كيف خنق الاحتلال اقتصاد الضفّة الغربية؟
لم تسفر محاولات السلطة الفلسطينية في النأي بالضفّة الغربية عن العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزّة منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولم تستطع كفّ الضرر الواقع من جرّاء إرهاب المستوطنين أو العمليات الأمنية أو العسكرية من قوات الاحتلال النظامية. تنوّعت أشكال العدوان الإسرائيلي على الضفّة الغربية بين استهداف المقاومين وغارات واعتقالات ومصادرة الأراضي والتوسع في البؤر الاستيطانية وإطلاق عنان الاستيطان الرعوي وخنق السكان اقتصادياً، فيما أدّى الارتباط بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي دوره كسلاح لإخضاع الفلسطينيين والتحكّم بهم.
منذ أن استفاقت دولة الاحتلال عقب هجمات الفصائل الفلسطينية على المواقع العسكرية والمستوطنات المحاذية لقطاع غزّة يومي 7 و8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، شرعت في تطبيق الكثير من الإجراءات على الضفّة الغربية وسكّانها بالتوازي مع العدوان العسكري على القطاع، والذي تصاعد كثيراً في الأيام الأخيرة، وامتد إلى الجبهة اللبنانية المساندة منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
هجمات المستوطنين وجيش الاحتلال
في خلال الأشهر الـ 11 الماضية، شهدت مدن وبلدات الضفّة الغربية هجمات عدّة مباشرة أقدم عليها مستوطنون تحت حماية إسرائيلية رسمية وقوات من الجيش الإسرائيلي على حدّ السواء. طالت الهجمات الأكبر مدينة طولكرم ومخيمها ومخيم نور شمس ومدينة جنين ومخيّمها ومدينة طوباس ومخيّم الفارعة، بالإضافة إلى العمليات المحدّدة التي طالت أنحاء الضفة الغربية كافة تقريباً.
وعمدت قوات الاحتلال على تجريف البنية التحتية وتخريب مرافق الصرف الصحّي وتدمير الطرق وإقفال المحال التجارية وإحراق المنازل وهدمها، بالإضافة إلى إجراء التحقيقات الميدانية والهجمات بالطائرات المسيّرة. أسفرت كل تلك العمليات عن 716 شهيداً و5,750 جريحاً و10,800 أسيراً، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. إلى ذلك، استهدفت الإجراءات الإسرائيلية مناطق بعينها، ومن بينها بلدة حوارة التابعة لمحافظة نابلس، حيث أجبرت قوات الاحتلال 255 منشأة اقتصادية من إجمالي 300 منشأة في كامل البلدة على الإغلاق الكامل. وبحسب مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نفّذ المستوطنون الإسرائيليون أكثر من 1,300 هجوم أسفر عن استشهاد أكثر من 21 فلسطينياً وإصابة 640 آخرين، كما أدّى هذا الإرهاب إلى تهجير 259 أسرة فلسطينية، وتهجير 6 قرى من تلال الخليل جنوبي الضفّة الغربية.
في خضم هذا الإرهاب المتمادي، تم إنشاء ما لا يقل عن 25 بؤرة استيطانية إضافية في الضفّة الغربية، استفادت من الخراب الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بقرى وتجمّعات فلسطينية
في خضم هذا الإرهاب المتمادي، تم إنشاء ما لا يقل عن 25 بؤرة استيطانية إضافية في الضفّة الغربية، استفادت من الخراب الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بقرى وتجمّعات فلسطينية، بالإضافة إلى صدور قرارات من حكومة بنيامين نتنياهو بالتصريح ببناء أكثر من 13,000 وحدة استيطانية، ليصل مجموع الأراضي التي اعتبرت مملوكة للاحتلال من أراضي الضفّة الغربية إلى ما يتجاوز 25,000 دونم، وهو ما مثّل أكبر قدر من الاستيلاء على الأراضي وفق تقديرات مجموعة الأزمات الدولية.
الحرب الاقتصادية على الضفّة الغربية
كل ذلك، جعل البنك الدولي يصل في خلاصات، في تقريره تحت عنوان «انعكاس الصراع في الشرق الأوسط على الاقتصاد الفلسطيني»، إلى أن « نسبة ساحقة تبلغ 98.8% من الشركات في الضفّة الغربية تأثّرت سلباً بالحرب. وقد حدّدت أكثر من 4 شركات من أصل 5 شركات شملها الاستطلاع الاضطرابات في سلاسل التوريد وزيادة تكاليف النقل باعتبارهما أهم تحديين تواجههما».
ووفقاً لأرقام سلطة النقد الفلسطينية، فقد شهدت كل القطاعات الاقتصادية تراجعاً متفاوتاً في خلال الشهور الستة الماضية، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق، حيث تراجع قطاع الإنشاءات بمقدار 27%، وقطاع الخدمات - أكبر القطاعات حجماً - بنحو 21%، وقطاع الزراعة بنحو 12%، وقطاع الصناعة بنحو 24%.
ورصد البنك الدولي في تقريره نسبة التغيّر الإجمالي التي طالت القطاعات الاقتصادية في الضفّة الغربية، والتي شهدت انخفاضاً حادّاً في الربع الأول من العام الحالي بمقدار 25%، كجزء مما وصفه بـ «أكبر انكماش اقتصادي للأراضي الفلسطينية على الإطلاق».
احتجاز أموال السلطة
تمنح اتفاقية «أوسلو» الموقّعة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وبروتوكول باريس الملحق بها، صلاحية جباية الضرائب وإيرادات الجمارك الفلسطينية بيد سلطات الاحتلال، على أن تقوم تلك الأخيرة بتحويلها على أساس شهري إلى السلطة الفلسطينية في مقابل عمولة سمسرة تصل إلى 3%.
حوّل هذا الاتفاق «أموال المقاصة» إلى آلية عقاب جماعي في يد الحكومة الإسرائيلية، وبالتحديد في يد وزير المالية اليميني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش. منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي، زادت سلطات الاحتلال الاستقطاعات الشهرية من أموال المقاصة إلى ما متوسطه 500 مليون شيكل (أكثر من 135 مليون دولار أميركي)، بالمقارنة مع المتوسط المُعتاد قبل العدوان الذي يبلغ 200 مليون شيكل (حوالي 54 مليون دولار أميركي)، ثم صعّدت سلطات الاحتلال حصارها الاقتصادي بالتوقف الكامل عن تحويل أموال المقاصة لشهرين، قبل أن تعاود التحويل في 30 حزيران/يونيو الماضي.
ترافقت إجراءات الاحتلال العقابية مع انخفاض كبير في المنح والمساعدات الخارجية من 28% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني في العام 2008 إلى أقل من 2% حالياً
تمثّل أموال مقاصة الضرائب التي تجبيها سلطات الاحتلال ما يزيد عن 70% من إجمالي إيرادات السلطة الفلسطينية، وترافقت إجراءات الاحتلال العقابية مع انخفاض كبير في المنح والمساعدات الخارجية من 28% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني في العام 2008 إلى أقل من 2% حالياً. وعليه، من المتوقّع أن تصل الفجوة التمويلية إلى ما يزيد عن 1.86 مليار دولار، وهو ما يمثل أكثر من ضعف الفجوة التمويلية في العام 2023. وبحسب ما توقّع البنك الدولي، ليس أمام السلطة الفلسطينية لسدّ تلك الفجوة إلّا زيادة الاقتراض من البنوك المحلية وزيادة المتأخّرات في المدفوعات للقطاع الخاص وللموظّفين العموميين وصندوق التقاعد.
أدّى هذا الحصار بالفعل إلى تأخّر صرف الرواتب، أو الاقتطاع منها، بحسب ما كشفت سلطة النقد الفلسطينية، إذ تم اقتطاع ما بين 50% و80% من الرواتب، وارتفعت الديون المستحقّة للمؤسّسات المالية بنحو 11 مليار دولار. وفي الوقت نفسه، تحاول سلطات الاحتلال زيادة الضغوط النقدية عبر امتناع البنك المركزي الإسرائيلي عن امتصاص فائض السيولة بالشيكل لدى الجهاز المصرفي الفلسطيني وتلوّح باستمرار بقطع العلاقات المصرفية بين البنوك الإسرائيلية والبنوك الفلسطينية، وهذا يعني إضافة الحصار المصرفي على الحصار المفروض على اقتصاد الضفة الغربية.
الحصار المصرفي
في سياق الاتفاقيات والبروتوكولات الموقّعة بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال، عكفت تلك الأخيرة على عقد اتفاقيات لربط البنوك الفلسطينية بنظيرتها الإسرائيلية، والتزم الاحتلال بإصدار خطابات حصانة مُحدّدة على أساس سنوي لتغطية الخدمات المقدّمة للبنوك الفلسطينية. غير أن وزارة مالية الاحتلال هدّدت بوقف الارتباط، وجدّدته في اللحظة الأخيرة في حزيران/ يونيو الماضي، لأربعة أشهر فقط تنتهي في أواخر تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
وينظّم بروتوكول باريس، الملحق باتفاقية أوسلو، والموقّع في العام 1994 العلاقة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية والاحتلال من خلال إلزام السلطة بالتعامل النقدي بالشيكل الإسرائيلي، وربط البنوك الوطنية الفلسطينية بالبنوك الإسرائيلية، بالإضافة إلى مسؤولية إسرائيل عن التحصيل الضريبي والجمركي نيابة عن السلطة الفلسطينية. ومثله مثل اتفاقية أوسلو، كان من المفترض أن تسرى أحكام البروتوكول لخمس سنوات فقط تنتهي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وبالطبع لا تزال تلك المهلة ممدّدة حتى اليوم بلا أي أفق.
وحذّر البنك الدولي من إنهاء الارتباط، قائلاً «سيكون الاقتصاد الفلسطيني معرّضاً للخطر بشكل كبير إذا لم يتم تأمين تجديد المعاملات المصرفية المركزية مع البنوك الإسرائيلية بطريقة آمنة. ومن شأن فقدان هذا الاتصال بالنظام المصرفي الإسرائيلي أن يعطّل الخدمات المصرفية الأساسية مثل مقاصة الشيكات، وتحويلات الأموال، ومعاملات البطاقات، ما يؤثر على الصادرات والواردات، بما في ذلك الوقود والغذاء».
ارتفاع حادّ في معدّلات البطالة
قبل العدوان الإسرائيلي الأخير، شهدت سوق العمل الفلسطينية استقراراً نسبياً، إذ سيطرت قطاعات الخدمات والبناء والصناعة على أكثر الوظائف المتاحة. بالإضافة إلى ذلك، وفّر القطاع الزراعي وظائف يومية وغير رسمية لمئات الآلاف من الفلسطينيين. لكن عملية ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي سمحت باستغلال الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلية، إذ كان ما بين 150,000 و200,000 فلسطيني يعملون في الأراضي المحتلة والمستوطنات، ولا سيما في قطاعي البناء والزراعة والخدمات السياحية، وهؤلاء استخدمتهم سلطات الاحتلال كسلاح في الحرب على الفلسطينيين، وعمدت فوراً بعد عملية طوفان الأقصى إلى تعليق تصاريح العمل لهم ومنعتهم من التنقّل عبر الحواجز التي أقامها جيش الاحتلال لتقطيع أوصال الضفة الغربية وفصلها عن بقية الأراضي المحتلة.
رصدت هيئة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) فقدان ما مجموعه 306,000 وظيفة في الضفّة الغربية، ما رفع معدل البطالة من 12.9% إلى 32%، وأدّى إلى خسارة يومية تقدّر بنحو 25.5 مليون دولار من دخل العمل
شهدت مستويات البطالة في الضفّة الغربية ارتفاعات حادّة كنتيجة مباشرة للإجراءات العقابية الإسرائيلية، ولا سيما إضعاف المالية العامة الفلسطينية ونصب الحواجز وعرقلة الحركة وإغلاق المنشآت الاقتصادية ووقف حركة العمّال من داخل الضفة إلى الأراضي المحتلة. وقد رصدت هيئة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) فقدان ما مجموعه 306,000 وظيفة في الضفّة الغربية، ما رفع معدل البطالة من 12.9% إلى 32%، وأدّى إلى خسارة يومية تقدّر بنحو 25.5 مليون دولار من دخل العمل. بالإضافة إلى ذلك، تعطّلت الأنشطة التجارية بشدّة بسبب القيود المتزايدة على حركة الأشخاص والبضائع.
ووفقاً للبنك الدولي، شمل فقدان الوظائف أكثر من 144,000 وظيفة في الضفّة الغربية، و148,000 وظيفة للعمّال المتنقّلين عبر الحدود من الضفّة الغربية إلى سوق العمل في الأراضي المحتلّة.
وأسفرت الإجراءات العسكرية وهجمات المستوطنين إلى أضرار جسيمة في القطاع الزراعي الذي يعتمد عليه سكان الضفّة الغربية بشكل أساسي في تلبية حاجياتهم اليومية، إذ اضطر ما يزيد عن 16% من مزارعي الضفّة الغربية للتوقف عن زراعة الخضروات الرئيسة بسبب انخفاض الطلب، وتقييد الوصول، وزيادة عنف المستوطنين والاضطرابات المحلية. وقد رصد البنك الدولي لدى 74% من المزارعين الذين شملهم استطلاعه في الضفة الغربية انخفاضاً في متوسط الإيرادات بنسبة 50% منذ بدء الحرب، ما أثّر بشدّة على سبل عيشهم، وتقلّصت هوامش الربح إلى ما بين 20% و100%، لا سيما في إنتاج الخضروات. بالإضافة إلى ذلك، تعرّض حوالي ثلث العمّال الزراعيين لتخفيضات في أجورهم المتدنية أصلاً، كما انخفض معدل الربح المرتبط بالمنتج المزروع بنسب تراوحت بين 5% و33.5%.