معاينة global south health sector

المساعدات الصحّية الخارجية: حلقة مُفرغة من التبعية

عندما انسحبت الحكومة الأميركية من منظّمة الصحة العالمية وأوقفت معظم المساعدات الخارجية، بما في ذلك تمويل برامج علاج فيروس نقص المناعة البشري في أفريقيا، وجد آلاف المرضى أنفسهم في العيادات من دون أدوية ودعم. بين ليلة وضحاها، انهار نظام كان يعتمد عليه الملايين، ليس بسبب فشل محلّي، بل نتيجة قرارات سياسية اتُخذت على بُعد آلاف الأميال. هذه هي الحقيقة القاسية للاعتماد على المساعدات: نظام هشّ تتحكّم فيه الجهات المانحة، وعندما يُغلق صنبور التمويل، ينهار بالكامل.

وقعت دول الجنوب العالمي في حلقة مُفرغة من الاعتماد على المساعدات الخارجية لتمويل أنظمتها الصحّية على مدى عقود. وعلى الرغم من أن هذه المساعدات تُقدّم تحت شعار الكرم الإنساني، فإنها غالباً ما تُستخدم كأداة للسيطرة، إذ تحدّد دول الشمال العالمي الأولويات، وتتحكّم في التمويل، وتفرض السياسات، ما يُضعف قدرة الدول المتلقية على بناء أنظمة صحّية قوية. وقد كشفت جائحة كوفيد-19 هذا الخلل بوضوح، عندما احتكرت الدول الغنية اللقاحات، تاركةً قارات بأكملها تكافح للحصول على الجرعات المُنقذة للحياة.

هذه هي الحقيقة القاسية للاعتماد على المساعدات: نظام هشّ تتحكّم فيه الجهات المانحة، وعندما يُغلق صنبور التمويل، ينهار بالكامل

لكن الأزمات تنتج فرص. وقد حان الوقت لدول الجنوب العالمي أن تكسر قيود التبعية للمساعدات. فبدلاً من انتظار المنقذين الخارجيين، يجب أن تتولّى الحكومات زمام المبادرة عبر تمويل أنظمتها الصحية ذاتياً، والاستثمار في البحث والإنتاج المحلّي، وتعزيز التعاون بين دول الجنوب. مستقبلٌ تُحدّده الأولويات الوطنية وليس المصالح الأجنبية بات في متناول اليد، والسؤال هو: هل سيغتنم القادة هذه الفرصة، أم سيسمحون للتاريخ بأن يعيد نفسه؟

أزمة التبعية: كيف أضعفت المساعدات الأجنبية الأنظمة الصحّية في الجنوب العالمي؟

تُقدَّم المساعدات الخارجية على أنها طوق نجاة، لكنها في الواقع سلسلة تُقيّد الأنظمة الصحّية في دول الجنوب العالمي، وتُخضعها لأولويات ومصالح الدول المانحة. وبدلاً من تعزيز أنظمة صحّية مرنة ومستقلة، أدّت عقود من التمويل الخارجي إلى خلق حلقة مفرغة من التبعية، إذ تعتمد برامج الرعاية الصحّية على التزامات مالية هشّة وقصيرة الأمد بدلاً من استثمارات محلّية مستدامة يقودها المجتمع.

والنتيجة؟ نظام صحّي هشّ ومعرّض للانهيار مع أي تغيّر في السياسات الخارجية، أو أزمة اقتصادية في الدول المانحة، أو تبدّل الأولويات العالمية، ما يُبقي أنظمة الصحّة في الجنوب العالمي تحت رحمة قرارات تُتخذ خارج حدودها.

المساعدات الصحّية كأداة للسيطرة: تاريخ من التبعية المفروضة

لطالما كانت المساعدات الصحّية الآتية من دول الشمال العالمي مدفوعة بمصالح جيوسياسية أكثر من كونها استجابة للاحتياجات الفعلية للدول المستفيدة. في خلال عصر سياسات التكيّف الهيكلي في الثمانينيات والتسعينيات، فرضت مؤسّسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على الكثير من دول الجنوب العالمي تقليص الإنفاق على الرعاية الصحّية العامة مقابل الحصول على قروض. ونتيجة لذلك، نشأت حاجة مستمرة للتمويل الخارجي، استغلتها المبادرات الصحّية المموّلة من المانحين، التي ركّزت غالباً على برامج رأسية محددة مثل فيروس نقص المناعة والملاريا والسل، بدلاً من تعزيز أنظمة صحية شاملة ومستدامة.

علاوة على ذلك، غالباً ما تكون البرامج المموّلة من الجهات المانحة مشروطة بما يخدم مصالح الشمال العالمي. ليس من قبيل الصدفة أن هذه البرامج تركّز بشكل أساسي على الأمراض المُعدية، إذ يهدف احتواء الأوبئة في الجنوب العالمي إلى منع انتقالها إلى دول الشمال، وضمان استمرار التجارة والنشاط الرأسمالي من دون انقطاع. ولهذا السبب، وصفت منظمة الصحة العالمية نفسها بأنها «عائد استثماري بمقدار 1:35» عندما ناشدت الحصول على تمويل مستدام بعد انسحاب إدارة ترامب من المنظمة في العام 2020، بمعنى أن كل دولار يستثمر في تمويل منظمة الصحة العالمية يحقق عائداً بنحو 35 دولاراً.

على الرغم من أن هذه المساعدات تُقدّم تحت شعار الكرم الإنساني، فإنها غالباً ما تُستخدم كأداة للسيطرة، إذ تحدّد دول الشمال العالمي الأولويات، وتتحكّم في التمويل، وتفرض السياسات

في المقابل، لم تحظَ الأمراض غير المعدية مثل أمراض القلب والسكري، ومتوسط العمر المتوقع، والصحة العامة للسكان بالاهتمام نفسه من الجهات المانحة. كما تُلزم الكثير من اتفاقيات المساعدات الدول المستفيدة بشراء الأدوية والمعدّات والخدمات الطبّية من شركات مقرّها في الدول المانحة، ما يحوّل التبرعات المعفاة من الضرائب إلى أرباح تعود لصالح الصناعات الطبية في الشمال العالمي بدلاً من دعم القطاع الصحي والصيدلاني المحلّي في دول الجنوب. تعزز هذه الممارسات التبعية الاقتصادية، إذ تبقى الكثير من الدول معتمدة على الموردين الأجانب، ما يُقيّد قدرتها على تطوير أنظمة صحية مستقلة ومكتفية ذاتياً.

الوصاية وعقدة المنقذ

تُصوَّر المساعدات الخارجية غالباً على أنها عمل إنساني بحت، لكنها في الواقع متجذّرة في تاريخ طويل من الوصاية وعقدة المنقذ. يتم تصميم المشاريع الصحّية الكبرى وتنفيذها بشكل أساسي من منظّمات الشمال العالمي، بينما يقتصر دور الحكومات والخبراء المحلّيين على أدوار ثانوية أو استشارية محدودة. يؤدّي هذا إلى اختلال توازن القوى، إذ تصبح الوكالات المانحة هي من تحدّد الأولويات الصحية، وليس الدول التي تتلقى المساعدات.

تفرض المنظمات غير الحكومية الدولية والمؤسّسات الخيرية أجنداتها الخاصة على الأبحاث الطبية، والإرشادات العلاجية، وتخصيص التمويل، غالباً من دون استشارة فعلية للمجتمعات المحلية. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك، الدور الذي أدّته مؤسسة بيل وميليندا غيتس في توجيه استراتيجيات توزيع اللقاحات، التي تجاهلت أحياناً الواقع اللوجستي والوبائي في الميدان. وبرز هذا بشكل واضح في خلال جائحة كوفيد-19، حيث عرقلت المؤسّسة نقل التكنولوجيا الطبية من الشمال إلى الجنوب، ما أدّى إلى إدامة اعتماد دول الجنوب على اللقاحات المستوردة، بكلفة باهظة على حياة البشر. عندما تتحكّم مصالح المانحين في السياسات الصحية، تفقد الحكومات المحلية القدرة على تشكيل أنظمتها الصحية وفق الاحتياجات الفعلية لسكّانها.

والنتيجة ليست سياسات غير فعالة فحسب، بل أيضاً خسارة الاستقلالية والسيادة الصحية. إن السردية السائدة، التي تصور دول الجنوب العالمي كمستفيد دائم من المساعدات الخيرية، تُضعف الاستثمار المحلي والابتكار. وتفقد الحكومات المحلية الدافع أو الفرصة الحقيقية لتولي مسؤولية أنظمتها الصحية عندما يتصدّر الفاعلون الخارجيون مشهد الاستجابة للأزمات الصحية. لا يؤدّي ذلك إلى تفريغ الإدارات العامة من الكفاءات المحلية فحسب، بل أيضاً إلى إغلاق نافذة التغيير السياسي التي لا تُفتح إلا في أوقات الأزمات.

هشاشة الأنظمة الصحية المعتمدة على المانحين

إحدى أخطر تبعات الاعتماد على المساعدات هي أن الأنظمة الصحية تصبح رهينة لتقلبات السياسة والاقتصاد في الدول المانحة. عندما تتغيّر الأولويات الخارجية، قد يتوقف التمويل بين ليلة وضحاها، ما يترك الملايين من دون خدمات أساسية.

ليس من قبيل الصدفة أن هذه البرامج تركّز بشكل أساسي على الأمراض المُعدية، إذ يهدف احتواء الأوبئة في الجنوب العالمي إلى منع انتقالها إلى دول الشمال، وضمان استمرار التجارة والنشاط الرأسمالي من دون انقطاع

على سبيل المثال، أدّى تخفيض تمويل برنامج بيبفار (PEPFAR) من الحكومة الأميركية إلى إغلاق مفاجئ لعيادات علاج فيروس نقص المناعة المكتسبة في جنوب أفريقيا ودول أخرى، ما حرم آلاف المرضى من الأدوية المنقذة للحياة التي كانوا يحصلون عليها مجاناً. وفي خلال أزمة كوفيد-19، خزّنت الدول الغنية كميات ضخمة من اللقاحات تفوق حاجتها الفعلية، بينما كافحت الكثير من دول أفريقيا وجنوب آسيا للحصول على إمدادات كافية. ولو استثمرت هذه الدول مبكراً في إنتاج لقاحاتها الخاصة، كما فعلت كوبا مثلاً، لما اضطرت إلى الانتظار حتى تتلقى التبرّعات.

تؤكّد كل هذه الأمثلة المشكلة الجوهرية في الاعتماد على المساعدات: فهي ليست مستقرة ولا مستدامة. لا يمكن لأي دولة بناء نظام صحي قوي ومرن إذا كان بقاؤه مرهوناً بتغير الأولويات والمصالح السياسية للحكومات الأجنبية.

لماذا يجب على الجنوب العالمي الاستثمار في أنظمته الصحّية؟

لطالما تم تصوير الجنوب العالمي على أنه متلقٍ سلبي للحلول الصحية التي يُصممها الفاعلون الخارجيون ويموّلونها. ومع ذلك، كشفت إخفاقات التبعية للمساعدات، سواء في خلال الجائحة أو عبر التخفيضات الأخيرة في التمويل، عن حقيقة واضحة: الطريق الوحيد نحو أمن صحي حقيقي هو بناء أنظمة صحية قوية ومستقلة.

يجب أن تتحمّل الحكومات مسؤولية قطاع الصحة من خلال تعبئة الموارد المحلية، والاستثمار في البحث والابتكار، وضمان أن تكون السياسات الصحية نابعة من الأولويات الوطنية وليس أجندات المانحين.

الضرورة الأخلاقية والاقتصادية لتحقيق الاكتفاء الذاتي

الاعتماد على المساعدات الخارجية في القطاع الصحي ليس مجرد نهج غير مستدام، بل هو إخفاق في الحوكمة. فالدولة التي تعجز عن توفير الخدمات الصحية الأساسية لمواطنيها تصبح رهينة للمصالح الخارجية، حيث تصبح السيادة الصحية لا مسألة كرامة وطنية فحسب، بل أيضاً مسألة وجودية.

من الناحية الاقتصادية، يحمل الاستثمار في الأنظمة الصحية المحلية فوائد هائلة. لقد كشفت سياسات التقشف عن نتائج كارثية على الصحة العامة، حتى أن منظمة الصحة العالمية بدأت تتبنّى موقفاً معاكساً لتوصيات صندوق النقد والبنك الدوليين، إذ أنشأت مجلس اقتصاديات الصحة للجميع لتغيير النظرة إلى الإنفاق الصحي من عبء إلى استثمار. وعلى الرغم من أن الأنظمة الصحية الشاملة والميسورة التكلفة قد تبدو مكلفة على المدى القصير، فإنها تولد وفورات هائلة على المدى الطويل عبر تقليل عبء المرض، وخفض تكاليف العلاج، وتحسين إنتاجية القوى العاملة، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. بلغة الأرقام، وجد معهد بروكينغز أن كل دولار يُستثمر في الصحة يولد ما بين اثنين إلى أربعة دولارات في النمو الاقتصادي.

عندما يتصدّر الفاعلون الخارجيون مشهد الاستجابة للأزمات الصحية. لا يؤدّي ذلك إلى تفريغ الإدارات العامة من الكفاءات المحلية فحسب، بل أيضاً إلى إغلاق نافذة التغيير السياسي التي لا تُفتح إلا في أوقات الأزمات

بدلاً من توجيه مليارات الدولارات من الإنفاق الصحي إلى الشركات الأجنبية، يجب على الحكومات إعادة توجيه تلك الأموال إلى البنية التحتية الصحية المحلية، والصناعات الدوائية، وتطوير الكفاءات الطبية، ما يساهم في خلق فرص عمل، وبناء الخبرات، وتعزيز صحّة السكّان داخل حدودها. لقد أثبتت دول عدة قدرة الاكتفاء الذاتي الصحي. أصبح نظام الرعاية الصحية الشاملة في تايلاند، المموّل بشكل رئيس من الضرائب المحلية، نموذجاً تحتذي به للدول منخفضة ومتوسطة الدخل. وفي رواندا، نجحت الحكومة في بناء أحد أقوى الأنظمة الصحية في أفريقيا، على الرغم من محدودية الموارد، عبر إعطاء الأولوية للتمويل المحلي والرعاية المجتمعية. تثبت هذه التجارب أن القيود المالية ليست عذراً، فالإرادة السياسية والاستثمار الاستراتيجي هما العاملين الحاسمين في تحقيق الاستقلال الصحي.

تعزيز البحث العلمي الصحّي محلياً

يعد نقص الاستثمار المزمن في البحث والتطوير الصحي أحد العوامل الرئيسة لاستمرار اعتماد الجنوب العالمي على المساعدات الخارجية. لا تزال معظم الدول تعتمد على مؤسسات الشمال العالمي في تطوير العلاجات، وإجراء التجارب السريرية، وتحديد أولويات البحث، ما يخلق فجوة بين التحدّيات الصحّية الفعلية في الجنوب العالمي والأبحاث التي تحصل على التمويل. هذه الحالة ليست مفاجئة، إذ كان احتكار التكنولوجيا والتحكم في نقلها، وليس تحقيق التفوق العلمي فقط، من الأسس الجوهرية لنجاح الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ.

غالباً ما تحصل الأمراض التي تؤثر بشكل غير متناسب على الدول منخفضة الدخل، مثل الملاريا والسل والأمراض المدارية المهملة، على اهتمام أقل بكثير مقارنة بالأمراض المنتشرة في الدول الغنية. كما أن الأبحاث الطبّية تنحاز بشدة نحو مجتمعات معينة، حيث يشكّل الأشخاص البيض 75% من المشاركين في الدراسات السريرية، على الرغم من أنهم يمثلون أقلية على مستوى العالم، ما يؤدّي إلى تحيزات خطيرة في فهم الأمراض والعلاجات.

يستمر هذا الخلل لأن وكالات التمويل وشركات الأدوية الكبرى تتمركز في الشمال العالمي، حيث تتحكّم الدوافع الربحية في تحديد أولويات البحث على حساب العدالة الصحية العالمية. ولتغيير هذا الواقع، يجب على حكومات الجنوب العالمي أن تعطي الأولوية للاستثمار في البحث والتطوير الطبّي المحلي، مستلهمة نماذج ناجحة مثل معهد سيروم في الهند، الذي أصبح رائداً عالمياً في تصنيع اللقاحات بفضل الدعم الاستراتيجي من الحكومة.

تعزيز التعليم في العلوم الصحية والابتكار البحثي أمر حاسم، إذ ينبغي أن تمتلك الجامعات والمؤسّسات البحثية الموارد اللازمة لتدريب الجيل القادم من العلماء والأطباء وخبراء الصحة العامة. ويساعد توسيع نطاق المنح الدراسية، وبرامج تمويل الأبحاث، وتحسين البنية التحتية للمختبرات في إبقاء الكفاءات داخل دول الجنوب بدلاً من فقدانها لصالح مؤسسات الشمال العالمي.

يشكّل الأشخاص البيض 75% من المشاركين في الدراسات السريرية، على الرغم من أنهم يمثلون أقلية على مستوى العالم، ما يؤدّي إلى تحيزات خطيرة في فهم الأمراض والعلاجات

بالإضافة إلى ذلك، يقلّل تطوير هيئات تنظيمية مستقلة من الاعتماد على عمليات الموافقة الخارجية، ويسمح للدول بتحديد إجراءاتها الخاصة في اعتماد الأدوية والعلاجات والسياسات الصحية وفق احتياجاتها الوطنية. من خلال هذه الخطوات، يمكن للجنوب العالمي تقليل اعتماده على المساعدات الخارجية، وبناء منظومة بحثية تعطي الأولوية للتحديات الصحية الإقليمية، وتدعم تحقيق الاكتفاء الذاتي على المدى الطويل.

بناء بنية تحتية صحية عامة مستدامة

لا يُبنى النظام الصحي القوي على المستشفيات والأدوية فقط، بل يتطلب نهجاً شاملاً يركز على الوقاية، والتعليم، وضمان وصول الرعاية الصحية إلى الجميع بعدالة. بدلاً من الاعتماد على برامج مجزأة مموّلة من المانحين، تركز على أمراض محدّدة من دون ربطها ببنية صحية متكاملة، يجب على حكومات الجنوب العالمي تطوير أنظمة صحية متماسكة تمنح الأولوية للتغطية الصحية الشاملة، بحيث يتم تمويل الرعاية الصحية عبر الضرائب والنماذج التأمينية التي تضمن الوصول العادل للجميع، مع تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.

يعتبر تعزيز الرعاية الصحية الأولية والخدمات المجتمعية مسألة جوهرية، إذ يتيح الاستثمار في العاملين الصحيين في الخطوط الأمامية وتوسيع البنية التحتية الصحية اللامركزية وصول الرعاية حتى إلى أكثر المناطق النائية. كما كشفت جائحة كوفيد-19 عن نقاط الضعف العميقة في الأنظمة الصحية غير المستعدة لمواجهة الأزمات، ما يبرز الحاجة إلى أن تعمل الحكومات على بناء آليات استجابة طارئة قوية، من خلال تخزين الإمدادات الأساسية، وتوسيع القدرة الاستيعابية للمستشفيات، وتدريب فرق استجابة سريعة قادرة على التعامل مع الأوبئة والكوارث الصحية.

لا يمكن للمساعدات المؤقتة أن تحل محل الاستثمار طويل الأمد. الدولة التي تموّل نظامها الصحي من مواردها الخاصة لا تحمي مواطنيها فقط، بل تؤمن أيضاً قدرتها على تقرير مستقبلها الصحّي بنفسها. يمتلك الجنوب العالمي الخبرات والموارد والمعرفة اللازمة لقيادة أجندته الصحية الخاصة.

قوة التعاون بين دول الجنوب العالمي في مجال الصحة

كشفت إخفاقات التبعية للمساعدات عن الحاجة الملحّة لاستعادة الجنوب العالمي السيطرة على أنظمته الصحية. لن يأتي الأمن الصحي الحقيقي من سخاء المانحين، بل من خلال الاستثمار في الرعاية الصحية المحلية، وتمكين العلماء والخبراء المحليين، وبناء بنية تحتية طبية مرنة قادرة على مواجهة التحديات. يتطلب إعادة تصور الصحة العالمية تحويل موازين القوة من الشمال إلى الجنوب عبر زيادة ميزانيات الصحة الوطنية، وتعزيز الشراكات الإقليمية، وإطلاق مبادرات بحثية مستقلة بعيداً عن الهيمنة الخارجية.

لا يُبنى النظام الصحي القوي على المستشفيات والأدوية فقط، بل يتطلب نهجاً شاملاً يركز على الوقاية، والتعليم، وضمان وصول الرعاية الصحية إلى الجميع بعدالة

يجب أن تمنح الحكومات الأولوية للاستثمارات طويلة الأمد بدلاً من الحلول المؤقتة التي تمليها المساعدات الخارجية، كما ينبغي أن تقود الجامعات والمؤسسات البحثية جهود تطوير ابتكارات طبية تتناسب مع احتياجات مجتمعاتها المحلية. التحرّر من المساعدات الأجنبية لن يحدث بين ليلة وضحاها، لكنه مسار يتطلب خطوات متتابعة، حيث أن كل خطوة نحو الاكتفاء الذاتي تعزز السيادة الصحية. مستقبل الصحة العالمية يجب أن يكون مصمماً من قبل الجنوب العالمي، ولأجل الجنوب العالمي.

بات نموذج جديد للصحة العالمية في متناول اليد، نموذج تستعيد فيه كل دولة سيادتها الصحية من خلال زيادة الاستثمار المحلي، وإعطاء الأولوية للبحث والتطوير الوطني، وتعزيز التعاون الإقليمي. الدول التي تستمر في الاعتماد على المساعدات ستظل معرضة للتقلبات السياسية والاقتصادية في الشمال العالمي، بينما الدول التي تختار الاكتفاء الذاتي ستبني أنظمة صحية قوية ومستقلة قادرة على الصمود في مواجهة الأزمات المستقبلية.

لا يتعلق الأمر بالجانب المالي فقط، بل هو قضية سيادة وكرامة وعدالة. الجنوب العالمي يمتلك المعرفة والخبرات والموارد اللازمة لتشكيل أجندته الصحية بنفسه. يبقى السؤال الوحيد: هل سيغتنم القادة هذه الفرصة؟