Preview النزاعات الجيوسياسية تفاقم  أزمة الديون العالمية

النزاعات الجيوسياسية تفاقم أزمة الديون العالمية

من شأن النزاعات الجيوسياسية، ويُقصَد بها الزيادة الحادة في الإنفاق العسكري، أن تفاقم أزمة الدين الدولية الجديدة التي بلغت مستوى قياسي عند 313,000 مليار دولار بحسب تقرير مرصد الدين العالمي الصادر عن معهد التمويل الدولي في شباط/فبراير 2024.

بحسب هذا التقرير الحديث، ازداد إجمالي الدين العالمي (دين الحكومات والمؤسسات المالية وغير المالية والأسر) بأكثر من 15,000 مليار دولار بحلول العام 2023. ويأتي نحو 55% من هذه الزيادة ممّا تسمى «الأسواق المتقدمة»، أي الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بشكل رئيس. وفي الأسواق الناشئة، تركّز تراكم الدين في الصين والهند والبرازيل بشكل رئيس. وبالمجمل، راكمت الأسواق المتقدمة نحو 208,300 مليار دولار من الدين، مقابل 104,600 مليار دولار في الأسواق الناشئة بزيادة تساوي 103,700 مليار دولار.

رسم 3

سجلت الحكومات الزيادة الأعظم وتلتها المؤسسات غير المالية. ومن مجمل الدين العالمي في الربع الرابع لعام 2023، بلغت حصة المؤسسات غير المالية زهاء 94.4 تريليون دولار، وحصّة الحكومات نحو 89.9 تريليون دولار، وحصّة القطاع المالي نحو 69.4 تريليون دولار، وحصة الأسر 59.3 تريليون دولار.

سبق لمرصد الدين العالمي في تقريره الصادر في كانون الأول/ديسمبر 2020 أن حذَّر من «هجوم تسونامي الديون». آنذاك، بلغ الدين العالمي 233 تريليون يورو، وتساءلنا عمّا إذا كانت هناك أمواج قوية كفاية لإحداث تسونامي مماثل.

نشرت منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخراً تقرير الدين العالمي 2024: أسواق السندات في بيئة مرتفعة الدين. وتشير تقديراتها إلى أنّ نسبة الدين الإجمالي إلى الناتج المحلي الإجمالي في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سوف ترتفع قليلاً هذا العام. وتتوقّع زيادة هذه النسبة بأكثر من 1% في 9 بلدان، تتصدرها الولايات المتّحدة التي تقدّر الزيادة فيها بنحو 3%. ومن ناحية أخرى، من المتوقع انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في 12 بلداً بأكثر من 1%، ولا سيما في اليابان والبرتغال وإسبانيا، حيث من المتوقع انخفاضها بأكثر من 5%.

فضلاً عن ذلك، يظهر تقرير الدين العالمي لعام 2024 الصادر عن منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنّ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023 تجاوزت مستويات ما قبل الجائحة بنحو 5% في المتوسط، وبمقدار 10% في منطقة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ككل. كما يشير إلى أنّ هذه النسبة أعلى في 24 بلداً وأنّها زادت بأكثر من 8% في جميع بلدان مجموعة السبع. ويشير إلى أنّ نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لليابان والولايات المتحدة قد زادت بأكثر من 24% و22% على التوالي منذ العام 2019. وفي خلال الفترة نفسها، انخفضت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في 14 بلداً، وتراجعت بأكثر من 10% في أيرلندا وبولندا والبرتغال والسويد. وأخيراً، يشير التقرير إلى أنّ نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وتطورها تختلف كثيراً باختلاف طرائق تقييم الدين.

حذّرَ الرئيس التنفيذي لشركة «بلاك روك» (Black Rock)، لاري فينك، من مسألة الديون في الولايات المتحدة في خطابه السنوي الغاضب إلى المستثمرين، وتساءل فيه عن جدوى التقاعد في سن 65 (أكثر من نصف أصول «بلاك روك» البالغة 10 تريليونات دولار مخصّصة للتقاعد)؛ كما يستخدم فيه تعبير «براغماتية الطاقة» لتبرير تخليه عن التعبير المنافق المسمّى «الاستثمار المسؤول اجتماعياً» ليواجه سحب الاستثمارات الجمهورية (استثمرت «بلاك روك» أكثر من 300 مليار دولار في شركات الطاقة التقليدية و138 مليار دولار في استراتيجيات التحول الطاقي)؛ ويمجّد في التقرير نفسه أيضاً محاسن الرأسمالية في انتشال الناس من الفقر!

وتحت العنوان الفرعي «الدين مهم»، يحذّر المدير التنفيذي لـ«بلاك روك» من الدين العام لبلاده: «في الولايات المتحدة، فاق هذا الوضع في أهمّيته أي شيء آخر». ويضيف قائلاً: «منذ بداية الجائحة، أصدرت الولايات المتحدة زهاء 11.1 تريليون دولار من الدين الجديد، وهذا المبلغ ليس إلا جزءاً من المشكلة. إلى جانبه يوجد معدّل الفائدة الواجب على الخزانة الدفع على أساسه». ويتساءل «حال استمرار هذه المعدلات، فإنّ مدفوعات الفائدة على مدار العقد المقبل سوف تزيد بتريليون دولار إضافي».

رسم 2

«لمَ هذا الدين بات مشكلة اليوم؟» يجيب: «لأنّ الولايات المتحدة عبر تاريخها دفعت دينها القديم بإصدار دين جديد في شكل سندات خزانة. وهذه استراتيجية جيدة طالما استمر الإقبال على شراء تلك السندات، لكن من الآن فصاعداً لا يجب على الولايات المتحدة التسليم بأنّ المستثمرين سوف يواصلون شراءها بالحجم نفسه أو العلاوة نفسها كما اليوم. حالياً، زهاء 30% من سندات الخزانة بحيازة حكومات أجنبية أو مستثمرين أجانب. لكن من المرجح أن تنخفض هذه النسبة مع اتجاه مزيد من البلدان إلى بناء سوقها المالية والاستثمار المحلي».

بحسب الرئيس التنفيذي لـ«بلاك روك»، فإنّ «السيناريو السيئ» قد يؤدي بالاقتصاد الأميركي إلى حالة على غرار «حالة اليابان في أواخر تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، حين تجاوزت ديونها الناتج المحلي الإجمالي وتسبّبت بفترات من التقشف والركود». إنّ الإجابة المقترحة من سيد أسواق الأوراق المالية العالمية، ليست الانضباط المالي (زيادة الضرائب وخفض الإنفاق)، بل تحقيق متوسط نمو يبلغ 3% من حيث القيمة الحقيقية من خلال «الاستفادة من أسواق رأس المال لبناء واحد من أفضل العوامل المحفّزة للنمو: البنية التحتية»، لا سيما البنية التحتية الطاقية.

ما لا يقوله لاري فينك في خطابه أنّ المصالح التي يدافع عنها لم تساهم في الأزمات فحسب، بل استفادت على نحو مباشر من تحويل الديون الخاصة إلى دين عام، لينتج عنها تصاعد هذا الأخير. يجب أن نضع في اعتبارنا أنّه في العام 2020، عام الوباء، طلب بنك الاحتياطي الفيدرالي من قسم استشارات الأسواق المالية في «بلاك روك» إدارة مليارات الدولارات من مشتريات السندات والأصول المدعومة بالرهن العقاري، كإجراء إضافي لتخفيف التأثير الاقتصادي والمالي لفيروس كورونا. وفي خلال الأزمة المالية السابقة في العام 2008، تم التعاقد مع «بلاك روك» أيضاً لإدارة أصول بير ستيرنز والمجموعة الأميركية الدولية. وفي كلتا الحالتين، لم يجرِ الأمر عبر مناقصات رسمية، وهذا تسبّب بانتقادات واسعة.

النزاعات الجيوسياسية تفاقم  أزمة الديون العالمية رسم 1

يرأس خوسيه إغناسيو غويريغوزاري حالياً كايكسا بنك (بانكيا في السابق)، وهو كيان مالي تملكه «بلاك روك». وكايكسا بنك المستفيد الرئيس من الأموال العامة المدفوعة لإنقاذ البنوك الإسبانية، بمبلغ حوالي 100 ألف مليون يورو، وهو رهن عقاري لم يسدد وساهم في ارتفاع الدين العام الإسباني في العام 2012، عام الإنقاذ، وفي العام 2020، حين ظهر دين يقرب من 35 ألف مليون يورو لبنك التسويات عالية المخاطر أو SAREB (أنظر/ي في الرسم البياني إلى الزيادة الرأسية في الدين العام الإسباني إلى 125.3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020). والآن، وفي ظل الوقاحة والإفلات من العقاب، يجرؤ هذا البنك نفسه بلا خجل على ممارسة الضغوط العامة على الحكومة لحملها على خفض الدين العام للبلاد.

نشر هذا المقال في CADTM في 16 نيسان/أبريل 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي، وترجم وأعيد نشره في صفر.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.