صفعة قويّة لقطاع التكنولوجيا الإسرائيلية
«70% من شركات التكنولوجيا الإسرائيلية تواجه صعوبات تشغيلية، والعديد منها مُعرّض للإغلاق بسبب نقص التمويل واستدعاء العديد من موظّفيها من الاحتياطي إلى الخدمة العسكرية، واضطرارها إلى إلغاء مشاريع وتعليق شركات ناشئة». هذا ما أظهره مسح أجرته «هيئة الابتكار الإسرائيلية» (Israel Innovation Authority) على قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي مع مرور أكثر من أسبوعين على بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة.
تخبّط «أمّة الشركات الناشئة»
في سياق حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على قطاع غزّة، استدعت أكثر من 300 ألف شخص من الاحتياطي إلى الخدمة العسكرية، من ضمنهم 75 ألف إلى 100 ألف يعملون في شركات التكنولوجيا المحلّية، وهو ما يشكّل 15% إلى 20% من مجمل العاملين في هذا القطاع، الذي تتغنّى به إسرائيل وتستخدمه لتمنح نفسها لقب «أمّة الشركات الناشئة».
تضرّر أكثر من ربع شركات التكنولوجيا نتيجة النقص في كوادرها الرئيسة، ومواجهة 40% منها صعوبات في الحصول على تمويل بعد إلغاء مجموعة من الاستثمارات أو تجميدها
وبحسب المسح المذكور، تُرجِم هذا الاستنفار بـ«تضرّر أكثر من ربع شركات التكنولوجيا نتيجة النقص في كوادرها الرئيسة، ومواجهة 40% منها صعوبات في الحصول على تمويل بعد إلغاء مجموعة من الاستثمارات أو تجميدها». وقد أفادت الشركات التي شاركت في المسح وعددها 500 عن «تراجع أداء موظّفيها بسبب إغلاق المدارس والحضانات وعدم تمكّنهم من ترك أولادهم بمفردهم، عدا عن إصابتهم بالتوتر والقلق». وأيضاً «اضطرت أكثر من 70% من الشركات إلى تأجيل أو إلغاء مشاريعها، وأفادت بعدم قدرتها على إجراء التجارب التقنية أو المضي بمشاريع البحث والتطوير، ومواجهة مشاكل في الاستيراد والتصدير».
تأتي هذه الصفعة لقطاع التكنولوجيا الإسرائيلي بعد صفعات مُتتالية تلقاها القطاع منذ العام 2020 مع تفشّي جائحة كوفيد-19 ومن بعدها اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية وما تلاهما من تباطؤ في الاقتصاد العالمي وتراجع في الاستثمارات الأجنبية التي تغذّي هذا القطاع، ومن ثمّ وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم في نهاية العام 2022 وطرح حكومته إصلاحات قضائية تحدّ من صلاحيّات المحكمة العليا ما ساهم بتقويض ثقة القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب وتخوّفهم من تنامي الفساد وتزايد المخاطر التي تهدّد حقوق الملكية. كلّ هذه العوامل مجتمعة أدّت وفق «هيئة الاستثمار الإسرائيلية» إلى تسجيل انخفاض حادّ بنسبة 71% في الاستثمارات التكنولوجية التي تتغذّى من القطاع الخاص والتدفّقات الخارجية، بالمقارنة مع انخفاض بنسبة 53% على المستوى العالمي. وبحسب Al-Monitor «أغلقت العديد من الشركات التكنولوجية فروعها في إسرائيل وسُجِّل حركة خروج لافتة في الرساميل». بالنتيجة سجّلت أسهم شركات التكنولوجيا الإسرائيلية ارتفاعاً بنسبة 7.8% في النصف الأول من العام 2023 بالمقارنة مع 29% لناسداك، وكان من المتوقّع أن يصل النمو إلى 5% حتّى نهاية العام، لكنّها تشهد منذ بداية الحرب انخفاضات مُتتالية بلغت 13.5% حتّى 26 تشرين الأول/أكتوبر الحالي.
«معجزة إسرائيل الاقتصادية»
يُعدُّ قطاع التكنولوجيا أقوى القطاعات الاقتصادية في إسرائيل، وبالتالي أي انتكاسة فيه سوف تصيب حتماً قلب الاقتصاد الإسرائيلي. يشكّل هذا القطاع 18% (290 مليار دولار) من حجم الاقتصاد الإسرائيلي (الناتج المحلي الإجمالي)، وهي النسبة الأعلى بين مختلف القطاعات الاقتصادية، ويوظّف نحو 508 آلاف عامل وعاملة أو ما يشكّل 14% من القوى العاملة الإسرائيلية، كما أنه مسؤول عن 48% (71 مليار دولار) من مجمل الصادرات الإسرائيلية و30% من العوائد الضريبية، ما يعني أنه مصدر أساسي للعملات الأجنبية التي تتدفّق إلى إسرائيل ورافداً أساسياً لخزانتها. كما أن الوظائف في هذا القطاع تمنح مكانة اجتماعية وطبقية مختلفة لشاغليها، فالأجور تزيد بنحو 2,7 مرّة (بمتوسط 28,385 شيكل/شهرياً أي نحو 7 آلاف دولار) عن باقي الوظائف في الاقتصاد، عدا أن 98% من العاملين في القطاع هم من الإسرائيليين في مقابل 2% فقط من العرب.
يوظّف نحو 508 آلاف عامل وعاملة أو ما يشكّل 14% من القوى العاملة الإسرائيلية، كما أنه مسؤول عن 48% (71 مليار دولار) من مجمل الصادرات الإسرائيلية و30% من العوائد الضريبية
لا تنطوي أهمّية قطاع التكنولوجيا على تبعاته الاقتصادية فحسب، بل يمتلك أيضاً رمزية خاصّة في عقيدة القوّة التي بنيت دولة الاحتلال على أساسها وتوسّعت. في الواقع، تعود نشأة قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهو خيار اتخذته «المؤسّسة الأمنية» لتأمين استقلاليتها العسكرية، ولا سيّما بعد حرب العام 1973 والهجوم المفاجئ الذي شنّه الجيشين المصري والسوري ضدّها وفشل الاستخبارات الأميركية في كشفه، والذي كان قد سبقه في العام 1967 حظر فرنسي على بيعها الأسلحة، فيما كانت فرنسا المصدر الأساسي للتسلّح الإسرائيلي بسبب معارضة الأخيرة حرب الستة أيام التي شنّتها إسرائيل على أربع دول عربية.
فاتحة العصر التكنولوجي الإسرائيلي كانت مع تأسيس شركة Intel الأميركية - المصنّعة لرقاقات ومعالجات الكومبيوتر - مصنعاً لها في إسرائيل في العام 1974، بحيث نقلت معها العديد من الخبرات التقنية الأميركية. ولكن ترافق ذلك مع ركود تضخّمي مرّت به إسرائيل طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات، أدّى إلى ارتفاع الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى خارجها، وتوجّه العمالة الإسرائيلية إلى «سيليكون فالي» في كاليفورنيا الذي كان يعيش بداية فورته. لم يتحقّق الاستقرار في إسرائيل إلا في منتصف الثمانينيات مع نجاح الخطط الحكومية بخفض معدل التضخّم، ولم يتعافَ الاقتصاد إلا مع بداية التسعينيات. عندها عاد العديد من الإسرائيليين ومعهم سنوات من الخبرة التكنولوجية التي اكتسبوها في سيليكون فالي، فأسّسوا شركات تكنولوجيا وبحث وتطوير في إسرائيل وحصلوا على دعم مالي مباشر من الجيش الإسرائيلي، وانطلق معهم القطاع التكنولوجي.
في الواقع، ارتفعت صادرات الصناعة التكنولوجية من 7,7 مليار دولار في بداية عقد التسعينيات إلى 20,9 في نهايته، بحيث اكتسب هذا القطاع صيتاً عالمياً وبات يصنّف كثاني مركز للابتكار التكنولوجي خارج سيليكون فالي، إذ استقطب تمويلاً بقيمة 95 مليار بين عامي 2012 و2022 بالمقارنة مع 85 مليار دولار في لندن و40 مليار في باريس في خلال الفترة نفسها.
القطاع التكنولوجي بالأرقام
تطوّر القطاع التكنولوجي في إسرائيل وتشعّبت فروعه مع الوقت. وعلى الرغم من التراجع الذي يسجّله في جذب التمويل منذ العام 2022، وزيادة حالات صرف العاملين من شركات التكنولوجيا الكبرى، إلا أنه لا يزال ذات وزن مهم في الاقتصاد الإسرائيلي مستفيداً من نمو متراكم على مدار ثلاثة عقود متواصلة.
بلغ التمويل الرأسمالي الذي حظيت به شركات التكنولوجيا في العام 2022 نحو 16 مليار دولار، علماً أن 75% منها أتت من صناديق استثمارية خارجية
بحسب التقرير السنوي لهيئة الابتكار الإسرائيلية، بلغ التمويل الرأسمالي الذي حظيت به شركات التكنولوجيا في العام 2022 نحو 16 مليار دولار، علماً أن 75% منها أتت من صناديق استثمارية خارجية. مع ذلك، تراجع التمويل في العام 2022 بنسبة 50% عن العام 2021، في حين لم يسجّل الربع الأول من العام الجاري سوى استثمارات بقيمة 1,9 مليار دولار، ومن المتوقّع أن لا تتجاوز قيمة الاستثمارات في نهاية العام 2023 مبلغ 6 مليارات دولارات، ممّا يعيده إلى مستويات العام 2018. أمّا شركات البحث والتطوير فقد جذبت نحو 88 مليار شيكل في العام 2021 علماً أن 91% منها أتت من القطاع الخاص. ويشكّل الإنفاق على البحث والتطوير نحو 5,6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
استفادت نحو 9,093 شركة تكنولوجيا في إسرائيل من هذا التمويل، علماً أن 56% من هذه الشركات تتركّز في تل أبيب (يافا)، تليها القدس بنسبة 10%، ومن ثمّ هرتسليا (الحرم) بنسبة 8,6%. تعد إسرائيل الثانية عالمياً لناحية عدد الشركات التكنولوجية بعد سان فرانسيسكو ونيويورك. مع ذلك، يتراجع عدد الشركات الجديدة التي تسجّل سنوياً باطراد منذ العام 2014، بحيث انخفض بنحو النصف من حينها وحتى العام 2022، أي من 1,399 شركة جديدة إلى نحو 728 شركة، ومن المتوقّع أن تصل في العام 2023 إلى نحو 633 شركة فقط. يعود ذلك بحسب التقرير نفسه إلى فشل الشركات الناشئة في الحصول على تمويل أولي، ما حدّ من قدرتها على استقطاب كوادر عالية بسبب انخفاض الرواتب فيها بالمقارنة مع الشركات الأقدم. في الواقع، هناك 98 شركة تكنولوجيا كبيرة تتجاوز قيمتها الاسمية المليار دولار، وهي تشكّل 1% من مجمل الشركات التكنولوجية وتستحوذ على 46% من مجمل التمويل المحقّق منذ العام 2012. هذه البنية الرأسمالية الاحتكارية تمنع الشركات الأصغر من الاستمرار وتسيطر على السوق.
إلى ذلك، تتركّز أعمال الشركات الإسرائيلية في مجال الأمن السيبراني والبرمجيات التنظيمية والتكنولوجيات المالية، وفي حين تشكل نحو 38% من مجمل الشركات فإنها تستحوذ على 54% من مجمل التمويل. والجدير بالذكر أن القطاعات التي شهدت التراجع الأكبر من حيث استقطاب التمويل منذ العام 2013، هي تكنولوجيا الاتصالات والخدمات الصحية والتجارة الإلكترونية.