Preview التغطية الصحية الشاملة

التغطية الصحية الشاملة: نظرة أبعد من التمويل

  • وصل النهج التقشّفي إلى ذروته عبر تسليع حياة الإنسان، ومقابلة كلّ دولار يُنفق على العلاج بدولار آخرٍ ناجم عن ارتفاع إنتاجيّة المريض أو استهلاكه المستقبليين، أو حتّى عن استهلاكه الآني للخدمات الصحّية.
  • إن نقل تكاليف العلاج من الخزينة العامّة المموّلة من الضرائب إلى كاهل الأُسر والأفراد قد يحسّن أرقام الميزانية العامة مؤقّتاً، لكنه لا يُلغي تكاليف الرعاية الصحّية على المجتمع ككلّ، ولا يعالج أسباب ارتفاع فواتير الرعاية الصحّية

يُحصر النقاش حول الصحّة عموماً، والتغطية الصحّية الشاملة خصوصاً، في مجال التمويل. على الرغم من أهمية لحظ التمويل الكافي لتمكين المرضى من الوصول إلى العلاجات اللازمة، تبقى هذه النظرة عاجزة عن استيعاب تشعب نظام التغطية الصحية الشاملة في جميع قطاعات الاقتصاد، سواء كان ذلك من الناحية التنظيمية أو من الناحية المالية. فالتغطية الشاملة لا تعني فقط إدراج جميع المقيمين في منطقة جغرافية معينة في مخطط لجمع وإعادة توزيع الموارد، بل هي تشمل جوانب حياة الإنسان جميعها، منذ ولادته حتى وفاته، وكذلك تشمل قطاعات الاقتصاد والمجتمع كلّها تقريباً.

الصحة كعبء يجب تقليصه

برزت في الخمسين سنة الماضية سياسات التقشف، التي لم يسلم منها أي قطاع في الاقتصاد، بما في ذلك القطاع الصحي. وترسخت هذه السياسات إلى أن أصبحت نهجاً فكرياً بذاته، فلا يمكننا اليوم مناقشة صحة المجتمع من دون أن نذكر آفة التمويل، سواء كان ذلك لجهة إنفاق الأموال لتحسين صحة السكان، أو لجهة تكاليف العمل الضائع بسبب الأمراض الناجمة عن عدم إنفاق هذه الأموال بشكل كافٍ وفعّال.  وقد وصل النهج التقشفي إلى ذروته عبر تسليع حياة الإنسان، مع وجوب مقابلة كل دولار يُنفق على العلاج بدولار آخر، على الأقل، ناجم عن ارتفاع في إنتاجيّة المريض أو عن استهلاكه المستقبليين، أو حتى عن استهلاكه الآني للخدمات الصحية قبل وفاته.

تقوم مقاربة النهج التقشفي للإنفاق على الصحة على أنه عبء على الدولة يجب تفكيكه وتوزيعه على الأطراف الأُخرى باستثنائهاتتعارض النزعة التقشفيّة في السياسات الصحيّة مع نتائجها، التي غالباً ما تؤدي إلى ارتفاع في الإنفاق وتدهور في النتائج الصحية. إن نَقل تكاليف العلاج من الخزينة العامة الممولة من الضرائب إلى القطاع الخاص وعلى كاهل الأُسر والأفراد قد يحسن أرقام الميزانية العامة مؤقتاً، ولكنه، أولاً لا يُلغي تكاليف الرّعاية الصحيّة على المجتمع ككل، وثانياً لا يعالج أسباب ارتفاع فواتير الرعاية الصحية.

بالإضافة إلى إخضاع الصحّة للسوق ومعايير الربحية والبنى الاحتكارية، توجد ثلاثة أسباب رئيسة تدفع فواتير الرعاية الصحيّة إلى الارتفاع، وهي: النمو السكاني، ظهور تقنيات صحية جديدة مُكلفة، وزيادة انتشار الأمراض المعدية والمزمنة.  بالنسبة إلى العامل الأول، نجد من الصعب على أي نظام سياسي تنفيذ سياسات تهدف إلى هندسة المجتمع بشكل مباشر، وتبقى سياسة الولد الواحد التي تم تبنيها في جمهورية الصين الشعبية إستثناءً لا مثالاً قابلاً للنسخ. أما لجم التطور العلمي للتقنيات الطبيّة يناقض قواعد الأسواق الرأسمالية، كما أنه يؤدي إلى نتائج صحيّة عكسية. يبقى العامل الثالث، أي ازدياد انتشار الأمراض في المجتمع، المجال الوحيد للمناورة.

تقوم مقاربة النهج التقشفي للإنفاق على الصحة على أنه عبء على الدولة يجب تفكيكه وتوزيعه على الأطراف الأُخرى باستثنائها، وهذه المقاربة تدمّر القدرة على تنظيم خطة شاملة، متعددة الجوانب، تعالج الأسباب المتعددة لظهور الأمراض. تُصنّف مسببات الأمراض بالبيولوجية أو بتلك الناتجة عن العوامل البيئية. لا تقتصر العوامل البيئية على تلوّث البيئة فحسب، بل تشمل أيضاً نسبة حركة الإنسان، وجودة الطعام والمياه، وطبيعة العمل، وجودة السكن، والحياة الاجتماعية، ونسب الضغط النفسي، وغيرها من العوامل التي لا تحددها الجينات. بناءً على ذلك، يجب أن يقترن المسار المعقد لظهور الأمراض باستراتيجية شاملة تتعامل مع جميع العوامل المسببة لها في وقت واحد. بمعنى آخر، يجب تعميم شمولية الصحة على جميع قطاعات المجتمع.

الفقر والمحددات الاقتصادية والاجتماعية

وضعت منظمة الصحة العالمية سبعة محدّدات اجتماعية للصحة، وذلك لتأطير المسبّبات غير البيولوجية للأمراض ضمن إطارٍ قابل للمعالجة، وهي: الوضع الاجتماعي والاقتصادي، شبكات الدعم الاجتماعي، التعليم، التوظيف وظروف العمل، السياقات الاجتماعية والمجتمعية، البيئة المادية، والخدمات الصحية.

تجدر الإشارة إلى أن الوصول إلى الخدمات الصحيّة التي تشمل قضايا تمويل القطاع الصحي تُشكل جزءاً من محددٍ واحدٍ فقط من بين السبعة محدّدات.

يُحرم الفقراء من شبكة دعم إجتماعية بسبب العُزلة الناتجة عن ساعات العمل الطويلة، وعدم توفّر الموارد المادية للوصول إلى خدمات الترفيه، وغياب الاستقرار السكني لملاحقة فرص العملترتبط كل هذه المحدّدات، بطريقة أو بأخرى، بالمحدّد الأول وهو الوضع الاقتصادي. يحدّد الفقر طبيعة العمل الذي يمارسه الفرد، والمخاطر التي تنتُج عنه. على سبيل المثال، يرتبط العمل الزراعي بمخاطر جرثومية ناتجة عن التعامل مع التربة والحيوانات التي تأوي بكتيريا وفيروسات. وبالمقابل، يتعرّض العمال في المصانع لإصابات جرحيّة وكسور، بينما يؤدي العمل في الوظائف المكتبيّة إلى ظهور أمراض مزمنة في الشرايين والقلب بسبب الجلوس لساعات طويلة.

ويحدّد الفقر القدرة على الوصول إلى خدمات التعليم وجودتها. فالتعليم يمكّن الأفراد من اتخاذ القرارات الصحيّة الصحيحة، مثل اختيار الطعام الصحي أو التعرف على متى تتطلّب عوارض محددة معاينة طبيب، أو إجراء فحوصات بشكل دوري، أو الإلتزام بالعلاج الطبي. على سبيل المثال، كشفت دراسة للإحصاءات الوطنيّة الكنديّة بين عامي 1996 و2011 أن متوسط العمر المتوقع للرجال الكنديين يرتفع بمقدار 7.8 سنة إذا حصلوا على شهادة جامعية. ويؤثر تعليم الأم أيضاً على صحة أطفالها، حيث يعيش الأطفال الذين تلقّت أمهاتهم تعليماً لمدة 5 سنوات على الأقل في المدرسة الابتدائية بنسبة 40% أكثر من أولئك الذين ولدوا لأمهات غير متعلمات.

يُحرم الفقراء من شبكة دعم إجتماعية بسبب العُزلة الناتجة عن ساعات العمل الطويلة، وعدم توفّر الموارد المادية للوصول إلى خدمات الترفيه، وغياب الاستقرار السكني لملاحقة فرص العمل. هذه الشبكة ليست فقط عنصراً أساسياً للصحة النفسية، بل تُعد أيضاً مصدراً للمعلومات الصحية والخدمات الاجتماعية مثل رعاية الأطفال والمسنين.

يحدد الفقر السياق الاجتماعي الذي يتواجد فيه الفرد، حيث يتم تقديم خدمات الصيانة وتطوير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية بشكل غير كافٍ في الأحياء التي يعيش فيها الفقراء، وغالباً ما ترتفع فيها معدلات الاكتظاظ والجريمة. على سبيل المثال، يعيش أغنى 1% في الولايات المتحدة لمدة تصل إلى 14.6 سنة أكثر الـ1% الأفقر في مجتمعهم. تَظهر هذه التفاوتات بشكل خاص في مجتمعات الفصل العنصري، كما في جنوب أفريقيا عام 1985، حيث كان متوسط العمر للنساء السود أقل بنحو 15 سنة  من النساء البيض، وفي فلسطين المحتلة حيث بلغ متوسط العمر 73 سنة في عام 2021 مقابل 82 سنة للمستوطنين. 

أخيراً، يحدد الفقر طبيعة البيئة المادية المحيطة بالإنسان، مثل جودة الهواء والمياه، والوصول إلى مساحات خضراء، ومستويات الضجيج والإضاءة، والمناخ. 

تقدّر منظمة الصحة العالمية أن السبب الأول للوفيات الناجمة عن التلوث البيئي على مستوى العالم هو استخدام أساليب الطهي المنزلي البدائية، التي تؤدي إلى وفاة ما يصل إلى مليوني شخص سنوياً. وارتفاع مستويات الضجيج يسبب فقداناً سنوياً يصل إلى مليون سنة من الحياة الصحية في دول غرب أوروبا بسبب زيادة حالات ارتفاع ضغط الدم والسكري والأزمات القلبية. وقد يكون أحد الأمثلة الأكثر فداحةً في ولاية نورث كارولينا الأميركية، حيث يعاني السكان الأصليين والسود من معدلات عالية من الربو وارتفاع ضغط الدم والسرطان نتيجة رش المزارع المجاورة لبراز الخنازير في الهواء الطلق مما يلوّث منازل وأحياء السكان المجاورة.

الإنسان السليم في الاقتصاد السليم

ترتبط صحة المجتمعات عضوياً بالوضع الاقتصادي والتعليم وحقوق العمال والأحوال الشخصية والبيئة والبنية التحتية والتخطيط المدني والأمن والنقل والطاقة وشبكات الرعاية الاجتماعية والتقاليد الثقافية السائدة... عملياً، نجد منحىً صحّياً في كل مكوّن من مكوّنات المجتمع المعاصر.

لم تلبُث أن مرّت الصدمة الأوليّة للجائحة حتى انكبّ النمط الاقتصادي على ترميم نفسه وبوحشيّة مفرطة، وحوّل كارثة وفاة حوالي 7 ملايين شخص إلى فرصة لاستئصال أرباح إضافيّة ودفع نصف مليار شخص إضافي إلى الفقرومن هنا، لا يمكن تخيّل أي نظام تغطية صحية شامل وعادل وقابل للاستمرار من دون أن يتم مناقشة القضايا الصحية في جميع القطاعات والمسائل الاجتماعية. وبالتالي، تصبح الأولويات السياسية مثل تحقيق العدالة الاجتماعية والبيئية أكثر من مجرد قناعة شخصية، بل هي ضرورة علميّة لحياةٍ طويلة وصحية.

لطالما تم منْح المسائل الصحية مكاناً ثانوياً بالنسبة إلى القضايا الاقتصادية، حتى جاءت جائحة كوفيد-19، وأكدت أن الاقتصاد يخضع لأولويات صحيّة ويجب تقييده وحرف مساره التدميري للبيئة والمجتمعات إذا أردنا بقاء الحياة الذكية على هذه الأرض. للأسف، لم تلبُث أن مرّت الصدمة الأوليّة للجائحة حتى انكبّ النمط الاقتصادي على ترميم نفسه وبوحشيّة مفرطة، وحوّل كارثة وفاة حوالي 7 ملايين شخص إلى فرصة لاستئصال أرباح إضافيّة ودفع نصف مليار شخص إضافي إلى الفقر.

في الوقت نفسه، توضّحت المعالم الوجوديّة للصراع بين المحظيين والمحرومين، كما سقطت وعود الخصخصة والتقشف في تعزيز وتمكين القطاعات الصحية حول العالم. وتوضّحت ساحات المواجهة العديدة للعدالة الصحيّة ونقاط تلاقيها مع سائر الحركات المطلبيّة المحليّة والعالميّة. استناداً إلى هذا الاعتراف، أنشأت منظمة الصحة العالمية في العام 2020 مجلس إقتصاديات الصحة للجميع، بهدف تعزيز الإنفاق الذي يتّفق مع النفقات الصحية الفعالة وإعادة تشكيل صورتها كاستثمار في المجتمع بدلاً من تصويرها عبئاً عليه.

لا يمكن اختصار مسار بناء نظام تغطية صحية جدير بوصفه شامل باحتساب الفاتورة الإجمالية للخدمات الصحيّة والإعلان عن تغطية تلك التكاليف. إن لم يقترن هذا المسار بمواجهة متعددة الأبعاد لمعالجة جميع المحددات الاجتماعية للصحة، بدءاً من النمط الاقتصادي، فإن كل مخططٍ سيتّجه نحو الإفلاس الحتمي في مواجهة ارتفاع متسارع للأمراض المتعلقة بشيخوخة المجتمعات وزيادة الأمراض المزمنة، بالإضافة إلى تغير المناخ وانتشار الأمراض المعدية الجديدة والمألوفة.

قد يبدو هذا التحدي صعباً بشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط، حيث انهارت الأنظمة الصحية التي تأسست في الماضي الاشتراكي لبعض الدول، وأُنشئت (أو أعيد تأسيسها) في الغالب مؤخراً بعيداً عن الضغوط الاجتماعية التي تُضفي عليها الطابع الحقوقي بدل التجاري. لكن منطقتنا قابلة على تحوّلات سياسية عديدة، بعضها نشهدها اليوم، وتحدّيات مناخيّة واقتصادية قاسية قد توفّر فرصاً عديدة لبناء أنظمة صحيّة شاملة ومجتمعات صحية.