
الفقر في البلدان العربية و«أنسنة الاقتصاد»
يكشف تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، الصادر في مناسبة اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية في 20 شباط/ فبراير الجاري، عن واقع قاتم في المنطقة العربية، وعن تفاوتات عميقة في الوصول إلى الفرص والاحتياجات الأساسية، حيث يجد 187 مليون شخص أنفسهم مهمّشين في مجالات الصحّة والتعليم والأمن الغذائي والتكنولوجيا والحماية الاجتماعية والفرص الاقتصادية، في حين يفتقر حوالي 292 مليون شخص إلى التغطية باستحقاق واحد على الأقل من استحقاقات الحماية الاجتماعية.
يبرز التقرير الخامس للإسكوا عن التنمية الاجتماعية، الصادر تحت عنوان «إضاءة على الوعد بعدم إهمال أحد في المنطقة العربية»، أرقاماً مقلقة، إذ يشير إلى أن 78 مليون شخص بالغ يعانون من الأمية، و15.3 مليون شخص يواجهون البطالة في المنطقة العربية. كما يفتقد 174 مليون فرد إلى الخدمات الصحية الأساسية، ويعاني 154 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، فيما يعاني 56 مليوناً من نقص في التغذية. أما ظروف السكن، فلا تزال تشكّل تحدياً كبيراً، حيث يعيش 79.5 مليون شخص في مساكن غير ملائمة. كما تعاني البنية التحتية والخدمات الأساسية من قصور واضح، إذ يفتقر 154 مليون شخص إلى مرافق الصرف الصحي المأمون، و50 مليوناً إلى مياه الشرب النظيفة، فيما يعمل 41.2 مليون شخص في القطاع غير النظامي من دون أي حماية. بالإضافة إلى ذلك، يواجه 211 مليون شخص صعوبات في الوصول إلى الخدمات المالية، ويعاني 154 مليون شخص من محدودية الوصول إلى الإنترنت.
78 مليون شخص بالغ يعانون من الأمية، و15.3 مليون شخص يواجهون البطالة في المنطقة العربية. كما يفتقد 174 مليون فرد إلى الخدمات الصحية الأساسية
وللتصدي لهذه التحديات، يدعو التقرير إلى دمج إطار «عدم إهمال أحد» في الاستراتيجيات الوطنية، مع التركيز على 5 عناصر: التمييز، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة، والجغرافيا، والقابلية للتأثر بالصدمات، كما يوصي التقرير بتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية، لاسيما للفئات الأكثر عرضة مثل النساء والشباب واللاجئين والعاملين في القطاع غير النظامي، وتعزيز المساواة بين الجنسين عبر تشريعات أقوى لمكافحة التمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعي. وكذلك، يشدّد على أهمية الاستثمار في تمكين الشباب وتعزيز ريادة الأعمال، إلى جانب تفعيل السياسات الخاصة لمواجهة تأثيرات تغيّر المناخ. ويوجّه التقرير دعوة ملحّة إلى الحكومات والمعنيين لتكثيف الجهود من أجل ردم هذه الفجوات، وضمان مستقبل أكثر شمولاً وعدالة للجميع.
ركود الأجور في الدول العربية
ارتفعت الأجور الحقيقية في كل مناطق العالم بالمقارنة مع العام 2023، وتراوحت الزيادات بين 0.3% في أميركا الشمالية و17.9% في منطقة وسط وغرب آسيا، باستثناء البلدان العربية، إذ تشير التقديرات إلى أن متوسّط الأجور الحقيقية ظل مستقرّاً، وفقاً لتقرير الأجور العالمي 2024-2025 الذي أصدرته منظّمة العمل الدولية، وتناوله موقع «صفر» في تقرير كتبه محمد الخنسا، ويُعرّف فيه «الأجر الحقيقي على أنه مقدار المال الذي يكسبه العامل أو الموظّف بعد احتساب التضخّم. وتصبح الأجور أقل قيمة بعد ارتفاع أسعار السلع والخدمات. ويقدّم مقياس «الأجر الحقيقي» صورة أكثر دقة للقوة الشرائية للأجور. وتوضح الإحصاءات بين عامي 2006 و2024، أن الأجر الحقيقي في البلدان العربية لم يرتفع إلا في 10 سنوات فقط من أصل 19 سنة، بينما ظلّ على حاله أو انخفض في بعض السنوات. ولم يكن الأمر بهذا السوء في أي منطقة في العالم باستثناء أفريقيا». وهذا يعني أن ركود الأجور هو ظاهرة متكرّرة في البلدان العربية، لذلك لا يتوقّع كثير من العمّال في المنطقة تحسّناً في أوضاعهم مع مرور الوقت، وفي كثير من الأحيان يخشون أن المستقبل لا يحمل لهم إلا الأسوأ، وخصوصاً العمّال الفقراء الذي يشكّلون قسماً كبيراً من عمّال المنطقة. ويشير التقرير نفسه إلى «فقر العمل»، كما حدّدته منظّمة العمل الدولية، بأنه «الحالة التي يكون فيها دخل العمّال من العمل غير كافٍ لرفعهم وأسرهم من براثن الفقر. واعتباراً من العام 2019، كان 5.2 مليون عامل، أي 10% من إجمالي العمّال في البلدان العربية، يُعتبرون في حالة فقر العمل، ويعيش الفرد منهم مع أسرته على أقل من 2.15 دولاراً أميركيّاً في اليوم الواحد (وفقاً لمقياس تعادل القوة الشرائية)». لقد بلغ عدد العمّال الفقراء في الوطن العربي نحو 7.1 مليون عامل في العام 2023، أي 12.6% من مجمل العمالة في المنطقة العربية.
«أنسنة» الاقتصاد
فكّت البحرين العلاقة بين الرواتب والتضخّم عندما جمّدت الراتب التقاعدي للمتقاعدين، وأوقفت صرف زيادة سنوية على الراتب التقاعدي بنسبة 3%. وهذه الزيادة السنوية البسيطة جداً كانت بمثابة عامل مساعد لتقليل آثار التضخّم على الراتب التقاعدي. وقد أشار الخبير المالي والعضو السابق في مجلس إدارة التأمينات الاجتماعية في البحرين، حسن الماضي، الى أن «المتقاعد البحريني خسر ما لا يقل عن 27% من القيمة السوقية لدخله منذ أن تم وقف صرف الزيادة السنوية في العام 2021». ولذلك فإن غالبية المتقاعدين سينضمّون إلى الفئة الاجتماعية التي لا تتوقّع تحسينات على وضعها المعيشي، أسوة بالعمّال الفقراء.
توضح الإحصاءات بين عامي 2006 و2024، أن الأجر الحقيقي في البلدان العربية لم يرتفع إلا في 10 سنوات فقط من أصل 19 سنة، بينما ظلّ على حاله أو انخفض في بعض السنوات
وعلى الرغم من أن جميع الحكومات العربية ملتزمة بتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، إلا إنها تتغاضى عن أحدث مراجعات لتلك المعايير أجرتها مديرة الصندوق. على سبيل المثال، وللمرّة الأولى في تاريخ الصندوق تم إدخال مصطلح «كلفة المعيشة» كمقياس لحساب «التضخّم». وقد صرّح كبار مسؤولي الصندوق بأنه على حكومات الدول أن «يتخلوا عن معاملة الاقتصاد كالآلات الصماء»، وقد أشارت مديرة الصندوق إلى أن «العلوم الاجتماعية والإنسانية تساعدنا في فهم التحديات الاقتصادية»، أي «أنسنة» الاقتصاد، وعدم التعامل معه كإحصاءات ومنحنيات وجداول رقمية. ذلك أن الاقتصاد المعتمد فقط على الأرقام «الجافة» التي «توجّه» صوب ما تريده الحكومات من قوانين وسياسات وإعداد ميزانيات، تحرّرها من مسؤولياتها الاجتماعية تجاه شعوبها. يؤدي اقتصاد مماثل إلى إذلال الشعب. لذلك، فقد بدأ تيار اقتصادي في الصعود في معظم الدول النامية، وهو (الاقتصاد الأخلاقي)، الذي يجعل من «الإذلال» أحد العناصر المرفوضة في السياسات الاقتصادية، وضرورة مراعاة «الكرامة الإنسانية» و«المشاعر» لدى من ستطبق عليه هذه السياسات.
معايير خط الفقر
وضعت الإسكوا معايير لـ «خط الفقر» خصوصاً في المنطقة العربية، وهي على النحو التالي:
دخل الفرد السنوي: تعتبر الأسرة التي يقل دخلها السنوي عن 1,000-3,000 دولار في العام أسرة فقيرة. وهو ما يساوي 380-1,250 ديناراً سنوياً، أي 32- 104 دنانير شهرياً.
الاستهلاك السنوي: تعتبر الأسرة فقيرة إذا كان الاستهلاك الفردي السنوي أقل من 1,000-2,000 دولار في العام.
الحرمان المتعدد الأبعاد، مثل الحرمان من الغذاء والصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي والسكن اللائق. وبالتالي إذا كانت الأسرة محرومة من 3 من هذه الخدمات تعتبر فقيرة.
مؤشر التنمية البشرية: تعتبر الأسرة التي يقل مؤشر التنمية البشرية الخاص بها عن 0,7 فقيرة. وفي البحرين، يقدّر المؤشّر بنحو 7 في خدمات الصحة والمعرفة ومستوى المعيشة.
قدّرت الإسكوا نسبة خط الفقر في البحرين بِـ 490 ديناراً شهرياً، وقدّرت عدد البحرينيين الذين يعيشون تحت خط الفقر بنحو 54 ألف مواطن، أي حوالي 7.5% من إجمالي السكان.
ملاحظات نقدية على نتائج الإسكوا
أولاً؛ منظمة الإسكوا، وحتى حكومة البحرين، تستخدمان معادلات «المتوسط» وليست «الوسيط»، وذلك بهدف سحب النتائج صوب الإيجابية، بدل التوصّل إلى تقريب أدق إذا ما استخدمت معادلة «الوسيط». ففي حساب الإسكوا لعدد البحرينيين تحت خطّ الفقر، الذي يشمل جميع السكان، أي المواطنين وغير المواطنين، بدلاً من احتساب إجمالي السكان المواطنين فقط، تهدف إلى تقليل نسبة البحرينيين تحت خط الفقر، وهذا ما سنوضحه أدناه.
المتقاعد البحريني خسر ما لا يقل عن 27% من القيمة السوقية لدخله منذ أن تم وقف صرف الزيادة السنوية في العام 2021
ثانياً؛ يوجد في البحرين مؤشر رسمي، يوضح نسبة المواطنين الذين يعيشون عند مستويات الفقر. وهو «علاوة الغلاء» للأسر التي تقل دخولهم الشهرية عن 300 دينار ولا تزيد عن 1,000 دينار، وعددهم 130 ألف أسرة. وإذا اعتبرنا متوسط عدد الأسرة هو أربعة أفراد (الأب والأم وطفلان من دون احتساب وجود الجد والجدة والخدم)، يصبح عدد الذين يستلمون «علاوة الغلاء» في حدود 520 ألف مواطن. وإذا علمنا أن السكان من المواطنين عددهم 720 ألف بحريني، يتبيّن أن نسبة الفقراء من إجمالي عدد السكان من البحرينيين هي 72%. ولكي نُقَرب الرقم من النتيجة التي وصلت إليها الإسكوا، سنطرح من النسبة التي وصلنا إليها، الذين تزيد دخولهم عن 490 ديناراً، فتصبح النسبة نحو 40% من السكان المواطنين. وبما أن إجمالي السكان من البحرينيين وغير البحرينيين هو بحدود 1.5 مليون نسمة، فإن نسبة المستفيدين من «علاوة الغلاء» هي بين 20% و30% وليس 7.5% كما تقول الإسكوا.
ثالثاً؛ مع ذلك لم ندخل في الحساب عوامل موضوعية اقتصادية واجتماعية لازمة في مجتمعنا الحالي مثل اضطرار الأبناء للسكن في منازل الآباء (الأسر النووية الصغيرة نظرياً) ولكن مع زياد السكن العمودي، أصبحت الأسر كبيرة عملياً وجزء كبير من تكاليف هؤلاء الأبناء من دخول الآباء التي تتآكل سنة بعد سنة، فحتى لو كان دخل رب الأسرة المتقاعد غالباً أكثر من 1,500 دينار شهرياً، ففي نهاية الشهر لا تتعدّى نسبة التوفير 2% من إجمالي دخله الشهري.
رابعاً؛ المطلوب إضافة سلع وخدمات جديدة في مؤشر «سلة الاستهلاك»، لربطها بخصوصية البحرين. مثل تكاليف الكهرباء والمكيّفات وصيانتها في الصيف بسبب الحرارة الشديدة، وشراء سيارات بسبب غياب البنية التحتية المرورية مثل المترو والنقل العام المنظّم والدقيق في مواعيده، وغيرها. وهذا يعني انخفاضاً إضافياً في الدخول، وبالتالي في مستويات المعيشة.
خامساً؛ على الرغم من أن معدلات الفقر تقاس عالمياً حسب دخل الأسرة، وليس حسب دخل رب الأسرة (الأب)، بينما تعتمد منظومة الدعم في البحرين على دخل رب الأسرة (عادة الرجل)، ولا تحسب دخل الزوجة، تبقىا المنظومة البحرينية أكثر ملاءمة لظروفنا من المنظومة العالمية، بسبب غياب أي معلومات تفصيلية عن التكاليف الإضافية الواقعة على كاهل الأسرة وتؤثر على دخلها السنوي، مثل تكاليف العلاج والتعليم والصيانة والرسوم وغيرها، إضافة إلى وجود أسر لا تعمل فيها الزوجة.
الخلاصة العملية في هذا الشأن هي الإسراع بإلغاء قرار وقف صرف الزيادة السنوية على الراتب التقاعدي (3%)، وإرجاعها لهم بأثر رجعي كحق مكتسب، والتفكير الجاد بزيادة هذه النسبة. والخطوة التالية المهمة هي العمل على تأسيس «المجلس الأعلى للرواتب» أسوة بالكثير من الدول المتقدّمة، ونموذجنا هو سنغافورة حيث يقوم هذا المجلس بدراسة سنوية دقيقة عن الإنتاجية والناتج القومي والتضخم أو الركود الاقتصادي، وبالتالي يتعامل مع رواتب المواطنين والمتقاعدين بمرونة، وبربطها بهذه المتغيرات الاقتصادية.
بما أن إجمالي السكان من البحرينيين وغير البحرينيين هو بحدود 1.5 مليون نسمة، فإن نسبة المستفيدين من «علاوة الغلاء» هي بين 20% و30% وليس 7.5% كما تقول الإسكوا
أما على صعيد الاقتصاد الكلي، فقد أشار الخبير في قضايا الفقر، أديب نعمة، في مقاله الأخير المنشور على موقع «صفر»، إلى وجود «عوائق مصدرها الأساسي هو الدول الوطنية نفسها وسياساتها، مع تأثيرات إقليمية» للإجابة عن ما الذي يحول دون اقتصاد عادل وعمل لائق، وأضاف: «هناك عوامل أخرى مصدرها العولمة والسياسات التي تحدّد ملامح وتوجّهات الاقتصاد العالمي، الذي يشكّل بدوره عاملاً حاسماً ومقرّراً في السياسات الإقليمية والوطنية. وفي هذه اللحظة التاريخية تحديداً، فإن السياقات العالمية هي المحدّدة والأكثر أهمية، وهي التي تشكّل العقبة الرئيسة أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلداننا، ومن ضمنها توفير فرص العمل اللائق للجميع. لا يعني ذلك بأي شكل من الأشكال، إعفاء الحكومات الوطنية وسياساتها والقوى الاجتماعية والاقتصادية التي تقف خلفها من المسؤولية، لا بل ان الاستسلام التبعي للتوجهات العالمية يعظّم مسؤوليتها بدل أن ينتقص منها».
وعلى خلفية هذا التشخيص الاقتصادي-السياسي، حدّد نعمة ملامح وشروط العقد الاجتماعي العام، وأيضاً الخاص بالعلاقة بين العمّال وأصحاب العمل والدولة، أو بين العمل ورأس المال، على المستويين العالمي والوطني. ولا سيما بعدما فرض مفهوم «مرونة سوق العمل» في الخطاب النيوليبرالي على مجتمعاتنا، والذي يقصد منه «تفكيك القوانين والقواعد الناظمة للعلاقة بين العمال والأجراء وأصحاب العمل، كما حدث فعلياً في خلال العقود السابقة، ما أدّى الى: إضعاف القوة التفاوضية للنقابات، وتحرير عقود العمل من القوانين التي تحمي الوظائف والأجراء، والتوسّع الكبير جداً في العمل غير النظامي، وانتهاك الالتزام بالحد الأدنى للأجور الذي يضمن العيش اللائق، والتخلي عن فكرة أنظمة الحماية الاجتماعية الشاملة، والاستمرار في عدم تقييم العمل الرعائي...إلخ. وكل ذلك يندرج في سياق تفكيك (دولة الرعاية) والمسؤولية الاجتماعية والبيئية للدولة، وتحرير الأسواق وحرية رأس المال».
وبالطبع كل هذه المتطلبات الذي قدمها نعمة، وكذلك توصيات الإسكوا ستكون رافعة حقيقية لتقليل مستويات الفقر في البحرين خصوصاً، وفي المنطقة العربية عموماً.