على الرغم من أن حكومتي موراليس وكوريا كانتا جادتين بلا شك في احترامهما لأمنا الأرض، إلا أنهما لم يقتنعا بالأفكار الشمالية حول تراجع النمو، والتزموا بالتنمية الاقتصادية لبلدانهم الفقيرة، والتي اعتمدت إلى حد كبير على استخراج النفط والغاز وغيرهما من الموارد المعدنية. أدى ذلك إلى صراعات خطيرة، ليس فقط مع المعارضة البرجوازية، ولكن أيضا داخل الائتلافات الحاكمة غير المتجانسة ومع بعض المجتمعات الأصلية على وجه الخصوص.

أخيراً، بعد أكثر من قرن من محاولة Werner Sombart شرح سبب عدم وجود اشتراكية في الولايات المتحدة (1906)، رفع المرشح الرئاسي المحتمل، بيرني ساندرز ، راية  "الاشتراكية الديمقراطية" في الولايات المتحدة، وفاز بأكثر من 13  مليون صوت. في ذلك العام، وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أن غالبية الأميركيين الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين لديهم وجهة نظر إيجابية عن الاشتراكية، وأن "الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا" قد غمروا فجأة بالأعضاء.  في عام 2019، نشر الاستراتيجي الشاب، بهاسكار سنكارا، البيان الاشتراكي، وأظهر بعد وفاته عالم الاجتماع المخضرم إريك أولين رايت كيف تكون مناهضًا للرأسمالية في القرن الحادي والعشرين.  انتقلت طليعة النظرية الاشتراكية الشعبية إلى أمريكا الشمالية.

أنماط جديدة من السياسة

طور يسار القرن الحادي والعشرين شكلاً جديداً من أشكال الممارسة السياسية. للوقوف على هذا التجديد، نبدأ بمجموعة بسيطة من الثنائيات، عبر مقارنة هذه المستجدات بممارسات القرن الماضي، ثم ننظر إلى مصائر الديمقراطية الاجتماعية في هذه الفترة. كل مقولة من المقولات - القاعدة الاجتماعية، والوسائل، والأسلوب، والاستراتيجية، والمرجعية - تتطلب بعض الشرح والوصف.

goran-thourbon

القاعدة الاجتماعية:  كانت اشتراكية القرن العشرين حركة عمالية.  أدى تراجع التصنيع عن المراكز القديمة للرأسمالية والتوسع المحدود للطبقة العاملة الصناعية في الجنوب العالمي إلى إفراغ المنظور السياسي الكلاسيكي الماركسي من معناه الأصلي. يتحدث اليسار في القرن الحادي والعشرين، في الأغلب، عن   99% أو، في عبارة أكثر تفصيلاً من الناحية النظرية، "الشعب"، على عكس طبقة النخبة المستأثرة بالامتياز والسلطة. "الشعب" هو مفهوم كلاسيكي في الفكر الاجتماعي الأوروبي، مستمد من وصف العوام plebs في الجمهورية الرومانية.  أحياهُ في القرن التاسع عشر النارودنيين الروس والشعبويين الأميركيين، وأدخله في نظرية ما بعد الماركسية كلا من إرنستو لاكلاو وشانتال موف. بالنسبة للمدافعين عن الوضع الراهن، تمثل "الشعبوية" دائماً مصطلحا تحقيريا.  ومع ذلك، في المصطلح الأيسر، فإن "الشعب" لها معنى طبقي واضح وإن كان قابلاً للجدل، وأفضل تعبير عنه في اللغات الرومانسية - على سبيل المثال، الطبقات الشعبية الفرنسية. لكن "الشعب" يشتمل كذلك على كلا الجنسين وغالبا ما يكون متعدد الأعراق.  بدأت ديباجة مشروع الدستور التشيلي الذي اقترحه المؤتمر الدستوري لعام 2022: Nosotras y nosotros, el pueblo de Chile, conformado por diversas naciones [٣٤]

يعتبر چندرة الشعب أمراً مهماً لليسار في القرن الحادي والعشرين، ليس فقط كمسألة خطابية أو سياسية، ولكن كقاعدة اجتماعية.  لقد تُوّج التزام اليسار طويل الأجل بتحرير المرأة - وإن كان إلتزاماً غير منتظم - بميل المرأة لأن تكون يسارية أكثر من الرجل. وقد اشتمل مفهوم القوميات المتعددة عن الشعب على الاعتراف المتأخر  بالشعوب الأصلية وإعادة الاعتبار إليهم، التي لعبت دوراً نضالياً حاسما في الغابات الشيلية.

الوسائل:  كانت عبارة "تنظيم!" عبارة عن لازمة مستمرة وسط نشطاء الطبقة العاملة وفي اللغة الإنجليزية، فإن "العمل المنظم" له معنى اجتماعي وسياسي مميز. التنظيم الجماعي والتضامن والانضباط هي الموارد الوحيدة التي يمكن للعمال حشدها ضد رأس المال ووسائل الإعلام والشرطة. تقليديا، كان يُعتقد أن السلطة السياسية للطبقة العاملة تتطلب حزبا قويا من الطبقة العاملة. في هذه النقطة كان هناك اتفاق كامل بين الاشتراكيين الديمقراطيين والشيوعيين.  يعد التنظيم الجماعي أكثر صعوبة في حقبة ما بعد الصناعة، ولكن في القرن الرقمي تختلف أماكنه.  "التواصل!" يمكن أن يكون كافياً لحشد الجماهير. كان التمييز في القرن العشرين بين الحزب والقاعدة الاستراتيجية والحركة الاجتماعية غير واضح أو تم تجاوزه. لم يبدأ كل من Podemos و La France Insoumise و Cinque Stelle كحركات احتجاجية فحسب، بل إنها احتفظت بهيكلها الفضفاض "المرتبط بالشبكة" كأحزاب انتخابية، تمتلك جذور محلية ضعيفة وإجراءات تصويت تعتمد على الإنترنت، وبدون حدود قاطعة بين الأعضاء وغير الأعضاء. خليفة بابلو إغليسياس كحامل لواء اليسار الإسباني، يولاندا دياز، وزيرة العمل الشيوعية الشعبية، تحاول حالياً توحيد وتنشيط اليسار من خلال إطلاق حملة تسمى Sumar (أو "الخلاصة").  كان التغلغل اليساري الناجح لفترة وجيزة في حزب العمال البريطاني والديمقراطيين الأميركيين لدعم كوربين وساندرز أيضا تعبيراً عن هذه الحركة الجديدة في سياسة الحزب اليساري. ومع ذلك، فإن الشعور الضمني في سياسات ما بعد التنظيم هو الشعور بأن سلطة الدولة لا تزال بعيدة، في تناقض ملحوظ مع سياسات الحركة لعام 1968. كانت انتخابات كوربينستا في عام 2017 أول انتخابات بريطانية في العصر الحديث عندما صوتت أغلبية العمال لصالح حزب المحافظين. من العمل، بنسبة 9 نقاط. في انتخابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لعام 2019، ارتفعت أفضلية حزب المحافظين إلى 21 نقطة.

تحايل اليسار الجديد على معضلة اشتراكية الطبقة العاملة التي تواجه الرأسمالية المالية من خلال مناشدة «الشعب» والديمقراطية الراديكاليةالأساليب: كانت الديمقراطية- الاقتراع والانتخابات والحكومات الخاضعة للمساءلة - هدفاً أساسياً قصير المدى لحركة الطبقة العاملة الأقدم، بدءًا من الشارتيين وما بعد ذلك. تركز النضال في أغلب الأحيان على الحق العالمي في التصويت، والذي من أجله نظمت الحركة العمالية البلجيكية أربعة إضرابات عامة وإضراب واحد للديمقراطية الاشتراكية السويدية، وهُزِمت جميعها، مثل الشارتيين، لكنها أرست الأساس لانتصارات مستقبلية. أصبح تعقيد العقبات أمام الحكم الشعبي واضحًا لأول مرة في انتخابات 1848 الفرنسية، وهي الأولى في العالم من حيث الاقتراع العام للذكور والمشاركة الجماعية. اصطف الناخبون بعد القداس وساروا إلى مكاتب الاقتراع، بقيادة كاهن محلي أو رئيس البلدية أو قاضي السلام أو قائد الحرس الوطني. شارك عدد قليل من عمال المدن، ولكن لم يقم فلاح واحد بالانتخاب.

ظل نقد "الديمقراطية البرجوازية" القائمة بالفعل عنصراً أساسياً في النظرية السياسية الماركسية- التي أكدها مؤخرًا بحث تجريبي دقيق قام به علماء السياسة. وأصبحت أوجه القصور الديمقراطية في ظل الإدارة النيوليبرالية هدفا للنقد اليساري الأوسع.

ينطلق القرن الحادي والعشرين من تبني غير مشروط للديمقراطية. لخص بابلو إغليسياس رؤيته السياسية على النحو التالي: "باختصار، نريد مجتمعاً عادلا لتوفير الأسس المادية للكرامة والسعادة. هذه الأهداف المتواضعة، التي تبدو راديكالية للغاية اليوم، هي ما تدور حوله الديمقراطية وهذا يتوافق بوضوح مع الشعارات الرئيسية للإنديجنادو الإسباني في الشوارع والساحات: "ديمقراطية حقيقية الآن!". كان لمؤسسي بوديموس كذلك خبرة مباشرة مع اليسار في أميركا اللاتينية، وخاصة في الإكوادور وبوليفيا، الذين أفادا من تجربتهما في القرن العشرين دروسا صعبة في التمييز بين الديمقراطية البرجوازية والديكتاتورية البرجوازية. تبنت الحركات الجديدة لهذا القرن ديمقراطية تداولية وتشاركية (وإن كانت رقمية بشكل أساسي)، وعادة ما ترفض هياكل التمثيل والقيادة، وغالباً ما تحبط المحاولات الرسمية للتفاوض والاستقطاب. على مستوى النظرية السياسية، يذهب لاكلو وموف إلى أبعد من ذلك، ويقترحان استبدال الاشتراكية بـ "ديمقراطية راديكالية وتعددية. وفي هذا الصدد، وضع شافيز تمييزا جليا آخر:

الحديث عن ثورة ديمقراطية وديمقراطية ثورية ليس نفس الشيء. المفهوم الأول له لجام مثل الحصان: ثوري، لكن ديمقراطي. إنه لجام محافظ.  المفهوم الآخر تحرري، يشبه الإطلاق disparo، كحصان بلا لجام: ديمقراطية ثورية، ديمقراطية للثورة.

الإستراتيجية: كان يسار القرن العشرين برنامجيا واستراتيجيا. كان له هدف واضح، وهو مجتمع اشتراكي أو شيوعي، واستراتيجية واضحة لتحقيقه، وعادة ما كان يتم تحديده في برنامج الحزب "الطريق إلى الاشتراكية". إن النظرة المستقبلية الخاصة باليسار في القرن الحادي والعشرين أكثر تواضعا. عبّر إيغليسياس عن ذلك بصراحة في عام 2014: "الاستراتيجية اشتراكية… تطرح مشاكل هائلة بالمعنى السياسي العملي… نحن لا نعارض استراتيجية الانتقال إلى الاشتراكية، لكننا أكثر تواضعا ونتبنى نهجا كينزا جديدا". في بيانه الانتخابي لعام 2022، حدد جان لوك ميلينشون مشروعه بأنه "بناء مجتمع التعاون المتبادل، يهدف إلى الانسجام بين البشر والطبيعة".

من الواضح أن هذا يشكل خطوة إلى الوراء خلف الاقتصاد الاجتماعي الليبرالي والحقول الإليزية الضبابية تشكل اعترافا بهزائم واستنفاد القرن العشرين. ومع ذلك، فهو لا يمثل قبولا بالتبعية للنظام الرأسمالي- يسارًا جديدًا في باد جودسبرج، يضفي الطابع الرسمي على استسلام الديمقراطية الاشتراكية الألمانية للسوق. يؤسس اليسار في القرن الحادي والعشرين راديكاليته على معارضة قطعية للحاضر، بدلاً من هدف طويل الأمد أو خارطة طريق للمستقبل. يرفض قبول اتفاقيات الطبقة الحاكمة، ويظل منتصب الهامة - أبيّ- في وجه طاغوت الاقتصاد النيوليبرالي.

الممارسات:  لقد توسعت ممارسات السياسة اليسارية إلى ما وراء تقاليد السياسة الانتخابية والمظاهرات الجماهيرية. ألهم الربيع العربي لعام 2011 حركات واسعة تطالب بالمساحة الحضرية العامة، وتؤسس أكامبادا، أو مواقع المعسكرات الحضرية، من ميدان التحرير عبر مدريد وبرشلونة إلى حديقة زوكوتي. وضعت حركات السكان الأصليين في جبال الأنديز حواجز على الطرق، كما استخدمها الأرجنتيني بيكيتيروس، والسترات الصفراء الفرنسية، ومزارعو البنجاب.  استمرت المقاطعات الاستهلاكية لمستغلي العالم الثالث وحملات سحب الاستثمارات من الوقود الأحفوري في ممارسات الحركة المناهضة للفصل العنصري في أواخر القرن العشرين. تعبئة طلاب المدارس الثانوية هي ظاهرة جديدة أخرى. كشكل من أشكال الحركة الاحتجاجية الجماهيرية ظهرت في تشيلي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مناهضة رسملة التعليم.  تطور هذا لاحقا إلى حركة أوسع لطلاب الجامعات، ومنهم غابرييل بوريك، انتخب رئيسا في ديسمبر 2021. في حركة المناخ ، أصبح تلاميذ المدارس ومظاهرات يوم الجمعة من أجل المستقبل، على الأقل لبعض الوقت، الطليعة العالمية.

أصبحت الانتفاضات المدينية، التي تتحدى للحكومات وأحيانا تطيح بها، جزءًا من ممارسة السياسة اليسارية في القرن الحادي والعشرين.  بدأ هذا في بوينس آيرس في عام 2001، حيث أجبروا الرئيس الليبرالي على الهرب جواً، واستمر في لاباز في عام 2003. طردت تونس والقاهرة طاغيتيهما في عام 2011، وطردت الخرطوم ديكتاتورها في عام 2018، وفي عام 2022 قام متظاهرون في كولومبو بطرد راجاباكسامن منصبه. فشلت انتفاضة القمصان الحمر في بانكوك عام 2010، لكنها مع ذلك شكلت تحديا خطيرا قوبل بقمع مميت. في عام 2019، كانت سانتياغو دي تشيلي على وشك اندلاع انتفاضة مدينية ؛  أطلق عليها الرئيس المحافظ اسم "الحرب" واستدعى الجيش. واجه النظام الاستبدادي في الجزائر أيضا تحديا خطيرًا في العام نفسه من حركة الحراك، التي أزاحت عن منصب الرئيس بوتفليقة المحنط، و ليس النظام نفسه.  يجب التمييز بين هذه الانتفاضات والثورات، حيث لا توجد خطة استراتيجية أو تنظيمية للاستيلاء على السلطة. كانت هذه حركات احتجاجية سعت إلى التخلص من السياسات والسياسيين، لكنها لم تقدم أي برنامج بديل للحكومة.  يمكن للمتظاهرين في بوينس آيرس أن يطالبوا ‘Que se vayan todos!’  "يجب أن يذهبوا جميعا!" - ولكن السؤال "ثم ماذا بعد؟" تُرك دون إجابة.  أعنف انتفاضة نشبت في بوليفيا في عام 2003، حيث أطاح فلاحو الأيمارا وعمال المناجم والباعة الجائلون والطلاب بالرئيس النيوليبرالي احتجاجا على سوء إدارته لثروة الغاز الجديدة في البلاد، وانتهت برحلته إلى ميامي - وعندها عاد المتظاهرون المنتصرون إلى البيت.  يتبع ذلك فترة خلو العرش لمدة عامين تحت قيادة نائب الرئيس؛  بعد استقالته القسرية، تمت الدعوة لانتخابات وانتخب إيفو موراليس.  في بعض الأحيان قامت القوى  السياسية المنظمة بملء الفراغ، كما هو الحال في الأرجنتين مع اليسار البيروني. وفي حالات أخرى، شغل الفراغ السياسي مجموعات سرية سابقا، كما هو الحال في مصر مع جماعة الإخوان المسلمين. وفي حالات ثالثة يُملأ الفراغ بمؤسسة معاد تدويرها، كما هو الحال في الجزائر المعاصرة وسريلانكا. في كل حالة، كانت الثغرة الكبرى لليسار هي رؤية القوة التحويلية أو استراتيجية للفوز بها. ربما يكون هذا هو الاختلاف الأكثر أهمية مع اليسار في القرن العشرين، الإصلاحي والثوري على حد سواء.  حتى الاستثناءات التي فكرت في مثل هذه الأمور وصلت إليها عشوائياً. جاء اهتمام شافيز بالاشتراكية فقط بعد انتخابه للمنصب.  كان موراليس وماس محظوظين لأن انتفاضة عام 2003 فتحت مساحة ديمقراطية سيشغلونها بعد الانتخابات التي تلت ذلك بعامين.

سقوط وصعود الاشتراكية الديموقراطية: أخيراً، لا يمكن لأي مناقشة جادة لليسار أن تتجاهل مصائر الاشتراكية الديمقراطية. لاحظنا أعلاه كيف انتهت الأزمات المزدوجة للرأسمالية الصناعية الشمالية والديمقراطية الاجتماعية لدولة الرفاه بانتصار العولمة الليبرالية الجديدة. ومع ذلك، أظهرت الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية تناغما  مع الليبرالية الجديدة عندما استعادت مركزها في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كان هذا هو عصر "الطريق الثالث"، التكيف الاجتماعي الديمقراطي الجديد للطبقة الوسطى مع الرأسمالية ما بعد الصناعية، والذي يقدم الليبرالية الجديدة "بوجه إنساني". بعد أكثر من عقد بقليل، انتهت هذه الحلقة. منذ ذلك الحين، تم تهميش الديمقراطية الاجتماعية في وسط وشرق أوروبا، باستثناء ألبانيا ومقدونيا الشمالية، ودخلت معظم المتغيرات الغربية في فترة مضطربة. في أوروبا الشرقية، تماشياً مع التزامات الطريق الثالث، كانت المساهمة الرئيسية للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية منذ التسعينيات هي تسهيل انضمام بلادهم إلى الناتو والاتحاد الأوروبي.  كما غرس مفكرو الطريق الثالث وجهة النظر القائلة بأن دول الرفاه هي مؤسسات "غير ديمقراطية في الأساس"، مسترشدة بـ "هوس عدم المساواة" الضال. كانت الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية طفيفة، وكان ينظر إليها عموما على أنها سلبية. كانت النتيجة أن الاهتمامات الاجتماعية عولجت بنجاح بواسطة اليمين القومي المحافظ، بشكل أكثر فاعلية في المجر وبولندا. لقد كلف عدم التوازن بين الالتزامات الخارجية والداخلية الديمقراطيين الاجتماعيين ثمناً باهظاً. كما تورط العديد من المنتمين إليهم في فضائح فساد على أعلى مستوى. لا يزال النظام الانتخابي النسبي يحمل في طياته احتمالات لشغل مناصب وزارية لبعض الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الشرقية، لكن فرصتهم التاريخية لسن الإصلاح الاجتماعي وبناء دولة الرفاه قد ضاعت، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى مرشديهم الغربيين.

لم تكن "اشتراكية القرن الحادي والعشرين" في أميركا اللاتينية بداية نهاية الرأسمالية. لكنها ساهمت بأفكار وممارسات نضالية جديدةظلت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الغربية الرئيسية في الغالب قوى حاسمة، حتى عندما أهدرت التقدم الانتخابي الذي حققته في القرن العشرين. يقودون في الوقت الحالي الائتلافات الحاكمة في ألمانيا وثلاثة بلدان في الشمال (أربعة حتى انتخابات سبتمبر 2022 في السويد).  في الأنظمة البرلمانية المتعددة الأحزاب، يمكن أن تمنحه نسبة 20-30% من الأصوات لحزب ديمقراطي اجتماعي مكانة محورية في السياسات الائتلافية.  ومع ذلك، فإن الديمقراطية الاجتماعية الغربية ليست محصنة ضد التهميش أو حتى الاندثار التام.  لقد ماتت psi الإيطالية تقريبًا؛ والحزب الاشتراكي الفرنسي يحتضر، بعد فوزه بنسبة 1.75% فقط من الأصوات في الانتخابات الرئاسية لعام 2022 (على الرغم من أنه قد يولد من جديد بشكل ما)؛  اندحر الباسوك اليوناني وهو يختبئ الآن تحت اسم آخر ؛ لقد تجاوز اليسار حزب العمال الهولندي. سوف تستفيد حركة الأنجلو العمالية في النهاية، في ظل نظام حزب وستمنستر، من "دور بوجينز".  لا تزال الاشتراكية الدولية قائمة وتتوفر على 81 حزباً منتسباً، على الرغم من انقسامها في عام 2013 عندما انفصل جوهرها التاريخي - الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، انفصل الحزبان الاسكندنافي والهولندي وحزب العمال الجديد لتشكيل تحالف تقدمي، مغازلة لنا نحن الديمقراطيين والليبراليين الكنديين.

والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن "الديمقراطية الاجتماعية" تلخص بشكل تقريبي المحتوى الاجتماعي للاحتجاجات وسياسات الحركة في يسار القرن الحادي والعشرين.  تضمنت مطالبهم الاجتماعية الصحة العامة والتعليم العام المجاني والخدمات الاجتماعية المدنية والحقوق الديمقراطية - أي الأولويات الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية، التي أضيفت إليها حقوق الهوية والنزعة البيئية. احتجت الحركات المناهضة للتقشف في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من اليونان وإسبانيا إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة، على تفكيك البنية التحتية الديمقراطية الاجتماعية. لاحظ إغليسياس بحق أن أهداف حزبه "كانت ستظل غير ملحوظة لأي تجمع ديمقراطي اجتماعي قبل ثلاثين أو أربعين عاماً. البرنامج الانتخابي لعام 2022 لـ La France Insoumise، L’Avenir en commun، أكثر راديكالية، متجاوزاً حتى الديمقراطية الاجتماعية الستينيات، لكن أهدافه التعاونية قد صيغت بعناية لتجنب أي إشارة إلى الاشتراكية.

بالإمكان تحديد نهجين ديمقراطيين اجتماعيين آخرين ليسار اليوم. أحدهما يمثله الزعيمة الجديدة لحزب اليسار السويدي، نوشي دادجوستار، المولودة في السويد لأبوين إيرانيين تقدميين من اللاجئين، والتي ركزت طاقاتها على المطالبة بإرث الديمقراطية الاجتماعية السويدية بعد الحرب العالمية الثانية لحزبها، بينما تنأى بنفسها عن جذورها الشيوعية. على الرغم من أنها قد تشكلت  أيديولوجيا في جناح الشباب الراديكالي بالحزب، إلا أنها تبدو الآن ديمقراطية اجتماعية إلى درجة نسيان ذلك تماما. عندما سُئلت خلال مقابلة تلفزيونية عن التزام حزبها المعلن بـ "مجتمع لا طبقي" و "إلغاء الرأسمالية"، لبثتْ عاجزة تماما عن الكلام، ويبدو أنها غير قادرة على توضيح التمييز بين المفاهيم الماركسية والستالينية للشيوعية. وفي المقابل، تهربت من السؤال وأكدت التزامها بدولة الرفاه وحقوق الإنسان.

قائمة الوحدة الدنماركية ذات اللونين الأحمر والأخضر، والتي تجمع بين مختلف بقايا اليسار المتطرف في القرن العشرين، تمتلك علاقة مختلفة تماما بالديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية. برزت قائمة الوحدة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وسط نظام حزبي شديد التجزئة. يحوم دعمه حول 6-7% على الصعيد الوطني، لكنه كان أكبر حزب في كوبنهاغن في الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث فاز بنحو 20%.  مفكرها الرئيسي، النائب السابق بيلي دراغستيد، نشر اشتراكية نورديسك العام الماضي، والذي يجادل بأن قائمة الوحدة هي الوريث الشرعي للديمقراطية الاجتماعية الاسكندنافية ويحدد قائمة من "الإصلاحات الهيكلية" الملموسة التي من شأنها أن تضع البلاد على الطريق إلى  الاشتراكية الديمقراطية الاسكندنافية تقارن مقترحات دراغستيد بشكل جيد مع Mélenchon's L’Avenir en commun، ويمكن القول أنها تتمتع بمزيد من التماسك السياسي.

وعلى هذا النحو، فإن الدمقرطة الاشتراكية لليسار في القرن الحادي والعشرين تتخذ أشكالا مختلفة، مع تأثيرات أيديولوجية مميزة. إيغليسياس وميلينشون هما استراتيجيان تكتيكيان يتمتعان بتعليم ماركسي، ويبحثان عن طرق جديدة للتدخل في مشهد سياسي متحجر، يحالفهما بعض النجاح.  إن إستراتيجيتهم الانفصالية تمثل تعبيرا نموذجيا للنوع الجديد من السياسات في القرن الحادي والعشرين، ومختلفة عن إستراتيجية الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية، حتى لو كانت تتقاسم بعضا من محتواها البرنامجي؛  في حين أن قائمة الوحدة وحزب اليسار كلاهما طفرات لأحزاب القرن العشرين التقليدية.  علاوة على ذلك ، فإن أمثلة Dragsted و Dadgostar تشير في اتجاهين متعاكسين - نحو طريقة مبتكرة للخروج من النظام الحالي.  وكما تراجع جيل 1968 عن تقاليد التنظيم الشيوعي، سعى متظاهرو 2010 للحصول على إجابات للسياسة الديمقراطية الاجتماعية.  من الواضح أن نتيجة الأول كانت سلبية ؛  وأن الأخيرة لم تتقرر بعد.

كشف الحساب والتحديات

نحن الآن في نهاية بداية القرن الحادي والعشرين، ووصلنا للتو إلى ربعه الأول. ما الميزانية العمومية الأولية لليسار الجديد التي يمكن رسمها؟  لقد شهدنا استجابته لموجة العولمة الرأسمالية التي بدأت حوالي عام 1980 وتوشك الآن على الانتهاء. في أشكال مبتكرة، قام اليسار الجديد بتحديث إرث القرن العشرين وفتح أراضٍ جديدة، متخطيا موت الديالكتيك العظيم وهزيمة الثورات الكبرى. لقد دفع بمسائل عدم المساواة وآفاق التمرد الشعبي إلى الاقتصاد السائد والعلوم السياسية، إلى جدول أعمال الرؤساء في دافوس.  فقد وجهت موارد جديدة إلى فقراء البرازيل وبدأت في الحد من عدم المساواة عبر أميركا اللاتينية. لقد ترجمت مطالبها المتعلقة بالنشاط المناخي إلى تعهدات من السياسيين العالميين.  أطاح الربيع العربي بدكتاتوريين وألهم حركة "احتلوا" وراء المحيط الأطلسي. كما فتح اليسار في أوائل القرن الحادي والعشرين المجال أمام ظهور الأجيال الراديكالية الجديدة، وأعاد "الاشتراكية الديمقراطية" إلى المعجم الغربي. لقد وسع المعايير الأيديولوجية في عدد من البلدان وأرسى الأسس للسياسة التقدمية، وفتح المناقشات حول معنى الاشتراكية وآفاق التغلب على الرأسمالية - على الرغم من أن مناقشة ذلك يجب أن تنتظر يوما آخر.

ومع ذلك، فإن معظم الأمثلة المذكورة أعلاه من أوروبا الغربية والأمريكتين. على الرغم من الأهمية المؤقتة للربيع العربي، إلا أن القرن الحادي والعشرين لم يبدأ بشكل جيد بالنسبة لليسار الأفرو آسيوي. خلق سقوط نظام سوهارتو القاتل في إندونيسيا في عام 1998 انفتاحا سياسيا ولكن ليس لليسار، واستمر الاقتصاد في التحرك في اتجاه اللامساواة، على الرغم من أنه كان أقل حدة مما جرى في الهند وتايلاند والفلبين. فشلت محاولات تشكيل أو إعادة تجميع أحزاب عمالية في نيجيريا وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية حتى الآن. لقد جرى إضعاف "اليساريين القدامى" في الهند واليابان، الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين، ولم يظهر الكثير من اليساريين الجدد، حتى بالمعنى الواسع للغاية. لكن هناك مقاومة اجتماعية، أحيانا على نطاق واسع، كما هو الحال في الهند وإندونيسيا، حيث كانت هناك بعض التطورات الملهمة، مثل ظهور جيل جديد للتطرف الطلابي في تايلاند، وسياسات التحالف الطبقي الاستثنائية في دلهي.

لا بد لشخص من جيل 1968 أن يحيي يسار القرن الحادي والعشرين باحترام. في الوقت نفسه، نحتاج إلى الاعتراف بأنه لا يزال أمامنا طريق طويل لتحقيق أهدافه. لقد ثبت  أن اليسار غير قادر بشكل مأساوي على وقف "الحرب على الإرهاب" والدمار الذي أحدثته في غرب آسيا وشمال إفريقيا - مما أسفر عن مقتل 800 ألف شخص، 335000 منهم من المدنيين، دون احتساب الصومال والساحل.  لقيام ما لا يقل عن ثلاث دول ثورية دائمة، الصين وفيتنام وكوبا، بالإضافة إلى جنوب إفريقيا الديمقراطية ما بعد العنصرية وعشرات الدول التي انتهى استعمارها ودول الرفاه الإصلاحية. حتى الآن، لم يكن لليسار في القرن الحادي والعشرين سوى القليل من الإنجازات المؤسسية القابلة للحياة - دولة بوليفيا متعددة القوميات المجتمعية هي الاستثناء الأكثر أهمية - على الرغم من أن القرن لا يزال أمامه أفق طويل.

يتحدث اليسار في القرن الحادي والعشرين، في الأغلب، عن   99% أو، في عبارة أكثر تفصيلاً من الناحية النظرية، "الشعب"، على عكس طبقة النخبة المستأثرة بالامتياز والسلطةبالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة تشكيل اليسار الجديد للمشهد السياسي في شمال الأطلسي تبدو محدودة وهشة مقارنة مع تأثير صعود القومية الشعبية وكراهية الأجانب. غزا ترامب والترامبية الكثير من الحزب الجمهوري، في حين أن DSA لا يزال يمثل تيار أقلية بين الديمقراطيين ؛  أوقف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حزب العمال وحفز اليمين. أصبحت أحزاب اليمين المتطرف التي كانت هامشية ذات يوم شركاء حكوميين برجوازيين محترمين في إسبانيا وإيطاليا ودول الشمال. وأصبحت محترمة، إن لم تكن حكومية، في فرنسا. في الجنوب، تزامن توقف التوظيف الصناعي برفقة تزايد أعداد الشباب العاطلين عن العمل، مع عودة ظهور الدين في شكل الأصولية الرجعية: مسيحية إنجيلية في البرازيل، هندوتفا في الهند، إسلاموية في العالم الإسلامي.

يبدو أن تزامن ثلاثة عوامل سياقية كان مؤثرا هنا. أحدهما هو إنحسار التصنيع، مع بطالة، وانحدار اجتماعي صوب الطبقات الدنيا، وتشرذم، وتهميش معاقل الطبقة العاملة، وكلها تعززها الليبرالية الجديدة الحاكمة. ثانياً، الهجرة على نطاق واسع إلى الولايات المتحدة، مدفوعة بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية في أميركا اللاتينية، وإلى أوروبا، مدفوعة بفجوة الفقر المتزايدة مع إفريقيا التابعة والتخريب الذي تقوده الولايات المتحدة في مناطقها الغربية والشمالية. خلقت هذه الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تجمعات كبيرة للغضب الشعبي. ثالثاً، تزامن ذلك مع وهن أو تخاذل اليسار واليسار الوسطي ، حيث كانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية للطبقة العاملة تتآكل بسبب تراجع التصنيع وانهيار الكتلة السوفيتية. تخلى الطريق الثالث عن الأطراف الجريحة، "الخاسرة" من العولمة، ولكن أهمله أيضا الكثير من اليسار الجديد في القرن الحادي والعشرين، المدني والمتعلم، «البديل» بدلاً من المناهض للعولمة. انفتح فضاء اجتماعي جديد شاغر سياسيًا؛  شغله رجال الأعمال السياسيون الحاذقون، برسالة اليمين المتطرف.  تشكلت كتلة يمينية هائلة من خلال التقارب بين هؤلاء اللاعبين الجدد والأحزاب البرجوازية التقليدية.  في شمال الكرة الأرضية، كانت هذه نهاية كئيبة لبداية مشرقة.

بالنظر إلى المستقبل، ستواجه البشرية ثلاثة تحديات رئيسية في الفترة المتبقية من هذا القرن.  

أولاً، هناك مسألة صلاحية الكوكب للسكن، حيث طغت الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الآمال الهشة لمؤتمر cop26. 

ثانياً، تحفز الجيوبوليتيك الإمبراطورية الجديدة مخاطر نشوب حرب عالمية، وتعيدنا إلى صيف عام 1914. والمخاطر هي الهيمنة على العالم: هل ستتمكن السلالة البيضاء المنحدرة من أصول أوروبية من الحفاظ على المكانة البارزة التي احتلتها لأكثر من  نصف ألف عام، مع الأخذ في الاعتبار الثقل الاقتصادي المتزايد لآسيا؟ 

ثالثاً، هناك الإرث المؤسف للعولمة النيوليبرالية، التي لا تزال التفاوتات الهائلة فيها تحرم غالبية البشر من التقدم التكنولوجي والطبي.  (قد يتسبب الذكاء الاصطناعي والأتمتة أيضا في حدوث اضطرابات كبيرة، ولكن هناك القليل من المعرفة الموثوقة حول الشكل الذي قد يرتديه هذا). 

من المستحيل التنبؤ بالكيفية التي سيواجه بها اليسار الجديد التحديات الثلاثة في الوقت الحالي، لكن التوقعات ليست جيدة جداً.

أزمة المناخ: في الحركة المناخية الواسعة، هناك قناعة بأن تجنب كارثة كوكب الأرض يجب أن ينطوي على تحول مجتمعي عميق، بعيدا عن عالم قائم على التراكم الخاص وبإتجاه سياسة الرعاية والتضامن والمساواة. هذا هو أيضاً فهم علماء المناخ، كما صاغته مجموعة عمل IPCC في عام 2021 (في بيان حذفه لاحقاً المشرفين السياسيين للجنة)، "نحن بحاجة إلى تغيير تحولي يعمل على العمليات والسلوكيات على كافة المستويات: الأفراد والمجتمعات  والشركات والمؤسسات والحكومات. يجب أن نعيد تعريف أسلوب حياتنا واستهلاكنا" قد يبدو موضوع نقاش حيوي ومبتكر في أوساط يسار القرن الحادي والعشرين، ليس أقله بين قطبه الإصلاحي، الذي التف حول فكرة الاتفافية الخضراء الجديدة، أو قطب اشتراكي بيئي يهدف إلى تجاوز الرأسمالية. يجب توسيع وتعميق هذا النقاش، مع مراعاة علاقات القوة المعاصرة وكيفية تغييرها.

هناك ما لا يقل عن أربعة وجهات نظر رئيسية بشأن تغير المناخ، والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي. الأول حضاري ومعاد للرأسمالية، يعتمد على نقد الرأسمالية الحديثة التي أنتجت أزمة المناخ من خلال ديناميكياتها الوحشية للتراكم والاستهلاك واستهانتها المدمرة للطبيعة. يقود هذا الرأي حركة نشطاء المناخ المتطرفين، بما في ذلك السكان الأصليون في جميع القارات. إنها تؤكد على الحاجة الملحة للعمل الراديكالي وتسعى جاهدة لتجاوز الرأسمالية وبناء ما بعد التراكم - أو، كما يعتقد البعض، "تراجع النمو" - حضارة موجهة نحو الانسجام مع الطبيعة بدلاً من القيام على حسابها.  هذا التيار بعيد عن أروقة السلطة. لكنه يتمتع بديناميكية ثقافية للأجيال - كما يتضح من الصدى العالمي لأيام الجمعة من أجل المستقبل - والتي قد يكون لها تأثير ثقافي دائم، مثل "68".

يركز المنظور الثاني على الإصلاح الاقتصادي، الذي لخصته الاتفاقية الخضراء الجديدة، التي تشترك في نقاط عدة مع اقتصاديات المساواة الكينزية غير المرنة. يجب أن يكون هذا البرنامج متوافقا مع الديمقراطية الاجتماعية السائدة، ولكن يبدو أنه لا يحظى بتأييد واسع.  سياسيا ّ، قام بتطوير الرؤية أولاً اليسار العمالي البريطاني، ثم الاشتراكيين الديمقراطيين المتحالفين مع DSA.  في كلتا الحالتين، هُزِمَ في صندوق الاقتراع: السياسات الخضراء لبيان حزب العمال لعام 2019 أُهملت بفعل فوز جونسون المدوي، وحظر  التجمع الديمقراطي في مجلس النواب الاتفاقية الخضراء الأميركية الجديدة قبل أن تصل إلى قاعة مجلس الشيوخ. يظل الإصلاح الاقتصادي الأخضر في قلب الأجندة السياسية العالمية، لكن زخمه الاجتماعي قد تبدد. إن حزمة استثمارات الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد الجائحة صديقة للبيئة إلى حد ما ولكنها لا تعبأ بالمساواة الاجتماعية، وسوف تُنفذ في ظل مراقبة فولاذية من جانب اللجنة.

هذه النكسات ليست أسبابا للتخلي عن متابعة أيا من هذين المشروعين. ومع ذلك، من الضروري التوقف عن افتراض أن نهاية العالم هي البديل الوحيد. المسار الثالث هو مسار الرأسمالية الخضراء الوطنية التنافسية أو "الثورة الصناعية الخضراء". جاءت الاستجابات الأكثر فاعلية لأزمة المناخ حتى الآن من خلال الإجراءات المشتركة بين الدول - اتفاقية باريس لعام 2015 وتعهدات جلاسكو لعام 2021، وأظهرت الدولة القومية مركزيتها الدائمة خلال الوباء. تنظر الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الشمالية والألمانية بالفعل إلى تهديد المناخ من خلال عدسة الرأسمالية الوطنية التنافسية في ظل قيود إزالة الأحافير. تنقل التصريحات الحكومية الأخيرة هذه الرسالة: "السوق العالمية للتحول الأخضر تزداد اتساعاً… إنها فرصة كبيرة للأعمال الدنماركية، سوف تُستغل". "نحن نرى أن الطريق إلى عالم خالٍ من ثاني أكسيد الكربون يمثل فرصة كبيرة لنهضة ألمانيا الصناعية. فيما يتعلق بالتخفيف من حدة تغير المناخ، فإن دول الشمال وألمانيا تبلي بلاءً حسناً بشكل نسبي، على الرغم من عدم وجود أي منها على المسار الصحيح المؤدي للتوقف عند درجة 1.5%. لكن يمكن العثور على متغيرات من الرأسمالية الخضراء التنافسية في بلدان أخرى أيضا، حيث يتم تعبئة قوى رأس المال من أجلها. في السويد، نشرت رسالة مفتوحة وقعها 227 رجل أعمال خلال الحملة الانتخابية لعام 2022 بعنوان "السياسيون، توقفوا عن كبح التحول المناخي".

تُوّج التزام اليسار طويل الأجل بتحرير المرأة - وإن كان إلتزاماً غير منتظم - بميل المرأة لأن تكون يسارية أكثر من الرجلرابعاً، هناك خطة لاستخدام أزمة المناخ كترامبولين لتوسيع نطاق الأمولة العالمية. لا يلاحظ هذا كثيرا في الدوائر الخارجية للمستثمرين أو الاقتصاديين الماليين، إلا أن له آثار كبيرة.  سيتطلب التحول الأخضر نفقات ضخمة، وهنا يرى رأس المال المالي العالمي فرصة لاستخدام موارده الفرعونية. بعد مؤتمر cop26، أعلن تحالف غلاسكو المالي من أجل Net Zero أن مديري الأصول المالية الذين يتحكمون في 130 تريليون دولار - ما يعادل 137% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي - قد التزموا شفهيا بخفض انبعاثاتهم إلى  الصفر. كيف سيتم تنفيذ هذا الالتزام، في الممارسة العملية يبقى أن نرى. ومع ذلك، فإن ما هو واضح هو أن رأس المال، الذي يعتمد في الغالب على الولايات المتحدة، يتم الاستفادة منه بشكل كبير في عملية الانتقال؛  حيث يقوم بوضع الخطط المصرفيين الخاصين والبنك الدولي من أجل "التنمية عبر الأمولة"، من خلال تحويل السلع المشتركة إلى "فئة الأصول"، مع إبعاد دور الدولة عن "الحد من مخاطر" الاستثمار الخاص في جميع أنواع "البنية التحتية''، من الموارد الطبيعية إلى التعليم والرعاية الصحية.

وبالطبع، فإن الحديث عن الأعمال التجارية لا يمكن الاعتماد عليه أكثر من الخطاب السياسي.  ذكرت شركة Carbon Tracker، الشريكة لـ ca100 + "أكبر مبادرة لمشاركة المستثمرين في العالم بشأن تغير المناخ''، والتي تضم 700 مستثمر، ومسؤولين عن أصول تزيد عن 68 تريليون دولار، في مارس 2022 أنه لا توجد لدى أي من الشركات التي تركز على عمليات الاستكشاف والإنتاج للنفط والغاز أو توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم والغاز خطط لتخصيص رأس المال تتماشى مع اتفاقية باريس[59]. أعلن صندوق النقد الدولي أن النصف الأول من عام 2021 سجل رقماً قياسياً عالمياً جديداً لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، مدفوعا بالتصنيع وقطاع الطاقة. تؤدي الحروب الاقتصادية الحالية في أوروبا إلى تعليق الالتزامات المتعلقة بالمناخ المتعلقة بالطاقة، بينما يعمل التمويل الغربي للقوات الأوكرانية على تقليل المساحة الاقتصادية المحدودة بالفعل لسياسات المناخ. في حين أن موجات الحر والجفاف وحرائق الغابات والفيضانات والانهيارات الأرضية أصبحت معياراً جديداً، فإن المناخ الجيوسياسي يثير عواصف الاستفزاز والتصعيد وتنامي الكراهية العرقية. تحتاج حركة المناخ اليسارية إلى توسيع منظورها، أكثر من التركيز حصرياً على المدينة الفاضلة ونهاية العالم، للتعامل مع السياق الجيوسياسي وإمكانية التغيير الرأسمالي والحياة الكوكبية شبه المروعة، وإن كانت لا تزال كئيبة.

الجيوبوليتيك: لقد تجاوزت الجيوبوليتيك الإمبريالية العولمة النيوليبرالية. عندما بدأت المؤسسة الأميركية تدرك أن الصين كانت تفوز بلعبة العولمة، غيرت قواعد اللعبة. بدأ هذا الاتجاه في عهد ترامب وتوطد في عهد بايدن. إن التجارة الحرة وحرية حركة رأس المال تتراجع الآن أمام المصالح الوطنية، التي تحميها التعريفات الجمركية وحظر الاستيراد وحظر بعض الاستثمارات الأجنبية وشكل الحرب الاقتصادية المعروف باسم "العقوبات". هذه هي عقيدة أمريكا أولاً، والتي تلح عليها حاليا بواسطة Fortress Europe.  أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تحفيز اتجاه القرن الحادي والعشرين المتمثل في التنافس والصراعات والحروب بين الإمبريالية.  رغم التحذيرات، ليس فقط من القادة الروس من جورباتشوف إلى بوتين، ولكن أيضًا من الشخصيات الرئيسية في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، من جورج كينان إلى روبرت مكنمارا إلى رئيس المخابرات المركزية لبايدن نفسه وليام بيرنز - استمر الرؤساء الأميركيون المتعاقبون، من كلينتون إلى بايدن، في تويع  الناتو شرقا وتسليح أوكرانيا. في غضون ذلك، رفضت فرنسا وألمانيا الضغط من أجل تنفيذ اتفاقيات مينسك، التي كانت ستضمن الحكم الذاتي للمناطق الناطقة بالروسية في شرق أوكرانيا.

تستحق أزمة أوكرانيا في أواخر عام 2021 مقارنتها بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. في ذلك الوقت، جرى تجنب الحرب من خلال المفاوضات والتسوية: حيث سُحبت الصواريخ السوفيتية، وتعهدت الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأزالت صواريخها من تركيا. هذه المرة، لم تُبذل أية محاولات جادة لمعالجة المخاوف الأمنية الروسية سلمياً، كمنح أوكرانيا وضعاً محايدا مقابل إجراءات روسية وأميركية مشتركة لضمان سيادتها. لا يوجد دفاع عن قرار بوتين بإعادة تلخيص غزو بوش للعراق، وفرض "تغيير النظام" من خلال "الصدمة والرعب"، لا شيء غير العمل على توحيد الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي ضد روسيا. لكن العقوبات الغربية المتزايدة باستمرار كعلاج سلوكي أثبتت بالفعل أنها فشلت ضد كوبا وإيران وفنزويلا وروسيا ما بعد 2014. تأثيرها الرئيسي يتمثل في خفض مستويات المعيشة لسكان الدول التي تجابه العقوبات.  باعتبارها "أسلحة معادية للمدنيين"، فإن عمليات الحصار والعقوبات العقابية لها تاريخ مظلم؛  لقد تسببت في وفاة ما يقرب من مليون شخص بسبب الجوع والمرض خلال الحرب العالمية الأولى، بينما لم تؤدِ إلى منع النهب الإمبراطوري في ظل عصبة الأمم. بعد الحرب الباردة، بدأت أميركا وصناع القرار الأوروبيون بالاهتمام بها مرة أخرى.  تضاعف عدد العقوبات بين عامي 1990 و 2009 ، وتضاعف مرة أخرى في 2010. إن العقوبة دون أي منظور واقعي لتغيير السلوك، بل من أجل العقوبة فقط، هي شكل من أشكال السادية. الليبرالية السادية هي الآن اتجاه رائد في السياسة الخارجية الغربية، وأبرز وجوهها هو رئيس المفوضية الأوروبية.

بالنظر إلى الجاذبية القوية للقومية وكراهية الأجانب، يصعب على اليسار التعامل مع فترات التنافس الجيوسياسي الإمبريالي. كان ربيع 2022 يذكرنا بصيف عام 1914، مع وجود صراع مدمر لا معنى له في الطريق، والذي كان  الرد اليساري العقلاني الوحيد عليه هو الصرخة العاجزة "أوقفوا الحرب!''، اليسار الأوروبي لعام 2022 الآن في وضع مشابه لـما واجهته روزا لوكسمبورغ عام 1914 من العزلة واليأس.  بالإضافة إلى ذلك ، هناك الآن خطر لا يستهان به يتعلق باندلاع حرب نووية. تثير الاستفزازات الأميركية في بحر الصين الجنوبي أيضا مخاطر نشوب نزاع أمريكي صيني على تايوان.  إذا حدث هذا، فمن المرجح أن تكون حالة "السير نائماً" نحو الحرب، كما كانت الحال في الحرب العالمية الأولى، من خلال الحسابات الخاطئة والتصعيد غير المسؤول. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، احتج اليسار الشاب على العولمة النيوليبرالية. كان ذلك صحيحا تماما. لكن العالم الجيوسياسي التالي هو أكثر قتامة وخطراً.

مسيرة آسيا إلى الأمام: لا تزال هناك إمكانية للتحولات التكتونية للقوة في غياب الحرب.  يمكن تلخيص النظرة العالمية السائدة لليسار في القرن العشرين على أنها "مسيرة العمال إلى الأمام". ما يعادل القرن الحادي والعشرين بوجود سجل اجتماعي مختلف، جغرافي وليس اجتماعيا: مسيرة آسيا إلى الأمام. تكمن وراء صراعات ونضالات العالم المعاصر، انجراف قاري أساسي. ما الذي سيحدث للهيمنة الأميركية على العالم في هذا القرن يظل سؤالاً مفتوحاً، لكن قبضتها الحديدية ترتخي بوضوح. يمكن لرؤساء أميركا اللاتينية الآن رفض دعوة الولايات المتحدة إلى قمة الأميركتين لأنها لم تشمل دعوة جميع رؤساء الدول؛  فشلت محاولات تجنيد آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية في حرب اقتصادية عالمية ضد روسيا. لكن لا تزال الولايات المتحدة تمتلك موارد هائلة- عسكرية ومالية بشكل أساسي- وأوروبا أصبحت نائبا مخلصا لها بشكل متزايد.  إن الصين، بصعودها التكنولوجي الاقتصادي المذهل، هي المنافس الأكثر مباشرة، ولكن على المدى الطويل، يبدو الوزن المتزايد لآسيا كقارة رهانا أكثر تأكيدا. إن الهند ملزمة بالمحاولة للحصول على مكانة القوة العظمى، كما أن الكتلة الآسيوبة، بما في ذلك البلدان الكبيرة سريعة النمو مثل إندونيسيا وفيتنام، تمضي قدماً.  قد يعني هذا الاتجاه عاجلاً أم آجلاً إعادة هيكلة النظام المالي العالمي، وإنهاء القبضة الأميركية الأوروبية الخانقة عليه. كما سيعني تقلص القدرة على فرض "القيم الغربية" على العالم.

بالنسبة لليسار غير الآسيوي، فإن المسيرة إلى الأمام لآسيا ليس لها معنى واضح حتى الآن، وسيعتمد مسارها على كيفية تطور النضالات الاجتماعية في آسيا نفسها. لكنها تبعث بالفعل تحذيرا واضحا ضد المركزية الأوروبية، والوسطية الأميركية والتكيف مع حلف شمال الأطلسي في الغرب، وبالمثل، ضد المركزية الآسيوية في آسيا.  مع الحفاظ على قدميه بثبات على أرضية ثقافته الجغرافية الخاصة، ينبغي أن يصبح منظور اليسار الفكري والسياسي عالميا وكوكبيا حقا وصدقا.  بالنسبة إلى يسار شمال الكرة الأرضية، يجب أن يتضمن هذا المنظور الاعتراف بالاختلاف الحاسم بيننا من جهة، وبين الصين والهند من جهة أخرى. لا تزال الولايات المتحدة المعقل النهائي للرأسمالية، وباعتبارها إمبراطورية تبشيرية مسيحية، فإنها تطمح إلى جعل بقية العالم على غرارها، في حين أن الصين والهند ليس لديهما مثل هذا الطموح. يجب أن يكون العالم التعددي، بدون هيمنة عظمى، هدف اليسار بالتأكيد.

تبنت الحركات الجديدة لهذا القرن ديمقراطية تداولية وتشاركية (وإن كانت رقمية بشكل أساسي)، وعادة ما ترفض هياكل التمثيل والقيادة، وغالباً ما تحبط المحاولات الرسمية للتفاوض والاستقطابالصراع الطبقي: لن يتمحور القرن الحادي والعشرون حول المرونة المناخية والجيوبوليتيك فحسب. سوف يدور أيضا حول الصراع الطبقي العالمي. في عام 2020، كان متوسط ​​دخل أغنى 1% في العالم 144 ضعف متوسط ​​دخل النصف الأفقر من البشرية، وهو ضعف ما كان عليه في عام 1820، في حقبة ما قبل الديمقراطية على عتبة الثورة الصناعية. الفقر المدقع وسط الوفرة الهائلة هو اتجاه طويل الأمد في تاريخ البشرية، لكنه اليوم له سمتان جديدتان.  أولاً، القدرة والموارد غير المسبوقة للعالم المعاصر لتغيير هذا الوضع، في التكنولوجيا والعلاج والوفرة الكبيرة في الرساميل. ثانياً، لم يحدث من قبل أن كان "بؤساء الأرض" مرتبطين ببعضهم البعض، سواء مع بقية العالم أو فيما بينهم. هذه الاحتمالات القائمة ولكن المقيدة تخلق وضعا متفجرا، لا سيما في الدول القومية الهشة في ظل تزايد عدم المساواة.  إذا كان لوجودك على اليسار أن يكون أي معنى، فيجب أن يتضمن التزاما بالمساواة بين البشر، وإمكانية إدراك الجميع لقدراتهم في الحياة. لا ينبغي اختزال هذا في الموارد المادية؛  كما يتضمن أيضا المساواة الحيوية- أي الفرص المتساوية لحياة طويلة وصحية- والمساواة الوجودية، حيث تغدو الحرية والاعتراف والاحترام قيما عالمية. هنا، لأسباب تتعلق بالمساحة، سأركز في الغالب على عدم المساواة الاقتصادية، التي تتوفر عنها المزيد من البيانات المقارنة، وسأقتصر إلى حد كبير على ما كان يُطلق عليه ذات مرة العالم الثالث، حيث توجد مستويات اللامساواة الصارخة، وحيث يواجه اليسار  أصعب موقف. بالطبع، عدم المساواة في حد ذاته هو غير متكافئ، وهو الأسوأ في دول النفط في الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء. فإن الشخص الذي ينتمي إلى أغنى عُشر سكان العالم لديه الآن دخل أكبر 38 مرة من متوسط ​​دخل الفرد في النصف الأفقر؛  دخل الرجال في المتوسط ​​أعلى بنسبة 70% من دخل النساء. يجدر فحص هذه الاتجاهات- وآفاق اليسار لمكافحتها- على المستوى الإقليمي والعالمي.

goran-thourbon

يمتلك اليسار في أميركا اللاتينية التجربة الحديثة الأكثر تفصيلاً والأكثر شمولاً للحد من عدم المساواة. بعد انحسار قصير لـ "المد الوردي"، عاد اليسار في أميركا اللاتينية إلى الانتعاش الآن، وفاز في الانتخابات في المكسيك وبيرو وتشيلي وكولومبيا، وعاد في الأرجنتين وبوليفيا. لكن مستقبل هذه الانتعاشة في اليسار يبدو أقل وعدا من سابقتها. في المرة الأخيرة، نجحت لعبة lulismo البرازيلية في الحد بشكل كبير من الفقر المدقع وفتحت التعليم للفقراء. ولكن، كما أظهر بيكيتي، لم يمس هذا سوى عدم المساواة بين الـ90% الأدنى، تاركاً الثروة والامتيازات في القمة كما هي. يشير اختيار لولا لمرشح نائب الرئيس، جيرالدو ألكمين، وهو لاعب رئيسي في برجوازية باوليستا، إلى أنه لن يحيد عن هذا المسار إذا فاز في انتخابات 2022.  في تشيلي، تم تعليق الدفن الموعود للنيوليبرالية في عهد بوريك إلى أجل غير مسمى بعد الرفض المدوي للناخبين لمشروع دستور عام 2022، والذي كرس الحقوق الاجتماعية - والأهم من ذلك - للشعوب الأصلية. قرأ بوريك هذه الإشارات وانتقل إلى اليمين، وحافظ على الملكية المخصخصة للخدمات العامة السابقة. كانت الهزيمة في الغالب بسبب القطاعات الأقل انخراطا سياسيا أو المستنيرة من الطبقات الشعبية، والتي تأثرت، في ظل نظام التصويت الإلزامي، بحملة تضليل ضخمة وشكوك عكسية بشأن حقوق السكان الأصليين. ومع ذلك، فقد كشف عن الجذور الشعبية المحدودة لأحزاب اليسار التشيلي، التي تضررت بشدة نتيجة الاستفتاء.

شهدت الانتخابات البيروفية لبيدرو كاستيلو، وهو معلم مدرسة مستيزو من مرتفعات الأنديز يحمل بطاقة الحزب الماركسي اللينيني، لهبا خافتا من الاحتجاج قام به السكان المحيطين ضد المستوطنين البيض المنحدرين من ليما، والذي أُخمد فعلياً، تحت القيادة الأيديولوجية لماريو فارغاس يوسا. كان كاستيلو قائداً ناجحاً للإضراب، لكن لم يكن لديه الخبرة السياسية ولا الدعم الشعبي لتحقيق برنامجه. منذ تنصيبه، انتقل من أزمة سياسية إلى أخرى، وطارده برلمان يميني انتقامي. كان وضع الرئيس الكولومبي الجديد غوستافو بيترو واعدا إلى حد ما، وهو مقاتل سابق متمرس وعمدة بوغوتا لمرة واحدة، يعمل على برنامج القرن الحادي والعشرين غير الاستخراجي، تعينه ناشطة نسوية من أصل أفريقي كنائبة للرئيس. في المكسيك، لا يزال لوبيز أوبرادور وحزبه مورينا يتمتعان بالشعبية، وقد يمرر العصا إلى تقدمي آخر بمجرد انتهاء فترة ولايته، على الرغم من أن سجله العام كان متفاوتا. تواصل بوليفيا مسارها التنموي المتعدد القوميات، لكن اليسار الحاكم أكثر انقساما مما كان عليه قبل الانقلاب المضاد للثورة في عام 2019. وفي الوقت نفسه، عادت أزمات الديون الخارجية الدائمة إلى الأرجنتين التقدمية.

هذا المد اليساري الثاني في القرن الحادي والعشرين في أمريكا اللاتينية لم ينتج حتى الآن قادة حماسيين وذوي رؤية على غرار شافيز أو موراليس أو كوريا. لقد تراجعت آماله وطموحاته منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، لا تزال الهزات التي خلفها الزلزال السياسي في أميركا اللاتينية نشطة. لقد تعرضت الأحزاب المهيمنة سابقا في القارة، والتي غالبا ما كانت تابعة للتحالف الأميركيي من أجل التقدم، إلى التهميش أو الإقصاء في فنزويلا وبوليفيا والمكسيك وتشيلي وكولومبيا. تنبثق الحركات السوداء في أمريكا الجنوبية، وأصبحت النسوية المقاتلة سمة منتشرة في كل مكان. لا يزال ظل الولايات المتحدة يخيم على الأمريكتين جنوب ريو غراندي، ولا تزال حروب المجاعة الاقتصادية ضد كوبا وفنزويلا مستمرة، لكن أميركا اللاتينية بدأت في النهوض.

أفريقيا هي من عدة نواحٍ قارة الحزن. اقتصادها الأكثر تطوراً، جنوب إفريقيا، هو أكثر تفاوتاً في العالم. وهذا ما حققته حركة التحرير الوطني التي وضعت حداً للفصل العنصري. كانت هناك لحظات من النمو الاقتصادي السريع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في السنوات الأخيرة، لكنها أيضا المنطقة العالمية الوحيدة التي زاد فيها الفقر المدقع بالأرقام المطلقة بين عامي 1998 و 2018، بنحو 110 ملايين شخص، ويرجع معظمه إلى الارتفاع المستمر لمعدلات المواليد. وهي ثاني أكثر المناطق تفاوتاً بعد منطقة الشرق الأوسط.

يؤسس اليسار في القرن الحادي والعشرين راديكاليته على معارضة قطعية للحاضر، بدلاً من هدف طويل الأمد أو خارطة طريق للمستقبلومع ذلك، فإن أفريقيا ليست قارة سلبية ومطيعة. على العكس من ذلك، فهي حلبة للصراع، مكان للاحتجاجات الشعبية، مع وجود الكثير للاحتجاج عليه: الزيادات المفاجئة في أسعار الغذاء والوقود، وتفاقم الفقر، وعدم تقديم الخدمات العامة، والفساد الدائم، والتزوير الانتخابي، فضلا عن التنافس العرقي. غالبا ما تكون الاحتجاجات عنيفة، في الحرم الجامعي وكذلك في أعمال الشغب المدينية، والتي تضمنت موجة من "أعمال الشغب" ضد برامج التكيف الهيكلي. النوى النقابية، والمنظمات المهنية- التي نظمت الثورة الديمقراطية المستمرة في السودان، على سبيل المثال- والجمعيات الطلابية، في المدارس الثانوية وكذلك الجامعات، جميعها تنظم مبادرات جديدة وتوفر القيادة في بعض الأحيان؛ عادة ما يكون الشباب العاملون هم الجزء الأكبر. ومع ذلك، "فعلى حين أن الاحتجاجات تتكرر، فإن الحركات الشعبية واسعة النطاق تعاني من الضعف وهي عرضة للاستمالة والانهيار". إنها حركات غضبية سريعة الزوال، وعادة ما تقابل بالقمع، أحيانا تجبر السلطة على التراجع، ولكنها نادرا ما تعجل بتغيير سياسي.

تطور اليسار الأفريقي كحركة مناهضة للاستعمار، ضد القوى الإمبريالية الأجنبية والمستوطنين وممارساتهم الاستغلالية والعنصرية. كان التحرر الوطني، وليس تحرر الطبقة العاملة، هدفه الأساسي. في إفريقيا، تطورت القومية خلال حقبة ما بعد الحرب، بعد جيل واحد من آسيا. كان ينجذب للبدائل غير الرأسمالية في المقام الأول، مثل نماذج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي كان النمو السريع لأوروبا الشرقية المتخلفة سابقا مثالاً عليها.  كانت"الاشتراكية الأفريقية ''، سواء كانت محلية، كما في تنزانيا نيريري وكاوندا زامبيا، أو مستوردة من الكتلة السوفيتية كما هو الحال في أنغولا وموزمبيق وأماكن أخرى، وسيلة للتنمية، تم تنفيذها من أعلى بواسطة القادة المعنيين للحفاظ على وحدة دولهم المنقسمة عرقيا بشكل تعسفي. لم تضع تلك الاشتراكية الحرية والمساواة في المقدمة. مع سقوط الشيوعية، توقفت إمدادات الماركسية اللينينية وطواها النسيان. حتى الآن، لم تتفتق الانتخابات متعددة الأحزاب عن أي قوة يسارية كبيرة. ساهم الهيكل الطبقي المحدد للاقتصاد القاري، والذي يتكون أساسا من الزراعة الأسرية داخل مجتمعات مجزأة عرقيا، في ضعف اليسار خلال فترة ما بعد الاستعمار.

أما جنوب أفريقيا فمختلفة، من حيث وجود يسار واضح في ANC والحزب الشيوعي المتحالف معه، فضلاً عن الحركة النقابية المتشددة. كيف يمكن فهم توزيع الدخل غير المتكافئ؟ في عام 2020، كانت النسبة العالمية لمتوسط ​​الدخل للفئة العشرية الأعلى لأدنى 50 % هي 38، كما كانت تقريبا في عام 1900 لكن نسبة جنوب إفريقيا، بعد ربع قرن من سقوط نظام الفصل العنصري، بلغت 63. لا يزال الأمر لغزا حتى بالنسبة للمحققين المتخصصين، الذين قاموا أيضا بتحليل جوانب أخرى من العملية، وقاموا بتفصيل الإنجازات الملموسة التي حققتها حكومات ما بعد الفصل العنصري في الإسكان الجماعي والتعليم والخدمات العامة ومزايا المعيشة للفقراء. يبدو أن مفتاح التفاوت الاقتصادي الحالي في جنوب إفريقيا هو أن النظام الديمقراطي ورث من نظام الفصل العنصري مجتمعا من اقتصادين مختلفين: من ناحية، اقتصاد أبيض مزدهر يهيمن عليه التعدين المربح للغاية- بما في ذلك الذهب والبلاتين- والتمويل؛  على الجانب الآخر، اقتصاد أسود فقير من نمط زراعة الكفاف واقتصاد حضري غير رسمي للانتاج الرث. كانت مهمة المساواة الرئيسية هي توحيد الاثنين، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التصنيع على نطاق واسع؛  وهذا ليس بالأمر السهل مع ازدواجية جنوب إفريقيا وموقعها في الاقتصاد العالمي.

أعطى ANC الأولوية لمسار آخر، "تمكين السود"، مما يعني إفساح المجال أمام أصحاب المشاريع السود من أجل الوصول إلى قمة الاقتصاد الأبيض. لقد تحقق هذا الهدف بنجاح، ولكن كان له ثلاث عواقب وخيمة. أولاً، أُعيد إنتاج الانقسام بين الاقتصادين. ثانياً، كان لإيديولوجية "الثراء" المتضمنة في البرنامج تأثير مدمر للغاية على الكوادر الحاكمة، حيث عززت الفساد والسعي وراء الريع على جميع المستويات. ثالثاً، كانت الأغلبية الشعبية مفتتة. بحلول عام 2011 تقريبا، كان توزيع الدخل بين السود في جنوب إفريقيا، على مؤشر جيني 0.55، وهو نفسه تقريبا بين جميع سكان البرازيل أو الهند. لم يكن اليسار الجنوب أفريقي قادرا أو راغباً في المخاطرة بالقتال لتصحيح هذا التطور.

شهد القرن الحادي والعشرون حتى الآن القليل من الابتكار من جانب اليسار الأفريقي جنوب الصحراء، ولم يشهد الكثير فيما يتصل بتوطده. إن الكفاح الذي طال أمده من أجل الديمقراطية في السودان إنجاز لم يحسم بعد. كان الربيع العربي في شمال إفريقيا حركة مثيرة للإعجاب، ألهمت الغاضبين في أوروبا الجنوبية وتسبب أيضا في إثارة ضجة جنوب الصحراء ولكن مع أثر دائم محدود. حتى في أوطانه، على الرغم من جذرية الطبقة العاملة المصرية في نضالات عام 2008 والتدخل الحاسم للنقابات العمالية التونسية في الإطاحة بالديكتاتورية في تونس، فقد تم تجاوز الحركتين الاحتجاجيتين انتخابيا من قبل الإسلاميين المحافظين، قبل أن يسحقها الجيش بعد ذلك في مصر.  بالنظر إلى التوقعات الحالية للنمو الاقتصادي في العديد من البلدان الأفريقية، من المرجح أن تتسع الفجوات بين أصحاب الامتيازات والشعب على نطاق أوسع - يتفاقم بسبب عدم التكافؤ في التعرض لكوارث تغير المناخ القادمة. من غير المرجح أن تبتلع الجماهير الأفريقية هذا الأمر بسلام.  مع ثقلها الديموغرافي الذي لا يزال يتزايد بسرعة - يقدر أنه بحلول عام 2030 سيشكل ما بين ربع وخمس البشرية - تتجه إفريقيا لعقود من الانفجارات الاجتماعية، ما لم يكن هناك تغيير في المسار.

ظهرت مناهضة الاستعمار الآسيوي الحديثة في وقت مبكر خلال عصر الثورة الروسية. كانت مستوحاة مباشرة من الشيوعية الثورية وبدعم مادي من الكومنترن. للتعبير عن تاريخ طويل ومعقد في جملة واحدة بسيطة، يمكننا تحديد النتيجة الخاصة باليسار الآسيوي على النحو التالي: من ناحية، انتصار الشيوعية، بعد حروب طويلة ودامية في الصين وكوريا الشمالية وفيتنام ولاوس وكمبوديا؛  ومن ناحية أخرى، هزيمة الشيوعيين واليساريين الآخرين ومذابحهم على يد القوى الإمبريالية والرجعية المحلية، الذين يعملون معا في كثير من الأحيان، في كوريا الجنوبية والفلبين ومالاكا وتايلاند وإندونيسيا وعرب غرب آسيا وإيران. في هذا المشهد القمعي- للشيوعية الحاكمة والشيوعيين المقتولين- كانت المساحة المفتوحة للثقافة الفكرية اليسارية الجديدة، وكذلك التنظيم والتعبئة الشعبية، محدودة للغاية.

ألهم الربيع العربي لعام 2011 حركات واسعة تطالب بالمساحة الحضرية العامة، وتؤسس أكامبادا، أو مواقع المعسكرات الحضرية، من ميدان التحرير عبر مدريد وبرشلونة إلى حديقة زوكوتيالهند هي الاستثناء الرئيسي. هنا، كان حزب المؤتمر ملتزما بجعل الهند مجتمعا اشتراكيًا.  لقد تنافس ديمقراطيا، وإن كان في بعض الأحيان على وجه التقريب، مع الشيوعيين والاشتراكيين الآخرين. الهند لديها تقاليد فكرية قوية تمخضت عن نخبة يسارية مشرقة. ومع ذلك، فإن هذا الفضاء اليساري المزدهر في يوم من الأيام قد تقلص بشكل كبير الآن، بعد أن تم تهميشه بفعل تصاعد النزعة القومية الهندوسية. كان للاشتراكية النهروية دائما مسافة معينة من البراهمايان (وهاروفيان) عن الحياة اليومية للناس العاديين، متجاهلة التعليم الابتدائي والرعاية الصحية ونظام الصرف الصحي. في عام 1991، فتحت حكومة الكونغرس أبواب التحرير الاقتصادي. في العام التالي، أنشأ تحالف مناهض للكونغرس لم يدم طويلاً مجالاً جديداً لسياسة الطبقات من خلال قانون يأسس المزيد من الحصص الطبقية في التوظيف العام.  وقد أدى ذلك إلى ظهور رد فعل من الطبقة العليا- جزء من قاعدة مودي حزب بهاراتيا جاناتا- بالإضافة إلى التعبئة السياسية للطبقة الدنيا في حكومات الولايات.  لقد أصبح حزب المؤتمر الآن أكثر بقليل من ردف رعاية الأسرة الحاكمة.

انقسمت الشيوعية الهندية بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، أسفر عن ظهور فصيل أكثر تقليدية.  قاد الحزب الشيوعي الصيني (الماركسي) حكومة الجبهة اليسرى في غرب البنغال لمدة ربع قرن لكنه خسر في عام 2011، بعد مقاومة المزارعين الشرسة لخطة دنغ شياو بينغ للاستثمار الصناعي، بين جملة عوامل أخرى.  كان الشيوعيون الهنود براغماتيين وحكام ولايات ناجحين من نواح كثيرة، ولا يزالون في ولاية كيرالا، حيث يقود الحزب الشيوعي الهندي حاليا حكومة الجبهة اليسارية.  لكن الشيوعية الهندية لم تعد قوة وطنية رئيسية، بعد أن تعرضت لضربات شديدة على الجبهات النقابية- المزارعين والعمال على حد سواء- منذ السبعينيات. توسعت الخدمات الاجتماعية الهندية في القرن الحادي والعشرين، لكن انعدام المساواة الاقتصادية تخطى الدرجة التي كان عليها في أواخر الحقبة الاستعمارية، حيث يستولي العشر الأغنى على 57% من الدخل القومي بينما لا ينال النصف الأفقر سوى 13% فقط.

ومع ذلك، حتى تحت سيطرة القومية الهندوسية الاستبدادية، تظل الهند بلدا للمؤسسات العلاجية، بدءًا من نظم الحصص للطوائف والقبائل والقبائل المصنفة (الطبقات المتخلفة الأخرى إلى وظائف مضمونة للعمال الريفيين غير المهرة. كما أنها مكان للتعبئة الشعبية. قوبلت محاولة تسويق مشتريات المنتجات الزراعية في عام 2020 بحركات احتجاجية ضخمة قام به تحالف كبير من المزارعين والعمال الزراعيين والنقابات الأخرى، حيث أغلقوا الطرق واحتلوا المساحات الحضرية بجراراتهم إغلاق الطرق، انضافت الـdharna الدهرنا- اعتصام خارج مقر إقامة أحد الخصوم؛  في الأصل مدين لا يدفع، والآن صاحب السلطة- إلى ذخيرة احتجاج القرن الحادي والعشرين. بعد حركة جماهيرية استمرت لمدة عام وشهدت أكبر إضراب للعمال في تاريخ العالم، وبتكلفة بلغت 700 حالة وفاة، استسلمت حكومة مودي أخيرًا وألغت "قوانين المزارع السوداء".

أنتجت سياسة الطوائف مجموعة من "أحزاب العدالة الاجتماعية" التي تمثل الداليت والأوبكس، والتي تفوز أحيانا في انتخابات الولايات في شمال الهند.  إنهم حاليا في حالة من الفوضى، لكنهم ساهموا بالفعل بشكل كبير في الحد من عدم المساواة الوجودية. تتمثل إحدى المشكلات الرئيسية للتعبئة الشاملة في العالم الثالث في عدم تجانس الطبقات الشعبية، وانقساماتها على أساس العرق والدين والطائفة- الأخيران على وجه الخصوص في حالة  للهند. غالبية المسلمين في الهند من الفقراء، ويتزايد تعرضهم للمضايقة والوصم من قبل حكومة هندوتفا- أحيانا بدعم من الداليت الهندوس والأوبكس. يصعب حشد البسماندا بسبب حقيقة أن الأمة في الهند تمتاز بطبقة عليا رائدة ("طبقة أشراف")، محددة بنسبهم، مع عدم وجود مصالح اقتصادية مشتركة مع "الطبقات المتخلفة" للمسلمين.

كانت السياسات الائتلافية المعقدة للصراع الطبقي الآسيوي تلعب دورا أيضا في إندونيسيا، وهي دولة أخرى ارتفعت فيها معدلات عدم المساواة مؤخراً، وإن لم تصل تماما إلى المستويات الهندية. في خريف عام 2020، قدم الرئيس جوكووي - الذي تم انتخابه كمصلح اجتماعي - إطارا قانونيا جديدا للأعمال التجارية والعمل، مُقلِصا من حقوق العمال وموجها نحو جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي.  المعارضة البرلمانية الواسعة النطاق، في المظاهرات والإضرابات الجماهيرية، لم تشمل فحسب العدد الكبير من النقابات المهنية الصغيرة، ولكن أيضا طلاب الجامعات والعديد من المنظمات الإسلامية الكبيرة، من العلماء والمؤمنين العاديين. كان الكثير على المحك بالنسبة لرأس المال، وأخيراً تم تمرير القانون من خلال البرلمان ووقعه الرئيس.

تشتهر الصين أيضا بعدم المساواة، وإن كانت أقل من الهند وإندونيسيا. بحثا عن مسار جديد في الثمانينيات، رفض دينغ في النهاية نماذج التنمية اليابانية والكورية الجنوبية المتكافئة نسبيًا واختار رأسمالية أكثر تراتبية، شبيهة برأسمالية سنغافورة.  تقلصت الاحتجاجات الواسعة هناك بشأن المسائل المتعلقة بالأراضي وظروف العمل أثناء الوباء، ويبدو أن الفكر اليساري المستقل الذي ازدهر هناك حتى عام 2007، في مجلات مثل دوشو، قد تم إسكاته فعليا في السنوات الأخيرة.

إن الالتزام الرسمي بـ"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" لا يخلو من أهمية توزيعية. يتجلى هذا في القضاء الفعلي على الفقر المدقع في 2010، في ترويض بعض أباطرة الأعمال، في الجهود الحالية لتسخير التكنولوجيا الجديدة للتخفيف من الفقر الريفي والانتقال إلى الطاقة المتجددة، وفي المثل الأعلى حيث "الرخاء المشترك للجميع ".

سيتطلب تحدي عدم المساواة كلاً من التعبئة الجماهيرية للسياسات الائتلافية وسياسات الدولة الابداعية. حتى الآن، لا توجد سياسات مساواة قوية ولا أي استراتيجية واعدة من أسفل في الأفق. لكن النضالات الاجتماعية بدأت تنتعش بعد الوباء. في بعض بلدان الجنوب، اتخذت شكل تحالفات كبيرة من العمال والفلاحين والطلاب والمهنيين ومنظمات السكان الأصليين والبريكاريا والشباب العاطلين عن العمل.  يتخذ هذا الصراع الطبقي أشكالا مختلفة عن تلك التي كانت في القرن العشرين، قد تكون قادرة على الدفع باتجاه التغيير الاجتماعي، لأن هذه التحالفات تتوافق مع الهياكل الاجتماعية والثقافية المختلفة لجنوب القرن الحادي والعشرين.

الاشتراكية

إذا كان النهج الماركسي لفهم الطبقية والرأسمالية ما يزال راهنيا، فلا يزال الحال أن القرن الحادي والعشرين بلا اتجاه ديالكتيكي- ولا حتى اتجاه يتعلق بالتنمية البشرية الأولية: في عام 2010، تم كسر اتجاه نمو متوسط ​​العمر المتوقع.  في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وفي عامي 2020 و 2021، انخفض مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة إلى ما دون مستواه في عام 2017.  إن بقاء أجزاء من الجنس البشري نفسه معلقٌ في الميزان. هذا قرن من عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ، في ظل السحب المظلمة للكارثة الوشيكة.  لا يزال هناك عالم آخر ممكنًا، على الرغم من أن الطريق إليه الآن يبدو أكثر كآبة وخطورة مما كان عليه في بداية القرن، مع المناضلين ذوي النزعة العالمية، والمنتديات الاجتماعية العالمية العامة، والمتظاهرين المبدعين المناهضين للتقشف، والغاضبين الديمقراطيين، وبراعم الاشتراكية.  ومع ذلك، فإن الشقوق في النظام العالمي تفتح فضاءات لجولات جديدة من الإبداع اليساري، وقد تعزز الغضب البشري من الظلم العالمي كقوة للتغيير.

أصبحت الانتفاضات المدينية، التي تتحدى للحكومات وأحيانا تطيح بها، جزءًا من ممارسة السياسة اليسارية في القرن الحادي والعشرينتنتظرنا تحديات هائلة.  إذا كان اليسار الجديد قد بدأ فعلا في معالجة مصاعب أزمة المناخ، فإنه بالكاد بدأ في التحقيق في الأشكال المتضخمة للتراكم المالي أو استكشاف أنواع التضامن العالمي المطلوب للعمل الكوكبي في عالم يتصاعد فيه التنافس الإمبراطوري. إن كيفية تقييم القضايا التي تثيرها الانقسامات الجيوسياسية الجديدة غير المستقرة- وإيجاد إجابات عملية لها- ستكون واحدة من أصعب المهام وأكثرها تطلباً في هذا القرن، خاصة بالنسبة لليسار الشمالي. سيتعين عليه أن يجمع بين المفهوم الواقعي النقدي للعلاقات الدولية مع المفهوم المثالي عن السلام وحق الإنسان في الحياة. لا يمكن لأي يسار عقلاني أن ينخرط في الدفاع عن هيمنتنا على العالم أو إدامة حكم الغرب الذي يمتد نصف ألفية، حتى لو كان مغلفا بـ"القيم العالمية" التي جرى اختراعها مؤخرا.  بالنسبة لليسار اليوم، كما هو الحال بالنسبة لجوريس ولوكسمبورغ، فإن الموقف الجيوسياسي الثابت الوحيد هو محاولة إيقاف الحرب العالمية القادمة أثناء القتال من أجل تحرير الإنسان.

في الشمال العالمي، اتقلبت معايير السياسة الانتخابية على حساب اليسار، مع خضوع قسم من الطبقات الشعبية ليمين قومي جديد معاد للأجانب.  في أميركا اللاتينية، هناك منعطف أكثر تقدما، ولكن دون جرأة أوائل القرن. في أفريقيا وآسيا، لا توجد اتجاهات سياسية واضحة حتى الآن، على الرغم من المقاومة الشعبية للسياسات القائمة بالتأكيد. قد لا يكون يسار القرن الحادي والعشرين مستعدا بعد بشكل كاف لمواجهة التحديات المتوقعة التي تنتظرنا. لكنه أثبت بالفعل قدرته على التواصل والاحتجاج والمقاومة. إن ديناميته الإبداعية، على النقيض من إرهاق اليسار ويأسه في أوائل عصر النيوليبرالية، وحركته الجماهيرية المتمردة، هما سببان منطقيان للتفاؤل الحذر بشأن قدرته على مواجهة التحديات القادمة، وهذا لا ينقض عدم اليقين في الظلام. ليس لليسار في القرن الماضي أي وصفات يوزعها، لكن تاريخه- من الهزائم والأخطاء والإخفاقات وكذلك الانتصارات والإنجازات- هو موروث غني من الخبرة في متناول الأجيال القادمة.

كانت الاشتراكية هي أفق اليسار في القرن العشرين. ظهرت مرة أخرى لفترة وجيزة على أنها "اشتراكية القرن الحادي والعشرين" عبر هلال أميركا اللاتينية الذي امتد من فنزويلا إلى بوليفيا، و "اشتراكية ديمقراطية" في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لا تزال هامشية كما في السابق، وإن كانت تنمو؛ تم سحقها من قبل حملة مدبرة شرسة في هذه الأخيرة. في الجنوب ما بعد الاستعمار وفي أوروبا، لم يبق الكثير من الأفق الاشتراكي، حتى بين اليسار. هذه خسارة تاريخية للرؤية، خسارة لمستقبل واعد ملهم. صحيح أن الموجات القوية من المعارضة المناهضة للنيوليبرالية لليسار الجديد وإبداع ممارساته أظهرت أن هذه الخسارة ليست قاتلة. هناك عدة أنواع من النظارات. علمنا تاريخ القرن العشرين أيضا أن التحولات الاجتماعية نادرا ما تجري وفقا للمخططات. ومع ذلك، فإن مسيرة طويلة تحتاج إلى اتجاه.

في الواقع، ستواجه الرأسمالية القائمة تحديات متزايدة في هذا القرن. في حين أن لديها بعض الموارد للتعامل مع كارثة المناخ، فإن الحلول الرأسمالية ستكون في أفضل الأحوال مصممة للفئات المميزة في عدد قليل من المناطق المميزة المحظوظة. سيتعين على اقتصاد السوق العالمي الحالي أن يتغير بشكل عميق، بطريقة أو بأخرى؛ النضالات الاجتماعية والسياسية- والخيال العملي- سوف يحددان كيفية القيام بذلك. في الوقت نفسه، فإن مسيرة آسيا إلى الأمام تعني أن مساحة الممارسات والقيم الغربية ستتقلص، على الرغم من أننا لا نعرف كيف. أخيراً، السؤال الوجودي الذي سيطرحه المزيد من الأشخاص، الذين أصبحوا الآن أكثر علما وتواصلا من أي وقت مضى. لماذا يجب أن نقبل أن النظام الاجتماعي والاقتصادي الحالي- حيث الثراء بالنسبة إلى 30% على الأكثر من السكان، والإقصاء والاستغلال والحياة الوحشية المنحطة والقصيرة للبقية الباقية، يمثل  أفضل ما يمكن للبشرية بناؤه؟!  يجب أن يكون لليسار دور حاسم في مواجهة التحديات الدراماتيكية للقرن الحادي والعشرين. حان الوقت للاستعداد.

نُشِر هذا المقال بموافقة مُسبقة من New Left Review - العدد 137، أيلول/سبتمبر - تشرين الأول/أكتوبر 2022.