حركة احتجاجيّة جديدة في سوريا أم نسمة مقاومة من العام 2011؟
- يرتبط استعداد دمشق لخفض أشكال الدعم كافة بديناميكيتين رئيسيتين. أولاً، نقص أموال الدولة، حيث انخفضت موارد النظام واحتياطيّاته وإيراداته بشكل كبير منذ العام 2011. والأهمّ من ذلك، مواصلة النظام سياساته النيوليبرالية التقشّفية التي بدأها قبل العام 2011 وتسارعت في السنوات القليلة الماضية.
- في حين أصبح بقاء النظام مضموناً إلى حدٍّ ما، بفضل دعم حلفائه الأجانب، إلّا أن الحفاظ على شكل من أشكال الهيمنة على قطاعاتٍ واسعة من السكّان ليس مضموناً، ممّا يغذّي حالة من عدم الاستقرار المستمرّ، وهذا ما تُظهرته حركة الاحتجاج الأخيرة والتعبيرات الواسعة عن الإحباط الشعبي والغضب بين الطبقات الشعبية.
منذ منتصف آب/أغسطس 2023، تتواصل الاحتجاجات والإضرابات الكبيرة في محافظة السويداء في سوريا، التي تسكنها أقلية درزية بشكل رئيسي. ولم يتردّد المتظاهرون في قطع الطرق الرئيسة التي تربط المدن والقرى في الريف، ما أدّى إلى تعطيل الوصول إلى العاصمة دمشق. كما نفِّذ إضراب عام في المحافظة مع إغلاق جميع مؤسّسات الدولة بالقوّة، باستثناء تلك المُصنّفة ضمن الخدمات الأساسية. احتلّ المتظاهرون المحاكم القضائية ومقرّ حزب البعث في مدينة السويداء ومكاتب حزبية أخرى في مدن متعدّدة بالمحافظة، ومنعوا الموظّفين من الدخول، وأحرقوا لافتات كبيرة وصوراً للديكتاتور السوري بشّار الأسد بينما كانوا يردِّدون شعارات تطالب بإسقاط النظام. بالإضافة إلى ذلك، سلّطت الحركة الاحتجاجية الضوء على أهمّية وحدة الشعب السوري، والإفراج عن كلّ المعتقلين السياسيين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، بينما طالبت بتنفيذ قرار الأمم المتّحدة رقم 2254 الذي يدعو إلى الانتقال السياسي. واتسمت الاحتجاجات بحيوية كبيرة وحضور نسائي كبير، وضمّت القبائل العربية والمسيحيين.
شهدت مدن ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة النظام السوري، من ضمنها محافظتي درعا وريف دمشق، احتجاجات، وإن كانت على نطاق أضيق. في محافظة درعا، التي وقعت جزئياً تحت سيطرة السلطات في دمشق صيف 2018 بعد إبرام اتفاق تسوية برعاية روسية بين فصائل المعارضة المُسلّحة والنظام، شهدت بلدات عدّة احتجاجات وحتّى إضرابات، أدّت إلى إغلاق العديد من المحال التجارية في مناطق مختلفة، منها تل شهاب، ونوى، وجاسم، والصنمين، وطفس، وبصرى الشام. وخلال هذه الاحتجاجات، تم أيضاً حرق صور بشار الأسد.
جذور الحركة الاحتجاجية الشعبية الجديدة
في حين تعود جذور هذه الاحتجاجات إلى طبيعة النظام السوري وممارساته وسياساته الاقتصادية، فإن الشرارة وراء التظاهرات الأخيرة مرتبطة بالقرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة السورية، وأدّت إلى مزيد من التدهور في الظروف المعيشية للطبقات الشعبية في البلاد. ففي حين رفعت الحكومة السورية الرواتب بنسبة 100%، أعلنت بالتزامن عن إلغاء الدعم كلياً عن البنزين ورفعه جزئياً عن المازوت، بحيث ارتفع سعر ليتر البنزين (90 أوكتان) المدعوم إلى 8,000 ليرة سورية، مقارنة بـ 3,000 ليرة سورية سابقاً، أي بزيادة بنسبة 167%. وكذلك، ارتفع سعر ليتر المازوت المدعوم إلى 2,000 ليرة سورية مقارنة بـ 700 ليرة سابقاً، أي بزيادة بنسبة 186%. أمّا سعر البنزين (95 أوكتان) غير المدعوم فقد رُفِع مرّتين في شهر آب/أغسطس الماضي ليصل إلى 14,700 ليرة سورية مقارنة بـ 10,000 ليرة سورية في تموز/يوليو 2023، أي بزيادة بنسبة 47%.
النظام ليس مُستعدّاً لوقف إجراءاته التقشّفية التي تؤثِّر سلباً على الطبقات الشعبية. فقد سرت شائعات في وسائل إعلام مختلفة عن أن النظام السوري يُخطَّط لخفض الدعم عن مزيد من السلع الغذائية
يؤثِّر ارتفاع أسعار المشتقّات النفطية على جميع مستويات الاقتصاد والمجتمع. فهو يؤدّي إلى تآكل أي مكسب إيجابي من ارتفاع الرواتب، ويؤثِّر سلباً على المشاريع الزراعية والصناعية من خلال زيادة تكاليف الإنتاج التي تنعكس بدورها على أسعار السلع. كما تصل الآثار السلبية لارتفاع أسعار المشتقّات النفطية إلى تكاليف النقل، التي يزيد ثقلها على الأشخاص الذين يعيشون خارج المراكز الحضرية الرئيسة حيث تقع معظم مؤسّسات الدولة والأنشطة الاقتصادية الكبرى. في الواقع، أدّى ارتفاع تكاليف النقل إلى زيادة التغيّب عن العمل في المؤسّسات العامّة، بعد أن أصبحت تكاليف النقل تمثِّل في بعض الأحيان حوالي نصف راتب الموظّف أو أكثر. وبالنتيجة، يتزايد عدد الموظّفين في القطاع العام السوري الذين يستقيلون من مناصبهم بسبب انخفاض الرواتب وزيادة تكاليف النقل، وهو ما ردَّ عليه النظام بتشديد شروط قبول الاستقالة.
ينطوي ارتفاع أسعار المشتقّات النفطية على آثارٍ سلبية على السكن والحياة اليومية، خصوصاً أن تكاليف تشغيل المولِّدات الخاصّة مرتفعة للغاية، ممّا يؤدّي إلى انقطاع التيّار الكهربائي لفترة أطول، وبالتالي تغيير عادات المستهلكين وسلوكهم. فالكهرباء، سواء المُقدّمة من القطاع العام أو المولِّدات الخاصّة، غير قادرة على تشغيل الثلَّاجات، لذلك تقوم الأسر عموماً بشراء المواد الغذائية ليومٍ واحدٍ فقط، أو شراء المنتجات التي تصل مدّة صلاحيّتها إلى بضعة أيام من دون الحاجة إلى التبريد.
النظام ليس مُستعدّاً لوقف إجراءاته التقشّفية التي تؤثِّر سلباً على الطبقات الشعبية. فقد سرت شائعات في وسائل إعلام مختلفة عن أن النظام السوري يُخطَّط لخفض الدعم عن مزيد من السلع الغذائية، مثل السكر والأرز والخبز، وإلغاء الدعم بشكل كامل عن المشتقّات النفطية قبل نهاية العام. علاوة على ذلك، تخطِّط دمشق لإلغاء الدعم عن جميع السلع بحلول العام 2024.
يرتبط استعداد دمشق لخفض أشكال الدعم كافة بديناميكيتين رئيسيتين. أولاً، نقص أموال الدولة، حيث انخفضت موارد النظام واحتياطيّاته وإيراداته بشكل كبير منذ العام 2011. والأهمّ من ذلك، مواصلة النظام سياساته النيوليبرالية التقشّفية التي بدأها قبل العام 2011 وتسارعت في السنوات القليلة الماضية. لا يمكن اعتبار هذه القرارات ضرورية أو التعامل معها كخيارات «تكنوقراطية» كما قدّمتها السلطات في دمشق، بل هي وسيلة لتغيير الظروف العامّة لتراكم رأس المال وتمكين الشبكات الاقتصادية المُرتبطة بالنظام. وعادة، تغتنم الدول في جميع أنحاء العالم الأزمات باعتبارها فرصة لإعادة الهيكلة وتعزيز التغييرات بطرقٍ لم تكن متصوَّرة سابقاً من أجل توسيع نطاق السوق في مجموعة واسعة من القطاعات الاقتصادية.
يعكس الانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السورية المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي تعاني منها سوريا، وتعود جذورها إلى آثار الحرب والسياسات الحكومية، وقد تفاقمت بسبب العقوبات والصدمات الخارجية مثل الأزمة المالية اللبنانية في 2019 والغزو الروسي لأوكراني
وبطبيعة الحال، أدّت هذه السياسات إلى توسيع فجوة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية، وبالتالي تكرار المشاكل، التي كانت موجودة قبل اندلاع الانتفاضة في العام 2011، وتعميقها.
بشكل أعمّ، لم يتمكّن النظام السوري من معالجة تدهور الاقتصاد. ومنذ منتصف نهاية تموز/يوليو 2023، انخفضت قيمة الليرة إلى مستويات قياسية جديدة، إذ وصلت إلى 15 ألف ليرة سورية للدولار الواحد، قبل أن تتحسّن قليلاً في نهاية آب/أغسطس وتصل إلى 13,800 ليرة سورية للدولار الواحد. كان فقدان قيمة العملة الوطنية السورية ثابتاً منذ بداية العام، لكنه تصاعد في منتصف تموز/يوليو، حيث انتقل من 9,000 ليرة سورية في أواخر أيار/مايو إلى أكثر من 13,000 ليرة سورية في نهاية تموز/يوليو. وأدّى هذا الوضع إلى حالة من الذعر في الأسواق المحلّية مع ارتفاع أسعار جميع المنتجات الأساسية، من المواد الغذائية إلى المحروقات والمشتقّات النفطية، بحيث ربط الفاعلون الاقتصاديون، وخصوصاً التجّار، أسعار السلع والخدمات بسعر السوق السوداء لليرة السورية من أجل الحفاظ على أرباحهم.
يعكس الانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السورية المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي تعاني منها سوريا، وتعود جذورها إلى آثار الحرب والسياسات الحكومية، وقد تفاقمت بسبب العقوبات والصدمات الخارجية مثل الأزمة المالية اللبنانية في 2019 والغزو الروسي لأوكرانيا.
ومن أجل التعويض عن ارتفاع أسعار المشتقّات النفطية، منحت الحكومة بشكل عام مكافآت أو زيادة في رواتب وأجور موظّفي الدولة والمتقاعدين. ولكن لا تعوِّض هذه القرارات، إلّا جزئياً، عن الانخفاض الكبير في القوّة الشرائية للسكّان، في حين لا يستفيد الأفراد العاملون لحسابهم الخاصّ من أي تدابير مماثلة.
بلغ الحدّ الأدنى لسلّة الإنفاق لأسرة مكوّنة من خمسة أفراد، وهو مقياس لحساب تكلفة المعيشة بناءً على تدابير برنامج الأغذية العالمي، نحو 1,440,841 ليرة سورية في تموز/يوليو 2023، وهو ما يعادل 168.7 دولاراً أميركياً على سعر الصرف الرسمي البالغ 8,542 ليرة سورية/دولار، أو 110 دولارات على سعر الصرف في السوق السوداء في بداية أيلول/سبتمبر 2023). في الواقع، يزيد الحدّ الأدنى لسلّة الإنفاق بنسبة 90% عن العام السابق. وبالمقارنة، فإن الحدّ الأدنى للأجور الذي تمّت مضاعفته في آب/أغسطس، لم يتجاوز 185,940 ليرة سورية، وهو ما يعادل 21.8 دولاراً على سعر الصرف الرسمي، أو نحو 14.3 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق السوداء في بداية سبتمبر/أيلول 2023. وهذا ما يمثِّل نحو 13% فقط من الحدّ الأدنى لسلّة الإنفاق لشهر تموز/يوليو 2023. وبالمقارنة، كان متوسّط أجر الموظّف الحكومي في العام 2011 يتراوح بين 200 و320 دولاراً، على سعر صرف يبلغ 47 ليرة سورية للدولار الواحد.
بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية الدولية، أصبحت التحويلات المالية التي يرسلها الشتات السوري إلى عائلاتهم وأقاربهم داخل البلاد شبكة أمان حاسمة للمجتمعات المحلية بشكل متزايد. ومن دون هذه الأموال، لن تتمكّن قطاعات كبيرة من السكّان من تحمّل النفقات اليومية، إلّا من خلال الاقتراض و/أو المديونية للتجّار.
حكم ذاتي محدود يتيح مساحة للمقاومة
بين عامي 2011 و2013، خرجت تظاهرات عدّة في محافظة السويداء مناهضة للنظام. ومع تزايد عسكرة الانتفاضة وصعود القوى الأصولية الإسلامية، اتخذت غالبية السكّان الدروز في السويداء موقفاً محايداً. ومع ذلك، شهدت المحافظة المزيد من أشكال المعارضة والاحتجاجات في السنوات الأخيرة، لا سيّما بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية منذ نهاية العام 2019. وتركّزت الاحتجاجات والتظاهرات بشكل أساسي على مطالب مرتبطة بتحسين الظروف المعيشية. وفي الوقت نفسه، كانت القضايا السياسية حاضرة دائماً، على سبيل المثال، تمّ تنظيم احتجاجات تندِّد بالحملة الرئاسية لـ«إعادة انتخاب» بشّار الأسد في أيار/مايو 2021. تترابط العوامل السياسية والاقتصادية بالكامل ولا يمكن فصلهما، وهذا ما ثبُت في الاحتجاجات الأخيرة التي وصف فيها المتظاهرون النظام بالمذنب والمسؤول عن الانتهاك المستمرّ لحقوق الإنسان وتدهور الظروف المعيشية.
السبب الرئيس لعدم قدرة النظام على قمع هذه الاحتجاجات هو ضعف النظام نفسه، الذي سمح بظهور شكل من أشكال الحكم الذاتي المحدود في محافظة السويداء
وفي حين وصفت وسائل الإعلام الموالية للنظام المتظاهرين كذباً بأنّهم عملاء أجانب يتبعون أجندة انفصالية، يُزعم أنها مدعومة من الولايات المتّحدة وإسرائيل، امتنعت قوّات أمن النظام بشكلٍ عام حتّى الآن عن استخدام القمع العنيف. يتجنّب النظام استخدام القمع العنيف ضدّ المحافظة كجزء من سياسته المُتمثّلة في استغلال الطائفية والظهور كحامي للأقلّيات الدينية، لكن السبب الرئيس لعدم قدرة النظام على قمع هذه الاحتجاجات هو ضعف النظام نفسه، الذي سمح بظهور شكل من أشكال الحكم الذاتي المحدود في محافظة السويداء. أجبر هذا الضعف دمشق على تقديم تنازلات لمنطقة السويداء، ومنح المزيد من الحكم الذاتي لبعض القوّات المُسلّحة المحلّية والتسامح مع مستوى معيّن من المعارضة. على سبيل المثال، هناك عشرات الآلاف من رجال المحافظة يرفضون أداء الخدمة العسكرية والخدمة في جيش النظام. مع ذلك، وفي سياق بسط سلطتها في جميع أنحاء البلاد منذ العام 2019، بذلت السلطات في دمشق محاولات عدة لتعزيز وجودها العسكري والسياسي في السويداء، بما في ذلك محاولة خلق فوضى أمنية في المحافظة من خلال شبكاتها الأمنية واستخدام عصابات مسلّحة. لكن ذلك لم ينجح، ولم يتمكّن النظام من استعادة كامل سلطته في محافظة السويداء، بسبب عجزه الموضوعي عن تقديم حلول للأزمات الاقتصادية والاستجابة للمطالب المحلّية، كما أظهرت التظاهرات الأخيرة.
توسيع الحركة الاحتجاجية؟
وفي حين يستحق صمود متظاهري السويداء وشجاعتهم الإشادة، فإن امتداد الحركة الاحتجاجية إلى مناطق أخرى هو وحده الذي يمكن أن يسمح لها بالاستمرار، علاوة على أنها تمثِّل تحدِّياً حقيقياً للنظام. تشهد مدن مختلفة، مثل اللاذقية وحلب، حملات اعتقالات منذ بداية الاحتجاجات في السويداء بسبب تخوّف الأجهزة الأمنية التابعة للنظام من امتداد الحركة الاحتجاجية إلى مناطق أخرى. وفي الوقت نفسه، هناك محاولات يخوضها النظام السوري، وكذلك النظامين الإيراني والتركي، من أجل تصوير الاضطرابات في شمال شرق البلاد على أنها نتيجة صراع عرقي بين العرب والأكراد بغية تقسيم السوريين مرّة أخرى على أسُس عرقية وطائفية وصرف انتباه الطبقات الشعبية السورية عن التحرّكات الاحتجاجية في السويداء.
إذا ظلت الاحتجاجات مقتصرة على محافظة السويداء، وإلى حدّ ما درعا، فمن المرجّح أن يراهن النظام على الوقت وتعب المتظاهرين من استمرار الحراك والضغوط الاقتصادية الناجمة عن إغلاق الأنشطة الاقتصادية قبل خفوتها. عدا أن منطقة السويداء تعتمد على النظام من أجل تأمين المواد الغذائية والمحروقات والخدمات، التي توفّر جميعها عبر طريق دمشق-السويداء. وفي هذا السياق، من المرجّح أن تفقد الحركة الاحتجاجية زخمها تدريجياً.
هناك إحباط وغضب شعبي واسع بين قطاعات كبيرة من السكّان من السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكومة والفساد والممارسات الاستبدادية، وقد تمّ التعبير عنها على وسائل التواصل الاجتماعي. اعتُقِل العديد من الأشخاص بسبب انتقادهم لسياسات النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل العامل الزراعي أحمد إبراهيم اسماعيل من مدينة جبلة بريف محافظة اللاذقية، بسبب شكواه من الوضع الاقتصادي البائس الذي تعيشه البلاد. وفي حالة أخرى، نشر أيمن فارس، وهو موظّف حكومي ومقيم في بلدة بانياس جنوب اللاذقية، مقطع فيديو اشتكى فيه أيضاً من سوء الظروف المعيشية في البلاد وتحدّى بشّار الأسد لاعتقاله. وبعد فترة وجيزة من انتشار الفيديو تمّ اعتقاله بالفعل بعد محاولته الوصول إلى محافظة السويداء والانضمام إلى حركتها ضدّ النظام.
إذا ظلت الاحتجاجات مقتصرة على محافظة السويداء، وإلى حدّ ما درعا، فمن المرجّح أن يراهن النظام على الوقت وتعب المتظاهرين من استمرار الحراك والضغوط الاقتصادية الناجمة عن إغلاق الأنشطة الاقتصادية قبل خفوتها
وفي خضم هذه الاحتجاجات الأخيرة، جرت محاولات عدّة من أجل إنشاء تجمّعات سياسية جديدة. على سبيل المثال، أصدرت «حركة سلمية سوريا»، التي تضمّ مجموعة من الناشطين السوريين، دعوة للعصيان المدني والإضراب الشامل في مدن وبلدات جنوب سوريا، في بداية الاحتجاج في منتصف آب/أغسطس الماضي، بعد قرارات النظام برفع الدعم عن المحروقات والمشتقّات النفطية. وبالمثل، ظهرت مجموعة كبيرة أخرى تسمّى «حركة 10 آب»، قبيل اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، هدفها الأساسي، كما هو موضح في بيانها الأولي، معالجة المعاناة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعب السوري الناتجة عن سياسات النظام مع التأكيد على المقاومة السلمية واللاطائفية. كما تدعو، من بين أشياء كثيرة، إلى زيادة الحدّ الأدنى للأجور إلى 100 دولار، وتحرير جميع السجناء السياسيين، ورحيل جميع قوّات الاحتلال الأجنبي وتنفيذ قرار الأمم المتّحدة 2254، إلخ... وتجمع هذه المجموعة الجديدة آلاف الأعضاء داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام، وتنظِّم نفسها بطريقة لا مركزية عبر الإنترنت. انطلقت الحركة بداية في مدينة اللاذقية، والآن باتت تضمّ أفراداً من مختلف أنحاء البلاد ومن مختلف الطوائف والأعراق. لكن امتنعت هذه الحركة الجديدة حتّى الآن عن الدعوة إلى الاحتجاجات خوفاً من القمع العنيف. وتعتبر الحركة أنها تحتاج أولاً إلى الوصول إلى دعم شعبي مهم، قبل الدعوة إلى الاحتجاجات.
مع ذلك، تعدُّ هذه المجموعات وأعمال المعارضة الجديدة صغيرة إلى حدّ ما وبعيدة من أن تشكّل تحدّياً للنظام على المستوى الوطني. لا تزال قدرة الطبقات الشعبية على التنظيم الذاتي والعمل الجماعي مقيّدة إلى حدّ كبير من قبل قوّات الأمن القمعية. في الوقت نفسه، وفي ظل أزمة اجتماعية واقتصادية مستمرّة ومتجذّرة، وغياب جبهة مقاومة موحّدة منظّمة على المستوى الوطن، من الصعب أن نتصوّر أن تواجه الطبقات الشعبية أو تقاوم، بشكل هادف، تدهور ظروفها المعيشية أو تفاقم الهياكل الاستبدادية للدولة. وبالنسبة لقطاعات كبيرة من الطبقات الشعبية، أصبحت الهجرة في كثير من الأحيان الخيار الوحيد لحياة أفضل.
مع ذلك، فإن نسمة المقاومة الشعبية هذه، التي تذكِّر الجميع بانتفاضة العام 2011، تظهر أن الصيرورة الثورية لا تزال مفتوحة على الرغم من كلّ الصعاب.
حالة اللاستقرار الدائمة
إن إعادة اندماج سوريا في جامعة الدول العربية والتطبيع مع المملكة العربية السعودية في ربيع العام 2023 شكّلا انتصارات سياسية لدمشق - وهي كذلك - بعد سنوات من العزلة. لكن لا يعني هذا التطوّر السياسي أن ثمة عملية تلقائية على المديين القصير والمتوسط من أجل تحقيق انتعاش اقتصادي مبكر وإطلاق عملية إعادة الإعمار في البلاد، وبالتالي تعزيز هياكل النظام. فقد ركّزت عملية التطبيع حتّى الآن على استعادة العلاقات الدبلوماسية بين دمشق ودول المنطقة، بدلاً من تعميق العلاقات والتبادلات السياسية والاقتصادية.
تعود جذور الأزمة الاقتصادية في سوريا إلى الحرب القاتلة التي يشنُّها النظام ضدّ قطاعات كبيرة من السكّان، وتدمير البنى التحتية، وانتهاج سياسات نيوليبرالية، وتفشّي ممارسات الفساد التي تبدّي شبكات معيّنة من رجال الأعمال المرتبطين بالقصر الجمهوري، وتنفيذ تدابير تقشّفية، بما في ذلك تقليص الدعم الحكومي عن السلع الأساسية، وخصوصاً المشتقّات النفطية. وفي الوقت نفسه، لم تتخذ أي إجراءات ملموسة لمواجهة انخفاض قيمة الليرة السورية وارتفاع معدّل التضخّم ووقف تآكل قيمة الرواتب والقدرة الشرائية للطبقات الشعبية.
في هذا السياق، أصبح بقاء النظام مضموناً إلى حدٍّ ما، بفضل دعم حلفائه الأجانب، ولاسيّما روسيا وإيران بشكل أساسي، إلّا أن الحفاظ على شكل من أشكال الهيمنة على قطاعات واسعة من السكّان ليس مضموناً، ممّا يغذّي حالة من عدم الاستقرار المستمرّ، وهذا ما تُظهرته حركة الاحتجاج الأخيرة والتعبيرات الواسعة عن الإحباط الشعبي والغضب بين الطبقات الشعبية.