أزمة المديونية في البلدان النامية
إنقاذ الدائنين الأجانب على حساب مستوى معيشة السكان
في العام 2023، اضطرت البلدان النامية إلى إنفاق نحو 1.4 تريليون دولار لخدمة ديونها الخارجية (أصل الدين والفوائد المترتبة عليه)، وهو مستوى قياسي جديد، يعبّر عن الاستنزاف الكبير لموازنات هذه البلدان وعجزها عن توفير الخدمات الضرورية لسكانها والمفاضلة بينها وبين مواصلة تسديد الديون. وسجّلت مدفوعات الفائدة وحدها (من دون استحقاقات أصل الدين) ارتفاعاً يوازي نسبة الثلث تقريباً، لتبلغ نحو 406 مليارات دولار، إذ ارتفعت أسعار الفائدة التي تسدّدها البلدان النامية على ديونها إلى أعلى مستوى لها في 20 عاماً.
يصنّف البنك الدولي ضمن البلدان النامية جميع البلدان المصنفة على أنها منخفضة أو متوسطة الدخل وعددها 135 بلداً، ويقطنها 6.7 مليارات نسمة، أي ما يعادل 84% من سكان العالم. لا تواجه أكثرية هذه البلدان عبء الديون وخدمتها فحسب، بل تعاني من نزيف كبير في احتياطاتها الأجنبية بسبب التدفقات العكسية من هذه البلدان إلى خارجها، ولا سيما استحقاقات الديون الخارجية وفوائدها التي تدفعها هذه البلدان للدائنين الأجانب، من القطاع الخاص والمؤسسات المالية المتعددة الأطراف والدول.
وصل مجمل الدين الخارجي المستحق على جميع البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل إلى مستوى قياسي بلغ 8.8 تريليونات دولار في العام 2023، بزيادة قدرها 8% عن العام 2020. وكانت النسبة المئوية للزيادة أكبر بأكثر من الضعف بالنسبة للبلدان المنخفضة الدخل، التي شهدت ارتفاعاً في إجمالي ديونها الخارجية إلى 1.1 تريليون دولار، بزيادة تُقدر بنحو 18%.
تظهر الضغوط المالية أشدّ قسوة على هذه الشريحة المحددة من البلدان النامية، وهي الأشد فقراً، أو البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية، وفق تصنيف البنك الدولي، الذي يشمل 76 بلداً يقل نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي فيها عن 1,175 دولاراً سنوياً. ووفق تقرير الديون الدولية لعام 2024، الصادر في كانون الأول/ديسمبر الجاري، ارتفعت خدمة الديون الخارجية لهذه الشريحة من البلدان الفقيرة إلى نحو 96.2 مليار دولار في العام 2023، من ضمنها 34.6 مليار دولار مدفوعات فائدة، وهو أعلى مستوى على الإطلاق، ويوازي 4 أضعاف قيمته قبل 10 سنوات، ويوازي أيضاً ما يقرب من 6% من عائدات صادرات الدول الأشد فقراً، وهو مستوى لم يسبق له مثيل منذ العام 1999.
يجري التحذير منذ سنوات من انفجار أزمة المديونية في البلدان النامية، وتفيد التوقعات أن 60% من البلدان المنخفضة الدخل هي الآن في قلب أزمة المديونية أو في الطريق إليها. وتكافح هذه البلدان لمواصلة الإيفاء بديونها، ولكن على حساب مستوى معيشة سكانها ورفاهيتهم وتطوّرهم. وتؤدّي المؤسسات المالية الدولية، ولا سيما صندوق النقد والبنك الدوليين، دور «الملاذ الأخير» لهذه البلدان للحصول على المزيد من القروض الخارجية من أجل تسديد القروض السابقة والفوائد المتراكمة عليها، بالإضافة إلى الإنفاق على كل الأمور الأخرى.
قبل عقد من الزمن، في عصر كان فيه رأس المال الخاص يتدفق إلى الاقتصادات النامية ويغرقها بالديون، ظنت الحكومات ومؤسّسات التنمية أن هذا هو بالضبط المطلوب لنمو هذه الاقتصادات وتحقيق أهداف التنمية الأخرى. اليوم، يتبيّن فشل هذه الرهانات منذ البداية. لقد باتت البلدان النامية ترزح تحت ديون خارجية هائلة، في حين أن القطاع الخاص الأجنبي بات يبحث عن فرص الهروب أو جني المزيد من أرباح «المخاطر» عبر رفع كلفة قروضه لهذه البلدان.
وفق تقرير الديون 2024، تلقّى الدائنون الأجانب من القطاع الخاص منذ العام 2022 نحو 13 مليار دولار من مدفوعات خدمة الدين في البلدان الفقيرة، المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية، أكثر ممّا أعادوا توظيفه في عمليات التمويل الجديدة. في الوقت نفسه، ضخّت المؤسّسات متعدّدة الأطراف، وعلى رأسها البنك وصندوق النقد الدوليين، في خلال الفترة نفسها، بين عامي 2022 و2023، نحو 51 مليار دولار من الديون الجديدة أكثر ممّا قامت بتحصيله من مدفوعات خدمة الدين من هذه الدول.
ينطبق ذلك على جميع الدول النامية المنخفضة والمتوسطة الدخل، فقد حصل الدائنون الأجانب من القطاع الخاص على ما يقرب من 141 مليار دولار أميركي من مدفوعات خدمة الديون لهذه الدول أكثر مما أعادوا توظيفه في التمويل الجديد. وفي المقابل، ضخّ البنك الدولي وغيره من المؤسّسات المتعددة الأطراف ما يقرب من 85 مليار دولار أميركي في عامي 2022 و2023 أكثر مما جمعته من مدفوعات خدمة الديون.
يعني ذلك أن الدائنين من القطاع الخاص الأجنبي يواصلون جني ربح الفوائد من الدول النامية، بعد إغراقها بديون تعجيزية، ويجري تمويل عملية «الإنقاذ» عبر قروض جديدة وتدخّلات تقوم بها المؤسسات المالية الدولية. إذ رضخت الدول النامية في النهاية لهذه المؤسسات كأهون الشرّين، واختارت تحمّل برامجها التقشّفيه والتدخل في شؤونها الداخلية، ويتبدّى هذا أكثر في محافظ الديون الخارجية للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، أي تركيبة «إجمالي ديونها»، حيث نجد ارتفاع حصة المنظمات والدول من إجمالي ديون الدول النامية، وتقلّص حصة القطاع الخاص الأجنبي.
ارتفعت أرصدة الديون المستحقة للدائنين متعددي الأطراف من إجمالي ديون الدول النامية - سواء المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية أم لا - بنسبة 6.8% إلى 1.3 تريليون دولار في العام 2023، وارتفع رصيد ديون الدائنين الثنائيين بنسبة 1.3% ليصل إلى 499 مليار دولار، في حين زادت أرصدة الديون المستحقة للدائنين من القطاع الخاص بنسبة 0.8% فقط. يعيدنا الحال بالذاكرة إلى الأزمة المالية العالمية 2008-2009، عندما زاد رصيد الديون المستحقة للمؤسسات المتعددة الأطراف بمعدل 5 أضعاف وتيرة الإقراض من الدائنين من القطاع الخاص.
في العام 2023، كانت البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل مدينة بنسبة 15% من إجمالي ديونها الخارجية لمؤسسات متعددة الأطراف، وهي زيادة كبيرة بنحو 4 نقاط مئوية عن مستويات ما قبل الجائحة. على الرغم من قيام الدائنين من القطاع الخاص بزيادة الإقراض إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل في العام 2023، فإن صافي تدفقات الديون الخارجية من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى حاملي السندات - 1.2 مليار دولار أميركي في العام 2023 - تشير إلى أن ثقة المستثمرين لم تعد بعد إلى مستويات ما قبل الوباء.
في العام 2023، أصبح الاقتراض في الخارج أكثر تكلفة بكثير بالنسبة لجميع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ارتفعت أسعار الفائدة على القروض الجديدة لهذه الدول من الدائنين الرسميين (الدول ومنظمات كصندوق النقد الدولي) بنسبة 2.1 نقطة مئوية إلى 4.09% في العام 2023، أي أنه بلغ الضعفين. بينما ارتفعت النسبة لدى الدائنين من القطاع الخاص بمقدار 1.37 نقطة مئوية إلى 6%، وهو أعلى مستوى منذ العام 2008، وعلى الرغم من أن أسعار الفائدة العالمية بدأت في الانخفاض منذ ذلك الحين، فإنه من المتوقع أن تظل أعلى من المتوسط الذي كان سائداً في العقد الذي سبق كوفيد-19.