معاينة العقوبات تخنق السوريين

العقوبات تخنق السوريين

العقوبات تضرّ الشعوب قبل الأنظمة، هذا إن أضرّتها، وتداعيات العقوبات على سوريا خير دليل على ذلك بحسب تقرير للأسكوا بعنوان «ديناميات وآثار التدابير القسرية الأحادية الجانب ضد الجمهورية العربية السورية»، استند إلى استطلاع شمل نحو 1,187 فرداً في مناطق مختلفة من سوريا، سواء خاضعة لسيطرة الحكومة أو خارجة عن سيطرتها، وتبيّن أن 92% تأثرت سبل عيشهم بالعقوبات المفروضة على سوريا سواء اجتماعياً أو اقتصادياً أو بإعاقة تحويل الأموال.

العقوبات تخنق السوريين

تبين أن %66.2 من المشاركين كانوا ضد العقوبات إما كلياً أو جزئياً، وهو ما يشكّل ثلاثة أضعاف من كانوا معها كلياً أو جزئياً (22.3%)، علماً أن نسبة معارضي العقوبات تقفز إلى 82.5% في شمال شرق سوريا، أي المنطقة الخاضعة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا «روج آفا»، وهي أكبر من النسبة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية البالغة 67.7%، فيما لم يعارضها سوى 45.6% من السكان في الشمال الغربي الخاضعين لسيطرة الجيش التركي وحلفائه وهيئة تحرير الشام.

الأمر غير مفاجئ، فالعقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي بعد العام 2011، وتلتها جامعة الدول العربية وتركيا ودول أخرى وُصفت بأنها من بين «أنظمة العقوبات الجماعية الأكثر صرامة وتعقيداً في التاريخ الحديث»، وما أخذها إلى مستوى آخر من القسوة هو قانون قيصر الذي دخل حيز التنفيذ في حزيران/يونيو 2020، وتضمّنت أحكامه فرض عقوبات مكثّفة على الكيانات غير الأميركية التي تتعامل مع سوريا.

يشير تقرير الإسكوا إلى دراسات كثيرة أجريت في خلال العقدين الماضيين وتشكّك في فعالية العقوبات، مثل الدراسة التي أجراها هوفباور وآخرون، وأفادت أن العقوبات لم تحقّق أهدافها إلا في ثلث الحالات فقط، فضلاً عن دراسات أخرى وضعت معدلاً أقل من ذلك بكثير. مع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها تستخدم العقوبات كسلاح لتغيير سلوكيات الأنظمة بحسب التقرير نفسه، إذ تهدف العقوبات نظرياً إلى تجفيف مصادر القوة المادية للأنظمة المستهدفة عبر تقليص الاقتصاد المدار تحت حكمها، وذلك بحرمان البلاد من موارد الإنتاج التي تعتمد عليها من الخارج، أو إغلاق السوق العالمية أمام صادراتها، أو سدّ قنوات التحويلات المالية إليها. 

وفي حالة سوريا نتكلم عن اقتصاد جرى تدميره في حرب مستمرة منذ أكثر من عقد. ومن المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في سوريا بنسبة 1.5% في العام 2024 بحسب البنك الدولي، بعد انكماش بنسبة 1.2% في العام 2023. والانكماش في الناتج المحلي لبلد ما يعني تقلصاً في إجمالي دخله. لا تستطيع سوريا تحمّل هذا التقلّص في الدخل الإجمالي نظراً لتدني مداخيل السكان بالأساس، عدا عن ارتفاع معدّل الفقر ووصوله إلى 69% في العام 2022، وهو ما يشمل نحو 14.5 مليون سوري. أما الفقر المدقع فقد أثر على أكثر من واحد من كل أربعة سوريين في العام 2022، هذا قبل  التأثير المدمّر لزلزال شباط/فبراير 2023. 

هذه الأرقام ليست نتاج الحرب المدمّرة للأرزاق فقط، بل إن للعقوبات أثر أيضاً على مصادر عيش الناس. وبحسب تقرير الإسكوا، أشار 76.4% من المستجيبين في الشمال الشرقي لسوريا و57.7% منهم في الشمال الغربي لسوريا إلى انخفاض رواتبهم باعتباره الأثر الأبرز للعقوبات على سوريا. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، أشار 46.7% من المشاركين إلى أثرين هما الأكثر بروزاً، أي ارتفاع الأسعار وصعوبة الوصول إلى منتجات معينة والاضطرار إلى تغيير الوظائف، في حين أشار 38.6% إلى انخفاض الرواتب.

لا ريب أن تقلّص الدخل في بلاد ترزح غالبية سكانها تحت الفقر يعني تراجعاً في استهلاك السلع الأساسية، ولا سيما السلع الغذائية. ويرى 83.8% من المستجيبين في الشمال الشرقي لسوريا بأن هناك أثراً للعقوبات على غذائهم، وتقل النسبة إلى 56.8% في الشمال الغربي لسوريا، وترتفع إلى نحو 58% في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. وبحسب التقرير للعقوبات تأثير مباشر على الأمن الغذائي والتغذية في سوريا، إذ تساهم في تقليل عدد الوجبات، وتناول كميات أقل من الطعام، وتناول طعام رخيص، واستهلاك نظام غذائي أقل تنوعاً وبأسعار بخسة، وهو ما ينطوي على آثار صحية واضحة خصوصاً على الأطفال والنساء الحوامل.

من جهة أخرى، أثّرت العقوبات أيضاً على استيراد بعض المنتجات والمعدات المتعلقة بالمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، بسبب تصنيفها كمواد ذات استخدام مزدوج. وتشمل هذه المنتجات على سبيل المثال لا الحصر، الكلور المستخدم لتطهير المياه، إلى جانب المضخّات والأنابيب والمولدات. 

وتكمن المشكلة الأكبر بعدم وجود نظام صحّي فعال لاحتواء تداعيات الأزمة الصحية المزدوجة الناتجة من انعدام الغذاء والنظافة، فالعقوبات منعت المستشفيات والمرافق الصحية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية من استيراد مواد طبية محدّدة أو شراء مواد ومعدات لإصلاحها. وقد أدى ذلك إلى ضرورة البحث عن مصادر بديلة للتكنولوجيات المستوردة من الصين والهند. ومع ذلك، بات شراؤها أصبح أكثر صعوبة بسبب ارتفاع تكلفة المواد الخام وكذلك تكاليف الشحن.

من جهة أخرى، ساهمت العقوبات في نقص الوقود في السوق المحلّية، ما كان له أثر على المرافق الصحية، ولا سيما لناحية تأمين التدفئة والطهي وتشغيل سيارات الإسعاف وقدرة الأطباء على الوصول إلى المستشفيات. والنتيجة أن 71% من جميع مرافق الرعاية الصحية الأولية ليس لديها أي مولد احتياطي، ويعتمد 80 مستشفى عام من أصل 87 على المولّدات للحفاظ على عملياته المستمرة وسط النقص المستمر في الكهرباء وانقطاعها. وفي ظل نظام صحي متقهقر، أجاب 78.6% من المقيمين في الشمال الشرقي لسوريا بأن العقوبات أثرت على توفر خدمات الصحة، ووصلت النسبة إلى 76.6% في الشمال الغربي لسوريا، وإلى نحو 58% في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية. 

طالت العقوبات أيضاً النظام التعليمي في سوريا. إن انقطاع الكهرباء ونقص الوقود دفعا الحكومة إلى زيادة عدد العطلات بهدف خفض التكاليف التشغيلية للمدارس العامّة. كما تبنّت بعض الجامعات الخاصة هذه الإجراءات. وترافق ذلك، مع عدم إمكانية استخدام أكثر من مدرسة واحدة من كل ثلاث مدارس داخل البلاد بسبب الدمار الذي لحقها بنتيجة الحرب أو لأنها استخدمت لأغراض عسكرية. أما الأطفال الذين تمكّنوا من الالتحاق بالمدارس فيتعلّمون في فصول دراسية مُكتظة وفي مبانٍ لا تتوفر فيها مرافق المياه والصرف الصحي والكهرباء والتدفئة والتهوية الكافية.

يتلمّس الناس أثر هذه العقوبات التي تشتدّ حدّتها، ويشعر السوريون بتأثير قانون قيصر على حياتهم بالذات، إذ أشار 70.3% من المشاركين في الاستطلاع إلى أن حياتهم اليومية أصبحت أسوأ مما كانت عليه قبل عامين، أي قبل دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في 17 كانون الثاني/يونيو 2020.