
كيف تبيعنا شركات الأدوية «علاجات» غير مجرَّبة؟
كشف تحقيق استقصائي نشره موقع «ذي ليفير» (The Lever)، عن خللٍ عميقٍ في نظام الموافقات الدوائية التي تمنحها «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» (FDA) والتي بموجبها تُسوَّق الأدوية في الولايات المتحدة الأميركية وتُصدَّر إلى دول العالم. بيّن التحقيق أن معظم الأدوية الجديدة التي تمّت المصادقة عليها في خلال العقد الماضي، استندت إلى أدلّة علمية غير كافية أو غير موثوقة ولم تستوفِ المعايير الموضوعة من الإدارة نفسها، والأفدح هو أنّ معظم الأدوية التي وافقت عليها «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» تبيَّن أنها غير فعّالة وأن أعراضها الجانبية خطيرة وفي بعض الأحيان قاتلة.
تُعدّ «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» (FDA) واحدة من أقوى الهيئات التنظيمية في العالم في مجال الأدوية والأجهزة الطبّية (بميزانية بلغت 6.9 مليار دولار في عام 2024)، ولا يقتصر تأثيرها على السوق الأميركية فحسب، بل يمتدّ ليشكّل معياراً عالمياً تعتمد عليه دولٌ كثيرة في قراراتها بشأن تسويق الأدوية واستخدامها. فموافقة الـ FDA يُنظَر إليها بمثابة «ختم جودة» تجاري وعلمي يمنح الشركات المصنّعة للأدوية أداةً لتسويق منتجاتها دولياً ويؤثر في قرارات الهيئات الصحّية حول العالم. هذه «الإدارة»، بما لها من سلطة ومعايير، هي حلقة في سلسلة رأسمالية تُعيد إنتاج المرض لا القضاء عليه ضمن نظام عالمي يجعل من الدواء أداة ربح ومراكمة ثروات، ويُعيد إنتاج الظروف التي تُبقي الناس في حالة استهلاك دائم للدواء.
تتولّى «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» تنظيم منتجات بقيمة 3.9 تريليون دولار كل عام، أي ما يقارب ثُمن الاقتصاد الأميركي، بين أدوية وأغذية ومكمّلات غذائية وتبغ وأجهزة طبّية. تقول الحكومة الأميركية إن «إدارة الغذاء والدواء تتحمّل مسؤولية حماية الصحة العامة من خلال ضمان سلامة وفعالية وأمن الأدوية البشرية والبيطرية والمنتجات البيولوجية والأجهزة الطبّية وإمدادات الغذاء في بلادنا ومستحضرات التجميل والمنتجات التي تنبعث منها الإشعاعات»، لكن مسيرة الإدارة تلك شابتها أخطاء كثيرة إذ لم تعد تؤدي دور «الرقيب الحازم على سوق الغذاء والدواء» كما تدّعي (وهو أحد أسباب إنشائها)، بل باتت في كثيرٍ من الحالات شريكاً ضمنياً لشركات الأدوية تتقاسم المكاسب معها ويطال أذاهما المرضى في مختلف أنحاء العالم.
فمثلاً، في العام 1992، أقرّ الكونغرس «قانون رسوم مستخدمي الأدوية الموصوفة» (PDUFA) الذي يسمح لـ«إدارة الغذاء والدواء» بتحصيل رسوم من شركات الأدوية لتمويل عملية الموافقة عليها، وقد باتت تلك الرسوم تموّل جزءاً كبيراً من ميزانيتها، ما خَلَق علاقة مالية مباشرة بين الجهة الرقابية والمصنّعين. وقد أوجد هذا النموذج المالي تضارب مصالح بنيوياً، حيث تمارس شركات الدواء ضغوطاً لتسريع الموافقات وتليين المعايير، ما يحوّل الأدوية من أدوات علاجية إلى سلع تجارية تُسوَّق بحملات إعلانية تفوق أحياناً قيمتها العلاجية الفعلية. هكذا، تتمّ الموافقة على الأدوية الجديدة بشكل سريع وبقيود مخفّفة لتوزّع في الأسواق العالمية وليوصي بها الأطبّاء من دون تجارب سريرية كافية تثبت فعاليتها وتتحقق من خطورة أعراضها الجانبية. من جانبها تكتفي «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» بـ«وعود» من الشركات المصنّعة باستكمال الدراسات والتجارب على الأدوية ـ بعد ـ تجريبها على الناس! ويشير تحقيق «ذي ليفير» أن تلك الدراسات الموعودة غالبًا ما تتأخّر لسنوات، أو لا تُجرى أصلًا، إذ إن أكثر من ثلث الأدوية المعتمدة عبر المسار المسرَّع لم تُكمل تجاربها الإلزامية، وعلى الرغم من ذلك يبقى بعضها في الأسواق (حتى بعد فشل التجارب أحياناً) وتصنَّف في خانةٍ تسمّى «الموافقات المعلَّقة».
غير فعّال ويسبّب العمى… والموت
يُعدّ دواء «إلميرون» Elmiron (من إنتاج شركة «جانسن» Janssen Pharmaceuticals البلجيكية) مثالاً صارخاً على كيفية اعتماد أدوية من دون التحقّق الكافي من فعاليتها وسلامتها وتداعيات ذلك على المرضى. تمّت الموافقة على «إلميرون» عام 1996 من قبل «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» كعلاج لمتلازمة المثانة المؤلمة (Interstitial Cystitis)، وقد سُمح بتسويقه رغم غياب أدلّة سريرية قوية تؤكد فعاليته. وافقت الـFDA على هذا الدواء بناءً على بيانات محدودة قدّمتها الشركة المصنّعة تظهر «مؤشرات واعدة» فقط، على أن يتم «لاحقاً» إجراء «تجربة تحقّقية واسعة النطاق». لم تُنجَز تلك التجربة إلا بعد 18 عاماً من الموافقة على الدواء وتداوله في السوق، وأظهرت نتائجها أن «إلميرون» لم يكن أكثر فعالية من الدواء الوهمي (placebo) في تخفيف الأعراض. والأسوأ من ذلك، أن العقار ظلّ يُوصَف لآلاف المرضى خلال تلك السنوات من دون رقابة كافية، ما أدّى إلى عواقب صحّية كارثية. ففي عام 2018، بدأت تظهر تقارير طبّية مستقلّة تربط استخدام «إلميرون» بحالات تلف الشبكية والبقعة الصفراء في العين، مما أدّى إلى إصابة عدد من المرضى بفقدان تدريجي وغير قابل للعلاج في البصر. لاحقاً، أبلغ مرضى آخرون عن إصابتهم بالتهاب القولون التقرّحي الحادّ، وعن تلفٍ دائم في الأمعاء والمعدة، وأحيانًا عن فشل في وظائف الكبد. وُثّقت كذلك حالات انتهت بالوفاة نتيجة مضاعفات مزمنة أو سوء تشخيص الأعراض الناتجة عن الدواء، كما ورد في الدراسة.
توالت الدعاوى القضائية ضد الشركة المصنّعة للدواء (Janssen Pharmaceuticals)، حيث اتّهمها المرضى بإخفاء الأدلّة عن المخاطر المحتملة وعدم التحذير المبكر منها. كما واجهت «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» انتقادات حادّة لتقاعسها في متابعة نتائج الدراسات التحقّقية، ولتأخّرها في فرض تحذيرات واضحة على عبوة الدواء.
تجسّد تجربة Elmiron بشكل واضح المخاطر القاتلة الناجمة عن تقديم الأهداف الربحية على سلامة الناس والحفاظ على حياتهم، كما تكشف هشاشة النظام الرقابي الذي يسمح لأدوية غير فعّالة – بل وخطيرة – بالوصول إلى السوق والبقاء فيها لعقود من دون مساءلة جادّة.
موافقات قبل التجارب
حلّلت الدراسة التي استند إليها تحقيق «ذي ليفير» 429 دواءً جديداً تمّت الموافقة عليها بين عامي 2013 و2022، وتبيّن أن 73% منها لم تستوفِ المعايير العلمية الأربعة الأساسية التي تضعها FDA، وهي: وجود تجارب مضبوطة باستخدام دواء وهمي، تطبيق بروتوكولات التعمية لتفادي التحيّز، استخدام مؤشرات سريرية فعلية بدلاً من المؤشرات البديلة، وتكرار النتائج في أكثر من تجربة. وفقاً للدراسة، فإن أقلّ من ثلث هذه الأدوية (28%) استوفت كل تلك المعايير.
في علاجات السرطان تحديداً، تبدو الصورة أكثر سواداً، إذ من بين 123 دواءً مضاداً للسرطان تمّت الموافقة عليها خلال فترة الدراسة، اعتمد 81% منها على مؤشرات بديلة فقط مثل تقلّص الورم من دون إثبات فعلي على تحسين ظروف البقاء أو جودة الحياة لملتقّي العلاج، والأسوأ أن 2.4% فقط من هذه الأدوية استوفت المعايير العلمية الأربعة المحددة لدى FDA. يذكر أنه بين عامي 2018 و2021، أنفقت برامج التأمين الصحي في الولايات المتحدة ما يقارب 18 مليار دولار على أدوية لم تثبت فعاليتها بشكل قاطع بينما تُقدّر الوفيات الناجمة عن الأعراض الجانبية للأدوية الموصوفة في الولايات المتحدة بنحو 128,000 حالة سنوياً.