Preview الروبوتات والرأسمالية من بديع الزمان إلى هانز مورافيك

ماركس ضد سبنسر
أحلام الجزري: الروبوتات والرأسمالية من بديع الزمان إلى هانز مورافيك

«بقدر ما تتطوّر الصناعة الكبيرة، فإن خلق الثروة الحقيقية يصبح أقل اعتماداً على وقت العمل وعلى كمّية العمالة المستخدمة (…) ولكن ذلك يعتمد على الحالة العامة للعلوم والتقدّم التكنولوجي، أو تطبيق هذا العلم على الإنتاج (…) رأس المال في حدّ ذاته هو التناقض المتحرّك، [في] أنه يعمل لتقليل وقت العمل إلى الحدّ الأدنى، في حين أنه يفترض وقت العمل، على الجانب الآخر، كمقياس وحيد ومصدر الثروة».

كارل ماركس

 

في العام 1206، أصدر العالِم العربي، بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، كتاباً بعنوان «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل»، فيه الكثير من الرسوم والتصميمات لآلات و«روبوتات»، مثل ساعة الفيل والفرقة الموسيقية التي يعتبرها البعض آلة يمكن «برمجتها» لتلعب أنغاماً مختلفة. ونتيجة لدرجة تعقيد هذه الآلات وآليات عملها، أطلق البعض مؤخراً على الجزري لقب «أبو علم الروبوتات». 

بعد حوالي 800 عام، في العام 1997، أصدر عالم الكمبيوتر الأميركي، الأستاذ في جامعة كارنيغي ميلون، هانز مورافيك كتابه «الروبوت: مجرّد آلة إلى عقل تجاوزي». وفي الكتاب تأريخ لعمله الريادي في تصميم الروبوتات وبنائها، ثمّ استشرافه لوقعها الاقتصادي وتأثيرها على مستقبل الإنسانية ومسار تطوّر الروبوتات نفسها. ويُعتبر مورافيك من أهم علماء الروبوتات اليوم، وينسب إليه ما يعرف بـ«مفارقة مورافيك»، وهي تقول إنه من السهل بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تمتلك القدرة على لعب ألعاب معقّدة مثل الشطرنج وغيرها (وبالتالي استطاع «ديب بلو» أن يتغلّب على غاري كاسباروف في العام 1997)، لأن قواعدها تتبع خطوات رياضية محدّدة (تعلّمها الإنسان في آلاف سنين قليلة)، بينما من الصعب جداً بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تستطيع أن تتفوّق في مهارات يتعلّمها الأطفال، مثل معرفة أن الأشياء تسقط إلى الأرض، أو التحرّك في غرفة أو فضاء ذا معوقات مختلفة، لأن هذه المهارات اكتُسِبت عبر ملايين من السنين من التطوّر.

في السنين الطويلة بين الكتابين، تغيّر العالم كثيراً. وبالتحديد، حصل هذا التغيير بعد العام 1776، عام المحرّك البخاري وعام صدور كتاب آدم سميث «ثروة الأمم»، أي بُعيد الثورة الصناعية وظهور الرأسمالية. قبل ذلك، إذا أخذت شخصاً من زمن الجزري إلى القرن السابع أو حتى الثامن عشر قبل الثورة الصناعية لما أحسّ بالفرق الكمّي أو النوعي، لا في طرق العيش ولا في مستواها. أمّا بعد ذلك، فقد تغيّر الأمر راديكالياً، وإذا رسمنا خطّاً بيانياً لمستوى المعيشة عبر آلاف السنين من التاريخ المعروف، لرأينا التسارع في زيادة مستوى المعيشة (المقاس مثلاً بالدخل الفردي) يحدث تحديداً منذ نهاية القرن الثامن عشر مع دخول المحرّك البخاري. قبل ذلك بقي مستوى المعيشة ثابتاً تقريباً، ويمكن وصف الإنسانية على أنها كانت قبل الرأسمالية وقبل الثورة الصناعية وعصر الآلة في «فخّ مالثوسي» (نسبة إلى توماس روبرت مالثوس)، يتحكّم بمستوى معيشتها الصراع بين العدد السكاني الذي يتزايد بشكل هندسي (1، 2، 4، 8، 16، 32،...) وبين الموارد التي تتزايد حسابياً (1، 2، 3، 4، 5، 6، ...)، ما جعل مستوى المعيشة في حالة ركود مستمرّة. بعد الرأسمالية، استبدل الرأسمال الأرض، وأصبحت التكنولوجيا والآلات وتراكم رأس المال المحدِّدات الأساسية للنمو الاقتصادي ولمستوى المعيشة، وبالتالي انفجر نموها بعد ذلك، وخرجت البشرية من النموذج المالثوسي إلى رحاب الرأسمالية.

أصبحت التكنولوجيا والآلات وتراكم رأس المال المحدِّدات الأساسية للنمو الاقتصادي ولمستوى المعيشة، وبالتالي انفجر نموها بعد ذلك، وخرجت البشرية من النموذج المالثوسي إلى رحاب الرأسمالية

الآلة والرأسمالية وظهور الذكاء الاصطناعي

كان المحرّك البخاري اللاعب الأساسي في ظهور الرأسمالية. قال ماركس «طاحونة اليد تعطيك المجتمع مع الإقطاعية، والطاحونة البخارية تعطيك المجتمع مع الرأسمالي الصناعي». وفي هذه الرأسمالية، أصبح للآلة، للمرة الأولى في التاريخ الإنساني، الأثر الأهم في الاقتصاد، فهي التي تقود عملية تقسيم العمل وتسيطر على سرعة العمل والإنتاجية. وفي الرأسمالية، أيضاً، تظهر الآلة على أنها مضادة للعامل أو العمل الإنساني، وكما قال ماركس أيضاً «يمكن كتابة تاريخ الاختراعات منذ العام 1830 على أن هدفها الأوحد هو إعطاء أسلحة لرأس المال ضد ثورة الطبقة العاملة». من هنا، لا يمكن النظر إلى الآلة أو الروبوتات مهما كانت درجة تطوّرها بمعزل عن نمط الإنتاج التي ظهرت فيه. وبالتالي رسم الجزري الآلات لما قبل الرأسمالية، أي أنه كان محدوداً بعلاقات الإنتاج تلك. أما مورافيك فقد صنع الروبوتات وحلّلها للرأسمالية، وأيضاً لما بعد الرأسمالية، كما سنرى.

اليوم، يحتلّ الذكاء الاصطناعي والروبوتات في ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة، أو عصر الآلة الثاني (عصر الآلة الأول افتتحه المحرّك البخاري)، الحيز الأكبر من النقاش الاقتصادي وحتى الوجودي للإنسانية. جرت بعض هذه النقاشات، الحادّة أحياناً، وتجري بين إيلون ماسك وسام آلتمان من شركة OpenAI (أعاد ماسك في 5 آب/أغسطس الجاري رفع دعوى يتهم فيها شركة OpenAI، الذي كان من مؤسّسيها، أنها تضع الأرباح أولاً بدلاً من الصالح العام في تطويرها للذكاء الاصطناعي، مخالفة ما بدأت عليه في تطوير هذا الذكاء من أجل منفعة الإنسانية). كما تجري بين يان ليكون من شركة Meta وجيفري هينتون (المعروف بعرّاب الذكاء الاصطناعي) من جهة، وبين عالم الإدراك غاري ماركوس من جهة أخرى، وتدور حول الذكاء الاصطناعي، ماهيته وإمكانياته وتأثيره. انبهر الجميع بظهور النماذج اللغوية الكبرى مؤخراً مثل ChatGPT، وبدا أن الذكاء الإنساني من الممكن تخطّيه من قبل الآلة للمرّة الأولى في التاريخ، وأن الآلة بدأت تهدّد أكثر فأكثر العمل الإنساني. وبحسب صندوق النقد الدولي (في حزيران/يونيو الماضي) فإن الذكاء الاصطناعي «يثير مخاوف عميقة بشأن اضطرابات هائلة في العمالة وتزايد عدم المساواة». إذ تهدّد الآلة بتعميق عدم المساواة وبجعل العائد على الرأسمال يزيد بشكل مضطرد مقارنة بالعائد على العمل. فعند استبدال العامل بالآلة، تجعل الآلة من ملكية وسائل الإنتاج إحدى المحدِّدات الأساسية لتوزيع الدخل والثروة، اليوم وربّما في المستقبل، أو كما طرح الاقتصادي في جامعة هارفارد ريتشارد فريمان: «من يملك الروبوتات يحكم العالم».

طبعاً هذا الأمر يتطلّب أن تصبح التكنولوجيات الحديثة ضمن نظم الإنتاج، وأن تصبح تكنولوجيا ذات أغراض عامة (General Purpose Technology)، وتزيد الإنتاجية، كما حدث مع الآلة البخارية ومحرّك الاحتراق الداخلي والكهرباء، وهذا ما يعتقده البعض مثل أندرو مكافي وإريك بريانيولفسون (في كتابهم «عصر الآلة الثاني»، وفي تقرير صدر مؤخراً لمكافي عن التأثير الاقتصادي للـ generarive AI). 

هل سيكون مصير الذكاء الاصطناعي، في الأقل في نسخته الحالية، مثل مصير البيتكوين التي بنى عليها اليمين الليبرتاري أوهام أنها ستستبدل النقد في النظام الرأسمالي وتكون القاعدة لإلهام «الرأسمالية الفوضوية«، فانتهت فعلياً أداة استثمار ومضاربة فقط

على المقلب الآخر، هناك من يعتقد أنها ستبقى مجرّد أدوات للتسلية بشكل عام من دون أي تأثير يذكر على الإنتاجية (مثل روبرت جوردون من جامعة نورث وسترن)، وأنها لن تتخطّى الذكاء الإنساني ولا حتى تصل إلى قربه (اُطلق على النماذج اللغوية تسمية «الببغاء الإحصائي»، أي أنها كالببغاء لا تفقه ما تقوله). في هذا الإطار، يبدو أن فقاعة النماذج اللغوية انفجرت الأسبوع الماضي على الأقل في أسواق الأسهم التقنية.

وهنا يصح السؤال: هل سيكون مصير الذكاء الاصطناعي، في الأقل في نسخته الحالية، مثل مصير البيتكوين التي بنى عليها اليمين الليبرتاري أوهام أنها ستستبدل النقد في النظام الرأسمالي وتكون القاعدة لإلهام «الرأسمالية الفوضوية«، فانتهت فعلياً أداة استثمار ومضاربة فقط، وبالتالي يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى مجرّد اختراع يثير الاهتمام لكنه ليس نافعاً للرأسمالية؟ 

سنفترض العكس، أي أن الذكاء الاصطناعي خصوصاً في تجليه الروبوتي وفي دخوله مجال الإنتاج، سيزيد الإنتاجية ويحلّ محل العمالة الإنسانية، بل أيضاً سيُدخل الإنسانية في النهاية إلى مجتمع الوفرة. في هذا الإطار، حلّل مورافيك أثر الروبوت في الرأسمالية وما بعد الرأسمالية بانياً على هذه الفرضية، ولكن قبل عرض ذلك، لنرى لماذا حُكم على «آلات» الجزري أن تبقى مجرّد ألعاب وليس فعلاً آلات؟

الجزري: قبل الرأسمالية

ارتبطت الرأسمالية بالثورة العلمية والصناعية في أوروبا، وهذا هو التاريخ الأكثر معرفة. لكن قبل ذلك بمئات السنين، وتحديداً في القرن الثامن، كانت تحدث شبه ثورة علمية، والمكان كان بغداد في زمن الإمبراطورية الإسلامية العباسية، وبالتحديد «بيت الحكمة». وقد أتى كتاب الجزري متأخراً بعد أن أفل دور ومكانة هذه «الثورة العلمية» وبيت الحكمة الذي دُمِّر في اجتياح المغول في العام 1258. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بني موسى، وهم ثلاثة علماء عرب، قدموا أيضاً تصاميم لآلات ميكانيكية بارعة في «كتاب الحيل» في 850 في خلال قمة النشاط العلمي العربي.

وعلى الرغم من تعقيد آلات الجزري، لم تتحوّل إلى آلات بالمعنى الرأسمالي. هناك سببان: الأول، عدم حصول ثورة علمية فعلياً كتلك التي حصلت في الغرب لاحقاً، على الرغم من التقدّم الكبير الذي حقّقه العلماء العرب والمسلمين في الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والطبّ (وفي المجالات القريبة من الذكاء الاصطناعي اليوم وعلوم الكمبيوتر، برز الخوارزمي والكندي في فكّ الشيفرات). 

يقول روبرت ألن «من دون هيكل الأجور والأسعار غير المعتاد في بريطانيا، لما كان البحث والتطوير مربحاً، وكان نيوتن ليفعل القليل للاقتصاد الإنكليزي كما فعل غاليليو للاقتصاد الإيطالي»

على سبيل المثال، على الرغم من التطوّر الذي حصل في علم الفلك الإسلامي، لم تحصل «ثورة كوبرنيكية» فيه، وبقي علم الفلك على الرغم من التقدّم في الحسابات التي حصلت، محكوماً بنظام بطليموس. يعزي المؤرِّخون والعلماء لاحقاً أسباب كثيرة لعدم حصول هذه الثورة، منها ردّة الفعل المحافظة ضدّ الفلسفة (فكر الغزالي)، كما التعلّق بفكر أرسطو المحافظ في الفيزياء وأفول العقلانية العربية (إقرأ/ي هشام غصيب «لماذا فشل العلم العربي في الوصول إلى الثورة الكوبرنيكية؟»). أما السبب الثاني، فهو الانقطاع بين التطوّر العلمي وتطوّر الآلات من جهة وبين الاقتصاد من جهة أخرى، أو عدم تطوّر الرأسمالية. وكان هذا الانفصال مشابهاً لذلك الذي حدث في الحضارات الأخرى. يقول الاقتصادي كارل بنيديكت فراي «لقد شهدت الحضارات الكلاسيكية عدداً من التطوّرات التكنولوجية التي لم يكن لها أي تأثير اقتصادي ذا مغزى تقريباً، والسبب هو أنه من أجل تحسين مستويات المعيشة المادية، يجب أن تخدم الاختراعات أغراضاً اقتصادية ويجب تطبيقها في الإنتاج». في هذا الإطار، يتناول المؤرِّخ الاقتصادي روبرت آلن في عمله أسباب حصول الثورة الصناعية في بريطانيا وليس في غيرها. ووفقاً لآلن، على الرغم من أن الثورة العلمية أدّت دوراً في توليد الثورة الصناعية، لكن البنية الاقتصادية لبريطانيا في الفترة الحديثة بين عامي 1500 و1800 هي التي استلزمت الاستثمار في التكنولوجيا، وخصوصاً المحرّك البخاري واستبدال العمّال بالآلات. باختصار، كانت الأجور المرتفعة والطاقة الرخيصة من العناصر المكوِّنة لهيكل الأسعار في بريطانيا والتي جعلت التقنيات الجديدة ورأس المال ذي منفعة اقتصادية. وجعلت هذه الظروف البحث والتطوير مربحاً، ولعب دوراً في تحويل الأفكار العلمية إلى استثمار صناعي. وبالتالي فإن الانتقال من توريشيلي ونيوتن إلى الثورة الصناعية كان ممكناً في بريطانيا بينما لم تؤدِ «الثورة العلمية» السابقة مثل الثورة الغاليلية إلى مثل هذه التطوّرات في إيطاليا. يقول روبرت ألن «من دون هيكل الأجور والأسعار غير المعتاد في بريطانيا، لما كان البحث والتطوير مربحاً، وكان نيوتن ليفعل القليل للاقتصاد الإنكليزي كما فعل غاليليو للاقتصاد الإيطالي». وفي هذا الصدد، إذا قارنا هذا التحليل بالعصر العباسي، يمكننا أن نستنتج أن الإمبراطورية الإسلامية كانت تفتقر إلى الظروف الاقتصادية، التي شكّلت جانب الطلب من التكنولوجيا، وكانت لتحوّل تقدّم العلم وميكانيكا الأجهزة البارعة التي ابتكرها الجزري (منها الـCrank الذي استخدم لاحقاً في المحرّك البخاري) إلى تراكم رأس المال والتقدّم التكنولوجي. ما عدا بعض الآلات الهيدروليكية، لم تتحقّق آلات الجزري لأن الرأسمالية لم تأتِ، وكان عليها الانتظار حوالي 600 عام.

مورافيك: بعد الرأسمالية 

عندما أتت الرأسمالية إلى بريطانيا، أحدثت تحوّلات اجتماعية واقتصادية ومدينية هائلة، لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل. وكان الكثير بحاجة إلى تفسير. قبل البيان الشيوعي في العام 1848 الذي أتى ليفسِّر الرأسمالية، كتب فريديريك أنغلز «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا في العام 1844»، وفيه واحد من أولى التحليلات «الماركسية» عن تأثير الرأسمالية والآلة على الطبقة العاملة وعلى حالة المدن الصناعية الصاعدة. وقد أطلق روبرت آلن صفة «وقفة أنغلز» على جمود أجور العمّال وتراجع حصتهم من الناتج بين العام 1790 وأربعينيات القرن التاسع عشر، الناتج عن ظهور الرأسمالية وإدخال الآلة وخلق البروليتاريا الصناعية. اليوم، وفي 12 آذار/مارس 2018، ألقى مارك كارني، الذي كان آنذاك حاكم مصرف إنكلترا، محاضرة عن «مستقبل العمل»، حذّر فيها من عودة «وقفة إنغلز»، وقال «ماركس وإنغلز قد يصبحان راهنين مرّة أخرى» إذا دمّرت التكنولوجيا الوظائف، وخفّضت الأجور وزادت عدم المساواة، بينما النخب الجديدة من العمّال ذوي المهارات العالية ومالكو الآلات العالية التقانة يحصلون على العوائد، وذلك بحسب ما نقلته صحيفة «إكسبرس» البريطانية. إذاً اليوم تهدّد الآلة العمّال، وحتى الطبقة الوسطى، بتراجع حصّتهم من الناتج كما حصل في بدايات القرن التاسع عشر، ويبدو أن بدايات عصر الآلة الثاني شبيهة ببدايات عصر الآلة الأول. لكن هذه المرّة قد تتحقّق ما قد تكون من أهم تحليلات ماركس وتوقعاته عن تأثير الآلة في الاقتصاد وفي التاريخ الإنساني، أي فتح الآلة المجال لتخطّي الرأسمالية.

في شتاء العام 1857-1858، كتب ماركس بسرعة محمومة ما عُرِف بالغروندريسه، وفيها بعض الصفحات في ما عُرف لاحقاً بـ«الجزيء عن الآلات». وفي هذا الجزيء استشراف لما ستحدثه التكنولوجيا المتطوّرة والأتمتة في الرأسمالية، وذلك بتفجير تناقضها الأساسي بين الحاجة إلى العمل الإنساني لخلق القيمة الزائدة وبين الأتمتة التي تجعل التكنولوجيا، أو ما سمّاه ماركس بـ«العقل أو الفكر العام» (general intellect)، أصل الثروة وليس وقت العمل. اليوم، يخلق التقدّم العلمي والتكنولوجي في الذكاء الاصطناعي والروبوتات هذا «الفكر العام»، الذي يعرِّفه هاردت ونيغري في كتابهم «الإمبراطورية» على أنه «ذكاء جماعي واجتماعي أُنشِئ بواسطة المعرفة والتقنيات والدراية المتراكمة». ويقول هاردت ونيغري أيضاً «عندها ستتحقّق قيمة العمل بواسطة قوة عاملة ملموسة وعامة من خلال الاستيلاء والاستعمال المجاني للقوى المنتجة الجديدة». وقد كان ماركس يرى دوماً التقدّم التكنولوجي والعلمي كأساس في تحديد التاريخ البشري. يقول إنغلز في رثاء ماركس «هكذا كان رجل العلم، وهذا لم يكن حتى نصف الرجل. كان العلم بالنسبة إلى ماركس قوة تاريخية دينامية وثورية. فكما استقبل بفرحٍ كل اكتشاف في العلوم النظرية، حتى لو لم يكن من الواضح تطبيقاته العملية، أحس بفرح من نوع آخر عندما ترافق أي اكتشاف مع التغيير المباشر في الصناعة وفي التطوّر التاريخي بشكل عام. على سبيل المثال، تابع عن قرب الاكتشافات المحقّقة في مجال الكهرباء».  طبعاً، أتت الكهرباء لاحقاً لتشكِّل أهم التكنولوجيات ذات الأغراض العامة التي غيّرت وجه الصناعة والإنتاج وشكل المصانع والرأسمالية بشكل عام وصولاً إلى تكنولوجيا خطوط التجميع، والتايلورية والفوردية وظهور العصر الذهبي للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية. 

في هذا الإطار، قدّم هانز مورافيك، من دون ذكر ماركس أو إنغلز أو الماركسية، تحليلاً للأتمتة مشابهاً لماركس. يأخذنا مورافيك في رحلة عبر الزمن تبدأ بحالة تطوّر الروبوتات في وقت كتابة الكتاب وصولاً إلى ما قد يكون بعد مئات السنين من الآن. وعلى طول الرحلة، يبني الروبوتات والبشر مجتمعاً وفيراً ويضعون نهاية للرأسمالية. ولأنه «يحب» الروبوتات، فقد افترض الوصول إلى ما هو أبعد من الحضارة البشرية الأرضية وصولاً إلى خلق أنواع جديدة خارج كوكب الأرض، التي تنفصل عن البشر والوجود البيولوجي. 

بحسب مورافيك، ستنتهي الرأسمالية لأن الروبوتات ستحلّ محل العمالة البشرية التي تنخفض إلى الصفر، ومن خلال إزاحة العمالة، ستجعل الروبوتات أيضاً الملكية غير مهمة في الاقتصاد

في المرحلة المتوسطة في استشراف مورافيك للمستقبل، أو ما سأسمّيه «المرحلة الماركسية»، سيطلق ما أسماه «عصر الروبوتات»، مدفوعاً بظهور الروبوت العام (universal robot)، العنان للإنتاجية، وسيقلّل من كمية العمل الضروري وينهي الرأسمالية. بحسب مورافيك، ستنتهي الرأسمالية لأن الروبوتات ستحلّ محل العمالة البشرية التي تنخفض إلى الصفر، ومن خلال إزاحة العمالة، ستجعل الروبوتات أيضاً الملكية غير مهمة في الاقتصاد. والسبب لن يكون صراعاً طبقياً بل المنافسة نفسها، إذ يقول مورافيك: «عاجلاً وليس آجلاً، قد تصبح الملكية لا يعتمد عليها كمصدر للدخل الإنساني كما حصل مع العمل المستبدل بالروبوت. وفي اقتصاد متغيّر وتنافسي حادّ، ستنتهي الشركات التي تبدِّد الموارد من خلال دفع رواتب للمالكين وستطرد من العمل على يد الشركات التي تعيد استثمار كل شيء في العمليات الإنتاجية والتنمية. ومثل البشر الذين طردتهم أسواق العمل من قبل عمّال روبوتيين أرخص وأفضل، سيتم دفع المالكين خارج أسواق رأس المال من قبل صناع القرار الروبوتيين الأرخص والأفضل بكثير. إن تبخر الملكية سينهي الرأسماليةَ. ووفقاً لمورافيك، سيحدث ذلك حوالي العام 2050.

هناك أربع ملاحظات يمكننا استخلاصها من رؤية مورافيك. أولاً، ماذا سيحدث للبشر؟ في هذا الإطار، إذا لم تكن هناك مؤسّسات غير سوقية، أي إذا اعتمدنا على ميكانيزمات السوق فقط في توزيع الدخل، فسوف يموت البشر في كارثة مالثوسية، لأن البشر من دون عمل ومن دون ملكية لن يكون لهم أي دخل ينتج من الأسواق كما هو حالياً في الرأسمالية. طبعاً، في الرأسمالية اليوم ونتيجة للإصلاحات الديمقراطية الاجتماعية التي ترسّخت بعد الحرب العالمية الثانية، هناك مداخيل غير سوقية مثل الضمان الاجتماعي الذي يضمن للمتقاعدين دخلاً معيناً. من هنا يمكن لمثل هذه الآليات غير السوقية أن تضمن هروب البشرية من مصيرها المالثوسي في اقتصاد آلي. يقول مورافيك إن البشر يمكنهم الاستمرار في فرض الضرائب على الشركات (التي تديرها الروبوتات الآن) لضمان تدفّق دخلهم. خطة مورافيك، بالإضافة إلى التحوّلات البنيوية في الملكية، يمكن اعتبارها بمثابة «خطّة ميدنر» للاقتصاد الآلي، وهي خطّة ابتكرها خبراء اقتصاد سويديون لدفع الديمقراطية الاجتماعية السويدية خطوة إلى الأمام في تحقيق الاشتراكية الديمقراطية، عبر دفع النموذج السويدي إلى إعادة التوزيع، ليس عبر الدخل فقط  (الذي بدأ في العام 1951) بل عبر إعادة توزيع الأصول. ووُضِعَت الخطّة في السبعينيات من قبل رودولف ميدنر وغيره بطلب من اتحاد النقابات العمّالية. ولكن أصيبت الخطّة بالفشل بحسب ميدنر لأن «حركة العمّال السويدية القوية أثبتت عجزها عن التعدّي على الملكية الخاصّة، وهي جوهر النظام الرأسمالي». وأضاف: «لقد انهار النظام السويدي، الذي يوازن بين الملكية الخاصة والسيطرة الاجتماعية، لأن القوة الحقيقية انتقلت من العمّال إلى أصحاب رأس المال». في مستقبل عصر الروبوتات ستنجح النسخة الآلية من خطة ميدنر  لأن العائق الأساسي فيها ألا هو الرأسمال والملكية الخاصة سينتهي.

ثانياً، وفقاً لمورافيك، عندما «يصبح العمل أمراً من الماضي» فإن الاقتصاد الآلي سيضمن للبشر حياة مريحة. طبعاً هذه ليست كالأحلام القروسطية بمجتمع الوفرة، لأنها في تلك الفترة كانت مجرّد أحلام بالأجبان التي تسقط من السماء أو بأنهر من النبيذ. تتوافق رؤية مورافيك مع رؤية ماركس للمجتمع الشيوعي الذي ينبثق عندما تصبح التكنولوجيا والعلوم أصل الثروة وليس وقت العمل كما رأينا في الغروندريسة. لكن في بحثه عن مثال للمجتمعات الحالية التي تتمتع بحياة مماثلة، يعطي مورافيك مثالاً «للممالك العربية الغنية بالبترول حيث تؤدّي العمالة الأجنبية المشتراة بالنفط دور الأتمتة». هذا كان صحيحاً ربما في العام 1997، ولكنه يصحّ جزئياً اليوم، وسيكون غير متوفر في المستقبل. لن يأتي مجتمع الوفرة عند ماركس من الريع، بل بتطوّر القوى المنتجة التي تبنيها الرأسمالية ثمّ الاشتراكية بشكل أعلى. إن ما يحدث اليوم في الخليج، وخصوصاً في السعودية، من محاولة التحوّل من اقتصاد الريع نحو «رأسمالية الدولة»، على الرغم من الاتجاه الآخر نحو ما يمكن أن نسمّيه «الريعية المستقبلية» مثل مشاريع نيوم والمكعب وغيرها، يؤكّد أهمية تطوير القوى المنتجة، وأن النفط لن يستمر إلى الأبد أو حتى لمدة طويلة ليستمر في تمويل شراء العمالة الأجنبية التي «تؤدّي اليوم دور الأتمتة».

ثالثاً، يقول مورافيك إن ماضينا القبلي (أو ماضينا الجامع) قد أعدّنا جيّداً لنعيش الحياة كالأغنياء بلا عمل، إذ أن «الخروج في فترة ما بعد الظهر لقطف التوت أو صيد السمك - وهو ما نعتبره نحن المتحضِّرون عطلة نهاية أسبوع ترفيهية - يوفّر احتياجات الحياة لعدد من الأيام. ويمكن قضاء بقية الوقت مع الأطفال، أو التواصل الاجتماعي أو مجرد الراحة». وهذا يشبه ما قاله ماركس وإنغلز في «الأيديولوجية الألمانية» عندما يختفي تقسيم العمل في الشيوعية، «إذ لا يتمتّع أحد بمجال حصري واحد للنشاط، ولكن يمكن لكلّ فرد أن يصبح بارعاً في أي فرع يرغب فيه، ينظّم المجتمع الإنتاج العام وبالتالي يجعل من الممكن بالنسبة إليّ أن أفعل شيئاً واحداً اليوم وآخر غداً، أن أصطاد في الصباح، وأصطاد السمك في فترة ما بعد الظهر، وأربي الماشية في المساء، وأنتقد بعد العشاء، تماماً كما أريد، من دون أن أصبح صيّاداً أو صيّاد سمك أو راعياً أو ناقداً». 

إن اعتبار البعض بأن التقدّم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي سيعني حتماً تفوق الرأسمالية المطلق أو أبديتها هو غير صحيح. يبدو أن هؤلاء لم يقرؤوا ماركس جيّداً، وبالتأكيد لم يقرؤوا مورافيك

رابعاً، في المادية التاريخية عند ماركس، يتطوّر التاريخ من المجتمعات الشيوعية البدائية (مجتمعات الجامعون) حيث تدعم الطبيعة الإنسان ولكنها تسيطر عليه، والطبيعة فوق الإنسان، إلى الشيوعية حيث الإنسان في النهاية هو الذي يسيطر على الطبيعة. نحن ما زلنا بعيدون من ذلك، لكن الأتمتة وصعود الروبوتات العامة التي تستطيع أن تعمل بمرونة وتفهم العالم الذي بدأت إرهاصاته الآن، تفتح المجال لذلك، بل حتى أن مورافيك يرى أن الإنسانية ستذهب أبعد من ذلك، إذ أن بعضها سيتخلّى عن بيولوجيته (لعله الأمر الأخير في سيطرة الطبيعة على الإنسان الذي لا يحلّها مجتمع الوفرة!) وتُخلق فصيلة ما بعد البيولوجيا (يطلق عليهم مورافيك Exes) التي تترك الأرض (أو تنفى من الأرض) وتذهب إلى الفضاء وصولاً إلى نهايتها في «العقل» (ربما الشكل الأخير والأعلى للعقل العام عند ماركس!). إذاً في نهاية التاريخ بعد آلاف السنين، سيشارف الانقسام الطبقي (الضروري للسيطرة على الطبيعة) على الانتهاء عند ماركس، أما عند مورافيك فهذه النهاية ليست إلا البداية لعالم تخيّله هو. 

إذاً، العلاقة بين الروبوتات وبين الرأسمالية أساسية، تاريخياً واليوم وفي المستقبل. لم يعرف الجزري الرأسمالية، أما مورافيك فيترك الرأسمالية إلى عوالم أخرى ربما يصبح «اللعب» فيها الأساس، عندما يترك الـExes شكلهم الروبوتي الفيزيائي ويتحوّلون إلى العقل نهاية الإنسانية. لكن اليوم، هنا، في خضم الرأسمالية، سنشهد المعركة الأخيرة بين الرأسمال والعمل مدفوعة بظهور عصر الروبوتات. وهنا يحدِّد ماركس أن المعركة ليست بين العامل والآلة بل بين العامل والرأسمالية. يقول ماركس «لقد تطلّب وقتاً وخبرة قبل أن يدرك العمّال أن يفرِّقوا بين الآلات وبين استخدامها من قبل رأس المال، وبالتالي لتحويل صراعهم  مع الأدوات المادية للإنتاج إلى صراع مع شكل المجتمع الذي يستخدم هذه الأدوات». وهنا، التكنولوجيا كما الطبقة التي خلقتها الرأسمالية ستكون «حفّارة قبرها». يعتقد البعض من الماركسيين أن المعركة ليست محسومة للشيوعية، بل قد نشهد «رأسمالية غير إنسانية»، حيث يستغل رأس المال «البروليتاري الاصطناعي»، ويستمر بتراكم رأس المال حتى لو همِّش العمل الإنساني (إلا أن احتمال ذلك ضئيل جداً، إذ يتطلّب من الإنسان أن يستسلم ليس للآلة فقط بل للرأسمال الآلي البحت، وفعلياً ينقرض، وهذا دونه الكثير من المقاومة في أقل صورها «الحل الديمقراطي الاجتماعي-خطة ميدنر الآلية»). بالتالي، وطبقاً للاحتمالات المختلفة ومدى تحقّقها الفعلي، فإن اعتبار البعض بأن التقدّم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي سيعني حتماً تفوق الرأسمالية المطلق أو أبديتها هو غير صحيح. يبدو أن هؤلاء لم يقرؤوا ماركس جيّداً، وبالتأكيد لم يقرؤوا مورافيك.