Preview فسيفساء تمويل الصحة في لبنان

فسيفساء تمويل الصحَّة في لبنان

تتركّز معظم النقاشات في الصحة العامة في أكلاف الفاتورة الصحيّة على المجتمعات، ويحاجج البعض أن لو أُمّن التمويل الكافي للصحّة لما كان هناك حاجة لعلم الصحة العامة الذي يقتصر دوره في ابتكار أساليب لتوزيع الموارد القليلة على الصحة. تأتي سطحيّة هذه المقولة في سياق تسطيح متعمّد لحق الأفراد والمجتمعات بأن يعيشوا حياةً طويلة وصحيّة وتدعم منظار الإنفاق على الصحة كعبء يجب تقليصه قدر المستطاع. 

عندما أنشئت الخدمة الصحيّة الوطنيّة التي أمّنت تغطية صحيّة شاملة في بريطانيا في العام 1948، كانت تمرّ البلاد بأسوأ أوضاعها الاقتصادية بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية وما خلّفته من دمار على بناها التحتيّة، ومجتمعها، وإمبراطوريتها.تم توفير التمويل للصحة على الرغم من شحّ الموارد إلى حدّ تقنين الغذاء والمحروقات واللباس. قبل الغوص في دهاليز تمويل النظام الصحي اللبناني، لا بد من التذكير بأن كميّة وكيفيّة تمويل الصحّة هي مسألة سياسيّة بحتة وغياب الإرادة السياسية هو العائق الوحيد أمام تأمين تغطية صحيّة شاملة لجميع المقيمين في أي بلد.

فسيفساء الصناديق

يُشبّه نظام تمويل القطاع الصحي اللبناني بالفسيفساء المجزأة. يعود ذلك إلى خليط من القوانين والمراسيم المطبقّة وغير المطبّقة أو المطبقّة جزئياً أو تعسّفياً، والتي تنظّم شؤون صناديق اجتماعيّة تجمع مساهمات ماليّة من مشتركين وتؤمّن لهم في المقابل تأميناً صحياً، بالاضافة إلى خدمات أخرى متفاوتة مثل التعليم ومكافأة نهاية الخدمة.

الدولة تخلّفت عن دفع حصّتها من الاشتراكات والمساهمات في صندوق الضمان الاجتماعي منذ سنوات سبقت الأزمة الاقتصادية، وفاقت تلك المبالغ 6,000 مليار ليرة في العام 2023

تتشكّل هذه الفسيفساء من 6 صناديق قائمة على التوظيف، والاشتراك الإلزامي للأجراء والموظفين فيها، وهي: الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (كان يغطي 26.1% من المواطنين اللبنانيين قبل الأزمة الاقتصادية)، تعاونيّة موظّفي الدولة (4.4%)، وصناديق الجيش اللبناني (8.8%)، وقوى الأمن الداخلي، والأمن العام، وقوى الأمن الخاصة (1.9%). ويضاف إليها صناديق اختياريّة وهي شركات التأمين الخاصّة (8%) وصناديق التعاضد (1.6%). أخيراً يضاف صندوق وزارة الصحّة الذي لا يموّل من المساهمات بل من الخزينة العامة، ويغطّي حالات طبيّة معيّنة وحالات خاصّة للمواطنين الذين لا يتمتّعون بأي تغطية صحيّة.

يخضع كلّ من هذه الصناديق لإدارة مستقلّة عن الأخرى. على سبيل المثال، يتبع صندوق الضمان الاجتماعي لوزارة العمل، وصندوق الجيش لوزارة الدفاع، وشركات التأمين لوزارة الاقتصاد، وصناديق التعاضد لوزارة الزراعة. لا يخلق هذا تعدّدية في الإدارة فحسب، إنما يضعف أيضاً قدرة الصناديق على التفاوض.

تُموّل هذه الصناديق من مصدرين أساسيين وهما اشتراكات تُدفع إما عبر اقتطاع نسب مختلفة من رواتب الموظّفين والأجراء بحسب وظائفهم ورتبهم، أو عبر الدفع الاختياري للاشتراكات من المستفيدين، أو بمساهمة من الخزينة العامة سواء عبر صرف مبالغ محدّدة في الموازنة العامة. لا تتجانس نسب التمويل من قبل المساهمين والدولة بين الصناديق كما أن الدولة تخلّفت عن دفع حصّتها من الاشتراكات والمساهمات في صندوق الضمان الاجتماعي منذ سنوات سبقت الأزمة الاقتصادية. فاقت المبالغ التي تهرّبت الدولة من تسديدها للصندوق 6,000 مليار ليرة في العام 2023.

تتوازى تعدديّة مصادر الاشتراكات ونسبها مع تعدّدية أساليب الإنفاق. يعود ذلك إلى تعدديّة إدارات هذه الصناديق التي تفاوض بشكل منفرد المستشفيات ومستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية باسم المشتركين. لذك، تتفاوت أيضاً القدرة التفاوضيّة عند هذه الصناديق، التي غالباً ما تدفع أثماناً مختلفة لقاء الدواء نفسه الذي يستورده التاجر نفسه.

تختلف تغطية وزارة الصحة عن سائر الصناديق كونها مموّلة حصرياً من الموازنة العامة وخاضعة مباشرةً لإدارة وزارة الصحة. تجدر الإشارة بأن اتخاذ وزارة الصحة دور «الملاذ الأخير للتأمين»، أي مزوّدة للتغطية الصحيّة لمن ليس له أي تغطية أخرى، يتعدّى أدوار وزارات الصحّة التقليديّة. فبحسب المعايير والممارسات العالميّة ينحصر دور وزارات الصحة في مراقبة الوضع الصحي العام، ومراقبة القطاع الصحي وتنظيمه، وتطوير السياسات الصحية لتوسيع التغطية الصحيّة وجودة الخدمات الصحيّة. كما أن غالبا ما تكون المعايير التي تعتمدها الوزارة  استنسابية وتعتمد على قدرة المريض على الوصول إلى أحد النافذين بمن فيهم الوزير نفسه والنواب وأعضاء الأحزاب. وقد استثني من هذه الاستنسابيّة بعض الحالات الطبية مثل علاجات السرطان وغسيل الكلى والأفراد الذين تفوق أعمارهم 64 سنة. 

لماذا اعتمدت وزارة الصحة هذه التركيبة المعقدّة التي تتعدى صلاحيتها أصلاً؟ بكل بساطة، استحدثت الوزارة صندوقها الخاص كمحاولة للحفاظ قدر المستطاع على الوضع الراهن في القطاع الصحي. من جهةٍ أولى، يحتوي صندوق الوزارة غضب 52% من المواطنين الذين استُبعدوا من التغطية الصحيّة عبر إجبارهم على مقايضة ولائهم السياسي مقابل تغطية صحيّة، ويحجب الحاجة إلى إنشاء نظام تغطية صحيّة شاملة لأن القدرة على الوصول إلى التغطية الصحية كان متاحاً وإن بأساليب ملتوية. وقد عبّر عن ذلك بوضوح وزير الصحة، علي حسن خليل، في العام 2012 واصفاً مشروع التغطية الصحية الشاملة الذي اقترحه وزير العمل آنذاك، شربل نحاس، بـ «التعدي على حصتنا في الدولة».

ومن جهة أخرى، تأتي التغطية الصحية عبر الوزارة لتوسيع الحصّة السوقيّة للمستشفيات الخاصة كونه لا يموّل إلّا الحالات الاستشفائية للمرضى الذين ما كان باستطاعتهم دفع تكاليف الاستشفاء لولا تدخّله. ويخفّف المخاطر عن شركات التأمين الخاصة ويدعم أرباحها عبر أخذه على عاتقه تكلفة كل الحالات الطبية المستعصية والمكلفة، بالإضافة إلى الكبار في السن الذين دفعوا اشتراكات تأمين طول شبابهم من دون الاستفادة، وعندما يحين وقت استفادتهم، يُرمون على عاتق الوزارة. لتلك الأسباب، أنفقت وزارة الصحة ما يقارب نصف مليار دولار في العام 2017 لرفع نسبة هشاشة الأمن الصحي بدلا من تمتينه. 

تداعيات الإفلاس

اتضحت وضعيّة الصناديق المفلسة مع حلول الأزمة في العام 2019 على الرغم من تعثّرها طوال سنوات سبقت الأزمة. لم تتعامل مجالس إدارة تلك الصناديق بالمسؤولية والمعايير الاستثمارية التي يفرضها القانون. على الرغم من إدراكها للمخاطر الكبيرة التي تنتج عن غياب التنوّع في محافظهم الاستثمارية، وإدراك البعض مسبقاً بالحلول الوشيك للأزمة، بقي استثمار غالبيّة المدخرات إمّا على شكل سندات خزينة بالليرة اللبنانية في مصرف لبنان أو في حسابات مصرفيّة بالليرة أيضاً. تآكلت مدخرات الصناديق نتيجة انهيار سعر صرف الليرة 98% مقابل الدولار، وتضخّم الأسعار خصوصاً في القطاع الصحي الذي بلغ 600% في العام 2022. انخفضت بذلك قيمة مدخرات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من 8 مليار دولار في العام 2019 إلى 450 مليون دولار في العام 2022 وانخفضت قدرته على التكفّل بالفاتورة الصحية لمشتركيه من 90% إلى 10%. تتشابه الأوضاع المالية المزرية بين كل الصناديق، وبعد 5 سنوات على حلول الأزمة، لم يتّخذ أي إجراء لتحسين وضعيّاتها. من هنا لا يمكن اعتبار المواطنين الذين كانوا يحظون بتغطية صحيّة من قبل هذه الصناديق بأنهم مضمونين اليوم.

على الرغم من رفع ميزانية وزارة الصحة من حوالي 83 مليون دولار في العام 2022 إلى 455 مليون دولار في العام 2024، يبقى هذا الإنفاق غير منظّم وأقلّ مما كان عليه قبل الأزمة

تتفاقم مشاكل تمويل الصحّة لأسباب بنيويّة أصبحت غير مطابقة مع الوضع الراهن الذي فرضته الأزمة. فمن جهة أولى، يشترط الانضمام إلى صناديق التأمين الاجتماعية أن يكون المساهم عاملاً رسميّاً (أي مسجّل وفق عقد عمل مبرم من قبل صاحب العمل) في قطاعات معيّنة. ولكن، ارتفعت البطالة حوالي 3 أضعاف من 11% إلى  30% بين عامي 2019 و2022 وارتفعت العمالة غير النظاميّة من 55% إلى 62% في المرحلة نفسها، ما يعني أن العديد من العمال وأسرهم خسروا أهليّتهم للاشتراك في الصناديق، وبذلك تغطيتهم الصحيّة. فقدان الأهليّة للاشتراك في صناديق التأمين لا تشكّل صعوبات على الذين فقدوا تأمينهم الصحي فحسب، بل على الأمن المالي للصناديق التي هي بأمس الحاجة لاشتراكات جديدة تعيد تصحيح وضعها المالي المتعثر. من جهة أخرى، أعلنت الدولة افلاسها واعتمدت سياسيات تقشفيّة أكثر شدّة من ذي قبل. وعلى الرغم من رفع ميزانية وزارة الصحة من حوالي 83 مليون دولار في العام 2022 إلى 455 مليون دولار في العام 2024، يبقى هذا الإنفاق غير منظّم وأقلّ مما كان عليه قبل الأزمة علماً أن نسبة الذين لا يتمتّعون بأي تغطية صحيّة فعليّة قد ارتفع بشدّة. 

مصدر الإنفاق أهم من كميّته

يعتبر إجمالي النفقات على الصحة في لبنان مرتفعاً وقد بلغ معدّل 8.14% من الناتج المحلي بين عامي 2000 و2020. يعتبر هذا الإنفاق مماثلاً لنظيره في الدول الأوروبية ذات الدخل المرتفع والذي بلغ معدّل 9.92% في المرحلة نفسها، ويرتفع عن معدّل 5.52% للإنفاق على الصحّة في منطقة الشرق الأوسط. قد يبدو هذا الإنفاق دليلاً ايجابياً، لكن التدقيق في مصادره يفصح عن العكس تماماً. بلغ معدّل الإنفاق المباشر على الصحّة الذي يتكبّده المرضى  في لبنان 43% من مجمل الإنفاق على الصحّة. يدلّ ذلك أن حوالي نصف الإنفاق المرتفع على الصحة استُخرج من مداخيل ومدّخرات الأسر. ويعتبر الإنفاق المباشر على الصحّة المصدر الأكثر رجعيّة في تمويل الصحّة كونه يلقي مسؤولية تمويل الصحّة على كاهل ذوي الدخل المحدود ويعفي الأغنياء من المساهمة في التمويل، كما أنّه لا يوزّع المخاطر على مجموعة أفراد لتقليصها، ويعرّض الأسر إلى نفقات كبيرة لا يمكن ترقّبها قد تدفعهم تحت خطّ الفقر.

اعتمدت وزارة الصحة سياسة لتقليص إنفاق الأسر المباشر على الصحّة منذ العام 2000 حيث بلغ 58% وانخفض إلى 36% في العام 2019. يعود ذلك بشكل أساسي إلى سياسات دعم أسعار الأدوية التي كانت مسؤولة عن قسم كبير من إنفاق الأسر على الصحّة. لكن تعتبر هذه السياسة فضفاضة وغير مستدامة مقارنةً مع سياسات تعيد هيكلة النظام الصحي لتخفيض تفشي الأمراض، وبالتالي تخفيض مجمل قيمة الفاتورة الصحيّة، أو لتحفيز الإنتاج المحلي للسلع الطبيّة، أو تفضيل الخدمات المقدمة من القطاع العام على الخاص. لذلك، سرعان ما ارتفعت نسبة الإنفاق المباشر من الاسر على الصحة 22% في العام 2020 مع بداية رفع الدعم عن الأدوية. ويُقدّر الإنفاق المباشر اليوم بنسب تفوق ما كانت عليه في العام 2000 بفعل انتهاء برنامج دعم الأدوية وإفلاس صناديق التأمين.

على هامش القطاع الصحي

يرزح ما يقارب مليوني لاجئ سوري وفلسطيني على هامش هذه التركيبة المعقّدة. اعتمدت السلطات اللبنانية سياسة الإنكار فيما يخصّ تنظيم دخول، وتسجيل، واستقرار اللاجئين مُفضّلةً استخدامهم عند الحاجة ككبش فداء كلما استدعت الحاجة لتبرير تجليّات الأزمة الاقتصادية. ألقيت مسؤولية تمويل الرعاية الصحية للاجئين على عاتق المنظمات الدولية مثل UNRWA وUNHCR التي لا تموّل سوى الحالات الاستشفائية الطارئة التي تهدد حياة اللاجئين والاستشارات الطبية في مراكز الرعاية الأولية التي يستفيد منها اللبنانيين أيضاً ولا تعنى بالعلاجات المزمنة وغير الطارئة. انخفضت ميزانيات هذه الجهات المانحة بعد نشوب الحرب في أوكرانيا والمجزرة في غزّة وانخفضت معها التقديمات الصحيّة. بُددت ملايين الدولارات التي أنفقت مباشرةً في القطاع الصحي اللبناني بدل أن تساهم في إعادة تمويل صناديق الضمان لجميع المقيمين بسبب رفض السلطات الاعتراف بوجود اللاجئين وطمعاً بتوزيع أموال المنظمات على حلقة ضيّقة من المنتفعين في القطاع الصحّي.

الإصلاحات العادلة

يتطلّب إعادة تنظيم الوضع المالي للقطاع الصحي عبر إصلاحات جذريّة وبديهيّة كان يجب العمل بها منذ سنوات عديدة. أولاً، لا يمكن المضي قدماً دون دمج صناديق الضمان. ترتكز هذه الحاجة على واقع حسابي بحت، فكلّما ارتفع عدد المشتركين في صندوق كلما انخفضت نسبة المخاطر الماليّة على الجميع. كما يرفع عدد المشتركين من قدرة الصندوق على التفاوض مع التجار ومقدّمي الرعاية الصحيّة لخفض الأسعار. ثانياً، على الصناديق إعادة استخراج ما تبقّى من قيمة لمواردها الماليّة المحتجزة في القطاع المصرفي وملاحقة المصرفيين لإساءتهم الأمانة في إدارة ادخارات نصف الأسر اللبنانية. ثالثاً، لا بد من إدراج كافة المقيمين في الصندوق بما فيهم اللاجئين السوريين والفلسطينيين والعمال الأجانب. لا تعزّز هذه الخطوة العدالة الاجتماعيّة والاستقرار الاجتماعي فحسب، بل هي شرط أساسي لإعادة تمويل الصناديق باشتراكات يدفعها شبّان في ذروة قدراتهم الانتاجيّة لتأمين التغطية الصحيّة للجميع. كما يمكن الاستفادة من التمويل الخارجي من قبل المؤسسات الدوليّة لتحسين الأوضاع الصحيّة لجميع المقيمين. عكس التوصيف الشائع بأن اللاجئين هم عقبة أمام تحقيق العدالة الاجتماعيّة وإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية، قد يكونوا العامل الحافز لإعادة الوضع الاقتصادي اللبناني على سكّة أكثر سلامةً وعدالةً مما كانت عليه الأمور في تاريخ لبنان.